الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}
ونبدأ بدراسة القسم الأول، وأول آية تصادفنا فيه من ثناء الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم، وتبين رفيع منزلته، وعلو قدره، هي قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4].
وقدمنا بها الكلام لأنها نزلت في أول ما نزل من القرآن الكريم إذ هي قد نزلت بعد قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} حيث قررنا من قبل أننا سنراعي الترتيب الزمني في ذلك؛ لأن الدراسة بالأصالة في سيرته، وتلك كالمقدمة بالتعريف لصاحب السيرة عليه الصلاة والسلام.
وعلى أية حال ننظر في الآية الكريمة لنحللها، ونبدأ بها هذا القسم.
وأول ما يلاحظه الباحث في هذه الآية الكريمة أنَّ الله سبحانه وتعالى اصطفى سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم لتَحَمُّل الرسالة والنبوة وهو في غاية الخُلُق وأعلاه، بل وهو على عظيم الخُلُق وأجَلِّه، وهو دليل على حيازة النبي صلى الله عليه وسلم للكمالات النفسية كافة قبل البعثة، مما يدلّ على عناية الله تعالى المتقدمة بنبيه صلى الله عليه وسلم ومبعوثه إلى الخلق، وهو ما يميز ويوضح لعموم الخلق صدق النبوة وصحَّة الرسالة، إذ كيف يتأتى لأحدٍ من العرب لا يزيد عليهم في شيء، بل هو ابن بيئتهم بثقافتها، وعلمها وغيره، أن يكون على هذه الحال الذي لم يبلغ شأوه أحد، ولن يبلغه أحد، بل إن الفارق بين شأوه وبين جميع الناس كالفارق بين السماء والأرض.
والعجيب أنَّه لم يمار أحد ممن عادوه وقاتلوه في هذه الأخلاق، وكانوا يناشدونه بتلك الأخلاق العالية أن يعفو عنهم، وقد لقَّبوه بالصادق الأمين (1).
وما كانت هذه الأخلاق، وهذه العناية لتوحد إلا لأننا في معرض أخطر أمر، وهو أمر النبوة والرسالة، إذ ما كان لأحدٍ أن يردَّها أو يدفعها، أو يشكك فيه فيقضي على الرسالة في مهدها بتكذيب الله أن يكون ذلك رسوله.
وأمر آخر، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة لهؤلاء المدعوين إلى الله تعالى، وكذلك الدعاة إليه، فكيف يكون فيه ما يشينه ويردّ دعوته بإظهار النقص والعيب فيها، إن ذلك قدح في المرسل سبحانه - وهذا ما يستحيل صدوره.
وقد رأينا التحدي في دعوته صلى الله عليه وسلم إلى آخر لحظة من حياته الشريفة والعجز عن مواجهته، فكيف يكون في أول دعوته ما يبطلها؟
وقد بُدئ وصفه صلى الله عليه وسلم في بداية البعثة بهذا الوصف بالذات؛ لأنه الدليل إلى ما بعده من الأوصاف، وهو البرهان الساطع على صدق ما سيلقيه عليهم بعد ذلك من توحيد، وعبادات ومعاملات وغيره، وعلى أن ذلك حق لا مرية فيه، صحيح لا شية فيه؛ لأن الناقل له، المبلغ به هو صاحب الخلق العظيم في هذه الحياة الدنيا، فكيف يقول كذباً، أو يتقول على الله تعالى ما لم يقله؟ وذلك يدل على صحة كل ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم، ويؤيده قوله فيما نزل بعد ذلك في سورة النجم:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] كما سنبينه في حينه إن شاء الله تعالى.
(1) وردت تسميته بالأمين في حديث تحكيمه صلى الله عليه وسلم في الحجر الأسود، قالوا:"هذا الأمين رضينا، هذا محمد"(ابن هشام 1/ 197). وورد تسميته صلى الله عليه وسلم بالصادق في حديث إسلام حمزة رضي الله عنه الذي رواه ابن أسماء "أشهد أنك الصادق"(السيرة النبوية لابن كثير 1/ 446)، وفي غير ذلك.
وثمة أمر آخر وهو أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم جاء ليدعو الناس جميعًا إلى التزام أحاسن الأخلاق، والاتصاف بها، كما قال:(إِنَّمَا بُعِتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخلاق). (1)
وبالتالي لابد أن يكون أعلى الناس جميعًا خُلُقاً، لأنَّ فاقد الشيء لا يعطيه، وإن كان مثلهم فلأي شيءٍ يدعوهم؟ ولذا وجدناه من أول بعثته أعظم الناس خُلُقًا، فلما وصفه ربُّه بذلك من حين ابتعثه، كان ذلك متسقًا تمام الاتساق مع دعوة الله تعالى الناس إلى توحيده ومعرفته، وعبادته، وإلى كل جميل من الأقوال، والأفعال في الظاهر والباطن.
وللأستاذ سيد قطب في كتابه "في ظلال القرآن"(2) كلام جميل نذكره ملخصًا، يقول: ثم تجيء الشهادة الكبرى والتكريم العظيم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} .
وتتجاوب أرجاء الوجود بهذا الثناء الفريد على النبي صلى الله عليه وسلم، ويثبت هذا الثناء العلوي في صميم الوجود، ويعجز كل قلم، ويعجز كل تصور عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من ربِّ الوجود، وهي شهادة من الله، وفي ميزان الله، لعبد الله، يقول له فيها:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} ، ومدلول الخلق العظيم هو ما عند الله مما لا يبلغ مداه أحد من العالمين.
ودلالة هذه الكلمة العظيمة على عظمة محمد صلى الله عليه وسلم تبرز من نواحٍ شتى:
تبرز من كونها كلمة من الله الكبير المتعالي، يسجلها ضمير الكون، وتثبت في كيانه، وتتردد في الملأ الأعلى إلى ما شاء الله.
(1) الحديث صحيح رواه البخاري "في الأدب المفرد"(273)، وابن سعد " في الطبقات"(1/ 192) والحاكم (2/ 613)، وأحمد (2/ 318)، عن أبي هريرة مرفوعًا.
(2)
انظر سيد قطب "في ظلال القرآن" دار الشروق الطبعة العاشرة 1401 هـ - 1981 م. تفسير سورة القلم (7/ 290).
وتبرز من جانب آخر، من جانب إطاقة محمد صلى الله عليه وسلم لتلقيها وهو يعلم مَنْ ربَّه هذا، قائل هذه الكلمة؟ ما عظمته؟ ما دلالة كلماته؟ ما مداها؟ ما صداها؟ ويعلم من هو إلى جانب هذه العظمة المطلقة، التى يدرك هو منها ما لا يدركه أحد من العالمين.
إن إطاقة محمد صلى الله عليه وسلم لتلقى هذه الكلمة من هذا المصدر، وهو ثابت، لا ينسحق تحت ضغطها الهائل - مع أنها ثناء - ولا تتأرجح شخصيته تحت وقعها وتضطرب .. تلقيه لها في طمأنينة وفي تماسك وفي توازن هو ذاته دليل على عظمة شخصيته فوق كل دليل.
ولقد رويت عن عظمة خلقه في السيرة، وعلى لسان أصحابه روايات منوعة كثيرة، وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كل ما روى عنه. ولكن هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كل شيء آخر، أعظم بصدورها عن العلى الكبير، وأعلم بتلقى محمد لها وهو يعلم من هو العلى الكبير، وبقائه بعدها راسخاً ثابتاً مطمئناً، لا يتَكَبَّر على العباد، ولا ينفتح، ولا يتعاظم.
لقد كان - وهو بشر - يُثني على أحد أصحابه، فيهتز كيان صاحبه هذا من وقع هذا الثناء العظيم، وهو بشر ويعلم أصحابه أنه بشر، فأما هو فيتلقى هذه الكلمة من الله، وهو يعلم من هو الله، ثم يتماسك ويصطبر ويتلقى ويسير إنه أمر فوق كل تصور وفوق كل تقدير.
وما كان إلا محمد صلى الله عليه وسلم بعظمة نفسه هذه من يحمل هذه الرسالة الأخيرة بكل عظمتها الكونية الكبرى فيكون كفؤاً لها كما يكون صورة حية منها.
إن هذه الرسالة من الكمال والجمال، والعظمة والشمول، والصدق والحق بحيث لا يحملها إلا الرجل الذي يُثني عليه الله هذا الثناء فتطيقه شخصيته، ثم يتلقى بعد ذلك عتاب ربه له بذات التماسك، وذات الطمأنينة، ويعلن ذلك كما يعلن تلك لا يكتم من هذه شيئًا، ولا تلك، وهو في كلتا الحالتين النبي الكريم، والعبد الطائع والمُبَلِّغ الأمين.
إنه محمد - وحده - هو الذي يرقى إلى هذا الأُفُق من العظمة، هو الذي يكافئ هذه الرسالة الكونية العالمية الإنسانية حتى لتتمثل في شخصه حية، تمشي على الأرض في إهاب إنسان، إنه محمد - وحده - الذي علم الله منه أنه أهل لهذا المقام.
والله أعلم حيث يجعل رسالته - وأعلن في هذه أنه على خلق عظيم، وأعلن في الأخرى أنه - جلَّ شأنه، وتقدست ذاته وصفاته، يصلي عليه هو وملائكته:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]، وهو - جلَّ شأنه - وحده القادر على أن يهب عبدًا من عباده ذلك الفضل العظيم.
انتهى تلخيصا لكلام المؤلف. (1)
وأما عند تحليل الآية الكريمة:
فأول ما يطالعه الباحث في ذلك هو العطف (2)، وهو عطف جملة {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} على قوله:{مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} وهو جواب القسم، أي إنَّ قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ ....} مُقسَم عليه من الله جلَّ وعلا - وإن كان سبحانه لا يحتاج لقسمٍ لإثبات كلامه - وإنَّما ذلك لتبيين أهمية المُقسَم عليه وصدقه، وعلو شأنه، وأنه مفروغ منه، ولا يتطرق إليه الاحتمال، أو يمسُّه الشك.
والقَسَم هنا يجري على سنن الأقسام الصادرة في كلام الله تعالى بما شاء من عظيم خلقه الدالة على آثار صفاته وجلاله.
(1) انظر سيد قطب "في ظلال القرآن" تفسير سورة القلم (7/ 290).
(2)
انظر محي الدين الدرويش "إعراب القرآن الكريم"(164/ 10) الطبعة الخامسة دار ابن كثير 1417 هـ 1997 م.
والقلم هو الوارد في قوله تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 4 - 5]، لأنه الظاهر الذي يقتضيه حال أهل الكتاب، وعند من يعرف الكتابة من العرب، وهو المناسب لقوله تعالى:{وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1]، وقد أقسم به لشرفه بأنه يكتب به القرآن، وكُتِبَت به الكتب المقدسة، وتُكْتَب به كتب التربية والأخلاق والعلوم، وكل ذلك له حظ شرف عند الله تعالى. (1)
هذا على التعريف المرجح في تعريف القلم، وقيل أيضًا ما يُكَنَّى عنه بالقلم من تعلق علم الله بالموجودات الكائنة، والتي ستكون (2).
وأما قوله تعالى: {وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1] فالمقسم به الثاني، فالآيات فيها أمران مقسم بهما؛ وهما القلم وما يسطرون، والمقسم عليه ثلاثة، وهي نفي الجنون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإثبات الأجر والثواب له، والثالث كونه على خلق عظيم.
ونعود إلى قوله تعالى: {وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1]، ومعناه السطور المكتوبة بالقلم، فإذا كانت {مَا} موصولة صار المعنى: أي وما يكتبونه من الصحف، ويجوز أن تكون مصدرية والمعنى: وسطرهم الكتابة سطورًا.
ويجوز أن يكون القسم بالأقلام التي يكتب بها الوحي وبالمكتوب والموحى به، ويكون القسم حينئذ بالقرآن نفسه على أن القرآن ما هو بكلام مجنون، وذلك كقوله تعالى:
(1) ومن فوائد هذا القسم أنَّ هذا القرآن كتاب الإسلام، وأنَّه سيكون مكتوبًا مقروءًا بين المسلمين، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بكتابة هذا الوحي. وتعريف القلم هنا للجنس. انظر التحرير والتنوير (20/ 60)، للطاهر بن عاشور.
(2)
انظر السابق.
{وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 2 - 3] فهو قسم بالقرآن على القرآن، وهو من بديع القسم، إذ القرآن هو الدليل والمدلول عليه في نفس الوقت، وهو قضية سنعود إلى توضيحها إن شاء الله في حينها.
وضمير {يَسْطُرُونَ} راجع إلى غير مذكور، وهو معلوم للسامعين، فكأنه قال: ن والقلم المكتوب، أي والمسطور، وهو نظير قوله تعالى:{وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)} [الطور: 2 - 3]، لأن ذكر القلم ينبئ بكتبة يكتبون، والمقصود هو المكتوب، فهو بمنزلة الفعل المبني للمجهول، ومن فسر التفسير الثاني للقلم جعل ضمير {يَسْطُرُونَ} عائدًا إلى الملائكة في كتاباتهم ما يلقي إليهم من الله تعالى لتنفيذه، بضبط الكاتب بغير زيادة ولا نقصان.
كل ما سبق يبين ويوضح قيمة الآتي من الكلام، وعظمة معناه، واستقراره وثبوته؛ لأنه لا خُلْف لكلام الله تعالى، فضلاً عن قَسَمِه، ومن ثَمَّ أطلنا شيئًا ما لنبرز تلك الدرجة العليا التي تظهر نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وصدقها، ومدى صحة الرسالة وأنها وحيٌ من الله تعالى، ولا يمكن أن يكون إلا ذلك. (1)
وأوثر القسم بالقلم والكتابة للإيماء إلى أنَّ باعث الطاعنين على الرسول صلى الله عليه وسلم واللامزين له بالجنون، إنما هو ما أتاهم به من الكتاب، فكان هذا من أقوى التحدي لهم
(1) لأنَّ هذا الكلام إما أن يكون مصدره محمد صلى الله عليه وسلم، أو المكذبين من الكفار وأهل الكتاب وأهل الأرض جميعًا، أو أن يكون مصدرًا آخر. ولا يمكن أن يكون بالعقل هو كلام الكفار، وكذلك لا يمكن أن يكون من كلام محمد، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يزيد في علمه عن علوم بيئته، وكذا في لغته وثقافته، وبدراسة هذا الكلام نجده مبايناً لكلامه، وأعلى في بلاغته وبيانه وعلومه عن بيئته بما لا مجال للمقارنة فيه حتى سجد له أساطين اللغة حينئذ. (علاوة على أن دراسة النص لها موضع آخر) فكان هذا الكلام كلام قوة عليا عليمة محيطة أعلى من كل شيء، ولا يحيط بها شيء، فَدُلُّونَا على قادر عليم، ادعى أنَّ هذا كلامه، غير الله جلَّ وعلا.
على صدق النبوة، وبرهانًا ساطعًا على الرسالة، لأن ما رموه بسببه من الجنون هو ذاته ما أقسم به دليلاً لصدقه، وحجة لمدَّعاه. إنَّ الأدلة المقطوعة على هذا النحو لهي إعجاز في نفسها وتعجيز للخصم بحيث لا يستطيع ردًا ولا دحضًا.
ونأتي إلى جواب القسم لنحلل آياته، ولنرى فيه قيمة المقسم عليه، وما فيه من إثبات الكمالات للنبي صلى الله عليه وسلم، ونفي النقص عنه، وذلك في الدنيا، مع عظيم الأجر والثواب في الآخرة.
والمقسم عليه ثلاثة كما ذكرنا آنفاً:
أولها: نفي الجنون عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود من نفي الجنون إثبات النبوة للنبي عليه الصلاة والسلام لأنَّ المشركين قصدوا بإلحاق الجنون به وإثباته له نفي النبوة عنه، فلما أقسم المولى سبحانه على نفي الجنون فذلك إنما كان لإثبات ما قصد المشركون نفيه، فثبتت له النبوة.
وكان ذلك تسليةً أيضًا من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم لئلا يحزنه هذا القول، وتسرية عنه لما لاقاه من أذى بحمله دعوة الحق، إذ كان يظن صلى الله عليه وسلم أنه بدعوتهم إلى هذا الخير سيسرعون لتصديقه، وتأييده، والإيمان به، خاصة وأنه غير متهم عندهم، بل هو الصادق الأمين لديهم من قبل ومن بعد.
وأما رميهم له بالجنون صلى الله عليه وسلم، فهو ما ذكره القرآن الكريم عنهم في نفس السورة حيث شافهوا الرسول صلى الله عليه وسلم به فيقول القرآن الكريم:{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)} [القلم: 51]. وقد أكدوا قولهم هذا بحرف {وَإِنْ} ولام الابتداء {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)} فأُجيب على قولهم بمؤكدات أقوى مما في كلامهم إذ أقسم عليه أولاً، وجيء بالباء التي تزاد بعد النفي لتأكيده ثانيًا، وثالثًا بالجملة الاسمية منفية لدلالة الجملة
الاسمية على ثبات الخبر وهكذا كل ما ورد فيه نفى صفه الجنون عنه فإنما هو رد على أقوال المشركين كقوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)} وقد زل فيه صاحب الكشاف زلة لا تليق بعلمه (1).
وقد أكد القرآن أن نفي الجنون عنه أنه بسبب نعمة الله تعالى عليه، أو لتلبسه بنعمة الله جلَّ وعلا، فكيف يكون مجنوناً من هو محاط بنعمة الله متدثراً بها، فهى عليه كاللباس مشتملاً بها.
وهو ما يدل في محاجة المشركين على أنّ هذه النعم كانت ظاهرة في حقه من الفصاحة، والعقل الكامل والسيرة المرضية، والبراءة من كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة، فوجودها تنافي الجنون وحصوله، وقد نبه الله تعالى على هذه الدقيقة لتكون جارية مجرى الدلالة اليقينية على كونهم كاذبين في قولهم له إنه لمجنون (2).
يقول العلامة أبو السعود في "إرشاد العقل السليم" في ذكر قوله: {رَبِّكَ} حيث أظهر وصف الربوبية، وأضافها إلى النبي عليه السلام والصلاة - أنه يدل على عظمة قيمة
(1) انظر الطاهر ابن عاشور " التحرير والتنوير"(29/ 62)، الدار التونسية للنشر، بغير سنة الطبع، والزلة التى يشير إليها للزمخشرى في تفسيره لسورة التكوير حيث استدل بهذه الآية على علو مقام جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من عقائد المعتزلة ودسائسها.
(2)
انظر الفخر الرازي " التفسير الكبير"(15/ 648)، وأبا حيان "البحر المحيط"(10/ 235) دار الفكر 1412 هـ 1992 م، وابن عطية "المحرر الوجيز"(5/ 236)، وقد ذكر بعض المفسرين كأبي السعود أن النعمة هي النبوة والرياسة العامة وهذه يجادل فيها المشركون وينكرونها، وأما ما ذكرنا فهو المناسب لرد الجنون المزعوم. انظر أبا السعود "إرشاد العقل السليم"(5/ 752) طبعة دار الفكر، والألوسي "روح المعاني"(16/ 41) المكتبة التجارية.
هذه النعمة، وعلى تشريف النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الإضافة، وهذا نص كلامه:"والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى معارج الكمال، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه، والإيذان بأنه تعالى يتم نعمته عليه، ويبلغه من العلو إلى غاية لا غاية وراءها، والمراد تنزيهه عليه الصلاة والسلام عما كانوا ينسبونه إليه حسدًا وعداوة، ومكابرة، مع جزمهم بأنه عليه الصلاة والسلام في غاية الغايات القاصية، ونهاية النهايات الناهية من حصانة العقل ورزانة الرأي"(1).
بعد أن نَزَّه الله تعالى النبي عليه الصلاة والسلام عن قول المشركين ودفع عنه بهتان أعدائه، وثَبَّته على دعوته، وصبَّره وسلاه، وبَيَّن نعمته عليه، وعظيم درجته عنده، أعقب ذلك كله بإكرامه بأجر غير ممنون، وهو الجواب الثاني للقسم الذي ذكرنا، وهو أنه أقسم له - سبحانه - بأن له أجرًا غير ممنون، وما يقسم إلا على عظيم، وهو ذلك الأجر الذي بشره به، وهو أجر عام يشمل أجر الدنيا، وأجر الآخرة جراء ما لقيه من أذى المشركين، وأن دعوته وتحمله وصبره سوف يرى نتيجته وعاقبته بعينه في الدنيا، ويوم يقوم الناس لرب العالمين، وذلك ما حدث من عناية الله به في الدنيا ونصره على أولئك المكذبين
(1) العلامة أبو السعود "إرشاد العقل السليم"(5/ 752). وللعلماء والمفسرين أخذ ورد طويل في التوجيه الإعرابي لهذه الجملة (يراجع للتوسع بما ذكرنا من المصادر) وحاصله في قوله {بنعمة ربك} أنه - جعله الزمخشري في الكشاف - حالاً من الضمير الذي في مجنون المنفي، وتبعه عليه معظم المفسرين، ويكون التقدير، انتفى وصف المجنون بنعمة ربك عليك. والباء للملابسة أو السببية وقد اعترض أبو حيان كلام الزمخشري، وبين وجه الاعتراض. يراجع ذلك كله في "إعراب القرآن" لمحي الدين الدرويش، و "روح المعاني" للألوسي (16/ 41)، و"والتحرير والتنوير" للطاهر بن عاشور (29/ 62)، "والبحر المحيط" لأبي حيان (10/ 235) وغيرها. قدم هذا فيما سبق.
والمستهزئين وغيرهم، ورفع رايته في الأرض، والتمكين لدين الله تعالى، مع ثواب الآخرة الدائم الذي لا ينقطع ولا يبيد.
وقد أكد هذا الثواب بـ {إِنَّ} ، وبلام الابتداء وبتقديم المجرور في قوله {لَكَ} ، وهو برهان جسامة هذا الأجر، وضخامته ووصوله إلى مرتبة لم يصل إليها أحد، دليل ذلك قوله {لَكَ} التي تفيد الاختصاص، بمعنى أنَّ هذا الأجر لك لا لغيرك، لم يحزه غيرك كائنًا من كان، فيدل ذلك على علو مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم، ولما صح ووقع ذلك في الدنيا كان عنوانًا من عناوين صحة النبوة، وصدق الرسالة، فمن من المرسلين أو غيرهم رفعت رابته وانتشر دينه، ودام قوله، واستمرت تعاليمه على نحو ما كان له صلى الله عليه وسلم مع ما حدث من مجابهة وحروب لم يعلمها على الحقيقة والتفصيل إلا الله جلَّ شأنه.
ودلَّ كذلك أنه سيد ولد آدم يوم القيامة إذ هو أعلاهم وأعظمهم، فهو أعلاهم منزلة، صاحب الوسيلة التي لا تنبغي إلا لأحد من خلق الله، هو النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيمة هذا الأجر وبقاؤه يوضحه قوله سبحانه وتعالى: {غَيْرَ مَمْنُونٍ} لا منَّ فيه: أي لا أذى فيه من المعطي للمعطَى له، من تعديده عليه، أو افتخاره به، وذكره له كما قال تعالى:{لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264] ويجوز أن يكون {مَمْنُونٍ} غير مقطوع عنه، وهو الثواب المتزايد كل يوم، أو الأجر الأبدي الذي لا يفنى، فكانت كلمة {مَمْنُونٍ} لها من الإيجاز بجمع هذين المعنيين ما ليس لقوله:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} [هود: 108] في سورة هود، وهو هنا مناسب لتكريم (1) النبي صلى الله عليه وسلم ولتبيان أعظم ما له من الثواب عند الله تعالى، فهو لا يصل إليه أحد فضلاً عن أن يدانيه، إذ هو له خاصة لا يشركه فيه غيره، ولا أذى
(1) انظر ابن عاشور "التحرير والتنوير"(29/ 63).
فيه، مع تزايده وأبديته فكان ذلك تأنيسًا وتثبيتًا لقلب الرسول مع البشرى والوعد الجميل بما لا مزيد عليه.
وبعد أن آنس نفس رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الوعد، جاء المقسم عليه الثالث، وهو قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4] فسفَّه رأي أعدائه بقولهم مجنون، ودفعه بما يذهبه ويبطله مما يعلمه قومه، فحقق أنه متلبس بخلق عظيم، وذلك ضد الجنون، وقد أكد بمؤكدين بحرف {إِنَّ} وبلام الابتداء أي أنه كلام لا يدع مجالاً لشك أو تردد، وكأنه يؤكد الواقع الذي لا يمارون فيه، ولا يكذبون به (1).
والخلق: طباع النفس وعاداتها وسجاياها، وأكثر إطلاقه على طباع الخير إذ لم يُتْبع ينعت.
والعظيم: الرفيع القدر، وهو مستعار من ضخامة الجسم، وشاعت هذه الاستعارة حتى ساوت الحقيقة.
و {عَلَى} للاستعلاء المجازي المراد به التمكن كقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5]، ومنه قوله تعالى:{إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79].
والخلق العظيم هو الخلق الأكرم في نوع الأخلاق، وهو البالغ أشد الكمال المحمود في طبع الإنسان، لذلك فالخلق العظيم أرفع من مطلق الخلق الحسن، فلاجتماع مكارم
(1) وقد يقول قائل: بل قد ورد قول المنكرين له صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر كذاب وغيرها، والرد أنه يكفي أن القرآن الكريم ذكر بنفسه هذه الافتراءات ولم يخف شيئًا منها؛ لأنه لا يأبه بها إذ لا يخشى شيئًا من ذكرها، مما يدل على أنها على غير الحقيقة، وأنها مما لا يخيف الواثق من نفسه، فضلاً عن أن تهزه أو تزلزله. ثم إن القرآن الكريم قد جابههم بالرد فلم ينكروه كقوله تعالى:{فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} .
الأخلاق إذاً في النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أحسن الخلق معاملة للناس على مختلف الأحوال المقتضية لحسن المعاملة.
ولاجتماع هذه الأخلاق فيه صلى الله عليه وسلم رأينا السيدة عائشة رضي الله عنها تقول: كان خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم القرآن (1)، أي هو أدب القرآن ويشمل ذلك كل ما وصف به القرآن مكارم الأخلاق، ويشمل كذلك ما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم من نحو قوله:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] وقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وغير ذلك من آيات القرآن الكريم.
وأيضًا ما أخذ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأدب بطريق الوحي غير القرآن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)(2) فجعل أصل شريعته إكمال ما يحتاجه البشر من مكارم الأخلاق في نفوسهم.
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو صاحب الخلق العظيم، وأن الخلق العظيم هذا هو أدب الوحي الذي نزل عليه، فإن ذلك يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المظهر الأكبر لهذا الخلق، ومن ثم أمره الله تعالى أن يقول:{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 163] حيث صار بعد أمر ربه بقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية: 18] أول وأعظم المتبعين لها والمتخلقين بأخلاقها.
والأمر المهم الآخر في هذا الكلام أن الشريعة هذه أيضًا متمكنة تمام التمكن من عظيم الأخلاق، مرتبطة به أشد الارتباط، فكانت هي الأخرى المظهر الأجلّ الأعظم
(1) رواه مسلم [صلاة المسافر](139) عن قتادة رضي الله عنه.
(2)
سبق تخريجه (6).
لمكارم الأخلاق وفضائلها، وبهذا يزداد وضوحاً معنى التمكن الذي أفاده حرف الاستعلاء في قوله:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4] فهو متمكن من الخلق العظيم في نفسه، ومتمكن منه في دعوته الدينية (1).
ويؤكد سيد قطب أن تلك الأخلاق مربوطة بالسماء وليس العرف أو المصلحة إذ ذاك في الأرض هو الذي يحددها أو ينشئها فيقول: "لقد لخص الرسول صلى الله عليه وسلم رسالته في هذا الهدف النبيل، وهو أنَّه بعث ليتمم مكارم الأخلاق، ومن ثمَّ كانت سيرته الشخصية مثالاً حيَّا، وصفحة نقية وصورة رفيعة، تستحق من الله أن يقول عنها في كتابه الخالد: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4] " فيُمجِّد بهذا الثناء نبيه، كما يُمجِّد به العنصر الأخلاقي في منهجه، ويشد به الأرض إلى السماء، ويعلق به قلوب الراغبين إليه - سبحانه - وهو يدلهم على ما يُحب ويَرضى من الخلق القويم.
هذا الاعتبار هو الاعتبار الفذّ في أخلاقية الإسلام، فهي لم تنبع من البيئة، ولا اعتبارات أرضية إطلاقًا ولا تستمد، ولا تعتمد على ما كان قائمًا من اعتبارات العرف أو المصلحة أو الارتباطات، إنما تُستمد من السماء، وتعتمد على السماء، تُستمد من صفات الله المطلقة ليحققها البشر في حدود الطاقة، كي يحققوا إنسانيتهم العليا وكي يصبحوا أهلاً لتكريم الله لهم واستخلافهم في الأرض، وكي يتأهلوا للحياة الرفيعة الأخرى بجوار الله تعالى:{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر: 55].
وهذه الأخلاق ليست فضائل مفردة: صدق، وأمانة، وعدل
…
إنما هي منهج متكامل، تتعاون فيه التربية التهذيبية مع الشريعة التنظيمية، وتقوم عليه فكرة الحياة كلها
(1) انظر الفخر الرازي "التفسير الكبير"(15/ 649)، أبا حيان "البحر المحيط"(10/ 236)، الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير"(29/ 64).
واتجاهاتها جميعاً، وتنتهي في خاتمة المطاف إلى الله لا إلى أي اعتبار آخر من اعتبارات هذه الحياة.» (1)
تعريف الأخلاق عند الفلاسفة:
وتجدر الإشارة هنا إلى ذكر شيء مما قاله الحكماء والفلاسفة من المسلمين ومن غيرهم في تعريف الأخلاق، لنرى مدى ارتباط هذه الأخلاق ارتباطاً وثيقاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومدى تحققها فيه إلى أقصى غاية ممكنة، وبالتالي من حيث شعروا أو لم يشعروا، نرى مدى بناء هذه الشريعة على تلك الأخلاق وتأسيسها عليها، وفي ذات الوقت يكون ردًا على هؤلاء المستشرقين الذين عاثوا فساداً في دين الإسلام، وأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم.
نقل أسعد الحمراني عن "معجم لاروس" بأن الأخلاق: "هي علم تحديد معايير وقواعد السلوك، أو هي علم التعرف على الحقوق والواجبات"(2).
وذكر الحمراني أيضاً أن علم الأخلاق: "هو جملة القواعد والأسس التي يعرف بواسطتها الإنسان معيار الخير في سلوك ما، أو مدى الفساد والشر المتمثل في سلوك آخر (3).
وإن كان هذا هو تعريف الأخلاق عند الغربيين، فإن تعريف المحدثين والقدماء مما يبين جوانب الموضوع، ويوضح ملامحه، حتى إذا جئنا لتعريف الحكماء والفلاسفة والعلماء المسلمين للأخلاق اكتملت الصورة، وحينئذ نطبق هذه الصورة المكتملة للتعريف على
(1) انظر سيد قطب "في ظلال القرآن"(6/ 365).
(2)
انظر اسعد الحمراني "الأخلاق في الإسلام والفلسفة القديمة"(15) حيث نقل هذا التعريف عن "معجم لاروس" الصادر في باريس 1931 م.
(3)
المصدر السابق.
رسالة الإسلام، وعلى رسولها صلى الله عليه وسلم. لنرى بموضوعية كيف تمثلت هذه الأخلاق فيهما على أتم وجه، وأحسن سيرة، ونلج المقصود مباشرة فنقول: أمَّا الأخلاق عند الغربيين المحدثين فتعرف بأنها: "تصور وتقييم ما ينبغي أن يكون عليه السلوك، متمشية في ذلك مع مثل أعلى أو مبدأ أساسي تخضع له التصرفات الإنسانية، ويكون مؤازراً للجانب الخَيِّر في الطبيعة البشرية"(1).
ويلاحظ الباحث أن تعريفات الأخلاق عند الغربيين لا تفرق بين الحديث والقديم، حيث يبين ذلك كلام ابن مسكويه بدون قصد منه للتفريق بين التعريفات، فيحدد الأخلاق مبيناً وجهة نظر القدماء، أي فلاسفة اليونان بأنها:"علمٌ يعرف به حال النفس من حيث ماهيتها، وطبيعتها، وعلة وجودها، وفائدتها، ما هي وظيفتها التي تؤديها، وما الفائدة من وجودها، وعن سجاياها، وعن أميالها، وما ينقلها بسبب التعاليم إلى الحالة الفطرية، وذكر أن هذا أول علم تأسس منذ بدء الخليقة"(2).
ونختار تعريف الجرجاني حيث هو من اعتنى بالتعريفات، ليبين تعريف الأخلاق عند علماء المسلمين المتقدمين، وهو ما درج عليه متأخروهم من المهتمين منهم بالأخلاق والتفسير فيقول: " الخلق عبارة عن هيئة للنفس راسخة يصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كان الصادر منها الأفعال الحسنة، كانت الهيئة خلقاً حسناً، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة، سميت الهيئة التي هي مصدر ذلك خلقاً سيئاً، وإنما قلنا هيئة راسخة؛ لأن من يصدر منه بذل المال على الندور بحالة عارضة لا يقال
(1) حسن الشرقاوي "نحو الثقافة الإسلامية"(1/ 238)، القاهرة دار المعارف 1979 م.
(2)
انظر ابن مسكويه "تهذيب الأخلاق"، وانظر "موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم"(1/ 180) جدة دار الوسيلة الطبعة الأولى 1418 هـ 1998 م.
خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه" (1).
إن المتأمل فيما سبق من التعريفات لا يجد مشقة أو صعوبة في أن يقرر بكل أمانة أن تلك الصفات لم تتحقق لأحد متكاملة على هذا النسق في غير محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لا يحتاج لروية وتدبر، أو أعمال فكر إذا كان مشتغلاً بالتاريخ فقط أن يقول إنَّ تلك الأخلاق كانت في أسمى صورها، والتي هي باقية ما بقي ناس يعلمون عن محمد صلى الله عليه وسلم، ولو سأل المنصف نفسه من الذي ادعى، أو إدُعِيَ له على مدار التاريخ الإنساني كله أنه يتمتع بتلك الأخلاق، واتصف بأعلى كمالاتها، وما تزال آثارها باقية بل مكتملة كما كانت فيه، بلغت كما نقلت عنه، وتمثلها أتباعه، ويحاولون إلى اليوم، لم تجد مؤرخاً، ولا عالماً، ولا عاقلاً محايداً، منصفاً، أو غير منصف إلا أن يقول: ما ذكر ذلك إلا عن محمد صلى الله عليه وسلم، وإن ذكر غيره في ميدان من ميادين هذه الأخلاق، فما ذكرت كل الأخلاق وأعلاها إلا له.
لا نحتاج إلى تنزيل معاني هذه التعريفات - كما أسلفنا - على النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة وهي تعريفات قاصرة مليئة بالثغرات والمآخذ، إذ الواقع والسير قد كفتننا مؤنه ذلك، وإنما نقف عند تعريفات العلماء المسلمين، إذ هم قد زادوا على هذه التعريفات أموراً تسد خللها، وتكمل النقص فيها، وبالتالي تجعل هذه التعريفات أجمع وأمنع من تعريفات الغربيين، وبناء عليه، فإذا كانت هذه التعريفات الشاملة قد جمعت لمحمد صلى الله عليه وسلم فمن باب الأولى، قد أحاطت أخلاقه بتعريفات أولئك، ولا بأس حينئذ أن نذكر تعريفاً للأخلاق عند المسلمين، يقول مقداد يالجين معرفاً الأخلاق في نظر الإسلام بقوله: "هي عبارة عن مجموعة المبادئ والقواعد المنظمة للسلوك الإنساني التي يحددها الوحي لتنظيم حياة الإنسان، وتحديد
(1) عبد القاهر الجرجاني "التعريفات"(104)، وكذلك الفخر الرازي "التفسير الكبير"(15/ 649 - 650)، وانظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير"(29/ 63).
علاقته بغيره على نحو تحقيق الغاية من وجوده في هذا العالم على أكمل وجه." (1)
يظهر هذا التعريف شمول الأخلاق في نظر الإسلام، وكذلك كونها في منظور متكامل بين مصدرها، وطبيعتها ومغزاها الاجتماعي وغايتها، وهو ما يجعل النظام الإسلامي متميزاً بهذين الطابعين:
الأول: طابع إلهى من حيث أنها مراد الله، إذ أنه يجب أن يتبع الإنسان في هذه الحياة، أوامر لله ومراده في خلقه، لذلك جاء الوحي بصورة هذا النظام.
الثاني: طابع إنساني من حيث يتضمن المبادئ العامة في بعض نواحيه، وللإنسان دوره في تحديد واجباته الخاصة، والتعرف على طبيعة مظاهر السلوك الإنساني المعبرة عن القيم، لذا تعد الأخلاق روح الإسلام، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:(البر حسن الخلق)(2).
ولا بأس هنا أن نذكر أحد علماء المسلمين الذين ربطوا الأخلاق بقضية الإيمان، وما ينبثق عنه، وهو ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم الحراني الذي سلك مسلكاً في تحديد مفهوم الأخلاق يعتبر جديداً إلى حد ما في الفكر الإسلامي، كما بين ذلك صاحب " النظرية الخلقية عند ابن تيمية" حيث يقول ما ملخصه: إن ابن تيمية كان أوفى، وأكمل وأكثر نضجاً ممن سبقه من علماء المسلمين، أو غيرهم في هذا المضمار، وذلك لأن التصور النظري للأخلاق لدى هؤلاء جميعاً فيه من الثغرات، وعليه من المآخذ ما يجعل من هذا التصور فكرة ناقصة، بل عاجزة عن تحقيق الكمال الإنساني، فعند ابن تيمية نرى الارتباط الوثيق بين مفهوم الأخلاق، ومفهوم الإيمان الذي حدده الإسلام، وما ينبثق عنه من نظام في
(1) انظر مقداد يالجين "التربية الأخلاقية الإسلامية" رسالة دكتوراه منشورة، الطبعة الأولى القاهرة، مكتبة الخانجي 1977 م، (75)، وانظر "نضرة النعيم"(1/ 66)، جده دار الوسيلة الطبعة الأولى سنة 1418 هـ.
(2)
المصدر السابق، والحديث رواه مسلم (4633).
العبادة، يكمن في التصور الخلقي الصحيح، ففي الإيمان وطرائقه وآفاقه تستطيع النفس أن تجد حاجتها المادية والروحية معاً، وليس ثَمَّة طريق يبلغ الإنسان إلى كماله المنشود، وصلاحه المرجو، وبالتالي سعادته المأمولة غير طريق الإيمان (1).
ويكفي منهج علماء المسلمين، من سلكه منهم بتحقيق أكثر، وتحديد أدق كابن تيمية ومن تبعه، أن يرجع إليه الأوربيون اليوم بعد أن تشردوا في صحراء المادة القاحلة، التي تصوروا فيها سعادتهم، فإذا هي سراب، وقد عادوا إلى إدخال الإيمان كعنصر فعال في تحديد الأخلاق الموصلة للسعادة التي اتضح لهم أنها مبنية على الإشباع الروحي والسلام النفسي الذي تظهر آثاره في الأخلاق المحمودة مع البشر كافة، والتي بها يشعر المرء بقيمة لهذه الحياة التي أصبح لها غايات وأهداف محمودة.
إننا بتغير الأخلاق إلى ذلك نغير جميع أنماط السلوك الإنساني، وقد رأينا كيف غيرت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لمكارم الأخلاق هؤلاء العرب في أقصر فترة إلى أعظم أنماط ووسائل السلوك الإنساني على مرَّ التاريخ.
الأركان الأساسية للأخلاق:
ما سبق يدفعنا - بعد أن علمنا تحقق هذا العلو الأخلاقي في الرسول صلى الله عليه وسلم وأنَّه كان الأنموذج الفخم لدعوته - إلى أن نحدد الأركان الأساسية للأخلاق، وشيئاً من تفصيلاتها لنرى مدى انطباقها على شخص الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام فيتضح بذلك شيء من قيمة الرسول والرسالة، وصحة نسبه هذا الوحي لله تعالى.
(1) انظر محمد عبد الله عفيفي "النظرة الخلقية عن ابن تيمية" مطابع الفرزدق التجارية، الرياض طبعة 1408 هـ 1988 م، (58 - 59)، والكلام في تبيين خصائص مسلك ابن تيمية والمقارنة بغيره
…
إلخ موجود في الدراسة.
يقول الإمام ابن القيم في كتابه "مدارج السالكين" ما ملخصه: وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر، والعفَّة، والشجاعة، والعدل. وأخذ يفصِّل كيف جمعت كل منها جملة من مكارم الأخلاق التي بمجموعها تكتمل صورة الأخلاق الحسنة في صاحب الرسالة، لتكون عنواناً وتفصيلاً لهذه الرسالة بحيث لا يبقى عقلاً ولا واقعاً إلا التسليم بكونها من عند الله تعالى.
وإنَّ من الإنصاف العلمي أن نعرض من حين إلى آخر على مدار الرسالة لما اعترض به المعترضون، أو شكك به المرتابون من المستشرقين، ومن لفَّ لفَّهم لتلك الأغراض الخبيثة من محاربة الإسلام - العدو الرئيسي الذي اتخذوه لهم في هذه الأيام - ولنرى أتصمد أمام النقد العلمي النزيه، أم لا، من وجهة نظر هذه الرسالة، وإن كنَّا سنختصر ذلك اختصاراً؛ لئلا نخرج عن مقصود البحث، وسيكون ذلك فيما سنعرض له فقط من بعض مواقفهم التي تدل على سائر المواقف، مع الإعراض التام عما تتميز به هذه الكتابات من التطاول والتسافه، وقلّة الحياء والأدب (1)، إذا ذلك بضاعة الجهلة التي تظهر عند فقد الحجة
(1) يقول كيمون في كتابه (باثولوجيا الإسلام): «إن الديانة المحمدية جذام تفشى بين الناس وأخذ يفتك بهم فتكاً ذريعاً، بل هو مرض مريع وشلل عام وجنون ذهولى يبعث الإنسان على الخمول والكسل ولا يوقظة من الخمول والكسل إلا ليدفعة إلى سفك الدماء والإدمان» . ويقول إيضاً: «أعتقد أن من الواجب إبادة خُمس المسلمين والحكم على الباقيين بالأشغال الشاقة وتدمير الكعبة ووضع قبر محمد وجثته في متحف اللوفر» . انظر عبد الودود يوسف: قادة الغرب يقولون، دار السلام للطباعة والنشر طبعة 1994 (42).
يقول الفيلسوف الأمريكى فرنسيس فوكوياما في كتابة «نهاية التاريخ» أن الإسلام أصبح خطراً كبيراً على الممارسات الليبرالية وأن هناك تشابهاً بين الأصولية الإسلامية والنازية الأوروبية وأن الإسلام هو سبب في تخلف المسلمين وأنه وراء فشل المسلمين في التفوق علمياً أو إقتصادياً أو صناعياً. انظر رجب البنا «الغرب والإسلام» دار المعارف طبعة 1997 (237 - 238).
والبرهان، وسيكون البحث مع مدعي الحياء والأدب منهم، وإن اعتقد الباحث أنهم لا يفرقون عن غيرهم شيئاً، إلا أنهم صاغوا ما يريدون من أبحاث الظلمات بطريقة حاولوا فيها إلباسها ثوب العلم مع البعد عن طريقة الشتم والسب والقذف.
نعود إلى كلام ابن القيم حيث يقول:
فالصبر: يحمله على الاحتمال، وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم والأناة والرفق وعدم الطيش والعجلة.
والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل الظاهر والباطن، وتحمله على الحياء، وهو رأس كل خير، وتمنعه من الفحشاء، البخل والكذب، والغِيبَة والنميمة.
والشجاعة: تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق، وعلى البذل والندى، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته، وتحمله على كظم الغيظ والحلم؛ فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها، وبكبحها بلجامها عن الترف والبطش، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وهو حقيقة الشجاعة، وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه.
والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط، فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقِحَة، وعلى خلق الشجاعة الذي هو التوسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم الذي هو
توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس.
فمنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة.
ومنشأ جميع الأخلاق السافلة، وبناؤها على أربعة أركان: الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب (1)، وكيف رأينا أنَّ الرسالة وصاحبها عليه الصلاة والسلام أبعد شيء عن هذه الأخلاق، وأشد نهياً عن الإتصاف بها، وأكثر العالمين حملاً لهم على مجاهدة أنفسهم على تركها، فجعل الدين كله خُلُقاً، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين، ودليل ذلك وبرهانه من كلامه هو صلى الله عليه وسلم لما سئل عن البرِّ والإِثم فقال:(البُّر حسن الخلق، والإِثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطَّلع عليه الناس)(2).
فقابل البَّر بالإِثم، وأخبر أنَّ البر حسن الخلق، والإثم حواز الصدور، وهذا يدلُّ على أنَّ حسن الخلق هو الدين كله، وهو حقائق الإيمان، وشرائع الإسلام، ولهذا قابله بالإِثم.
وإنَّ مما يؤكد ذلك في نظر صاحب الشريعة قوله عليه الصلاة والسلام: (إنَّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)(3) فجعل حسن الخلق درجة المتقين الصائمين القائمين، وليس ثَمَّ درجة أعلى من ذلك إذ هي أعظم صفات المدح، وأعلى درجة الإيمان، ولذا قال:(إنَّ من أكمل المؤمنين إيماناً: أحسنهم خُلُقاً)(4).
ولقد تمثلت هذه الصفات جميعها فيه صلى الله عليه وسلم كما ذكر أبعد الناس منه، وكذلك أقرب الناس إليه، حيث قالت السيدة عائشة رضي الله عنها لمَّا سُئلت عن خلقه عليه الصلاة
(1) انظر محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية "مدارج السالكين" دار إحياء الكتب العربية (1/ 230)، عطية محمد سالم تكمله "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" للشنقيطي محمد الأمين (8/ 427).
(2)
رواه مسلم (2553)، ورواه أحمد أيضًا (4/ 182)، والترمذي (2389). من حديث النواس بن سمعان.
(3)
رواه أبو داود (4798) من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها.
(4)
رواه الترمذي (1162) مطولاً واللفظ له وقال حيث حسن صحيح، ورواه أحمد (2/ 250، 472).
والسلام: (كان خلقه القرآن)(1)، أي خلقه آداب الشرع التي أمر بها جميعها، إذ لا يمكن أن يأمر الله بأي شيء، إلا ويكون الرسول صلى الله عليه وسلم أول المسارعين إلى تنفيذه لقوله تعالى:{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163]، وحديث أنس رضي الله عنه خادمه بعد حديث زوجه، يبين لنا ذلك، فعلى طول خدمته للنبي صلى الله عليه وسلم لم يتغير عليه قطّ، ولا بدا له منه شيء من ذلك، خاصةً مع من يخدمه؛ لأنه لابد من أفعال يقع بها الضجر والتأفف، أو تؤدي إلى المعاتبة أو المعاقبة، ولكن شيئاً من ذلك كله لم يقع لأنس رضي الله عنه مع النبي عليه الصلاة والسلام، يقول أنس:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقاً) وقال: (ما مَسَستُ ديباجاً ولا حريراً أليَن من كفِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت رائحة قطّ أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي قط: أُفّ، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا)(2).
(1) رواه مسلم (746) مطولاً من حديث قتادة رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (3768)، ومسلم (2309) بعضه، والترمذي (2015).