الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع
الجهر بالدعوة
يبدو أن تكتم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر دعوة الناس إلى الله تعالى، قد انتهى تقريباً بنزول قوله تعالى:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]، إذ خرج صلى الله عليه وسلم إلى جبل الصفا، فهتف: يا صباحاه، فقالوا من هذا: فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقى؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك، أما جمعتنا إلا لهذا!! ثم قال: فنزلت هذه السورة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} [المسد: 1].
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: لما أنزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا فعم وخص، فقال: «يا بنى كعب بن لؤى أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى هاشم! يا بنى عبد المطلب!
…
يا فاطمة فإنى لا أملك لكم من الله شيئاً
…
». (1)
كانت هذه الصيحة العالية هي غاية البلاغ، فقد فاصل الرسول صلى الله عليه وسلم قومه على دعوته،
(1) البخاري، فتح الباري (4771)، مسلم (204)، واللفظ لمسلم، وسيرة ابن اسحاق (147)، والطبرى، جامع البيان (19/ 120)، وهناك روايات أخرى أنه جمع أهله وأطعمهم إلى اخره .... ولكنها ضعيفة، انظر د. أكرم العمرى (142 - 143)، وإن كان د. مهدى رزق الله له رأى آخر في بعضها انظر السيرة (163).
وأوضح لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلة بينه وبينهم، وأن عصبية القرابة التى يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار الآتى من عند الله. (1)
ومن الطبيعى أن يبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته العلنية بإنذار عشيرته الأقربين، إذ إن مكة بلد توغلت فيه روح القبلية، فبدء الدعوة بالعشيرة قد يعين على نصرته وتأييده وحمايته، كما أن القيام بالدعوة في مكة لابد أن يكون لها أثر خاص لما لهذا البلد من مركز دينى خطير فجلبها إلى خطيرة الإسلام لا بد أن يكون له وقع كبير على بقية القبائل، على أن هذا لا يعنى أن رسالة الإسلام في أدوارها الأولى محدودة بقريش، لأن الإسلام اتخذ قريشاً الخطوة الأولى في دعوته العالمية حيث نص في أوائل ما نزل على عالميتة {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87)} [ص: 87] (2)، وكان الموقف السلبى لعشيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقريش من الدعوة دليلاً على المصورين له بدعوة القومية العربية، أو الحزب الهاشمى، إذ كان من رؤساء العشيرة أبو طالب وأبو لهب ممن مات على الكفر. (3)
ثم يشير ترتيب الدعوة بإنذار الأقربين، إلى هذا الأولويات التى ينبغى أن يراعيها الدعاة إلى الله تعالى وكل داع حال دعوته، ودرجات المسؤلية التى تتعلق بكل مسلم خصوصاً وعموماً. (4)
ونعود إلى إسلام أبى ذر مرة أخرى، حيث قد أسلم رضي الله عنه على التحقيق في فترة الجهر بالدعوة.
(1) فقه السيرة، محمد الغزالى (96 - 97).
(2)
انظر عماد الدين خليل، دراسة في السيرة (66).
(3)
انظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (164).
(4)
انظر د. البوطى (81).
حيث استدل الحافظ بن حجر بقصة إسلام أبى ذر، واستضافة على بن أبى طالب رضي الله عنهم أجمعين إلى كونها بعد المبعث في سن يتمكن فيها على معرفة الغريب وسؤاله، والحيطة والحذر في الكلام معه ثم استضافته.
ونذكر الروايات الصحيحة أن أبا ذر رضي الله عنه كان منكراً لحال الجاهلية، يأبى عبادة الأصنام وينكر على من يشرك بالله، وكان يصلى لله قبل إسلامه بثلاث سنوات دون أن يخص قبلة بالتوجه ويبدو أنه كان متأثراً بالأحناف، ولما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قدم إلى مكة، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه الليل، فاضطجع فرآه على رضي الله عنه فعرف أنه غريب، فاستضافه ولم يسأله عن شيء، ثم غادره صباحاً إلى المسجد الحرام فمكث حتى أمسى، فرآه على فاستضافه لليلة ثانية، وحدث مثل ذلك في الليلة الثالثة، ثم سأله عن سبب قدومه، فلما استوثق منه أبو ذر أخبره بأنه يريد مقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له على:«فإنه حق وهو رسول الله فإذا أصبحت فاتبعنى، فإنى إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأنى أريق الماء فإن مضيت فاتبعنى، فتبعه وقابل الرسول صلى الله عليه وسلم، واستمع إلى قوله فأسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمرى، فقال: والذى نفسى بيده لأصرخنَّ بها بين ظهرانيهم؛ فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه» ، فأتى العباسُ بن عبد المطلب فحذرهم من انتقام غِفار (1)، والتعرض لتجارتهم التى تمر بديارهم إلى الشام. فأنقذه منهم.
وهذه الرواية تفيد وجود بعض الأحناف في البوادى، ولعل ما بدا من حذر على رضي الله عنه وما وقع من ضرب قريش لأبى ذر، ومن وصف أنيس أخى أبى ذر الحالة في مكة عندما
(1) البخاري، فتح الباري ()، ومسلم الصحيح (1923 - 1925)، ورواية عبادة بن الصامت في صحيح تذهب إلى أن اللقاء الأول بين أبى ذر والرسول صلى الله عليه وسلم ثم قرب الكعبة المشرفة بحضور أبى بكر رضي الله عنه.
دخلها قبل دخول أبى ذر، فقال لأخيه: وكن على حذر من أهل مكة فقد شنقوا له وتجهموا.
كل ذلك يفيد إعلان الدعوة والجهر بها، وزيادة المعاناة والاضطهاد للداخلين في الإسلام.
وهناك قصص أخرى من قصص دخول غير المكيين في الإسلام تبين بوضوح وتظهر بجلاء الاعلان بالدعوة، والتبعات العظام التى زادت على المؤمنين وعلى من أسلم في تلك الفترة، كما سنشير إلى أنواع الاضطهاد والأذى في معاملة المكيين وغيرهم لمن دخل الإسلام في مكة، وفي قبائلهم.
ودخل الإسلام في هذه الفترة ضماد - من أزد شنوءة - فقد تم في مرحلة الجهر بالدعوة، حيث وصف المشركون الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنون فجاءه ليرقيه من مس الجنون، فسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم فأسلم. (1)
وكذلك قصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسى، وأنه دعا الرسول صلى الله عليه وسلم للالتجاء إلى حصن المنيع، فأبى الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك (2). ولابد أن دعوة الطفيل رضي الله عنه، تلك كانت عند اشتداد المقاومة القرشية. (3)
(1) مسلم، الصحيح (2/ 593).
(2)
ابن عبد البر، الاستيعاب (2/ 216 - 217).
(3)
د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (146).