الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
النشاط السياسى والعسكرى إلى غزوة بدر
وقبل الخوض في ذلك النشاط نشير إلى شيء من المعاناة التى وقعت للمهاجرين في بداية وصولهم إلى المدينة حيث لم يكن وصولهم نهاية للألآم والمشقات، بل إن تغير المكان من مكة إلى المدينة أصابهم بأزمات صحية تصوروا معها نهايتهم، إذ كان معلوماً عن المدينة أنها موبؤة بالحمى - حمى يثرب - حتى وصل بهم الحال إلى أن يصلوا وهم قعود، وصرف الله تعالى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم رعاية بهم، وإستبقاء لمن يقوم عليهم وعلى أمور الدين. (1)
لقد وعك أبو بكر وبلال رضي الله عنهم، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كَلُ امرئٍ مُقَبَّحٌ في أهلِه
…
والموتُ أدنى من شِرَاكِ نَعْلِه
وكان بلال رضي الله عنه إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته، ويقول:
ألا ليت شعرى هل أبيتنَّ ليلةً
…
بوادٍ وحولى إذخرٌ وجليلُ
وهل أَرِدَنْ يوما مياه مَجَنَّةَ؟
…
وهل يَبْدُوَنْ لى شامةٌ وطَفيل
وجاءت عائشة رضى الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما يقولان، فقال: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها
(1) أحمد، المسند (3/ 136)، وابن ماجه (1229 - 1231)، من طريق ابن اسحاق، وقال في الزوائد: إسناده صحيح.
في الجحفة» (1)
ووعكت عائشة (2) رضى الله عنها، وابن فهيرة (3)، لأن المدينة كانت مشهورة بالحمى، حتى قال مشركو مكة عن المسلمين في عمرة القضية:«أنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمى يثرب» فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ليروا المشركين قوتهم، وأن الحمى لم تنهكهم كما يزعم الكفار. (4) واستجاب الله دعاء نبيه فجعلها من أطيب البلاد بعد ذلك.
تهديد قريش للمسلمين بعد الهجرة:
لم تترك قريش المسلمين يستقرون في المدينة حتى أرسلوا لكفار المدينة تهديدات شديدة بطرد المسلمين، وقد وجدوا عبد الله بن أبى بن سلول خير من يقوم بهذا الموقف حيث ما زال كافراً ظاهراً وباطناً، وكان يعادى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويؤذى النبي صلى الله عليه وسلم ويسىء إليه، لأنه كان يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سلبه ملكه، فقد وصل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة، وأهل المدينة يعدون له تاج الملك عليهم، فتركوه وآمنوا، ومن حينها أظهر عداءه وبغضه للرسول صلى الله عليه وسلم، وجاءت موقعة بدر وهزم الله قريشاً فدخل ابن سلول الإسلام كرهاً ظاهراً، وظل كفره باطناً يحارب الله ورسوله والمؤمنين، وصار بذلك رأس النفاق، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم لحكمته وحسن سياسته يعرض عنه، فلا يقابل إساءته أو أذاه بشيء، - حتى إنه آذى النبي صلى الله عليه وسلم ذات
(1) البخاري (3926)، الواد كما قال الحافظ في الفتح: وادى مكة، جليل: نبات ضعيف يحشى به خصاص البيوت وغيرها، وشامة وطفيل جبلان بقرب مكة، وقيل: عينان، ورى الحديث أيضاً ابن هشام عن ابن اسحاق بسند صحيح (2/ 271 - 273).
(2)
البخاري (3917 - 3918).
(3)
ذكره ابن اسحاق من حديث عائشة بإسناد حسن، ابن هشام (2/ 271)، ورواه أحمد (21/ 13)، من حديث عائشة، وانظر د. مهدى رزف الله، السيرة النبوية (321).
(4)
البخاري (4256 - 4257).
مرة (1) -، فطلب سعد بن عبادة رضي الله عنه سيد الخزرج - العفو له من النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: «يا رسول الله اعف عنه، واصفح عنه، فوالذى أنزل عليك الكتاب، لقد جاء الله بالحق الذى أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البُحَيْرَة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعِصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذى أعطاك الله، شَرِق بذلك، فلذلك فَعَل به ما رأيت
…
». (2)
كاتب المشركون في مكة عبد الله بن أبى بن سلول ليكيد للمسلمين ككيدهم في مكة، وقالوا فيما كتبوا: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم. (3) لم يتوان ابن سلول عند مجيئه مكتوب قريش أن جمع مشركى المدينة لمحاربة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم:«لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تكيدون به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم» . فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا. (4) تحسباً لهذا الخطر المحدق بالنبي صلى الله عليه وسلم قام المسلمون ليلاً بالتناوب على حراسته صلى الله عليه وسلم لا يمسه سوء إلى أن نزل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:«يا أيها الناس انصرفوا عنى فقد عصمنى الله عز وجل» . (5)
(1) رواه الطبراني في الأوسط (234)، وابن حبان في صحيحه (429)، كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي بن سلول، وهو في ظل، فقال: قد غبر علينا ابن أبي كبشة، فقال ابنه عبد الله بن عبد الله: والذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب لئن شئت لآتينك برأسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا، ولكن بر أباك وأحسن صحبته» . قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن محمد بن عمرو إلا شبيب بن سعيد، تفرد به: زيد بن بشر. وقال ابن حبان: قال أبو حاتم رضي الله عنه: أبو كبشة هذا والد أم أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان قد خرج إلى الشام، فاستحسن دين النصارى، فرجع إلى قريش وأظهره، فعاتبته قريش حيث جاء بدين غير دينهم. فكانت قريش تعير النبي صلى الله عليه وسلم به، وتنسبه إليه، يعنون بذلك أنه جاء بدين غير دينهم، كما جاء أبو كبشة بدين غير دينهم.
(2)
البخاري (4566)، ومسلم (1798)، وأحمد، المسند (الفتح الربانى)(21/ 19 - 20)، بإسناد صحيح.
(3)
أبو داود، السنن (3004)، وإسناده صحيح.
(4)
أبو داود، السنن (3004)، وأسناده صحيح.
(5)
الحديث رواه الترمذى (3250)، وحسنه الألبانى، إسناده في صحيح الترمذى.
وكجزء مما تحيكه قريش للمسلمين من أهل المدينة من مواجهات تدفعهم بها لنبذ الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم، والضغط عليهم ليرجعوا عن نصرة المهاجرين، أو لعدم الدخول في الإسلام، كان إيذاؤهم لأهل المدينة عندما يأتون المسجد الحرام للاعتمار، وقد حدثت حادثة من هذا القبيل لسعد بن معاذ رضي الله عنه عندما جاء معتمراً إلى مكة، وطلب من مضيفه أمية بن خلف أن ينظر له ساعة خلوة يطوف فيها آمناً بالبيت، فأخذه أمية في منتصف النهار حين غفلة الناس، ومع ذلك لقيه أبو جهل، فأخبره به، فقال له: «تطوف بالكعبة آمناً وقد آويتم محمد وأصحابه؟ وتشاجرا؛ ومما قال له سعد: «والله لئن منعتنى أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام
…
وهدد أمية هو الآخر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سيقتله، وقد كان أن قتله الله ببدر». (1)
بداية النشاط العسكرى والسياسى:
لم يشرع الجهاد في العهد المكى، بل جاءت الأوامر الإلهية للمسلمين بكف الأيدى، وإقامة الصلاة، والصبر على أذى المشركين، وأن يقبلوا على أنفسهم بالمجاهدة على عبادة الله تعالى، والإتصاف بأوصاف التقوى، التى هي جديرة بأن يثبتوا بعد ذلك إذا لاقوا ودخلوا في مواجهة الكفاح الدامى، وكذلك يقبلون على توسيع دائرة الدين بانتشار الإسلام بالدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، كل ذلك حتى تترسخ جذور الدعوة وتقوى على مواجهة عوادى البغى والظلم، إذ لو حملت الدعوة سيفها حينئذ لهان على الكفار وأدها في مهدها والقضاء عليها وإنهاء وجودها. ولم يكن للمسلمين دار ينحازون إليها ليكون معسكراً في مواجهة قوى الشرك، بل إن حياتهم اليومية لم تكن منفصلة أو متميزة عن المشركين، ولو فرض الجهاد يومئذ لجرى قتال في كل دار أسلم منها أحد (2).
(1) البخاري (3632).
(2)
د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (337).
فلما هاجر المسلمون إلى المدينة، وقام الأنصار بإيواء المهاجرين، ونصرة النبي صلى الله عليه وسلم ونصرة الدين، وصارت للمسلمين بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم أرض هي دار الإسلام جاءهم الإذن بالقتال، وكان الأمر بالجهاد متدرجاً على حسب كل مرحلة من المراحل التى بلغتها الدعوة، وكان أول ما نزل كما يروى ابن عباس رضي الله عنه قوله تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]. وهو من رواية ابن جرير الطبرى بسنده إلى ابن عباس حيث يقول:
وزاد أحمد (2) في روايته لهذا الخبر، أن ابن عباس قال:«وهي أول آية في القتال» ، ولم يكن القتال فرضاً عليهم، بل أُذِن لهم بالقتال دفاعاً عن النفس، ثم جاء الأمر بقتال من يقاتلونهم في قوله تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِن اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190].
وهو بذلك يختلف عن القتال والحرب التى شهدها التاريخ الإنسانى، والتى إستهدفت تحقيق أهداف سياسية أو مآرب اقتصادية لأفراد أو جماعات طموحين يريدون العلو في الأرض، فأعلام الحق والعدل والرحمة هي التى يرفعها ذلك الجهاد، وميزته عن أنواع الحروب الأخرى:{الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [النساء: 76]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا
(1) ابن جرير، التفسير (17/ 123)، وابن كثير، التفسير (5/ 430 - 431).
(2)
أحمد، المسند (3/ 262)، وصححه الشيخ - أحمد شاكر، ورواه الترمذى (2535)، حسنه، انظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (325)، وانظر محمد أبو شهبة، السيرة النبوية (2/ 74).
ولا تغُلّوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً» (1).
وجاءت المرحلة الأخيرة في تشريع الجهاد بمقاتلة المشركين كافة وابتدائهم به، مر تشريع الجهاد إذن بهذه المراحل الأربعة وهي:
1 -
ترك القتال، مع الصبر وتحمل الأذى، وكان ذلك بمكة.
2 -
مرحلة الأذن بالقتال بعد الهجرة. (2)
3 -
مرحلة الأمر بالقتال من يبدؤهم بالقتال.
4 -
الأمر بقتال جميع المشركين. (3)
وكانت المرحلة الأخيرة هي مرحلة الجهاد الباقى إلى يوم القيامة، بعد أن أخبر الله تعالى، بأن المشركين، وغيرهم من أهل الكتاب، وكل ملل الأرض سوف تحارب الإسلام، ولو لم يحاربها في قوله تعالى:{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]. وقد استمر الحال على هذا الوضع إلى يومنا هذا مصداقاً لهذه الآية الكريمة، وكان الواقع أيام الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل ماذا جنى المسلمون في المدينة على الروم مثلاً حتى يجمعوا لهم الجموع في مؤتة، وينذرونهم بمهاجمة المدينة والتى تسببت في غزوة تبوك، وبماذا يفسر الغزو الصليبى مثلاً في القرون الوسيطة من أوربا الشمالية للمسلمين في عقر دارهم في الشام، ولم يبدأ المسلمون هؤلاء الأوغاد بحرب ولا بغيره حتى سالت دماء المسلمين أنهاراً على
(1) مسلم (1731).
(2)
انظر، محمد بن محمد أبو شهبة، السيرة النبوية (2/ 75 - 76).
(3)
انظر ابن القيم، زاد الميعاد (3/ 70)، ط 6 مؤسسة الرسالة، بيروت، 1404 هـ - 1984 م، د. محمد أبو شهبة، السيرة النبوية (2/ 74 وما بعدها)، د. أكرم العمرى، السيرة النبوية الصحيحة (337 - 338)، د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية الصحيحة (325 - 326).
وصف مؤرخيهم، واستمر هذا التكالب والحقد والعدوان والقتل والتنكيل بالمسلمين إلى يومنا هذا، ولم يراعوا فيهم حقوق الحيوان فضلاً عن حقوق الإنسان.
ثم إن دعوة الإسلام لا إكراه فيها على الدين، بل هي تبليغ رسالة الله تعالى إلى الناس للإيمان بالدين الحق فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فإذا قام أي قائم من حاكم أو غيره سداً بين الناس وحريتهم في الاعتقاد، وبدأ في التنكيل بهم وتعذيبهم ليردوهم عن معتقداتهم، فضلاً عن الإستعداد للإغارة على دولة الإسلام، كان على دولة الإسلام وحكامها في نظر المستشرقين، أن ينتظروا ليهاجمهم أعداؤهم من كل فج ليزيلوا دولتهم، أو ليهدموا أركانها دولة الخير والعدل والهدى والرحمة، أو كان على دولة الإسلام وأهلها أن تقف لتتفرج على مآسى المعذبين وأنينهم وصراخ الزوجات والأولاد بسبب إسلامهم، وإلا فالفرية جاهزة، لقد كان انتشار الإسلام بالسيف، وإن المسلمين متعطشون لسفك الدماء.
كان القتال إذن فريضة لحماية الحق، وتأمين الدعوة والدعاة، وانتشار العقيدة دون عقبات تخالف حق الإنسان في أن يعتقد ما يشاء، إن الدنيا اليوم تقوم بلا قعود لفرد أو لجماعة أوذوا في أن يختاروا ما شاؤا ومن إعتقادات ليصل الأمر إلى تدمير تلك الدولة التى تقدم على ذلك - بالطبع إلا أن يكون هذا الفرد أو تلك الجماعة مسلمين - فماذا يعيب الإسلام في ذلك وقد قرر تلك الحقوق منذ خمسة عشر قرناً من الزمان ودفع فيها أي في سبيل هذه الحقوق تلك الأرواح والأموال، وذلك بمنطق اليوم وأسلوبه.
وإن ثمة عنصر آخر أراده الله لحرب المسلمين المقدسة حقيقة، وهو أن تكون كلمة الله هي العليا، وعندما تكون كلمته هي العليا فإن الخير يشمل الدنيا، وأن الحق والعدل هو ميزانها، وأن الرحمة هي أسلوبها، الكل من مسلم وغيره آمن في كنفها على نفسه وأهله
وولده وحاضره مستقبله، ويوم أن كانت كلمة المسلمين هي العليا وجدنا اليهود والنصارى آمنين لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وما دفعوا الجزية إلا لإسقاط فريضة الجهاد والدفاع عن الدولة أو الزكاة عنهم، والعكس، يوم استلم أمثال هؤلاء الحكم فعلوا بالمسلمين ما لا يخطر على بال الشيطان من أذى.
وإن رفع الظلم الذى حل بالمسلمين في تلك الأيام الكالحة في مكة، كان من أسباب شرع القتال، وهي علة للقتال مقبولة في كل زمان ومكان فإذا لم يرتفع الظلم إلا بصليل السيوف وصهيل الخيل فلابد منه، والمسلمون نهبت أموالهم وصودرت ممتلكاتهم، سلبت دورهم بعد كل ما لاقوا، ومن ثم جاء الإذن معللاً {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} ، وإنهم ظلموا، وليس ذلك فقط بل هم الآن يُقاتلون كذلك، كان القتال الأول من بعوث وسرايا لمحاولة استرداد شيء من أموالهم التى استولت عليها قريش وكفكفة قريش عن مزيد من الأذى، وإظهار عهد الضعف بالتولى والإدبار مع رفع أي ظلم ممكن عن الباقين بمكة تحت سوط القهر والإذلال (1) إلى أن فرض الجهاد للناس كافة (2).
بدء النبي صلى الله عليه وسلم الغزوات والسرايا:
عندما أذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بالقتال، ومن معه من المؤمنين سارع النبي صلى الله عليه وسلم لإعداد العدة من رجال وعتاد وخطط مستغلين ذلك أحسن الاستغلال لتحقيق أهدافهم التى كانت نصب عين النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) انظر لذلك محمد الغزالى، فقة السيرة (208 - 209)، والبوطى، فقة السيرة (133 - 134)، د. محمد أبو شهبة، السيرة (76 وما بعدها)، د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (337 - 338)، د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (325 - 327)، وغير ذلك.
(2)
الجهاد له مبحث مستقل إذا شاء الله.
- أطلق المؤرخون اسم (السرية)، على المجموعة من الجيش أو الجيش يقوده أحد أفراد المسلمين غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأطلقوا اسم (الغزوة)، على ما يقوده الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسة مجموعة أو جيشاً.
كان العقل والواقع ومن قبل ذلك الشرع الموحى به أن تكون قريش هي المحط الأول الذى تتعلق به سيوف المقاتلين لأنها الخط الأول والحائط الصلب الذى يقف للإسلام وأهله فالعرب مشاركون لهم في وثنيتهم وبالتالى في عدائهم للإسلام ولرسوله والمؤمنين فهم الصادون عن سبيل الله في الجزيرة المشركة يومها برمتها، وهم المضطهدون للمؤمنين في مكة، المحاربون لهم في المدينة، المؤلبون عليهم العرب والحبش، الذين لا يرعون في المسلمين إلاً ولا ذمة، إن في قتالهم إذن رداً للمظالم أو بشيء منها ورفعاً للظلم، وتمهيداً لدعوة غيرهم إلى دين الحق، ورفع راية الإسلام وكس شوكة الكفر والظلم.
اتجهت هذه الغزوات والسرايا من ثم إلى مواقع غربى المدينة واستهدفت أموراً ثلاثة:
الأول: تهديد تجارة قريش إلى الشام، وهي ضربة خطيرة لاقتصاد مكة التجارى الذى به حياتها وكذلك في خطوة تالية تهديد تجارتها إلى اليمن وذلك بمهاجمة هذه القوافل شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً لحصار مكة اقتصادياً ورداً لبعض حقوقهم المسلوبة.
الثاني: عقد المحالفات والموادعات مع القبائل التى تسكن تلك المناطق التى أصبحت مسرحاً لعمليات المسلمين ضد قريش لضمان تعاونها أو حيادها على الأقل في ذلك الصراع الدامى وهي خطوة نجاحها نجاح في المسلمين في الحصار السياسي لقريش، لأن هذه القبائل تميل مع قريش وثنيةومصالح لأن قريشاً سدنة البيت الذى يحجونه ولهم معبوداتهم وأصنامهم حوله، ثم إن لهم مع قريش مصالح ومحالفات تاريخية سماها القرآن الكريم الإيلاف في قوله تعالى:{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)} [قريش: 1 - 2]، مع إشتراك الجميع في معاداة الإسلام، إن موادعة هذه القبائل وتحييدها نجاح كبير في الوقوف لقريش في تلك المرحلة من الصراع.
الثالث: إبراز قوة المسلمين أمام اليهود وبقايا المشركين في المدينة المنورة، فالمسلمون
صاروا لا يقتصرون على السيادة في المدينة، بل تحركوا لفرض سيطرتهم على ما حولها من القبائل، مؤثرين في علاقاتها ومصالحها.
لا شك أن هذه السرايا والبعوث قد نجحت في تحقيق أهدافها مما أربك قريشاً وحلفاءها بسبب ضرب نشاطهم التجارى في كل الاتجاهات، وحصل المسلمون على مورد للتموين والتسليح، ونجحت هذه السرايا في إنذار الأعداء بأن للمسلمين المقدرة على التصدى والردع، واكتسبت قوات المسلمين الخبرة في مجال التدريب العسكرى، والمناورة وجس نبض الأعداء ومعرفة بدروب الصحراء وأحوال الأعداء (1).
ونلاحظ على هذه السرايا والغزوات في تلك المرحلة أنها لم تكن ذات طابع دينى، يحمل الناس على أوامر الشرع، أو يدعوهم إلى الإسلام، نعم ولكن هذا هو الظاهر من عرض الأحداث، وإن كنا نسابق فنقول إن عدم العلم بالوقوع لا ينفى الوقوع، لأن الأصل في أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم ما خالطوا أحداً حتى في أحلك أوقاتهم إلا كانت الدعوة إلى الإسلام هي أول ما يبادرون إليه قولاً سلوكاً، وكأن كتاب السيرة لعلمهم بهذا الحال وأنه ديدن المؤمنين وشغلهم الشاغل، ووظيفتهم التى شرفهم الله بها هي الدعوة إلى الإسلام فكأنه من تحصيل الحاصل أن يذكروا به في كل موطن.
ثم إن ما استغرقته من هذه الغزوات والسرايا من وقت إلى غزوة بدر الكبرى يعتبر قليلاً في جنب الوقت الباقى، فلاشك أن ذلك كان مصروفاً فيه إلى الدعوة من جملة أشغالهم ولاشك أن المدينة نفسها وما حولها قد أخذت الجزء الأكبر والاهتمام البالغ بالدعوة إلى الله تعالى، لتثبيت قاعدة انطلاق الإسلام على أقوى أساس وأمتنه، وإن مما يقوى هذه القاعدة أن تكون كل طرق المواجهة من حولها مستقرة وتحت السيطرة تحالفاً أو موادعة وتحييداً.
(1) انظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (327)، وكذا د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (345 - 346).
وإن قلة عدد أفراد تلك السرايا والغزوات لينبيء بتوفير العدد الأكبر للقيام بتلك المهمات وتوسيع قاعدة الدين بزيادة رقعة الإسلام وتعميق أثره في النفوس، وزيادة المنضمين إليه، وذلك بنشر الهدى من العلم النافع والعمل الصالح والدعوة إلى الله تعالى، كل ذلك طاعة لله تعالى، وانتظار مذخور ثوابه، وتأهباً لكل طارئ، وتربصاً بكل هاجم، وتجهيز القوة لتأديب المجرمين يوم يتطاولون.
وقد ذكرنا ما سبق لنرد على المستشرقين القائلين بأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما صار رئيساً سياسياً في المدينة تغير عما كان عليه في مكة بحيث صار الطابع السياسي يزداد بروزاً، والطابع الديني يزداد تراجعاً. (1)
وتكملة لما سقنا من ردود، فلابد من القول إن أحكام الدين في تفضيلاتها، والطابع الديني للدعوة ما اكتمل وطهر سواء بنزول أحكام الشريعة، والدعوة إليها والتمسك بها، وتعلمها وتعليمها إلا في المدينة، إن الواجبات والسنن الشرعية والعلاقات الإيمانية والإنسانية والسلوكية التى ميزت المسلمين، كل ذلك كان في المدينة، فالواقع يخالف كلام فلهاوزن (2)، وغيره من المستشرقين ببروز كل ما يتعلق بدين الإسلام في المدينة، إذ كان المسلمون في مكة لم تتنزل عليهم تلك الأحكام، فضلاً عن اضطهادهم، وتخفيهم بدينهم.
وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليتبعه في بدر أولئك المقاتلون في سبيل الله، مع بقاء غيرهم وأكثر منهم في المدينة لو كانوا يعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيواجه حرباً ما تخلف منهم رجل واحد.
(1) انظر فلهاوزن، تاريخ الشعوب العربية (5 - 6)، ترجمة الدكتور محمد عبد الهادى أبو ريدة مراجعة الدكتور حسين مؤنس، ط 2، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر 1968 م.
(2)
ولد في مدينة هاملن في سكسونيا السفلى بألمانيا، درس اللاهوت وعمل مدرساً في ميدان تاريخ العهد القديم منذ 1870 م، عمل أستاذاً للاهوت في جامعة هامبورغ وجامعة غرايفسفالد، عمل أستاذاً للغات الشرقية في جامعة هاله، عنى بالدراسات العربية، وله كتاب «بقايا الوثنية العربية» ، اعتمد فيه على كتاب «الأصنام» ، للكلبى، ترجم كتاب «المغازى» ، للواقدى بعنوان «محمد في المدينة» .
فما كانت التوجهات السياسية إلا تابعة لأوامر الشرع، ومنفذة لتعاليمه تحكمها عقيدة الإسلام المتمثلة في القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم مهتدية في كل ذلك بأسوتهم في اتباع تعاليم السماء، والوحى الكريم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم خرج في أحد والخندق وسائر الغزوات أضعاف مضاعفة من جند الله، علاوة على من دخلوا الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية، يراهم المستشرقون قد دخلوا الإسلام للسياسة، وصاروا دعاة له وجنداً يرفعون رايته، حقاً إن مفتريات المستشرقين لا تقف للواقع بل وتنهار عند أول مهاجمة لها بساطع البرهان أو الدليل.
ونختصر تلك الغزوات ..
أولى هذه الغزوات غزوة الأبواء، وتسمى بغزوة ودان، وهما موقعان متجاوران بينها ستة أو ثمانية أميال، وتبعد الأبواء عن المدينة حوالى أربعة وعشرين ميلاً، ولم يقع قتال بل تمت موادعة بنى ضمرة من كنانة، وكانت الغزوة في 12 صفر سنة اثنين. وقد عاد الجيش إلى المدينة (1) بعد أن مكث خارجها إلى بداية شهر ربيع الأول (2)
ويذكر عروة بن الزبير (3) أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل سرية من الأبواء تضم ستين رجلاً بقيادة عبيدة بن الحارث (4)، في حين يذكر ابن اسحاق أن السرية أرسلت إلى سيف البحر بعد العودة إلى المدينة، ثم خرجت سرية حمزة بن عبد المطلب من ثلاثين رجلاً متجهة إلى سيف البحر أيضاً في نفس الوقت للتعرض لقافلة من قريش، ولكن لم يحدث قتال حيث تدخلت
(1) فتح الباري (7/ 79)، وتاريخ خليفة بن خياط (56) من واية ابن اسحاق - ابن هشام (2/ 171)، بدون إسناد.
(2)
ابن خياط، التاريخ (56)، من رواية المدائنى.
(3)
عروه بن الزبير بن العوام، عالم المدينة، أبو عبد الله القرشى، أحد الفقهاء السبعة، أمه اسماء بنت أبى بكر وخالته أم المؤمنين عائشة، لازمها وتفقه بها الذهبى، السير (4/ 421).
(4)
ابن سعد، الطبقات (2/ 7)، ابن اسحاق - ابن هشام (2/ 171 - 172).
القبائل الموادعة للطرفين دون ذلك، وإن وقع تراشق بالسهام بين سرية عبيدة والقريشيين، ورمى سعد ابن أبى وقاص بسهم فكان أول سهم رمى به في الإسلام. (1)
واستمرت حملات المسلمين على الطريق التجارى لقريش فكانت غزوة بُواط (2) إلى رضوى (3) قرب ينبع في جمادى الأولى لإعتراض قافلة لقريش، ثم غزوة العُشَيرة (4)(بينبع) في جمادى الأولى، ولم يقع قتال في رضوى والعشيرة، ولكن جرت موادعة بنى مدلج في العشيرة كانت هذه السرايا والغزوات تهديداً خطيراً لقريش، استهدف ضرب تجارتها ومحاربتها اقتصادياً لحملها على التفكير الجدى في ترك تماديها في سياسة الإيذاء والاضطهاد للمسلمين، وزحزحتها عن كونها حجر العثرة في سبيل الإيمان، وإن المحاصرات الاقتصادية، وضرب آلاتها اليوم من أشد وأنكى ما يقوم به المجرمون في حروبهم ضد بعضهم البعض، أو لحرب بلاد الإسلام، ثم ينكر مستشرقوهم هذه الحملات في حرب المسلمين لقريش، وأنها نوع من قطع الطريق، لقد قطعت اليوم كل الطرق البرية والبحرية والجوية، ومحاصرة الموانى كافة كنوع من أنواع الحرب والسيطرة، بل ذلك دأبهم من قديم، وإن وصف قطاع الطرق ولصوص الأوطان لأقل وصف يوصفون به هم وليس المسلمون.
غزوة (بدر الأولى / الصغرى) سَفَوَان:
أغار كرز بن جابر الفهرى في جمادى الآخرة عقب غزوة العشيرة على أطراف المدينة ونهب بعض الأبل والمواشى، وهرب بأقصى ما يستطيع، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم لمطاردته حتى
(1) ابن هشام، السيرة (2/ 174).
(2)
وهي جبال من جبال جهينة، من ناحية رضوى وهي قريب من ذى خشب، وبين بواط والمدينة نحو أربعة بُرُد.
(3)
ابن سعد، الطبقات (2/ 908)، وابن اسحاق - ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 176).
(4)
البخاري، الصحيح (3949)، ابن اسحاق - بن هشام، السيرة (2/ 177).
سَفَوَان من ناحية بدر ولكنه كان قد أفلت من المطاردة، ولكن الحادث أكد للمسلمين على ضرورة بسط سيطرة المسلمين مع جيران المدينة إسلاماً أو موادعة أو غزواً
سرية نخلة:
كما أسلفنا القول كانت طرق مكة التجارية إلى الشام كلها تحت الرصد والمهاجمة، ولم يبدأ المسلمون بحصار طريقهم إلى اليمن إلا في هذه السرية، حيث بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهراً من الهجرة، ومعه ثمانية رهط وكتب له كتاباً وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين إمعاناً في السرية وحتى لا يعلم أحد وجهته.
ففض الكتاب كما أمر فوجد فيه الأمر بالتوجه حتى ينزل نخلة بين مكة والطائف ليرصد بها قريشاً ويعلم من أخبارهم، وألا يستكره أحداً من أصحابه فمضوا جميعاً، وعندما نزلوا نخلة جنوب مكة كان ذلك في آخر شهر رجب المحرم، ولكنهم تعرضوا لقافلة لقريش فظفروا بها، وقتلوا قائدها وأسروا اثنين من رجالها وعادوا إلى المدينة. (1)
كان عبد الله بن جحش يدرك خطورة الأمر في أن يقاتل في نهاية رجب المحرم القتال فيه عند العرب، أو يتركهم، ليدخلوا حينئذ الحرم فيمتنع القتال أيضاً، ولكنه تشاور وأصحابه، فعزموا على قتالهم في آخر رجب.
رجع عبد الله بن جحش إلى المدينة بالغنائم والأسيرين، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتسلمها، لأنه لم يأمر بقتال في الشهر الحرام وأوقف التصرف في العير والأسيرين، بلغت إشاعات قريش الجزيرة كلها بأن محمداً يستحل هو وأصحابه القتال في الشهر الحرام، ويسفكون فيه الدماء، وأنهم أخذوا الأموال والأسرى، وكثر في ذلك القيل والقال
(1) انظر الغزالى، فقة السيرة (215 -)، د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (333)، د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (347)، د. محمد أبو شهبة، السيرة (2/ 119 - 122)، ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 179 - 182).
وأرجف اليهود والمنافقون في المدينة قصد إشعال الفتنة، وفي هذه الغمرة من الأسى، والتثريب والعتاب والإرجاف من الأعداء، نزل الوحى حاسماً هذه الأقاويل ومؤيداً مسلك عبد الله تجاه المشركين، وموضحاً سلامة موقفهم.
والآيات هي قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].
فكان في هذا العذر لأصحاب السرية ما سرى عنهم، وعن المسلمين ما كانوا فيه من كرب وغم، وقبض الرسول صلى الله عليه وسلم الغنائم، وفادى الأسيرين من قريش بشرط رجوع سعد بن أبى وقاص، وعتبة بن غزوان إذ خرجا عن السرية لبعير لهما نَدّ، فخشى الرسول صلى الله عليه وسلم قريشاً عليهما.
إن الضجة التى افتعلها المشركون لإثارة الريبة والغبار في سيرة المقاتلين الناصعة الشريفة لهى ضرب من قلب الباطل حقاً، والتغطية على مواقف الخزى من الطغاة ببعض تصرفات المظلومين الحقة.
إن الحُرمات المقدسة كافة قد اُنتهكت في محاربة الإسلام واضطهاد أهله، فما الذى أعاد لهذه الحُرمات قداستها فجأة، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة؟!
ألم يكن المسلمون مع نبيهم مقيمين في البلد الحرام، والأشهر الحرام حين كانوا يعذبون وتنتهك أعراضهم وتسلب أموالهم، وحين قتل منهم تحت التعذيب من قتل، وحين تقرر قتل نبيهم صلى الله عليه وسلم، هل لمثل هؤلاء أن يتأسفوا على انتهاك القيم والأعراف ومنذ متى كانوا حراسها والقائمين على مراعتها وحمايتها، إنهم الملأ المبطل في كل زمان ومكان.
أوضحت الآيات القرآنية الكريمة، من ضمن ما أوضحت سيرة هذه السرية - لأنها بينت وأشارت إلى أمور كثيرة أخرى أعم من جزئية الكلام على تلك الحادثة - وأول ما
جَلَّته الآيات ناصعاً صالحاً خالداً لكل زمان، ناصحاً لكل مؤمن، كاشفاً عن دواخل الكفرة تلك المعانى التى نشير إليها فيما يلى:
الأول: أن القتال في الشهر الحرام كبير نعم - أي إثم كبير - كما يقال إنه كبيرة من الكبائر، ولكن الصد عن سبيل الله، الصد عن الإسلام والإيمان به والتزام أحكامه أكبر، أي أكبر الكبائر لما يترتب عليه من نشر الكفر وما يسستتبعه من فسق وانحلال من أوامر الشرع، ومن صد عن سبيل الهدى والتمسك بأحكام الإسلام، وشيوع محاربة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ودينه والمؤمنين به.
وإن إخراج المسلمين من مكة وصدهم عن المسجد أكبر كذلك من القتال في الأشهر الحرم فما الذى جعل أكبر الكبائر ينقلب في طرفة عين إلى أدناها وأصغرها في نظر الطغاة إلا مصالحهم الخاصة، ومحاربة الإسلام، والتشهير به، في الوقت الذى هم أولى بالتشهير بل بالقتال فيه، متى احترموا عهداً أو راعوا ذمة حتى يتباكوا على بعض قيم موروثة قد انتهكت، ومع أن الإسلام لا يقر انتهاكها، ذلك منطق الطغمة الفاسدة دوماً.
ودليل ذلك كله أنهم مستمرون وأمثالهم في خطتهم الأصلية في محاربة المسلمين وصدهم عن دينهم بكل وسيلة إلى أن يعودوا إلى الكفر، أو سحق المسلمين حتى لا تقوم لدينهم قائمة، وما أشبه اليوم بالبارحة، ولذلك تابعت الآيات التوجيه والنصح وتفطين المسلمين إلى واقعهم فقال تعالى:{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217](1).
الثاني: وفي نفس السياق الذى وضح به المولى سبحانه للمؤمنين موقف الكفار الدائم منهم أرسل إليهم التحذير الشديد من الهزيمة أمام القوى الباغية، والتفريط في الإيمان
(1) انظر محمد الغزالى، فقة السيرة (216).
الذى شرفهم به، وناط سعادتهم في الدنيا والآخرة بالبقاء عليه. فقال:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217]. (1)
الثالث: زكت الآية الخاتمة ما فعله «عبد الله بن جحش» وأصحابه في تلك السرية، رافعة عنهم ما وقع عليهم من تقريع وتوبيخ وتخويف، وهي عِدة بالجميل في ذات الوقت إلى ما ينتظرهم من الرحمة والمغفرة فقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)} [البقرة: 218]، وجاء ذلك على عادة القرآن الكريم بأسلوب الرجاء للمؤمنين، لترك الاتكال والاعتماد على ما قدموا من أعمال مجيدة فيما مضى وحث لهم على إدامة الجهاد والكفاح فيما يستقبلون من حياتهم. (2)
إن عبد الله وصحبه نفذوا أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم بأمانة وشجاعة، وتوغلوا في أرض العدو مسافات شاسعة متعرضين للقتل متطوعين بغير إكراه ولا حرج، فكان جزاؤهم ذلك لا التعنيف والإساءة.
كلام "وات":
بعد ما سلف من عرض هذه السرية بالذات في السنة (السيرة المشرفة)، وما نزل من القرآن يؤكد وقوعها، ويظهر الحق الذى يجب أن يعيه المؤمنون منها، والسلوك الذى يجب أن يسيروا عليه في مثلها جاء وات ليرى فيها فرصة سانحة يبدى ويعيد فيها بمنهجه المعوج لشرح الأحداث بما يسيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودينه من ناحية، وإلى أحد أفراد السرية بالذات من ناحية آخرى وهو سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، خارجاً بالتاريخ
(1) انظر محمد الغزالى، فقة السيرة (216).
(2)
محمد أبو شهبة، السيرة النبوية (2/ 122).
عن مساره بما لا علاقة له به مما يدهش المرء ويثير استهجانه وتقززه.
لسنا في حاجة إلى التذكير بمنهج وات من اختراع التاريخ، أو الإسقاط على الحوادث بما لا علاقة لها به من التاريخ الحديث، مع لى عنق الواقع ليوافق رأيه المسبق، ومن ثم نذكر كلامه بحروفه فقط لنناقشه فيه، فمن ذلك:
الأول: يقول وات: كان الشيء الأساسى في أوامر محمد في سرية عبد الله بن جحش أن يذهب إلى نخلة وينصب كميناً لقافلة قرشية، وحسب روايات أخرى، وهذه أضافة لاحقة، ترصد - أي ترقب - لترفع المسؤلية عن محمد في أي مواجهة دموية. (1)
ولا يدرى الباحث من أي وجوه الكلام - الذى لا وجه له - يبدأ أو يناقش، إذ من أي جهة أتيت الكلام وجدته سيئاً لا يمكن أن يكون بحثاً لقد اختراع اتهاماً ليس إلا مغايراً ومجافياً به الواقع والحق وما يقع في عقول الناس وقد عودنا وات أنه عندما يبدأ في الاختراع يذكر جملاً قد أشرنا إلى بعضها من قبل، ونذكر بها الآن كأنه يقول ها قد بدأ فاصل التأليف التاريخى والتزوير الوثائقى، لنعلم من حيث لا يدرى أنه قد بدأ عزف النشاز الكاذب من هذه الجمل:«إذا أمكن قبول هذه الرواية، ومما يدعو إلى الشك، ويبدو، ومن الممكن، وإذا افترضنا» ، كأن الله سبحانه أَبَى إلا أن يكشف الكاذب على رسوله صلى الله عليه وسلم.
ونبدأ بالقول أن الرواية ليس فيها ذكر لكمين فاخترع أنها لنصب كمين، والرواية الصحيحة الموافقة للعقل والواقع صعب عليه ذكرها إلا بأنها مضافة فيما بعد، فهو يضيف روايات من عنده والرواية الصحيحة يدعى أنها أضيفت ولم يقل من أضافها ويذكر لها تاريخاً لاحقاً يظن أنه يفيده، ومن اختراعه أيضاً، فما علاقة ما يكتب بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم إذن، إنه الحياد والنزاهة العلمية!، إن الواقع يقول مع العقل إن المراقبة والرصد تكون قبل المهاجمة،
(1) وات Mohammad AT Medina p. 7.
وهذا ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم أن يرصد ويراقب ويبث العيون حتى إذا درس الواقع دراسة جيدة، أرسل على إثر ذلك المناسب لها من القوة المرجو بها تحقيق الهدف، أو لم يرسل وأجلها لإتمام الاستطلاع؛ أو إعداد العدة اللازمة، خاصة وأنه في حرب مع قريش.
والرواية الثابتة، ليست المخترعة من وات، تقول:«فترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم» فمحا وات هذه العلة (الجملة)، سبب السرية، وأتى لنا من عنده بقوله تنصب كميناً لقافلة قرشية. واضعاً على الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقله ولن يقوله إلى يوم القيامة، ثم يبنى على هذا الكذب، أو التاريخ المزعوم ما يريد أن يلصقه ظلماً وزوراً بالإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم.
ثم أبان وات عما يقصد من تزوير التاريخ، بأنهم أي المسلمين زوروه لرفع المسؤلية عن محمد بسبب أي معركة دموية يمكن أن تقع.
منذ متى كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يتنصل من مسؤليته التى شرفه الوحى بها، وأى مسؤلية تقع عليه لو أنه أعلن من بداية السرية كغيرها من السرايا أنها سرية لمعركة دموية، إنه في حرب طويلة بكل الوسائل مع قريش، وإن سرية قتالية لابد من إعلانها حتى يتأهب مقاتلوها، ولا يكون قد ألقى بهم في مهاوى الهلكة أمام أعدائهم، إذ ذلك ليس من خلقه كقائد فضلا عن كونه نبياً صلى الله عليه وسلم، بل لو نسب ذلك إلى أقل قائد في الدنيا لما كان مقبولاً.
وإذا علم المتابع أن عدد هذه السرية لا يزيد على أصابع اليد الواحدة حيث ذهب اثنان من السرية هما سعد بن أبى وقاص وعتبة بن غزوان ليبحثا عن بعيرهما الذى ضل، فهل هذا العدد القليل بعدته الضعيفة يمكن أن يكون سرية هجومية (1)؟!
التالى من كلام وات في هذه السرية هو زمن وقوعها، أول رجب أو نصفه أو آخره، واخترع أنها وقعت في نصف رجب، ثم بعد هذا الافتراض الخاطئ يقول: وأما القول بأن
(1) د. طارق عبد الحميد، شبهات المنصرين حول السيرة النبوية، طبع مركز التنوير الإسلامي بدون تاريخ (411).
المهاجمين لم يكونوا يعرفون أن اشهر الحرام انتهى .... فهذه لغسل العار الذى أصبح مشهوراً.
ثم يرجع القهقرى بعقله فيقول: يبدو أنها - أي السرية - كانت تعلم أن الحادث قد وقع نحو منتصف الشهر - رجب -.
ولا بأس أن نضغط على عقولنا، ونأتى على أنفسنا، ونستعين بالله تعالى لتفنيد هذه المقالات:
أولاً: لم تختلف المصادر الإسلامية - التى ليس لوات غيرها - في ميعاد الحادث في أول الشهر أو غيره، بل اتفقت المصادر كافة على أنها وقعت في رجب الشهر الحرام.
ثانياً: اخترع وات أنها كانت في النصف منه ليؤكد على أنها كانت في رجب وأنهم كانوا يعلمون أنهم قاتلوا في الشهر الحرام الذى يجب احترامه، وهم ينكرون شيئاً من ذلك حتى يغسلوا العار الذى سيلحقهم بسبب ادعائهم أنهم لم يكونوا يعلمون أنهم في رجب والذى سيصبح بعد قليل في كلامك ليس عاراً، فما الذى حمل وات على كل هذه الاختراعات يعلمون ولا يعلمون، والعار وأول رجب وآخره ونصفه.
ثالثاً: وحتى يثبت أنهم يعلمون، اختراع أن الحادثة كانت في النصف من رجب، وكذبته المصادر والواقع بأنهم كانوا في آخر يوم من رجب، ولو تركوا القافلة ستدخل الحرم ولا يستطيعون قتالها فآثروا أن يقاتلوا في الشهر الحرام - وهو أخف عندهم - من أن يقاتلوا في الحرم الشريف؛ فأين تنصل المصادر الإسلامية من أن القتال وقع في شهر رجب الذى زعمه وات، وأين مصادره هو التى تثبت هذا التنصل، أله مصادر ذكرت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يتحاكم لها ويرجع إليها فيما يقبل أو يرد من السيرة؟ تبين له ما يدعى، ترى لو كانت المصادر الإسلامية لم تذكر ذلك فمن أين كان سيورد هذا النص وتلك الحادثة؟ أم أنه
يعرف طريقة، وهي اختراع سرية لم تكن ولن تكون، كما اخترع وفصل هو أحداثها، فتناقض وتهافت وادعى ما ليس بصادق ولا صحيح.
مضطرون إلى استكمال الكلام مع "وات" ..
يقول: إن محمداً لو كان في نيته خرق الشهر الحرام فإنه لا يعنى أنه كان يفكر في أمر معيب أو غير مشرف، فقد كان طابع الشهر الحرام مرتبطاً بالديانة الجاهلية التى كان محمد يحاربها، ولهذا كان خرق الشهر الحرام لتحطيم الأصنام. ولكن ماذا نقول عن تردد محمد في قبول خُمس الغنيمة؟ (1)
عاد وات مرة أخرى لعادته في التناقض، وإثارة الشبهات بهذا التناقض الذى لا محل له إلا في ذهنه بترتيبه المسبق الذى يؤديه إلى هذه المسالك العقلية الوعرة الضيقة التى لا يستطيع منها فكاكاً أو خروجاً.
فبعد أن كان هذا الفعل عاراً، أصبح لا عار فيه ولا عيب ولا مغمز، ولا يظن بذلك أنه يمدح ولكنه يمهد لمنهجه بالبناء ثم الهدم لإثارة التشكيك في الرسول صلى الله عليه وسلم ودينه كما سيأتى ولكنه قبل أن يذكر ذلك علله بأن الأشهر الحرام من دين الجاهلية كالأصنام يحاربها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فخلط بين الأمرين هذا الخلط الغريب الشائه، والذى لم يحدث من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا وحياً ولا اجتهاداً.
نعم قد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بوحى السماء بالدعوة إلى التوحيد، وكسر الأصنام ونبذها وخلعها، ولكنه في نفس الوقت جاءه الوحى بتعظيم الأشهر الحرم، وإبقائها كما ذكرنا الآيات، فكيف يستوى الأمران في ذهن عاقل.
(1) وات Mohammad AT Medina p.8.
ثم جاء دور الهدم في نظر وات فيسأل سؤال الباحث البرئ: «ولكن ماذا نقول في تردد محمد في قبول خُمس الغنيمة؟» .
المصادر الصحيحة تقول في رد هذه الشبهة البريئة والتشكيك النزيه في الوحى والرسول صلى الله عليه وسلم، أن السبب في تردد الرسول صلى الله عليه وسلم في قبول خمس الغنيمة هو أنهم انتهكوا حرمة الشهر الحرام، وقد قال لهم ذلك صلى الله عليه وسلم صريحاً:«ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام (1)» ، وهو الصادق المصدوق الذى لا ينطق عن الهوى، وكان يمكن لأحدهم لو كان ذلك كذباً أن يرجع كافراً، ليقول إن محمداً هو الذى أمرنا بالقتال في الشهر الحرام، وإنه الآن يدعى
- حاشا له - أنه لم يأمرنا بذلك، ولأضحت الرسالة من أولها إلى آخرها في مهب الريح المدمرة لها.
انظر إلى وات لم يمهلنا أن رد هو على سؤاله التاريخى ليقطع علينا الطريق، ويصادر علينا حق التفكير والنطق فضلاً عن الاعتراض وتبيين الخطأ. كائلاً بأوفى كيل من التهم في جعبته موضحاً اجابته في ثلاث نقاط:(2)
الأولى: أنه صلى الله عليه وسلم اكتشف ردود فعل قوية حول خرق الشهر الحرام أكثر مما ينتظر.
الثانية: خشية البعض من عقاب تنزله بهم الآلهة - هكذا -.
الثالثة: لاحظ البعض التناقض بين الشريعة الآلهية من ناحية ودعوة محمد إلى التضحية في سبيل الله من ناحية أخرى.
ويضيف لما سبق من نقاط فيقول: وشيء آخر ثابت وهو أن محمداً لم يكن يعبأ كثيراً
(1) انظر عبد الله النعيم، الاستشراق في السيرة النبوية (248).
(2)
وات Mohammad AT Medina p.8.
بالقتال في الأشهر الحرم، ولكن كان عليه أن يحترم معتقدات قسم كبير من أتباعه (أصحابه)، وأن يتجنب ما ينشأ عن ذلك من صدى يهدد سلطته كنبى. (1)
ونزيد هنا أن احترام النبي صلى الله عليه وسلم كان معلوماً حتى آخر أيامه في الدنيا للأشهر الحرام حيث قال في حجة الوداع في أخر ما وصى به أصحابه والمؤمنين إلى يوم القيامة: «إن السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان» (2)، فأين عدم مبالاته وأنه لا يعبأ بالأشهر الحرم في قتال أو غيره، وقد ذكرنا ما قاله صلى الله عليه وسلم لعبد الله وسريته، من أنهم لم يأمرهم بقتال في الشهر الحرام.
أما أخذه الغنيمة بعد ذلك، فلم يكن دقيقاً القول بعد ذلك، بل بعد أن نزل الوحى يبرئ ساحة عبد الله بن جحش وسريته من مأثم في قتالهم أو شين في سلوكهم فقد رفض أخذ الغنيمة بما أوحى إليه من أمر الله بتعظيم الأشهر الحرام، وأخذها عندما جاءه أمره كذلك في قرآن يتلى أن ما فعله المشركون بالمسلمين أكبر من القتال في الشهر الحرام، وأن ما فعلوه بقريش التى لم تراع فيهم حرمة شهر ولا حرمة بيت إنما هو جائز من رد العدوان، واسترداد الحقوق المسلوبة، مع بقاء تعظيم حرمات تلك الأشهر.
أما قول وات إن الرسول صلى الله عليه وسلم اكتشف ردود فعل قوية أكثر مما ينتظر، لذا تردد في قبول الخمس فهو من هراء القول المجافى لحقيقة الانصياع للوحى والإيمان بالنبوة والرسالة، إذ ما الذى حمل هؤلاء الساخطين الذين استرضاهم صلى الله عليه وسلم بعدم قبول الغنيمة، ما الذى حملهم على الهدوء وترك الغضب والإعلان بالسخط عند قبول النبي صلى الله عليه وسلم الغنيمة وأخذه لها (3)، إن موقفهم من أصحاب السرية وغضبهم مما فعلوا إنما كان رد فعل لغضب النبي صلى الله عليه وسلم بدليل
(1) Ibid. p.9.
(2)
ابن سعد، الطبقات (2/ 186).
(3)
ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 181)، ابن حزم، جوامع السيرة (106).
قولهم لعبد الله وأصحابه: «صنعتم ما لم تؤمروا به» (1)، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا (2)، كما ذكر ابن اسحاق في السيرة.
ومن ثم كانت الحقيقة الناصعة أنه عندما نزل الوحى هدأت الأمور، وعاد عبد الله بن جحش وأصحابه مكرمين معززين بين المسلمين بتأييد الوحى لمسلكهم، ولو كان الغاضبون لهم رد فعل على تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم أو حتى على عبد الله وإخوانه، لكان لذلك أثره ولامتد هذا الأثر فترة بعد ذلك ثم ترى هل يعبأ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم برد فعل أحد أو الدنيا كلها بعد نزول الوحى عليه، لقد قام أمام الكفار وحيداً يسفه أحلامهم ويسب آلهتهم ويضلل أفهامهم ولم يبال بهم وبما أنزلوه به وبأصحابه، ثم يأتى بعد ذلك ليعمل حساباً لرد فعل بعض المؤمنين المتقين - لو كان هذا صحيحاً - فيفعل أو يترك لأجلهم!
وعندما أراد وات في النقطة الثانية ليبين لنا السبب الثاني على شبهته البريئة كما نوهنا إليها وهي تردد النبي صلى الله عليه وسلم بقبول الخمس من الغنيمة، فإذا به يعاود عين المسألة، بخشية البعض من عقاب تنزله الآلهة عليهم، هكذا قال، لا أعتقد أن وات يظن أنه صادق فيما يقول، هل يعتقد وات أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه يؤمنون بتعدد الآلهة الذى ذكر هو سابقاً أنه جاء ليحطمها، أو ليس هناك إلا رب الأرض والسماء، الها واحداً لا إله إلا هو، ولا معبود سواه، في دينه الذى يدعو إليه وقاتل عليه صلى الله عليه وسلم، أن وات يضلل ليشيع أن بعض المسلمين مازالوا خاضعين لمنطق الجاهلية، مؤمنين بالكفر، وهذا أعجب العجب في البحث العلمى.
النقطة الثالثة في كلام وات عن أسباب تردد النبي صلى الله عليه وسلم في قبول خمس الغنيمة أولاً،
(1) الطبرى، التاريخ طبعة (2/).
(2)
ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 180).
وهي ملاحظة البعض التناقض بين الشريعة الآلهية من ناحية ودعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم للتضحية من ناحية أخرى. (1)
ويقال أولاً: من هؤلاء البعض؟ أهم بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أو هم بعض من أتى بعدهم من المسلمين، فإن كان كذلك فليذكر وات اسماً واحداً رأى ذلك، أم عاد وات إلى عوائده القديمة في منهجه العلمى من إلقاء التهم بغير تثبيت، وزرع الشبهات والشكوك ثم الصاقها بمن لا يُعَلم.
أم هم من المستشرقين ومن تبعهم؟ إذا فليقولوا قولاً يبرئون به ساحتهم من الدجل والتدليس والغش، قولاً فيه شيء من العلم الصحيح والمنطق المستقيم، ليمكن النظر فيه ومعرفة قيمته رداً أو قبولاً.
ويقال ثانياً: إن (وات) قد استعمل في منهجه - لم أر من نبه إليها من العلماء - طريقة تحمل المرء على تجشم الرد، وعناء البحث وإعمال الفكر ليبعد به الباحث عن إلهية الدعوة وثبوت الوحى وصدق النبوة وصحة الرسالة، فيأخذ المرء في التجديف معه بعيداً عن الأصل الذى يرمى إليه مصوباً إليه حدقة بحثه إن كان، وفي غمرة البحث ينسى المرء الوحى والرسالة والاحتجاج بهما، وهنا تدب دسيسة وات إلى العقول والقلوب بتثبيت تلك المعانى أو مهاجمتها بعيداً عن الدين والوحى وهو مراده، فيكون بحث الباحث مناظرة لمناظرة أو جدالاً لجدال، بعد به العهد عن النصوص والنبوة وتعلق البحث بالسماء، مع أنه كان يمكن للباحث الرد على وات بكلمة واحدة تثبت بها المعانى ويظهر بها الإيمان وهي «إنه الوحى» .
من ذلك ما نحن بصدده من ردود وأقواها ظهوراً ما نحن فيه الآن إذ يقول «ظهر
(1) mohammad at medina p. 8.
للبعض التناقض بين الشريعة الآلهية ودعوة محمد»، والرد سهل يسير وهو إن الشريعة ودعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هي أمر واحد موحى به من عند الله تعالى لا فرق بينها.
أما هذا التناقض فمن وات نفسه، إذ هدف لايجاده بتفسيره الخاطئ (أو متعمد الخطأ) للنصوص في هذه السرية، إذ السرية للرصد وللاستطلاع من أخبار قريش فجعلها لنصب كمين، وهو ما يسمية دعوة محمد للتضحية في سبيل الله، وعدم قبوله الخمس وهو الشريعة الآلهية فجعل ذلك تناقضاً (1)، ونسبه للبعض الذين أخفى إعلامهم، لأنهم في الحقيقة غير موجودين، لأن القصة التى حضروها وعلموها غير ما اخترعه وات وألفه، وبالتالى لم يوجد عندهم ما ادعاه وات، ليلمز به الشرع والدعوة، وأن ذلك ليس وحياً في النهاية إلى آخر ما اهتم به وات وسعى إلى اثباته بخيله ورجله. ويكفى أنه خالف الواقع المنصوص وكتب وأرخ خلافه لو سمينا ذلك باسمه الصريح لقلنا يكفيه كذباً.
وفي نهاية القول في تردد النبي صلى الله عليه وسلم في قبول الخمس ذكر وات أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عليه أن يحترم معتقدات قسم كبير من أصحابه، وما ينشأ عن ذلك من صدى يهدد سلطته كنبى. (2)
وهذا كلام لا يحتاج لرد لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن ليعبأ بمعتقدات العالم كله لو كانت مخالفة لوحى الله له، وأمر دعوته في مكة صلى الله عليه وسلم أشهر شيء في التاريخ، وكذا في المدينة، وأيضاً موقفه الحاسم مع اليهود والنصارى وغيرهم.
وإن التاريخ لمثل كلام وات على طريقة وات نفسه لابد أن يدخل فيها، تردده صلى الله عليه وسلم في قبول الخمس حتى لا تتهدد سلطته كنبى صلى الله عليه وسلم وها قد قبل الخمس هل تهددت سلطته كنبى
(1) انظر عبد الله النعيم، الاستشراق في السيرة النبوية (249).
(2)
وات Mohammad AT Medina p.9.
لقد رأينا العكس بما يكذب كلام وات ويدحضه، ويبطل في نفس الوقت فهمه للتاريخ وتحليله له ثم ما موقف هذا القسم الكبير من أصحابه الذين لم يحترم معتقداتهم، بعد هذه المخالفة الصارخة منه صلى الله عليه وسلم لهذه المعتقدات، إنه شيء معيب للغاية أن يصل تحليل وات إلى هذه الدرجة، لأن هذا القسم الكبير من أصحابه صلى الله عليه وسلم لاشك لهم اليد الطولى إذن، وهو ما يفرض معتقداتهم، هل حدث شيء من ذلك همساً أو سراً أو علانية؟
إن الإجابة التى لا نحيد عنها أن معتقداتهم هي ما علمهم صلى الله عليه وسلم من معتقدات، بل سبيلهم ظاهراً وباطناً هي سبيله {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 162 - 163].
والأمر الثاني في قصة السرية هي موقف سعد بن أبى وقاص، حيث سارع وات وتهور فلمزه رضي الله عنه وأساء إليه بما اخترع من حكايات مجافية للواقع والحقيقة تجعل الرد عليه ضرباً من تضييع الوقت، مع حزن النفس وتبرمها بمثل هذا التعصب والتطاول وغير ذلك من الافتراءات التى تلبس ثوب العلم والحياد.
وإن الرد عليه يدخل فيما سبق أن رددنا، وإن كان قد أساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما سلف النقل عنه، فلأن يسيء إلى أحد أصحابه بمقالات السوء تلك غير مستغرب ولا مستبعد وما اختار من السرية إلا سعداً رضي الله عنه إلا ليكمل له الإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ودينه وأفضل أصحابه المبشرين بالجنة، وبالتالى لا يحتاج الكلام إلى توضيح، وإلى فهم المراد.
تحويل القبلة:
في نهاية تلك الأحداث التى وقعت قبل غزوة بدر الكبرى، جاء حادث تحويل القبلة إلى الكعبة المشرفة في مكة، وهو ما نختم به تلك الفترة قبل الخوض في موقعة بدر كان النبي صلى الله عليه وسلم -
يتجه في صلاته بمكة قبل الهجرة مستقبلاً بيت المقدس جاعلاً الكعبة بينه وبين بيت المقدس، وهذا ما ورد صحيحاً عن ابن عباس رضي الله عنهم. (1)
وذهب بعض العلماء إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلى بمكة إلى الكعبة، فلما هاجر إلى المدينة استقبل بيت المقدس (2).
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة استمر في الاتجاه بصلاته نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً (3). وفي منتصف رجب سنة اثنين للهجرة أمره الله تعالى بالتحول في صلاته إلى الكعبة، قبلة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهو قول الجمهور من العلماء.
وقد رحب يهود المدينة باستقبال النبي صلى الله عليه وسلم لقبلتهم، خاصة أنهم قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم كما أوردنا من قبل، وإن كان ذلك منهم محل إنكار كما ذكر الطبرى في تفسيره عن مجاهد أنهم كانوا يقولون:«يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا (4)» ، كأنهم طمعوا في أن يميل النبي صلى الله عليه وسلم إلى دينهم حيث رأوا الإسلام يتابعهم في القبلة دليل صحة شيء من تقاليدهم وطقوسهم.
لخصت الآيات الكريمة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين مع القبلة، حيث كانت حادثاً عظيماً في تاريخ الجماعة المسلمة، وله آثاره الضخمة في حياتها.
(1) ابن سعد (1/ 243) الطبقات، والحاكم وصححه. وانظر د. أكرم العمرى، السيرة النبوية الصحيحة (349).
(2)
وقد مال إلى هذا الرأى أبو عمر بن عبد البر القرطبى، وانتقد الحافظ ابن حجر هذا الرأى وضعفه فقال في فتح الباري، وهذا ضعيف ويلزم منه دعوى النسخ مرتين، والأول أصح؛ لأنه يجمع بين القولين، وقد صححه الحاكم وغيره، انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري (1/ 63).
(3)
مسلم (1/ 374)، وجزم به، وهو قول عدد من الصحابه معاذ وأنس وغيرهما ورواه البخاري ستة أو سبعة عشر شهراً وقد وفق بين القولين، وخليفة بن خياط في التاريخ (64)، الطبرى، التفسير (2/ 3)، وذهب د. مهدى رزق الله إلى أن قول الجمهور في النصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهراً وهو رأى ابن اسحاق - ابن هشام - (2/ 182)، بخلاف ترجيح د. أكرم العمرى ولكن صحت الأحاديث على كلام د. أكرم لما صححه البخاري، وابن حجر في فتح الباري.
(4)
الطبرى، التفسير (2/ 20).
فبينت الآية الأولى على خلاف الترتيب القرآنى كما سنوضح حكمة ذلك، تقلب وجهه في السماء صلى الله عليه وسلم داعياً ربه متضرعاً أو ساكتاً متأدباً يرجوه أن يوجهه إلى الكعبة المشرفة، وذلك في قوله تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144].
ثم جاءه الأمر الإلهى الأول بأن يولىَ وجهه شطر المسجد الحرام فقال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)} [البقرة: 144].
وجاء الأمر مرة أخرى بالتوجه إلى القبلة فقال جل وعلا: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)} [البقرة: 149].
وتلا ذلك الأمر الثالث باستقبال المسجد الحرام فقال تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)} [البقرة: 150].
ونذكر الآن الآية الأولى في السياق القرآنى الكريم، وإن كان ذكرها الآن هو محلها في الواقع على ما سنشير إلى الحكمة التى أبداها أهل العلم في ذلك، هي قوله تعالى:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} [البقرة: 142].
وفي ثنايا تلك السيرة القرآنية جاءت التوجيهات الإلهية والوصايا الربانية، وجاء توضيح المواقف، وتمييز الناس، والتحذير من الاغترار بالباطل، وظهرت الحكم والعبر والعظات من معانى ذلك كله، لتقود قافلة الإيمان في النور الساطع بقدم راسخ إلى منتهى شوط الأمان والنجاة والرفعة في الدنيا والآخرة.
وقبل الخوض في تلك المعانى القرآنية الكريمة يجدر أن نشير إلى كلام له قيمته ذكره
سيد قطب رحمه الله، فنلخص مجمله:
يقول: أما الآن فنقول كلمة في حكمة تحويل القبلة، واختصاص المسلمين بقبلة خاصة يتوجهون إليها، إذ كان ذلك لا شك لحكمة تربوية ذكرتها الآية الكريمة وهي في قوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]. (1)
فقد كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم، ويعدونه عنوان مجدهم القومى، ولما كان الإسلام قد جاء لاستخلاص القلوب لله وحده، وتجريدها عن كل تعلق بغيره، وتخليصها من كل نعرة وكل عصبية لغير منهج الإسلام المرتبط بالله تعالى مباشرة، المجرد من ملابسة تاريخية أو عنصرية أو أرضية، فقد نزعهم نزعاً من الاتجاه إلى البيت الحرام واختار لهم المسجد الأقصى ليخلص نفوسهم من كل تلك الرواسب الجاهلية، وليظهر من يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ويطيعه في كل أمره طاعة مجردة من كل شيء، الطاعة الواثقة الراضية المستسلمة، ممن ينقلب على عقبية اعتزازاً بنعرة جاهلية تتعلق بالجنس والقوم والأرض والتاريخ، أو تتلبس في خفايا المشاعر وحنايا الضمير حتى إذا استسلم أهل الإيمان لهذا الأمر من الله ورسوله جاءهم الأمر باستقبال الكعبة المشرفة، كذلك إظهاراً للاستسلام لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنه في أمره باستقبال الكعبة المشرفة ربط قلوب المسلمين بحقيقة أخرى هي حقيقة الإسلام، حقيقة أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام؛ وليكون تراث الأمة المسلمة التى نشأت تلبية لدعوة إبراهيم لربه بأن يبعث فيهم رسولاً بالإسلام الذى كان عليه إبراهيم وبنوه وأحفاده. (2)
يقول الطاهر بن عاشور رحمه الله: إن المناسبة بين هذه الآية {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} وبين
(1) سيد قطب رحمه الله يميل إلى الرأى الذى ضعفناه بأن القبلة في مكة كانت الكعبة المشرفة «ظلال القرآن» (1/ 126).
(2)
سيد قطب، في ظلال القرآن (1/ 126 - 127).
الآى التى قبلها غير واضحة، ولكن هناك مناسبة بديعة، وهي أن الآيات التى قبلها تكرر فيها التنويه بإبراهيم وملته والكعبة وأن من يرغب عنها فقد سفه نفسه. (1)
ونعود إلى سيد قطب رحمه الله، حيث بسط القول شيئاً ما كما ذكرنا فيقول رحمه الله ما مختصره أن الحديث عن المسجد الحرام وبنائه وعمارته، والجدل مع أهل الكتاب والمشركين حول إبراهيم وبنيه وملته وقبلته، وعهده ووصيته، كل هذا الحديث كان خير تمهيد لتحويل القبلة إلى بيت الله الذى بناه والذى يمثل ملته التى من أراد غيرها فقد سفه نفسه والتى دعا ربه أن يبعث رسولاً يقيمها، فتحويل القبلة إذن يبدو في هذا السياق هو الاتجاه الطبيعى المنطقى مع وراثة المسلمين لدين إبراهيم وعهده، وهو الدين الذى ارتضاه الله سبحانه للبشرية كافة، فهو الاتجاه الحسى المتسق مع الاتجاه الشعورى، الذى ينشئه هذا التاريخ.
وإن الله عهد لإبراهيم عليه السلام أن يكون من المسلمين: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)} [البقرة: 131] وعهد إبراهيم عليه السلام لبنيه بالإسلام وكذلك أحفاده: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} [البقرة: 132] ولقد أعلم الله إبراهيم عليه السلام أن وراثة عهد الله وفضله لا يناله الظالمين: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [البقرة: 124] إن الأمة المسلمة هي الوارثة لذلك العهد ولذلك الفضل فطبيعى إذن أن ترث بيت الله في مكة، وأن تتخذ منه قبلة.
فإذا اتجه المسلمون فترة إلى المسجد الاقصى لحكمة سبقت الذى يتجه إليه اليهود والنصارى، وأبوا أن يفيئوا إلى دين أبيهم إبراهيم عليه السلام، ليشاركوا الأمة المسلمة وليكونوا أمة واحدة موحدة لله تعالى، فقد جاء أوان تحويل القبلة إلى بيت الله الأول الذى بناه
(1) الطاهر بن عاشور، التحير والتنوير (2/ 5)، وإن كان يميل العلامةابن عاشور إلى أن النسخ كان من بيت المقدس إلى الكعبة في المدينة، أما في مكة فكان صلى الله عليه وسلم يستقبل الكعبة.
إبراهيم عليه السلام لتتميز للمسلمين كل خصائص الوراثة حسيها وشعوريها، وراثة الدين، ووراثة القبلة، ووراثة الفضل من الله جميعاً.
إن الاختصاص والتميز للجماعة المسلمة ضرورىٌ من هذا المنطق، ومما رأينا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم عامة الاختصاص في التصور والاعتقاد، والاختصاص والتميز في القبلة والعبادة، وهما واضحان في التصور والاعتقاد، ولكنه قد لا يكون بهذه الدرجة من الوضوح فيما يختص بالقبلة وشعائر العبادة، ولابد من وقفة مع قيمة أشكال العبادة. (1)
إن الناظر إلى أشكال العبادات الظاهرة مجردة عن ملابساتها، ومجردة عن طبيعة النفس البشرية وتأثراتها ربما يبدو له أن في الحرص على هذه الأشكال بذاتها شيئاً من التعصب الضيق، أو شيئاً من التعبد للشكليات! ولكن نظرة أرحب وأوسع من هذه النظرة وإدراكاً أعمق لطبيعة الفطرة، يكشفان عن حقيقة أخرى لها كل الاعتبار لهذه الشكليات المتميزة للعبادات، ففى النفس البشرية ميل فطرى ناشيء من تكوين الانسان ذاته من جسد طاهر وروح مغيب إلى اتخاذ أشكال ظاهرة عن المشاعر المضمرة، وهذا لا يحتاج إلى تدليل، وقد أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد» (2)، فما يظهر إذن على المرء أنما هو تعبير لابد منه لذلك الشعور والميل الداخلى إذ لا تستقر وتهدأ هذه المشاعر المضمرة حتى تتخذ لها شكلاً ظاهراً تدركه الحواس.
وعلى هذا الأساس الفطرى أقام الإسلام شعائره التعبدية كلها، فهى لا تؤدى بمجرد النية وحدها أو التوجه الروحى، لكن ذلك يتخذ شكلاً ظاهراً قياماً واتجاهاً إلى القبلة وتكبيراً وقراءة وركوعاً وسجوداً ذلك في الصلاة، وإحراماً من مكان معين بلباس معين
(1) سيد قطب في ظلال القرآن (1/ 127).
(2)
البخاري، الصحيح (50).
وطوافاً وسعياً بحركة معينة ودعاء وتلبية ورمياً للحجارة ونحراً وحلقاً ذلك في الحج، وهكذا في كل عبادته وأوامره وسننه.
ولم يكن بعد ذلك، بد من تمييز المكان الذى يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة كى يتمييز هو ويتخصص بتصوره ومنهجه واتجاهه فهذا التميز تلبية للشعور بالتخصص والتفرد والامتياز، كما أنه بدوره ينشئ شعوراً بالامتياز والتفرد.
ومن هنا كان التشبه بغير المسلمين في خصائصهم التى هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة كالنهى عن طريقتهم في الشعور والسلوك سواء، ولم يكن هذا تعصباً ولا تمسكاً بمجرد الشكليات. وإنما كان نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات، كان نظرة إلى البواعث الكامنة وراء الأشكال الظاهرة وهذه البواعث هي التى تفرق قوماً عن قوم، وتصوراً عن تصور، وعقلية عن عقلية، وضميراً عن ضمير وخلقاً عن خلق، واتجاهاً في الحياة كلها عن اتجاه.
لذلك ورد عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» . (1)
وقال صلى الله عليه وسلم وقد خرج على جماعة فقاموا له: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً» (2)، وقال صلى الله عليه وسلم:«لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله» (3)، فنهى عن تشبهٍ في مظهرٍ أو لباسٍ، ونهى عن تشبهٍ في حركةٍ أو سلوكٍ، ونهى عن تشبهٍ في قولٍ أو أدبٍ؛ لأن وراء ذلك الشعور الباطن الذى يميز تصوراً عن تصور ومنهجاً في الحياة عن منهج، وسمة للجماعة عن سمة.
(1) البخاري (5448)، ومسلم (3926).
(2)
رواه أبو داود، السنن (4553).
(3)
البخاري (3189).
ثم هو في نفس الوقت نَهْىٌ عن التلقى من غير الله تعالى ومنهجه الذى جاءت الأمة لتحققه في الأرض نَهْىٌ عن الهزيمة الداخلية أمام أي قوم آخرين في الأرض، فالهزيمة الداخلية تجاه مجتمع معين هي التى تأسر النفس لتقلد ذلك المجتمع المعين، والمسلمون هم الأمة الوسط، هم الأعلون إن كانوا مؤمنين، هم خير أمة أخرجت للناس فإن لم يستخدموا تصورهم ومنهجهم ونظمهم وتقاليدهم من الله فهم يستمدونها من الأدنى الذى جاءوا ليرفعوه.
لقد ضمن الإسلام للبشرية أعلى أفق للتصور، وأقوم منهج في الحياة، وهو يدعو البشرية كلها إلى أن تفئ إليه، وما كان تعصباً إذن من الإسلام أن يطلب وحدة البشرية على أساسه هو لا على أي أساس آخر، وعلى منهجه لا على أي منهج آخر، وتحت رايته لا تحت أي راية فالذى يدعوك إلى توحيد الله تعالى وأن يكون من دونه سواء، ويدعوك إلى الوحدة في الارفع من المقصود، والوحدة في الارفع من النظام، ويأبى الحيدة عن منهج الله تعالى والتردى في مهاوى الجاهلية، ليس متعصباً، أو هو متعصب ولكن للخير والحق والصلاح.
والأمة المسلمة اليوم محاطة بل ومتغلغل فيها نفسها شتى التصورات الجاهلية وغيرها التى تعج بها الأرض، وكذلك شتى الأهداف والرايات الجاهلية التى يرفعها الأقوام، وبين شتى الاهتمامات التى تشغل بال الناس على خلاف اهتمامات الإسلام ومنهجه، ومن ثم فهى في حاجة إلى التميز بشخصية لا تتلبس بالشخصيات السائدة جاهلية أو غيرها، وتتميز بتصور خاص للوجود والحياة لا يلتبس بالتصورات السائدة، والتميز بأهداف واهتمامات تتفق مع تلك الشخصية وتصورها هذا التميز هو الوقوف تحت راية تحمل اسم الله وحده؛ فتعرف ساعتها بأنها خير أمة، الأمة الوسط (1).
(1) انظر سيد قطب، في ظلال القرآن (1/ 129).
وهكذا رأينا كيف كانت القبلة تحمل هذه الدلالات التى جاء الإسلام ليؤسسها في الجماعة المسلمة من وقت مبكر تستطيع فيه حمل الراية والسير الحثيث لتحقيق تلك الأهداف مع التمايز بأنهم المسلمون، ولقد ساروا بذلك حتى إنه لا يمكن أن يقال عنهم في كل مجال يحمل الخير والحق والعدل والرحمة إلا إنهم المسلمون. إلى أن فقدوا موقعهم تحت الراية وانزحاوا يمنة ويسرة فحل بهم ما نعانيه اليوم.
نعود إلى هذا الجزء من السيرة النبوية في القرآن الكريم كما هو منهجنا، ونقتصر على ما يوضح الموضوع من كلام الله تعالى، ونبدأ بالآية الأولى وهي قوله تعالى:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} [البقرة: 142].
وكان سياق هذه الآية الكريمة بحسب الواقع الظاهر متأخراً بعد تحويل القبلة، إذ ذلك القول من السفهاء إنما هو بعد أن يغير المسلمون قبلتهم فتشاع عنهم هذه المقالة السيئة والإشاعات المغرضة ونذكر حكمة ذلك بشرح الآية فيما يلى كما وضحه الفخر الرازى في «التفسير الكبير» ، يقول ماحاصله إن قوله تعالى:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} فيه قولان:
الأول: وهو اختيار القفال أن هذا اللفظ وإن كان للمستقبل ظاهراً لكنه قد يستعمل في الماضى أيضاً، كالرجل يعمل عملاً فيطعن فيه بعض أعدائه فيقول: أنا أعلم أنهم سيطعنون على فيما فعلت، ومجاز هذا أن يكون القول فيما يكرر ويعاد فإذا ذكروه مرة أخرى صح أن يقال سيقول السفهاء.
الثاني: أن الله أخبر عنهم قبل أن يذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه وفيه فوائد:
أحدها: أنه صلى الله عليه وسلم إذا أخبر عن شيء قبل وقوعه، كان هذا إخبارا بالغيب، فيكون معجزاً.
ثانيها: أنه تعالى إذا أخبر عن ذلك أولاً ثم سمعه منهم، فإنه يكون تأذيه من هذا الكلام أقل مما إذا سمعه منهم أولاً.
ثالثها: أن الله تعالى إذا أسمعه ذلك أولاً، ثم ذكر جوابه معه فحين يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم منهم يكون الجواب حاضراً، فكان ذلك أولى مما إذا سمعه ولا يكون الجواب حاضراً، وبهذا ظهرت حكمة تقديم تلك الآية وتهيئة المؤمنين وتثبيت قلوبهم لأقوال أعدائهم. (1)
ونعود إلى قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} ، وهم أولئك الذين نشروا شائعاتهم واتهاماتهم للنبى صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين يشككون في دينهم، وعدم ثباتهم عليه، بل هم متحيرون لا يدرون إلى أي قبلة يصلون، وهذا تشكيك في صدق الوحى، وبالتالى الرسالة والقرآن الكريم، وبدأوا حرباً قاسية ليضطرب المؤمنون وتتزعزع ثقتهم في دينهم ونبيهم وربهم، ها قد جاءتهم فرصة بغير شوكة اهتبلوها، أقوى وأصعب من ملاقاتهم بالسلاح، وللمرء أن يتخيل حال المؤمنين حينئذ، حيث وصف الله تعالى ذلك الوضع السيء بقوله جل وعلا:{وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} [البقرة: 143]. إن رجوع أحد من المؤمنين عن دينه في ذلك الامتحان لهو أقسى من قتله إذ هو تهوين للصف، وتخذيل له وتعريضه للهزيمة النفسية المقدمة للهزيمة العسكرية.
ولتصوير عظم ذلك ذكر الله تعالى أن هذه المقولة هي مقولة السفهاء، والسفيه من لا يميز ما له مما عليه، ويعدل عن طريق منافعه إلى ما يضره، ولا شك أن من فعل ذلك في أمر الدنيا يعدونه سفيهاً، فمن باب الأولى في أمر الدين، وقد وصفهم بالسفاهة أي الخفة والجهل والطيش وعدم تميز الحق النافع، لما أورده عليهم من حجة تدل على سفاهتهم، فقال:{قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} [البقرة: 142]. أي من كان له المشرق والمغرب - وليس هناك من ادعى لنفسه، أو لغيره ذلك - فهو يوجه إلى ما يشاء،
(1) الفخر الرازي، التفسير الكبير (2/ 462).
وما يعترض على ذلك إلا جاهل سفيه، ونص عليهم عدم اهتدائهم لأنهم لا يستحقونه لإيثارهم الباطل على الحق، وذلك من تمام سفاهتهم، فلا جرم
…
صدر هذه السيرة بتلك الآية لتبين سفاهتهم، حتى يحذر ذلك المؤمنون، بل ليمتنع تردد ذلك في صدورهم.
ويأتى السؤال: ما العظيم في هذا المذكور؟ والكبير فيه، حتى يصوره القرآن الكريم بذلك؟
إن العظيم في ذلك أن السفهاء كانوا الجميع من غير المؤمنين، إذ رمى الكفار المشركون من مكة، واليهود في المدينة، والمنافقون رموا المسلمين عن قوس واحدة، إذ لفظ السفهاء لفظ عموم يصلح لكل الكفار بحسب الدليل العقلى الذى أشرنا إليه، والدليل النقلى وهو قوله تعالى:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]. (1) فالكل قد اجتمع على المسلمين وشككوا واتهموا وذموا؛ لأن الأعداء مجبولون على القدح والطعن، فإذا وجدوا مجالاً لم يتركوا مقالاً البتة، كان الخطب جسيماً إذ اجتمع كل من في المدينة بل ومشركو مكة على الصياح على المسلمين وإرهابهم من كل فج. حتى قال المؤمنون متوجسين خيفة ما حال إخواننا الذين ماتوا قبل تحويل القبلة، فنزل قوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِن اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)} [البقرة: 143].
ذكر المفسرون ذلك، ونسبوا كل قول من بهت وإفك إلى قائله فقالت اليهود: لو ثبت على قبلتنا لعلمنا أنه الرسول المنتظر المبشر به في التوراة، وكانوا يظنون موافقته لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يوافقهم بالكلية، فليس إذا رسولاً.
وقال المشركون: أبى إلا الرجوع لموافقتنا يعنى كأن الوثنية صارت حقاً.
(1) انظر الفخر الرازى، التفسير الكبير (2/ 462 - 463).
وقال المنافقون: على سبيل الاستهزاء إن التحويل مجرد عبث وعمل بالرأى والشهوة إذ لا تتميز بعض الجهات عن بعض بخاصيةمعقولة تقتضى تغيير القبلة. (1)
نزلت الآيات متتابعة لتوضح الحكمة من ذلك، وتبين مواقف كل فريق، وتؤكد على أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتوجه هو والمؤمنون إلى الكعبة، وتثبت المؤمنين وترشد سيرهم وليستمروا صامدين تحت الراية المرفوعة - راية الإيمان - سائرين بها مدافعين عنها.
وننظر في الآية التالية التى تبين بقية سيرة القبلة في القرآن الكريم، وهي قوله تعالى:
كانت هذه الحالة في الآية الكريمة وهي طلب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه ليستجيب له بالتوجه إلى قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام أول ما ذكر من سيرة النبي - صلوات الله وسلامه عليه - مع القبلة حيث ألهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنها الحق - وهو الواقع بتقرير الله تعالى ذلك - وجاءت متأخرة عن الآيات السابقة.
ذلك لأن الآيات السابقة كالتمهيد للنبى عليه الصلاة والسلام والمؤمنين لهذه الآية، وهي آية إجابة النبي صلى الله عليه وسلم لطلبه بالتوجه إلى الكعبة المشرفة، وكذلك تبيين الحكمة من هذه الاستجابة، فقد وطأ القرآن الكريم لهذا التحويل بالأيه التى ذكرنا وهي:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} ، ثم قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا
…
} [البقرة: 143].
ليكون ذلك تثبيتاً للمؤمنين، واعدادهم لمواجهة هذه الكبيرة، وفي نفس الوقت ليفصل لهم موقفهم وقيمتهم في الدنيا والآخرة التى بوأهم الله إياهم، فلا تؤثر فيهم تلك
(1) السابق.
الأحداث، بل هم أعلى منها وأجل فكان متناسباً غاية التناسب أن يرشدهم إلى علو مكانتهم باستعلائهم بالإيمان في قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
أي ستسمعون من السفهاء ذلك كله، ولكن حقيقة الأمر أنكم أنتم الأمة الوسط العدول الخيار إذا اعتقدتم شيئاً فهو الحق الذى بلغكم به ربكم، فأنتم الشاهدون على كل أمة أو أحد بصدق ما هم عليه وصحته أوْلا، ليس هم الذين يشهدون عليكم بصحة موقف أو فساده:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]. أنتم المهيمنون الحاكمون بصحة ما عليه الناس كافة أو بنقيضه لا يرد عليكم أحد ذلك الاعتقاد، أو يدفعه:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. (1)
كان ذلك توطئة قوية لهم ألا يتشككوا إذن أو تنزع ثقتهم فيما هم عليه، أو فيما يتنزل عليهم، إنهم الأمة الوسط التى تشهد على الناس جميعاً، فتقيم بينهم القسط والعدل، وتضع لهم الموازين والقيم، وتبدى فيهم رأيا فيكون هو الرأى المعتمد، وتزن قيمتهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعائرهم فتفصل في أمرهم، وتقول: هذا حق منها وهذا باطل، فهى شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم
…
وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذى يشهد عليها، فيقرر ذلك كله، ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيها الكلمة الأخيرة، وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها. (2)
وبالتالى كانت تلك المقدمات والممهدات للأمة قبل صدور الأمر بتحويل القبلة لتعرفها، ولتستعد لها الاستعداد اللائق، ولتصحح وفقها مفاهيمها وتصوراتها التى
(1) انظر الفخر الرازى، التفسير الكبير (2/ 475 - 477)، والطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (2/ 20 - 21)، سيد قطب، فو ظلال القرآن (1/ 130 - 132)، وغيرها.
(2)
السابق.
ترشدها طريقها وتجلى معالمه إلى يوم القيامة، ولتشعر بضخامتها، وتقدر دورها حق قدره، مع الكواشف المضيئة لكل ما حولها تصوراً واعتقاداً وقبائل وأشخاصاً.
وبعد هذا الإعداد الطويل للأمة المسلمة في هذا التوقيت الدقيق، جاءت الحكمة الإلهية.
لتبين أن تنقية الصف ليستطيع استكمال السير بأقصى قوة مستطاعة، يتحمل تبعاته، ويقدر مسؤلياته، هو الحكمة المنشودة من خطة التربية الربانية هذه، إن بقاء الصف بغير تمحيص وفرز لبقاء الأصلح الأقوى يجعل باطن الصف مصدعاً مهزوزاً سرعان ما ينهار، أو أجزاء كبيرة منه عند أول صدام، مع أن ظاهره يوحى بغير ذلك، وقد رأينا مصداق هؤلاء في غزوة أحد، ولقد عبرت الآية الكريمة عن هذه الحكمة بقولها:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]. والله سبحانه يعلم كل ما يكون قبل أن يكون، ولكنه يريد أن يظهر المكنون من الناس حتى يحاسبهم عليه، ويأخذهم به، والانقلاب الرجوع إلى المكان الذى جاء منه، انقلب إلى الدار، وقوله:{عَلَى عَقِبَيْهِ} ، زيادة تأكيد في الرجوع إلى ما كان وراءه؛ لأن العقبين هما خلف الساقين، أي انقلب على طريق عقبيه، وهو هنا استعارة تمثيلية للارتداد عن الإسلام رجوعاً إلى الكفر السابق. (1)
طالت هذه الفترة مع أنها متأخرة في الواقع عن الأمر النازل بتحقيق مطلوب النبي صلى الله عليه وسلم: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150]، كل ذلك لما رأينا من عظات وأحكام وعبر، وتراتيب للانطلاقه الكبرى لأمة الإسلام، والتى اشترطت لها الآية المذكورة آنفاً اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً علماً وسلوكاً، عبادة وعقيدة مع
(1) انظر الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (2/ 23 - 24)، سيد قطب، في ظلال القرآن (1/ 132)، الفخر الرازى، التفسير الكبير (2/ 478 - 481).
الوسطية في كل أمورها لتصل إلى مقصدها وتبلغ أهدافها وتفوز بسعادة الدارين.
نعود إلى الآية التى وجه الله تعالى بها النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى الكعبة، وهي قوله تعالى:
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ
…
} [البقرة: 144]. وننظر في تحليلها.
هذا استئناف ابتدائى، وإفضاء لشرع استقبال الكعبة، ونسخ السابق، فهذا هو المقصود من الكلام المفتتح بقوله:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ ....} .
وقد في كلام العرب للتحقيق، وهنا لتحقيق الخبر، وهو نرى، ولما كان علم الله بذلك مما لا يشك فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى يحتاج لتحقيق الخبر به، كان الخبر به مع تأكيده مستعملاً في لازمه على وجه الكناية لدفع الاستبطاء عنه، وأن يطمئنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على حصوله، ويلزم ذلك الوعد بحصوله واللازم الثاني هذا كنايه ثانية.
وجيء بالمضارع من قد للدلالة على التجدد، والمقصود كما ذكرنا، تجدد اللازم ليكون حينئذ تأكيداً لذلك اللازم وهو الوعد. (1)
والتقليب هنا هو ترديد وجهه في السماء، وهو تأدب مع الله في الطلب بغير دعاء كما ذكر بعضهم، ينتظر أن يجاب إلى ذلك، يقول الامام محمد عبده: «فسر بعضهم تقلب الوجه بالدعاء، وحقيقة الدعاء هو شعور القلب بالحاجة إلى عناية الله تعالى فيما يطلب، وصدق التوجه إليه فيما يرغب، ولا يتوقف على تحريك اللسان بالألفاظ، فإن الله ينظر إلى القلوب وما أسرت، فإن وافقتها الألسنة فهى تبع لها وإلا كان الدعاء لغواً يبغضه الله تعالى
…
فتقلب الوجه في السماء عبارة عن التوجه إلى الله تعالى انتظاراً لما كانت تشعر به روح النبي
(1) انظر الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (2/ 26 -).
- صلى الله عليه وسلم وترجوه من نزول الوحى بتحويل القبلة. (1)
ويستكمل قائلاً: ولا تدل الآية على أنه كان يدعو بلسانه طالباً هذا التحويل ولا تنفى ذلك».
وقال بعض المحققين: من كمال أدبه صلى الله عليه وسلم انتظر ولم يسأل. وهذا التوجه هو الذى يحبه الله تعالى، ويهدى قلب صاحبه إلى ما يرجوه ويطلبه. (2)
وهذا الكلام والحال الجليل إنما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن له من أمر نفسه شيء، وأنه ينتظر الوحى فيما يأتى ويدع، ولو كان الأمر له فما المانع أن يقوم هو بالتحويل للكعبة وأن يدعى في ذلك شيئاً من الإفك المفترى، ثم إن صح هذا فمن أين يخبر بهذه المغيبات التى لا اطلاع لأحد عليها فأخبر بها قبل وقوعها مع حكم وأوامر ووصايا في سياق معجز معنى ونظاماً.
ولقد رأينا القبلة بعد ذلك شأناً ثابتاً للمؤمنين لم يحاور فيه أحد، ولم ولن يمارى فيه صغير ولا كبير إلى يوم القيامة.
جاء بعد هذا الأدب من النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} ، فبعد أن كان الوعد بالتحويل في قوله تعالى:{قَدْ نَرَى} ، بأسلوب الكناية، أتى صريحاً مؤكداً معقباً بالفاء، ليكون المعنى أن تولية وجهه للكعبة سيحصل عقب هذا الوعد. وهذا وعد اشتمل على أداتى تأكيد وأداة تعقيب، وذلك غاية اللطف والإحسان. (3)
(1) انظر الامام محمد عبده، الاعمال الكاملة، تحقيق وتقديم د. محمد عمارة (1/ 333 - 334)، التفسير الجزء الاول، دار الشروق ط 1، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2009.
(2)
السابق.
(3)
انظر الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (2/ 27).
وعبر بقوله: {تَرْضَاهَا} ، للدلالة على أن ميله للكعبة ميل لتصد الخير، إذ الرضى مشعر بالمحبة الناشئة عن تعقل، ومقام النبي صلى الله عليه وسلم يترفع عن أن يتعلق ميله بما ليس فيه مصلحة راجحة، فميله للكعبة لأنها أجدر بيوت الله التى تدل على التوحيد، فهى أحرى بذلك من بيت المقدس إذ بنى هو بعدها، على منوالها، ولم يصل لشأوها في ترتيب الله تعالى لبيوته، ويكون استقبال القبلة إيماء إلى استقلال هذا الدين عن دين أهل الكتاب، وهو الأول بوضع الله له سبحانه وتعالى – ومن ثم كان التعبير بالرضا في محله الاسمى، وجاء مع قبلة أهل الكتاب بالتعبير بالهوى، وهو الميل إلى غير الحق فقال:{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)} [البقرة: 145].
ثم جاء قوله مباشرة: {فَوَلِّ وَجْهَكَ} ، تفريعاً على الوعد، وجاء معقباً بالفاء تعجيلاً بهذا الوعد، واختص به النبي صلى الله عليه وسلم لما فيه من إرضائه بجميل رغبته، وسيعقبه بقوله تشريكاً للامة معه بقوله سبحانه:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، وهو تنصيص على تعميم حكم استقبال الكعبة لجميع المسلمين لجميع أقطار الأرض، لئلا يظن أن الخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أو ببعض الاماكن في مكة أو المدينة، أو ببعض جهات الكعبة. (1)
أما فائدة قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} قبل: {فَوَلِّ وَجْهَكَ} ، وهلا قال:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} ، ففائدته إظهار الاهتمام برغبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها في محل تقدير الله، إذ كل ذلك منه لرضاء ربه وقيامه بأوامره أفضل القيام، وأن رغبته ورضاه بحيث يعتنى بها، كما دل عليه وصف القبلة بجملة:{تَرْضَاهَا} (2).
(1) انظر الالوسى، روح المعانى (2/ 15)، أبا السعود، إرشاد العقل السليم (1/ 208)، والطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (2/ 30).
(2)
انظر الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (2/ 28).
وهنا يبين عظيم قدره، وعلو درجته صلى الله عليه وسلم في خضم تلك الأحداث الكبيرة؛ التى هبت سمومها على المسلمين في تلك الآونة، لتؤكد لهم ارتباطه صلى الله عليه وسلم بالسماء، ولتربط على قلوبهم، ولتدعم خطوات اتباعها التى ذكرت الحكمة فيها ومن أجلها.
وننهى الكلام على هذه الآية بالحديث عما ختمت به قبل العودة إلى فهم معنى التوجه ومقصوده إلى القبلة، وختم الآية هو قوله تعالى:{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)} [البقرة: 144].
وهذا التذييل والختم للآية يبين أمرين واضحين في جملة ما وضَّحت دلالة وإشارة:
الأول: وهو أن الذين أوتوا الكتاب يعلمون بصدق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حسب البشارة به في كتبهم وأن ذلك يتضمن أن ما جاء به الحق، خاصة وقد عبرت الآية بأوتوا الكتاب دون أن يقال أهل الكتاب لتشير إلى أن المقصود أحبار اليهود وأحبار النصارى، وهم العالمون منهم، والأظهر كذلك أن المراد من بقى منهم على الكفر، فصوغ الكلام على أنهم يخالفون ما يعملون، بانكارهم تحويل القبلة مع علمهم كما ذكرت الآية:{أَنَّهُ الْحَقُّ} ، بأسلوب القصر الذى يدل على أن تغيير القبلة هو الحق دون غيره، وهو المبشر به في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم.
الثاني: أن قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)} ، كناية عن الوعيد بجزائهم عن سوء صنعهم، وهو عملهم بغير ما علموا بسبب المكابرة والعناد والسفه؛ لأن قول القادر ما أنا بغافل عن المجرم تحقيق لعقابه. ويستلزم وعيدهم هذا المقام الخطابى وعداً للمسلمين على عظيم منزلتهم؛ لأن الوعيد لهؤلاء السفهاء ترتب على مخالفتهم للمؤمنين، فلا جرم سيلزم للمؤمنين جزاء على اتباعهم لتغيير القبلة. (1)
(1) انظر أبا السعود، إرشاد العقل السليم (1/ 208)، والطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (2/ 34)، والألوسى، روح المعانى (2/ 15 - 16).
أما العود الذى نوهنا إليه آنفاً فهو أن من عمل المؤرخ أن ينظر في الباعث على الحدث التاريخى، ومعرفة أسبابه وكوامنه وعلله، ولذا ينبغى النظر بعد الاشارة الأولى التى سبقت الكلام على القبلة، إلى مقصود هذا الأمر وباعثه على حسب ما استقر من فهم الشرع والواقع.
ونسارع بالقول أن الباعث على استقبال القبلة باعث عظيم، خاصة وقد بُدِأَ في وضع اللبنات كلها في صرح الإسلام العظيم، عقيدة وعبادة وسلوكاً ودعوة
…
إلى آخره، ليكون تأسيساً وتأصيلاً لا انفصام فيه ولا تراجع عن ثوابته وما يحقق غاياته وأهدافه ولشرح ذلك الباعث وتبيينه يقال: إن مقصود الصلاة العبادة والخضوع لله تعالى، وبمقدار استحضار المعبود يقوى الخضوع له، فتترتب عليه آثاره الطيبة في إخلاص العبد لربه وإقباله على عبادته، وذلك ملاك الامتثال والاجتناب. ولهذا جاء في الحديث:«الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (1). ولما تنزه سبحانه عن أن يحيط به الحس تعين لمن يحاول أن يستحضر عظمته أن يجعل له مذكراً به من شيء له انتساب خاص به. (2)
يقول الفخر الرازى: إن الله تعالى خلق في الانسان قوة عقلية مدركة للمجردات والمعقولات، وقوة خيالية متصرفة في عالم الأجسام، وقلما تنفك القوة العقلية عن مقارنة القوة الخيالية ومصاحبتها، فإذا أراد الإنسان استحضار أمر عقلى مجرد وجب أن يضع له صورة خيالية بحسبها حتى تكون تلك الصورة الخيالية معينة على إدراك تلك المعانى العقلية
…
، إلى أن يقول: ولما كان العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم، فإنه لابد أن يستقبله بوجهه وأن لا يكون معرضاً عنه، وأن يبالغ في الثناء عليه بلسانه، ويبالغ في الخدمة والتضرع له فاستقبال القبلة في الصلاة يجرى مجرى كونه مستقبلاً للملك لا معرضاً
(1) البخاري، الصحيح (48)، مسلم، الصحيح (9).
(2)
انظر الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (2/ 30).
عنه، والقراءة والتسبيحات تجرى مجرى الثناء عليه، والركوع والسجود يجرى مجرى الخدمة.» (1)
فإذا تعذر استحضار الذات المطلوبة بالحس فاستحضارها يكون بشيء له انتساب إليها مباشرة كالديار، أو بواسطة كالبرق والنسيم ونحو ذلك، أو بالشبه كالغزال عند المحبين، وقال مالك بن الريب:
دَعانى الهَوى من أهْلِ وُدّى وجيرتى
…
بذِى الطّيّسَيْنِ فالتفتُّ وُرائيَا
والله تعالى منزه عن أن يحيط به الحس فوسيلة استحضار صفاته هي استحضار ما فيه مزيد دلالة عليه سبحانه من الصفات.
لا جرم أن أوْلى المخلوقات بأن يجعل وسيلة لاستحضار صفات الخالق في نفس عبده هي المخلوقات التى كان وجودها لأجل الدلالة على توحيد الله وتنزيهه ووصفه بصفات الكمال، مع تجريدها عن كل ما يوهم أنها المقصودة بالعبادة، وتلك هي المساجد التى بناها إبراهيم عليه السلام، فبنى الكعبة أول بيت، وبنى مسجداً في مكان المسجد الأقصى وغير ذلك.
فإذا استقبل المؤمن بالله شيئاً من البيوت التى أقيمت لمناهضة أهل الشرك، وللدلالة على توحيد الله وتمجيده، كان من استحضار صفات الخالق بما هو أشد أضافة إليه.
لكن هذه البيوت على كثرتها لا تتفاضل إلا بإخلاص النية وكونها مبنية لذلك، وسابقة فيه، لأن السابق الدال لمؤسس اللاحق على تأسيسه، قال تعالى:{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108]، وقال في مسجد الضرار:{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108]، لأنه أسس بنية التفريق بين المؤمنين وإرصاد لمن حارب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
(1) الفخر الرازى، التفسير الكبير (2/ 466 - 467).
وللأسبقية قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)} [آل عمران: 96]، فجعله هدى للناس لأنه أول بيت، فالبيوت التى أقيمت بعده كبيت المقدس من آثار اهتداء من بناها بالبيت الأول.
فلا شك أن أول بناء أقيم لتوحيد الله تعالى وتنزيهه وإعلان ذلك، وإبطال الاشراك هو الكعبة، وبناها أول من حاجَّ الوثنيين بالأدلة، وقاومهم بجعل أصنامهم جذاذاً، ثم قام بأمر الله تعالى بهذا البناء المهيب توحيداً وذكرا؛ ليعلم كل من أتى سبب بنائه، ومضت على ذلك العصور، وتمضى إلى يوم القيامة تذكر رؤيته بالله مع مزية الأولية الباقية، وميزة بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام له بأيديهما دون معونة أحد ولذلك فهو أعرف في الدلالة على التوحيد والرسالة معاً، وهما قطبا إيمان المؤمنين وفي هذه الصفة لا يشاركه غيره. (1)
ثم سن الحج إليه لتجديد هذه الذكرى، ولتعميمها في الأمم الأخرى، فلا جرم بعد ذلك كله أن يكون أَوْلى الموجودات بالاستقبال لمن يريد استحضار جلال الربوبية الحقة، وما بنيت بيوت الله تعالى كالمسجد الأقصى إلا بعده بعدة قرون فكان حرياً أن يكون قبلة كل من أسلم لله تعالى، وقبلة الرسول صلى الله عليه وسلم وقبلة المؤمنين معه بالأولية.
وما كان استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم لبيت المقدس إذن إلا لهذه الحكم التى ذكرنا، وكان في التحويل بعد ذلك إلى الكعبة علاوة على ما سبق بشارة للنبى صلى الله عليه وسلم بأن أمر قريش قد أشرف على الزوال، وبالتالى ستكون وقعة بدر هي الفيصل بين المسلمين وبينهم لذا كان موضوع القبلة بهذا القدر اليسير - الذى يظن به الطول – من أهم الموضوعات الفارقة التى توجه المؤمنين المتقين الوجهة الصحيحة بإخلاص القصد والوجه لله تعالى وبداية للتمايز الذى لا مفاصلة فيه بغير غبش ولا ضبابية بين رافعى راية الله وغيرهم في كل سلوكهم، وتأكيداً
(1) انظر الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (2/ 30 - 32).
بعد تأكيد لهذه العقيدة الحقة التى لا تريد إلا الإخلاص لا تبتغى علواً في الأرض ولا فساداً، وإنما تريد علوا للإيمان وأن يرفرف على أرجاء المعمورة رافعاً تكبير الله وحكمه؛ لتصل الأرض بالسماء، مع استعلاء المؤمنين بدينهم لاتصالهم بخالقهم ومعبودهم، مع المناداة حين كل توجه للقبلة بالمساواة والعدل الرحمة وبأن الشرف والكرم والمكانة للتقوى قلباً وقالباً، مع تحقيق روح الإخوة والتكافل والتضامن وإنكار الذات، مع التذكير في كل مناداة بأن كل المؤمنين في الأرض جميعها متجهون نفس الوجهة يدعو أقصاهم لأقصاهم وأعلاهم لأدناهم، ويحزن المتوارى وراء السهول والوديان والجبال للقريب منه والبعيد إذا مسه إذى أو أصابته لأواء، يرجو أن يمكن أن يفديه بماله ونفسه، ويفر ح ويتهلل لكل خبر يأتيه عن سرور إخوانه بنصر أو بما ينشرح به الصدر. وكثير بعد ذلك لا يحوطه به العد، ولا يدخل تحت الحصر إن ما ماجت به المدينة المنورة من جراء تحويل القبلة لم يكن أمام ذرة مما رأينا شيئاً ذا بال، بعدما توالت تلك الحكم وظهرت تلك المنح الآلهية لمن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم. جاءت غزوة بدر تتويجاً لهذا الاستكمال لهذا التوجه، مع تربية المؤمنين على القيام بضرائب وتكاليف هذا التوجه، وما أوتى من أوتى منهم بعد ذلك في مواقف انكسار إلا بغياب شيء من هذه التوجيهات.