الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
غزوة بدر في السيرة المشرفة
وصل حديث ما سبق من السيرة، إلى تلك النتيجة المتوقعة بين المسلمين وكفار قريش، وهي ذلك الصدام الدامى، فكانت غزوة بدر الكبرى، فبالرغم من تهديد المسلمين لطرق قريش التجارية إلى الشام، لم يشتبكوا مع قوافل قريش في قتال حاسم، حتى هذه المرحلة، مما جعل قريشاً تواصل إرسال قوافلها التجارية، مع تأمين الحراسة لها، ومع ذلك كان المسلمون لها بالمرصاد؛ فلما بلغهم تحرك قافلة كبيرة لقريش، تحمل أموالاً عظيمة لها، عائدة من الشام، يحرسها ثلاثون أو أربعون رجلاً، بقيادة أبى سفيان بن حرب (1)، أرسل
رسول الله صلى الله عليه وسلم بَسْبَس بن عمرو إلى بدر، لاستطلاع أخبار القافلة، فلما رجع إليه، ندب المسلمين إليها، وقال صلى الله عليه وسلم:«هذه عير قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعل الله ينفكلموها» (2).
خرج النبي صلى الله عليه وسلم بمن كان مستعداً - متعجلاً، لئلا تفوتهم القافلة، دون أن ينتظر من رغب في الخروج من سكان العوالى ليأتى بظهره (3)؛ ولذا لم يعاتب أحداً تخلف عنها (4)، فكان
(1) رواه ابن اسحاق باسناد حسن، ابن هشام (2/ 182 - 183) تحقيق محمد فهمى السرجانى وآخر، المكتبة التوفيقية ط 1، وانظر ابن حزم، جوامع السيرة (107).
(2)
المصدر السابق، أما حديث بَسْبَس فهو ثابت في صحيح مسلم (1901)، وانظر شرح النووى للحديث، وضبط الإسم تصحيحاً وتصحيفاً، والحديث كذلك في ترجمته في الإصابة لإبن حجر (1/ 98)، وانظر د. أكرم العمرى السيرة (354)، د. مهدى رزق الله السيرة (337).
(3)
مسلم من حديث أنس (1901)، وكذا الطبرانى كما في مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 67) وقال: رجاله ثقات.
(4)
البخاري من حديث كعب بن مالك (4418).
جيش المسلمين لا يمثل كل طاقاتهم العسكرية؛ فإنهم خرجوا لملاقاة القافلة، ولم يعلموا أنهم سيواجهون جيش قريش.
كان تعدادهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً (1)، منهم مائة من المهاجرين، وبقيتهم من الأنصار. هذه رواية الزبير بن العوام، أما رواية جابر - وقد رده الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر
لصغره - أن المهاجرين يزيدون على الستين، والأنصار يزيدون على الأربعين ومائتين (2).
وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان، ولأبيه رضي الله عنهما بعدم الخروج معه لأنهما كانا قد وعدا كفار قريش بعدم القتال معه؛ فطلب منهما الوفاء بعهدهما (3).
التحق أحد شجعان المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم في الطريق، ليقاتل مع قومه، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:«ارجع، فلن استعين بمشرك» ؛ كرر الرجل المحاولة، فلم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم الرجل والتحق بالمسلمين (4). وهنا تظهر قضية العقيدة بصبغتها الإسلامية، خاصة في أول معركة يقاتل فيها المسلمون.
كان مع المسلمين فَرَسان، وسبعون بعيراً يعتقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد، وكان أبو لبابة، وعلى بن أبى طالب زميلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما جاء دوره صلى الله عليه وسلم في المشى، قالا له:«نحن نمشى عنك» فقال لهما: «ما أنتما بأقوى منى، ولا أنا بأغنى عن الأجر
(1) هذه رواية البخاري، فتح الباري (3956 - 3959)، وعند مسلم بالجزم كانوا ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، وهو الأولى ذكره أحمد محمد العليمى باوزير، مرويات غزوة بدر رسالة ماجستير منشورة، مكتبة طيب (ط 1) 1400هـ - 1980 م، انظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (337).
(2)
البخاري، فتح الباري (3956)، وانظر كلام ابن حجر على الروايات المختلفة في ذلك.
(3)
النووى، شرح صحيح مسلم (12/ 144)، دار الفكر بيروت ينقل من طبعتنا.
(4)
النووى، شرح صحيح مسلم (12/ 198) ينقل كذلك من طبعتنا، وانظر د. أكرم العمرى، السيرة النبوية الصحيحة (355).
منكما» (1)، وهذا من أروع المواقف - مواقف هذا النبي صلى الله عليه وسلم، ومواقف الإسلام - عندما يستوى القائد والجند في التحمل والبذل، أن يمشى القائد وجنده راكبون، يطلب الأجر بإخلاص وصدق، ويحرص عليه أشد من حرص جنوده، بل ويسابق جنده في تحمل المشاق، ويقاسمهم الآلام والمتاعب، حائزاً فيها النصيب الأعظم، ولا يرضى إلا أن يكون أمامهم في مواجهتها؛ إن ذلك مما يدفعهم إلى التضحية والفداء، متطلعين إلى رضوان الله وثوابه؛ وقد رأينا ذلك في بدر كما سنذكر - إن شاء الله - شيئاً من سيرتهم.
في الطريق، عند بلوغهم الروحاء - مكان على بعد أربعين ميلاً من المدينة - رد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة، وأَمَّره على المدينة، وكان قد جعل ابن أم مكتوم على الصلاة، وأصبح مرثد بن أبى مرثد مكان أبى لبابة في زمالة الرسول صلى الله عليه وسلم على البعير (2).
لما علم أبو سفيان بالخطر المحدق بقافلة قريش ورجالها، خاصة وقد تكرر ذلك من المسلمين سأل مجدى بن عمرو - عندما اقترب من بدر - عن جيش الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبره براكبين أناخا إلى تل، عرف أبو سفيان أنهما من المدينة فأسرع تاركاً الطريق الرئيسى على يسار بدر إلى الساحل، وأرسل ضمضم بن عمرو الغفاري يستنجد بقريش (3).
لما علمت قريش الخبر أخذت في الاستعداد للخروج على عجل لإنقاذ عيرها ورجالها، ولتلتقى بالمسلمين في حرب تريد أن تقضى فيها عليهم، لتستريح من الدعوة ورجالها، وما يهدد تجارتها.
(1) أحمد، المسند (6/ 3 طبعة شاكر)، وقال الشيخ شاكر: اسناده صحيح، وقد أخرجه الحاكم (3/ 20)، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبى.
(2)
انظر ابن هشام السيرة النبوية (2/ 187)، في قضية بدر بإسناد حسن، وابن كثير، البداية والنهاية (3/ 285).
(3)
ابن هشام السيرة النبوية (2/ 183).
وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب رؤيا في المنام قبل مجيء ضمضم؛ أن رجلاً استنفر قريشاً وألقى بصخرة من رأس جبل أبى قبيس بمكة، فتفتت ولم تترك داراً من دور قريش إلا دخل فيها بعضها، وأثارت الرؤيا خصومة بين العباس بن عبد المطلب وأبى جهل حتى قدم ضمضم وأنذرهم خبر القافلة، فصدق الله رؤيا عاتكة (1).
كانت قريش في أشد حالات الغضب، لقد رأت فيما حدث امتهاناً لكرامتهاً وحطاً لمكانتهاً بين العرب، فضلاً عن ضرب مصالحها الاقتصادية، لذلك أسرعت في الخروج، وحاوت أن تجند كل طاقتها عدداً وعدة، فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبى لهب، ولكنه أرسل رجلاً مكانه لدين عليه (2)، فكانوا بين رجلين إما خارج وإما باعث مكانه رجلاً.
أما أبو سفيان فقد نجا بالقافلة وزال الخطر، بعد أن سلك الساحل تاركاً بدراً؛ وكان جيش قريش قد وصل الجحفة (3)، فأرسل إليهم يخبرهم بنجاة القافلة، وأن يعودوا إلى مكة.
وهمَّ جيش مكة بالرجوع، ولكن أبا جهل رفض ذلك، قائلاً:«والله لا نرجع حتى نَرِد بدراً فنقيم بها ثلاثاً، فننحر الجزور ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف لنا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً، فامضوا» (4).
(1) رواه الحاكم، المستدرك (3/ 19)، وذكره ابن كثير، البداية والنهاية، من طريق ابن اسحاق وبإسناد حسن إلى عروة ولكنه مرسل، ولكن الروايات تعضد صحة الواقعة، الاصابة (4/ 347)، الهيثمى، مجمع الزوائد (6/ 72)، وانظر د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (356)، د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (339).
(2)
ابن اسحاق في قصة بدر، ابن هشام السيرة النبوية (2/ 185).
(3)
على ثلاث مراحل من مكة في طريق المدينة. انظر معجم البلدان، الحموي (1/ 475).
(4)
الطبرى، التفسير (13/ 579) بإسناد حسن. تحقيق شاكر، وهو رواية ابن اسحاق لغزوة بدر، ابن هشام السيرة (2/ 192).
وكان عدد الجيش قد بلغ ألفاً (1)، معهم القيان يضربن بالدفوف، ويتغنون بهجاء المسلمين (2).
خالف بنو زهرة كلام أبى جهل، ورجع الأخنس بن شريق بهم، وكذلك طالب بن أبى طالب، لما اتهمهم - أي بنى هاشم - من اتهم من قريش بأن هواهم مع محمد صلى الله عليه وسلم.
تقدم جيش المشركين - مع ذلك - حتى نزلوا قريباً من بدر، وراء كثيب يقع بالعدوة القصوى (3)، وتبين بذلك أن هدفهم ليس إنقاذ القافلة، بل تأديب المسلمين، وتخليص طرق التجارة من تعرضهم، وإعلاء شأن قريش وهيبتها عند العرب.
أما عن المسلمين، وقد وصلوا بدراً لملاقاة القافلة غير مستعدين لغير ذلك من مواجهة الجيش المكى، وخشى فريق من المؤمنين من لقاءٍ لم يتجهزوا له بكامل عدتهم وعتادهم، فجادلوا الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، وفيها نزل القرآن الكريم (4):{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 5 - 7].
فقام النبي صلى الله عليه وسلم باستشارة الصحابة بعد أن أخبرهم بالموقف وما عزمت عليه قريش (5)، فقام من قادة المهاجرين أبو بكر رضي الله عنه، فقال وأحسن، وقام عمر رضي الله عنه فقال وأحسن، وقام
(1) النووى، شرح صحيح مسلم (2/ 84).
(2)
ابن كثير، البداية والنهاية (3/ 260) وذكر ابن اسحاق أنهم كانوا تسعمائة وخمسين مقاتلاً معهم مائة فرس، ومعهم القيان.
(3)
ابن هشام، السيرة النبوية (3/ 193).
(4)
سنعود إليها إن شاء الله في عرض السيرة في القرآن الكريم مع المقارنة والتحليل.
(5)
ابن اسحاق، ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 189)، وإسناده صحيح. وانظر د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (358).
المقداد بن عمرو رضي الله عنه فقال: «يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد (1) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه» ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له.
ثم قال صلى الله عليه وسلم أشيروا علىَّ أيها الناس (2)؛وإنما يريد أن يسمع كلام الأنصار؛ أدرك سعد بن معاذ رضي الله عنه ذلك فقال للنبى صلى الله عليه وسلم: «والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟» قال: «أجل» قال: قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق .... إلى آخر الرواية التى ذكرنا من قبل (3).
فَسُرَّ صلى الله عليه وسلم بقول سعد رضي الله عنه ونشطه، ثم قال: «سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدنى
إحدى الطائفتين، والله لكأنى الآن انظر إلى مصارع القوم» (4) وعندما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم قريباً من الصفراء أرسل بَسْبَس بن عمرو الجهنى، وعدى بن أبى الزغباء الجهنى إلى بدر، يتحسسان له الأخبار عن أبى سفيان وعيره (5)، وقيل أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بنفسه هو وأبو بكر رضي الله عنه، لذلك عرفا بالضبط مكان جيش المشركين (6)، وفي مساء يومه ذلك أرسل صلى الله عليه وسلم علياً
(1) برك الغِماد: بالكسر ويجوز فيها الضم، وهو موضع وراء مكة، بخمس ليال مما يلي البحر، وقيل: بلد باليمن، دفن عنده عبد الله بن جُدعان، انظر معجم البلدان، الحموي (1/ 283).
(2)
لأن بيعة العقبة اشترط فيها الأنصار منعة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يبلغ المدينة، وأن دستور المدينة يحتم عليهم الدفاع مع النبي صلى الله عليه وسلم ضد من دهم يثرب، وظن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنصار تعلم أن ليس عليها أن يسيروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدوهم.
(3)
انظر صـ 53.
(4)
ابن اسحاق وعنه ابن هشام، السيرة النبوية (1/ 190)، وخبر هذه المشورة في بدر ثابت في البخاري (3952)، ومسلم (1779)، وانظر ابن حجر، فتح الباري (15/ 151)، وحاشية تخريج سيرة ابن هشام (2/ 190)، د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (342).
(5)
ابن اسحاق، ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 188 - 189) من حديث بدر الصحيح عند ابن اسحاق.
(6)
ابن هشام السيرة (2/ 190)، وانظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (343).
والزبير وسعد بن أبى وقاص فأسر ساقيين من سقاة قريش وأتوا بهما النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلى، وبعد الصلاة استجوبهما فعرف منهما عدد قريش مما ينحرون من الجزور، وذكروا له من بالجيش من أشراف مكة (1)، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه:«هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» (2). وأشار صلى الله عليه وسلم إلى أماكن مصارع بعض قادة قريش فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
سبق الرسول صلى الله عليه وسلم قريشاً إلى ماء بدر ليحول بينهم وبين الماء، وعندما استقروا في المكان، بنوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً - شبه خيمة - ليكون مقراً للقيادة وظلاً للقائد (4).
ومما طمأن الله به المؤمنين ..
إنزال المطر تلك الليلة على معسكر المؤمنين، ووبالاً شديداً على المشركين، وفيه يقول الله تعالى:{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)} [الأنفال: 11]) (5) (، فكان دهساً للمؤمنين، ثبت به أقدامهم، وربط على قلوبهم، وأذهب عنهم رجز الشيطان.
كذلك من نعمه تعالى عليهم وفضله الذى تقووا به على ملاقاة الكافرين يوم بدر، إلقاء النعاس عليهم، وإنه لمن المنن عظيمة، أن ينام الجند في وقت الخطر لملاقاة عدوهم،
(1) مسلم (1779)، وأحمد في المسند (2/ 193) وهو صحيح الإسناد عند الشيخ أحمد شاكر، وقد صحح إسناد أحمد الهيثمى في مجمع الزوائد (6/ 76) فقال: رجال أحمد رجا الصحيح غير حارثة بن مضرب وهو ثقة، وانظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية المصدر السابق نفس الموضع.
(2)
ابن اسحاق، ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 191).
(3)
مسلم (1779)، في قصة غزوة بدر.
(4)
قصة العريش ثابتة بأحاديث صحيحة كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية عن ابن اسحاق (3/ 312)، وورد في حديث ابن عباس عند البخاري (4877)، وهو في قبة
…
إلى آخر الحديث، وانظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (346).
(5)
الخبر عند أحمد، المسند تحقيق أحمد شاكر (2/ 193)، وعند ابن هشام (193)، وابن كثير البداية والنهاية (3/ 292)، والتفسير له (3/ 546 - 564).
فإنه راحه لهم، وأمنة عليهم، يقومون بعده بروح عالية مطمئنة واثقة، مع استجمام أبدانهم المرهقة، ليرفعوا راية الله الذى لم يتركهم، وفعل لهم ما لا يستطيع أحد أن يقوم به. وفي ذلك يقول الحق تعالى:{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} (1).
وكذلك أوقع الخلاف في صفوف العدو، فقد روى أن عتبة بن ربيعة من صناديد قريش قام خطيباً ليثنى قومه عن القتال، لأنه علم أن المسلمين لن يموت منهم أحد حتى يقتل واحداً أمامه من المشركين (2)، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا (3)» ، وكان ذلك عتبة بن ربيعة، واتهمه أبو جهل بالخوف حتى ذعر لذلك وقام مقاتلاً.
موقف الرسول صلى الله عليه وسلم:
كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم في بدر يُنِمُّ عن اتصال الأرض بالسماء، مع اتخاذ كل الأسباب المادية والمعنوية لقتال العدو، ثم تقدم هو صلى الله عليه وسلم أمام الجند المقاتلين كافة.
أما عن استنفاد السبل المادية والمعنوية ..
فقد عسكر النبي صلى الله عليه وسلم في مكان أفضل من مكان قريش، أرضاً وماءً، وعبأ قواته بطريقة جديدة لا تعرفها قريش (4)، وهي تعبئة الصفوف ليقلل بها من خسائر الجيش الإسلامي،
(1) أحمد، المسند (2/ 193).
(2)
وفيه قصة عمرو بن وهب الجمحى حيث أرسلته قريش ليعلم لهم عدد المسلمين، فرجع وأخبرهم ولكنه قال:«قد رأيت البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك؟ فَرَوْا رأيكم، والحديث سبب اعتراض عتبة بن ربيعة على القتال، وقد رواه ابن اسحاق - ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 194)» .
(3)
أحمد، المسند (2/ 193).
(4)
غير طريق الكر والفر التي تجيدها قريش.
وفيها مزية السيطرة، لكامل قوة الجيش، والتأمين لعمق الجيش، حتى تبقى دائماً بيد القائد قوة احتياطية في الخلف يعالج بها المواقف التى ليست في الحسبان (1).
اتخاذ الخيمة - العريش - لإدارة المعركة: وقد سبق.
القتال بنفسه صلى الله عليه وسلم:
حيث أصدر أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه قائلاً: «لا يتقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه» (2)، وكذلك ورد عن على رضي الله عنه قوله:«لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً» (3)، لذا قال ابن كثير:«وقد قاتل بنفسه الكريمة قتالاً شديداً، ببدنه، وكذلك أبو بكر الصديق، كما كانا في العريش يجاهدان بالدعاء والتضرع، ثم نزلا فحرضا، فحثا على القتال وقاتلا بالأبدان جمعاً بين المقامين الشريفين» (4).
عن التعبئة المعنوية للجند:
فأول ما قال صلى الله عليه وسلم محرضاً على القتال والثبات ومواجهة الكفرة، مع البذل والتضحية في سبيل الله سبحانه وتعالى:«والذى بنفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة» (5)، وفي رواية مسلم (6)، أنه عندما دنا المشركون قال
(1) د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (361)، نقلاً عن اللواء. محمود شيت خطاب في كتابه الرسول القائد (78 - 79).
(2)
مسلم، الصحيح (1901).
(3)
أحمد المسند بتحقيق شاكر (2/ 64)، وقال: إسناده صحيح.
(4)
ابن كثير، البداية والنهاية (3/ 306).
(5)
ابن اسحاق - ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 198).
(6)
مسلم، الصحيح (1901)، وابن سعد (2/ 25)، باختصار د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (349).
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» ، وعندما سمع ذلك عُمير بن الحُمام الأنصارى، قال: يارسول الله: أجنة عرضها السموات والأرض؟ قال: «نعم» قال: بخٍ بخٍ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يحملك على قول بخٍ بخٍ» قال: لا والله يارسول الله، إلا رجاءة أن أكون من أهلها. قال:«فإنك من أهلها» ، فأخرج تمرات من قَرَنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتى هذه إنها لحياة طويلة. قال: «فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل» ، وقال كذلك عندما سأله أحد الصحابة، وهو عوف بن الحارث: يا رسول الله ما يُضحك الربُ من عبده، قال:«غَمْسَه يَدَه في العدو حاسراً» ، فنزع درعاً كانت عليه، فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قتل» (1)، ثم أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم في توجيه أوامر الحرب قائلاً:«إذا أكثبوكم فارموهم، واستبقوا نبلكم، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم» (2).
أما ارتباط الأرض بالسماء في شخصه الكريم، طلباً للنصر من الله تعالى، وتعلقاً بخالق الأسباب جل وعلا، فقد ظهر في دعائه لربه، واستغاثته واستنصاره به، مما يبين توكله على الله، لا على الأسباب، واستكماله لكل قوى النصر، ويقينه بأن النصر من عند الله تعالى، فوجدناه منفرداً بربه ليلة بدر يدعوه، يقول الإمام على بن أبى طالب رضي الله عنه، في وصف تلك الليلة، ليلة السابع عشر من رمضان سنة اثنين من الهجرة وأمامهم معسكر المشركين: «لقد رأيتنا يوم بدر وما منَّا إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يصلى إلى شجرة حتى أصبح
…
».
ويبدو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يريح جيشه تلك الليلة، فقام هو بنفسه بحراستهم (3)،
(1) رواه ابن اسحاق - ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 199)، وهو مرسل.
(2)
البخاري، فتح الباري (5/ 173 / 3985/ 12 / 48/ 2900).
(3)
الحديث رواه أحمد، المسند، الفتح الربانى (21/ 30 - 36)، بإسناد صحيح، انظر د. أكرم العمرى، السيرة النبوية الصحيحة (360 - 361).
وفي صبيحة يوم بدر، عندما تراءى الجمعان، ما زال الرسول صلى الله عليه وسلم يهتف بربه موصولاً قلبه به، يقول على بن أبى طالب رضي الله عنه، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه قائلاً:«اللهم هذه قريش، قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذى وعدتنى، اللهم أحنهم الغداة» (1)، وحكى كذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء يوم بدر، قائلاً:«لما كان يوم بدر، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبى الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: «اللهم انجز لى ما عدتنى، اللهم آت ما وعدتنى، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام، لا تعبد في الأرض» فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه، فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبى الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} [الأنفال: 9]، فأمده الله بالملائكة. وقد خرج من العريش وهو يقول:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} [القمر: 45](2).
وارتباطه صلى الله عليه وسلم بالسماء في مثل هذا الموقف، دليل الوحى والرسالة والنبوة، إذ من يدعو
النبي صلى الله عليه وسلم ويناشده غير رب الأرض والسماء، لينصره على قريش في موقع لا يظن به النصر، وهو مستيقن بذلك النصر، يبشر به أصحابه، لو وقع غير ذلك ما قامت للدعوة قائمة.
(1) الخبر رواه ابن هشام (2/ 194)، وثبت صحيحاً من قول أبى جهل يومها استفتاحه ودعاؤه بقوله: اللهم أقطعنا للرحم، وأتانا بما لا نعرفه فأحنه - أي أهلكه - الغداة، فكان هو المستفتح أي الحاكم على نفسه فجاءه الفتح بقتله وهزيمتة قريش ليثبت صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأنه النبي، وأن ربه قد إستجاب له وفي ذلك نزل قوله تعالى:{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)} [الأنفال: 19]، وخبر أبى جهل رواه أحمد: الفتح الربانى (21/ 44)، والطبرى في التفسير (13/ 454)، وصححه شاكر، والدعاء إلى قول الراوى فكان هو المستفتح رواه ابن اسحاق - ابن هشام (2/ 199).
(2)
من رواية مسلم (ح 1763)، وفيه من رواية البخاري كذلك جزء (ح 4875 - 4877)، وكذلك أحمد في المسند (5/ 18)، صحح الشيخ شاكر إسناده، وانظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (347).
بدء المعركة:
وابتدأت المعركة بالمبارزات الفردية، وقبل المبارزة والقتال، خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومى، يريد هدم حوض ماء المسلمين، فقال:«أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه» وتصدى له حمزة رضي الله عنه، وضربه ضربة أطارت قدمه بنصف ساقه، ثم حبا إلى الحوض مضرجاً بدمائه ليبر قسمه، واتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض» (1).
خرج للمبارزة ثلاثة من فرسان قريش، وهم عتبة بن ربيعة، وشيبة أخوه، والوليد بن عتبة، فخرج إليهم شباب من الأنصار، فلم يقبلوا بغير بنى عمومتهم من المهاجرين، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم حمزة، وعبيدة بن الحارث، وعلياً بمبارزتهم، وقد قتل حمزة عتبة، وقتل علىُّ شيبة، وأما عبيدة فقد تصدى للوليد بن عتبة، وجرح كل واحد صاحبه، فأعان حمزة وعلى عبيدة على قتل الوليد، واحتملا عبيدة إلى معسكر المسلمين (2).
أثرت – لا شك - هذه البداية السيئة على المشركين، وألقت في قلوبهم، بظلال قاتمة النتيجة، وَخِيمَةِ العاقبة، في الوقت الذى بدأ المسلمون معركتهم، وهم في أعلى درجات القوة الإيمانية، والاستبشار بالنصر وحسن العاقبة.
جعلت هذه البداية قريشاً تبدأ بالهجوم على المسلمين، فردوهم بالرمى بالنبل منفذين أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بدأ الالتحام والقتال، وحمى الوطيس، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم كفاً من حصى،
(1) ابن اسحاق، وذكره ابن هشام (2/ 196).
(2)
أبو داود، السنن (2665)، وقال الحافظ في الفتح:" وهذا أصح الروايات (15/ 162)، طبعة الكليات الأزهر، وانظر الإمام أحمد، المسند (21/ 31 - 32)، الفتح الربانى للساعاتى، وقال الهيثمى في مجمع الزوائد (6/ 76)، ورجال أحمد رجال الصحيح غير حارثة بن مضرب وهو ثقة ". وانظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية من مصادرها الأصلية (350).
فرمى به وجوه القوم، فما بقى منهم أحد إلا امتلأت عيناه من الحصباء وفيها نزلت الآية:
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17](1).
قُتل في هذه الملحمة سبعون من قريش، وأُسِر مثلهم، وكان يصرع في المواضع التي بَيَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه قبل المعركة، من ذكرهم بأسمائهم (2)، وكان ممن قُتل من قادة قريش أبو جهل، عمرو بن هشام المخزومي، الذى وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه فرعون هذه الأمة (3)، قتله معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء رضي الله عنهما، في قصة في الصحيحين وأجهز عليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (4).
ومنهم أمية بن خلف، الذى كان يعذب بلالاً رضي الله عنه في مكة، أسره عبد الرحمن بن
عوف رضي الله عنه وأسر معه ابنه علياً، فرآه بلال رضي الله عنه فقال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا؛ واستصرخ عليه الأنصار فأعانوه على قتله هو وابنه على (5)، وكان وفاء النبي صلى الله عليه وسلم حاضراً آنئذ، كما هو حاله المشرف دائماً، ولم ينسه في غمرة هذا الصدام الدامى، فأصدر توصياته بعدم قتل بعض المشركين ممن كان يقف مساعداً للمؤمنين في مكة، وقت اضطهادهم وتعذيبهم، منهم أبو البخترى بن هشام، وكان ممن سعى في نقض صحيفة المقاطعة، ولم يؤذ النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم نفر من بنى هاشم خرجوا مع قريش مكرهين، كالعباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، والذى وقف بجواره طوال عهده بمكة، خاصة بعد وفاة عمه أبى طالب،
(1) الحديث فرواه الهيثمى في المجمع (6/ 84)، وقال رواه الطبرانى ورجاله رجال الصحيح، وابن اسحاق - ابن هشام (2/ 199)، وحسنه الألبانى في فقة السيرة (228)، طبعة دار القلم دمشق 1405 هـ - 1985 م.
(2)
أحمد، المسند (1/ 232)، بإسناد صحيح، د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (366).
(3)
الهيثمى، مجمع الزوائد (6/ 79)، من طريق الطبرانى وقال: ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن وهب ابن أبى كريمة وهو ثقة.
(4)
البخاري (3141)، ومسلم (1752).
(5)
البخاري، روى القصة بتمامها (2301)، ورواه ابن اسحاق في قصة بدر - ابن هشام (2/ 202).
وقد ذكر العباس رضي الله عنه نفسه، أنه كان مسلماً وإنما خرج مستكرهاً (1)، وعندما وصل أبا حذيفة كلامُ النبي صلى الله عليه وسلم هذا، قال ذلك القول الذى ندم عليه بعد ذلك وهو:«أنقتل آباءنا وآبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألحمنه - أو لألجمنه - بالسيف، فبلغت مقالته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر: «يا أبا حفص! أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالسيف؟» فقال عمر: «يا رسول الله، دعنى فلأضرب عنقه بالسيف، فوالله لقد نافق» . فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التى قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفاً إلا أن تكفرها عنى الشهادة؛ فقتل يوم اليمامة شهيداً (2).
وقد يظن بعضهم مثل هذا الظن من محاباة النبي صلى الله عليه وسلم لأقربائه، ولكنه لا يظل خائفاً من هذا الظن، لا يعتقد غير الشهادة، والموت في سبيل الله هو الذى ينجيه منه، بل يظن
بالنبي صلى الله عليه وسلم ذلك وهو لا يبالى بالوقوع الضال في عرضه الشريف، والبالغ أسوأ دركات الظن به؛ لأن قوله ذلك إنما هو عن الله تعالى، فهو لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، هذا الأول في هذا الموقف، والتدليل على سوء الظن.
الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بعدم قتل أبى البخترى، وليس عماً له صلى الله عليه وسلم ولا من أبناء عمومته، ولكن لمواقفه المشكورة مع المسلمين في مكة.
الثالث: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أيضرب وجه العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف» ليس الاستفهام فيه لإنكار ضربه لكونه عم النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فلِمَ منع قتل غيره، وهو ليس عماً، أو قريباً له صلى الله عليه وسلم؟! فمحمل الكلام إذاً، أيضرب وجه العباس عمِّ النبي صلى الله عليه وسلم الذى ليس هناك
(1) الطبرى، جامع البيان تحقيق الشيخ أحمد شاكر (14/ 73)، وانظر د. أكرم العمرى: المجتمع المدنى (55)، وانظر د. مهدى رزق، السيرة النبوية (360).
(2)
باوزير، مرويات غزوة بدر (268)، حيث ذهب إلى تصحيح السند حيث هو روايه ابن اسحاق لغزو بدر، وانظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (350).
مثله، وقف موقفه مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وفعل وفعل للمسلمين، أيضرب وجهه مثل هذا بالسيف؟!
الرابع: أن هناك من بنى عمومته صلى الله عليه وسلم من حضر بدراً، كأبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعقيل بن أبى طالب، وغيرهم، ولم يأمر بتركهم ولا حماية حيواتهم.
الخامس: هذا الوفاء الفذ الذى كان يمكن أن يحمل النبي صلى الله عليه وسلم على المن على جميع الأسرى بغير فداء للمطعم بن عدى - وقد مات كافراً - وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «لو كان المطعم بن عدى حياً ثم كلمنى في هؤلاء النتن لأطلقتهم له» ، وما كان ذلك إلا لما قام به المطعم من حماية النبي صلى الله عليه وسلم، وإجارته له عند دخوله مكة راجعاً مصاباً من الطائف.
وهذا يوضح لنا الرد على ما سنذكر من أقوال المستشرقين، واتهاماتهم للنبى صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، بما سنذكر طرفاً منه.
كما يؤكد كذلك هذه الروح العالية، التى لا تنسى اليد التى امتدت لها خلال الضيق والأذى أن تكافئها؛ لا أن تقول: لو قتل هؤلاء أهذا كان جزائى الذى قدمته لهم؟! ألم يشفع عندهم ما بذلته لهم حال اضطهادهم وتعذيبهم وضعفهم؟! ألم تكن هذه يداً بيضاء امتدت إليهم يوماً تغيثهم من شدة عانوها، أو محنة لاقوها؟! ولم تمتد لهم يوماً بأذى، فاستوت اليوم مع من آذوهم وعذبوهم؟! لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً كذلك، بل هو المثل الأعلى للوفاء الكامل.
نزول الملائكة:
لابد من الإشارة إلى مدد السماء في هذه الموقعة الأولى، بنزول الملائكة تؤيد المؤمنين، وتقاتل معهم، وذلك لأمرين:
الأول: تبيين تأييد الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، لما قال: اللهم نصرك الذى وعدت، إذ كيف يطلب صلى الله عليه وسلم نصراً من إله لم يرسله للناس، ولم ينزل عليه كتابه، ويخصه برسالته؟!
الثاني: تحاشى بعض المسلمين من ذكر ذلك، أو تأوله بالتأويلات الباطلة.
وفي ذلك الرد على المستشرقين المنكرين لنبوة ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
نسوق – بداية - شيئاً من الآيات القرآنية، تثبت الأمور الثلاثة:
الأول: وهي نزول الملائكة.
والثاني: نزولهم ببشارة المؤمنين بنصر الله تعالى، رفعاً لمعنوياتهم وإعلاء لإيمانهم ودينهم.
والثالث: مقاتلة الملائكة مع المؤمنين.
ونبدأ بهذه الآية لوضوحها، وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ (126)} [آل عمران: 123 - 126].
وكذلك قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِن اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} (1)[الأنفال: 9 - 10]. وقوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)} [الأنفال: 12].
(1) والآية أرجع الطبرى الضمير فيها للمؤمنين.
وأما الأحاديث ..
فأول ما يقابلنا فيها هو نزول جبريل عليه السلام.
روى الأموى في مغازيه بإسناد حسن: «خفق النبي صلى الله عليه وسلم خفقة في العريش ثم انتبه، فقال: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل عليه السلام معتجر بعمامة، آخذ بعنان فرسه، يقوده على ثناياه النقع، أتاك نصر الله وعِدَتُه» (1).
وذكر ابن عباس – رضي الله عنهما في نزول الملائكة فقال: «بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في إثر رجل من المشركين، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول أقدم حيزوم (2). فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً، فنظر إليه فإذا هو قد خطم (3) أنفه وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصارى فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «صدقت، ذلك مدد من السماء الثالثة» (4).
وروى الإمام أحمد في مسنده، أن رجلاً من الأنصار قصير القامة جاء بالعباس أسيراً، فقال العباس:«يا رسول الله، أن هذا والله ما أسرنى، لقد أسرنى رجل أجلح، من أحسن الناس وجهاً، على فرس أبلق، ما أراه في القوم» . فقال الأنصارى: أنا أسرته يا رسول الله. فقال: «اسكت! فقد أيدك الله تعالى بملك كريم» (5).
(1) نقله عنه ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 312) موصولاً، حيث ذكره ابن اسحاق في المغازى، وابن هشام بدون سند، وحسنه الألبانى، فقه السير للغزالى (226)، طبعة دار القلم، دمشق، انظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (352).
(2)
حيزوم: اسم فرس الملك انظر شرح مسلم.
(3)
الخطم: الأثر على الوجه.
(4)
مسلم، صحيح (1763).
(5)
أحمد، المسند (2/ 192)، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح، وهو في مجمع الزوائد، وقال الهيثمى رجال أحمد رجال الصحيح (6/ 75 - 76). غير حارثة بن مضرب وهو ثقة.
وقد صح اشتراك الملائكة في بدر من قول جبريل عليه السلام حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم: «ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين – أو كلمة نحوها - قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة» (1).
وهي أحاديث تبين القاطع من أدلة القرآن الكريم وتوضحه، وتضرب له الأمثلة، وتفصل فيه القول، ليتعاضد الجميع على هذا الحدث، الذى لا يكبر على الله تعالى، إذ له الخلق والأمر، يخلق ما يشاء، ويفعل ما يشاء، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وهو الرد المجمل على أولئك المصابين بالانهزام النفسى وعقدة الخواجة.
ويَرِدُ السؤال: ما الحكمة من اشتراك الملائكة مع أن جبريل عليه السلام وحده قادر على إهلاكهم بأمر الله؟ ويحسن نقل كلام الإمام السبكى (2)، إذ يجلى الإمام طبيعة الإسلام في تحقيق أهدافه، وارتباط ذلك بالجهد البشرى، في حدود السنن الكونية والقوانين الاجتماعية، وغيرها، فيقول رحمه الله:«وقع ذلك - أي نزول الملائكة - لإرادة أن يكون الفعل للنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتكون الملائكة مدداً على عادة مدد الجيوش، رعاية لصورة الأسباب، وسنتها التى أجراها الله تعالى في عباده. والله تعالى هو فاعل الجميع. والله أعلم» .أي أن القتال وقع تبع السنن الكونية، والقوانين الطبيعية، من رسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ وإنما جاءت الملائكة مدداً في القتال ليس إلا، وإن وقع من بعضهم قتال فما يكون إلا في صورة الأسباب الممكنة للبشر، حتى يبقى الفعل والأثر منسوبين للقائمين به؛ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ وما زاد من الملائكة مما أوحى الله تعالى به إليهم، من القيام بتثبيت المؤمنين وتبشيرهم بالنصر، وخذلان العدو وإلقاء الخوف والفشل في قلوبهم، وقد كان ذلك بشهادة المشركين قبل المؤمنين.
(1) البخاري (3993).
(2)
ونقله كذلك د. أكرم العمرى، انظر.
ولبعض المفسرين تأويلات أخرى في أمر نزول الملائكة لا نحتاج إلى الوقوف عندها كثيراً.
فر الباقون من قريش لا يلوون على شيء بعد مقتل سبعين منهم، وأسر سبعين، تاركين وراءهم كل شيء، فكانت الغنائم التى غنمها المسلمون.
أقام النبي صلى الله عليه وسلم ببدر ثلاثة أيام، وفيها دفن شهداء المسلمين، وهم أربعة عشر، استأثرت رحمة الله بهم فذهبوا إلى عليين، ولم يذكر أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليهم (1)، ولم يُنْقل أحد منهم من بدر ليدفن في المدينة (2)، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بسحب قتلى المشركين إلى آبار بدر فألقوا فيها، وفي اليوم الثالث من الأيام الثلاثة، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحد الآبار وكان فيه أربعة وعشرون رجلاً من صناديد قريش، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ويقول:«أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟» فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذى نفس محمد ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» (3).
تلقى المسلمون في المدينة بشرى النصر، حيث أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة رضي الله عنه،
(1) وهي السنة في الشهداء.
(2)
ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 257 - 258)، وابن كثير البداية والنهاية (3/ 327)، وزاد ابن حجر على الأربعة عشر إثنين، انظر ابن حجر، الإصابة (3/ 328 - 608).
(3)
رواه ابن اسحاق (2/ 74)، وهو حديث صحيح أخرجه أحمد (3/ 104)، وقال أحمد شاكر إسناده صحيح، وقال ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 341)، هذا على شرط الشيخين، وقد أخرجه البخاري (3976)، من حديث أبى طلحة، انظر ابن هشام (2/ 207)، وقد أنكر السمع من الموتى الشيخ محمد الغزالى في فقة السيرة (233)، بقول السيدة عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حقاً» ، ورد عليه الشيخ الألبانى في التعليق على فقة السيرة (232)، بقوله أنكره العلماء وبينوا أن الصواب بجانب من رووا هذا الحديث راجع البداية لابن كثير، و (الفتح) لابن حجر، ثم قال وعندى لا تعارض بينهما بل يمكن الجمع وهو الصواب وذكره في (أحكام الجنائز وبدعها).
ليعجل لهم البشارة قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا بين الفرح الغامر، والحذر ألا يكون خبر مثل هذه الصاعقة يقيناً، قال أسامة:«فوالله ما صدقت حتى رأينا الأسارى» ، وكانت الدهشة تعلو الوجوه، أحقاً هزمت قريش! وقتل زعماؤها! وأسر صناديدها! وتحطمت كبرياؤها! وظهرت حقيقة آلهتها الباطلة الزائفة! وعقائدها الضالة!. إن أم المؤمنين سودة لفرط دهشتها تقول لأبى يزيد سهيل بن عمرو ويداه معقودتان إلى عنقه بحبل:«أبا يزيد أعطيتم بأيديكم ألا متم كراماً!» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعلى الله وعلى رسوله؟!» أي تؤلبين، فقالت:«يا رسول الله، والذى بعثك بالحق ما ملكت حين رأيت أبا يزيد، مجموعة يداه إلى عنقه بالحبل، أن قلت ما قلت» (1).
في طريق عودة الجيش إلى المدينة، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل اثنين من الأسرى، هما النضر بن الحارث، وعقبة بن أبى معيط، وكانا يؤذيان المسلمين بمكة، ويشتدان في عداوتهما لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، إن الوقوع في الأسر لا يعنى صدور عفو عام عن الجرائم التى اقترفها الأسرى أيام حريتهم، وهؤلاء الطغمة من كبراء مكة لهم ماض شنيع، بالغ السوء، في إيذاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أبطرتهم منازلهم فساقوا عامة أهل مكة إلى حرب ما كان لها من داع، فكيف يتركون بعد أن استمكنت الأيدى من خناقهم، أليعودوا مرة أخرى أشد عداوة وطلباً للثأر؟!
…
إن الحصول منهم على فداء لا يناسب ما وقع منهم في جنب الله، إنهم مجرمو حرب بالاصطلاح الحديث.
إذاً في قتلهما درس بليغ للطغاة؛ وقد رأينا كيف تخلى عقبة عن جبروته، ونادى من للصبية يا محمد أو يا رسول الله؟ فأجابه: النار (2).
(1) ابن هشام، السيرة (2/ 212)، وذكر صحته د. أكرم العمرى، السيرة (370).
(2)
ابن هشام، السيرة (2/ 211)، ذكر د. مهدى رزق الله أنه يهودى الأصل نقلاً عن السهيلى الروض الأنف (3/ 53)، السيرة النبوية (361).
وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة هو وجنوده، منصورين مؤيدين مستبشرين بنعمة الله وفضله وعنايته، قد جمعت لهم الأسرى والغنائم.
استشار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعلياً - رضوان الله عليهم - فيما يصنع بهؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإنى أرى أن نأخذ منهم الفدية؛ فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: قلت والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكننى من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل بن أبى طالب فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان - أخيه - فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم.
فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء.
فلما كان من الغد قال عمر رضي الله عنه: فغدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وهما يبكيان! فقلت: يا رسول الله أخبرنى ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للذى عرض علىَّ أصحابك من أخذ الفداء، قد عرض علىَّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة - وأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} [الأنفال: 97 - 98].
ذكرنا الحديث بطوله لنفاسة هذه المعانى التى تبين روابط الإسلام، وعقائد الدين والرد على وات في نظرته في هذا الموقف.
لقد اجتهد الصحابة فيما هو أجدى فائدة، وأولى عاقبة للإسلام والمسلمين في قضية الأسرى، خاصة وهم يرون المؤمنين في تلك البأساء من الجوع والعرى، فإذا بالوحى ينزل ليصحح لهم الاجتهاد، ويبين الأصوب في هذا الأمر، ولكن مع التهديد الشديد في أن أول موقعة للمسلمين كان الواجب هو الإثخان في الأرض، أي إستئصال شأفة هؤلاء المجرمين، حتى يسير موكب الدعوة آمن مما هو فيه الأن، وأن يلقى الرهبة والفزع والرعب في قلوب غيرهم ليفكروا غير مرة قبل أن يهاجموا المسلمين أو أن يتعرضوا لهم.
إن الحياة كما تتقدم بالرجال الأخيار، فإنها تتأخر وتتعفن بالعناصر الخبيثة، وإذا كان من حق الشجرة لكى تنمو أن تُقَلَّم، فمن حق الحياة لكى تصلح أن تنقى من العتاة والمجرمين ولن يقوم عوض أبداً عن هذا الحق ولو كان القناطير المقنطرة من الذهب.
لما سمع المؤمنون هذا الدرس ووعوه وتدبروه، أباح لهم من رحمته الانتفاع بما أخذوا من الفداء، فنزل قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 69].
كان أخذ الفداء بالتالى حلالاً في أول نزوله، ثم جعل الخيار بعد ذلك لإمام المسلمين بين القتل أو الفداء أو المن عدا قتل الأطفال والنساء فلا يجوز قتلهم إذا لم يكونوا محاربين.
قال تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4]. (1)
وكان فداء الأسير ممن يملك المال هو أربعة آلاف درهم، ومع ذلك من رحمة الإسلام والمسلمين، التى تدل على أن المال لم يكن همهم كما علمهم القرآن الكريم فإنهم كانوا يأخذون من بعض الأسارى ما عندهم، وأطلق الرسول صلى الله عليه وسلم من لم يقدر على الفداء.
(1) ابن كثير، التفسير (4/ 173)، طبعة مكتبة التراث الإسلامي حلب، 1400 هـ - 1980 م.
وكان في الأسرى أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت قلادة لها كانت أهدتها لها أمها السيدة خديجة رضى الله عنها في زواجها لتفدى بها زوجها، فردوها لها، وأطلقوا لها أسيرها لمكانتها من أبيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بل كان وارداً أن يطلق سراحهم جميعاً كما قال صلى الله عليه وسلم: «لو كان المطعم بن عدى حياً ثم كلمنى في هؤلاء النتن لأطلقتهم له» (1)، وقد ذكرنا هذا الموقف من قبل حيث كان دور الحماية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند رجوعه من الطائف، مع موقفه من نقض صحيفة الظلم والقطيعة.
وإن نظرة سطحية فقط على هذه التصرفات تبين الفارق الضخم الذى لم يحدث مثله من أحد في تاريخ الإسلام في قتاله للمسلمين، هذا الفارق الذى يدل على عظم الإسلام وكونه من الله تعالى، وعلى صورة المسلمين السمحة وعقيدتهم البهية المنيرة إزاء أعدائهم؛ إن غيرهم من كل الملل لم يتورعوا عن الإبادة الكاملة لكل صغير وكبير، ذكر وأنثى مع التدمير الشامل لكل ما تقع عليه أيديهم مما له علاقة بالإسلام أو بالمسلمين.
كم أريقت بحار الدماء الذكية على أيدى حاملى الصليب في حروبهم في بيت المقدس مماحدث من مآس وجرائم هي أعتى الجرائم التى وقعت على مدار التاريخ.
وبقى الجزء المنير الآخر في التعامل مع الأسرى، وهو الوصايا من الرسول صلى الله عليه وسلم بهم خيراً (2)، خاصة أن من تبقى منهم لا فداء معه وكان يجيد الكتابة، كان فداؤهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة.
حكى أبو عزيز - شقيق مصعب بن عمير رضي الله عنه، وقد أسر في بدر مع المشركين – أنه
(1) البخاري (2024).
(2)
الطبرانى في مسنديه الصغير والكبير، وقال في مجمع الزوائد: إسناده حسن، د. مهدى رزق الله، السير النبوية (361).
وهو بين رهط من آسريه الأنصار - أنهم كانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوه بالخبز وأكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسرى. حتى ما تقع في يد أحدهم خبزه إلا ناوله إياها فيستحى فيردها على أحدهم، فيردها عليه ما يمسها. (1)
تلك أخلاق النبوة والرسالة التى حملت الإسلام إلى الدنيا، فكان فيه سعادة الدنيا والآخرة.
الغنائم:
ونحن عندما نتكلم عن الأسرى فإن الموضوع الذى ارتبط بها شرعاً وحياً وواقعاً هو موضوع الغنائم، الذى لم يكن لها حكم من قبل، ومن ثم كان عرضة لإختلاف وجهات النظر بين الصحابة الذين حضروا الوقعة، والحديث المروى من جانب كتاب السيرة الذى يبين الحادثة هو حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه إذ يقول: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدراً فالتقى الناس، فهزم الله تبارك وتعالى العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم، يهزمون ويقتلون، وأكبت طائفة على العسكر يحوونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا، فنحن نفينا عنها العدو، وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: «لستم بأحق بها منا، نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخفنا أن يصيب العدو منه غرة، وإشتغلنا به، فنزلت:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على بواء بين المسلمين أي - بالتساوى (2)، أخذ الله تعالى
(1) ابن اسحاق - ابن هشام، السيرة (2/ 212 - 213)، وهو مرسل، وقد أسلم كثير من هؤلاء الأسرى بعد ذلك، وحسن أسلامهم وكانوا العضد والنصير المضحى بنفسه وماله في سبيل الله تعالى. انظر د. مهدى رزق الله، السيرة (361).
(2)
عون المعبود (2360)، تحفة الأحوذى (3004).
الأنفال منهم وجعلها لرسوله صلى الله عليه وسلم يفرقها بينهم كما نزل به القرآن الكريم، وكما أمر الله تعالى، وما كان منهم إلا أن قالوا سمعنا وأطعنا.
وكان تقسيم الغنائم بالصفراء مرجعهم إلى المدينة، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لتسعة من المؤمنين تخلفوا عن الغزوة بما يعلم صلى الله عليه وسلم أنه لولا عذرهم لحضروا وشاركوا، منهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، كان يقوم على تمريض زوجه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفيت وهم راجعون من بدر فلم يتمكن من الحضور رضى الله عنهم أجمعين.
موقعة بدر، القيمة والنتائج:
أما قيمة غزوة بدر فقد استحق المقاتلون فيها لقب «بدرى» ، فكانوا الطبقة الأولى من الصحابة حيث جاءت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته وسيرة خلفائه من بعده لتبين فضلهم في الدنيا، وعلو مقامهم في الجنة، فأما ما ورد من سمو منزلتهم في الجنة ما رواه البخاري في قصة حارثة بن سراقة الذى أصابه سهم طائش يوم بدر، وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة منى، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب وأن تكن الأخرى ترى ما أصنع. فقال صلى الله عليه وسلم:«ويحك - أو هبلت - أو جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس» (1).
وتبين قصة حاطب جانباً آخر يضاف إلى الجانب المتقدم، وملخصه أن حاصب بن أبى بلتعة رضي الله عنه قد حضر بدراً، وفي فتح مكة أرسل إلى قريش من يخبرهم خبر غزو الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ولكونه بدرياً عفا الرسول صلى الله عليه وسلم عنه قائلاً لعمر عندما أراد قتله:«لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم» (2). ولما قال عبد
(1) البخاري (3982).
(2)
مسلم (4550).
لحاطب: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية» (1).
وأما العطاء المادى في الدنيا فكانوا المقدمين فيه، فعندما سجل عمر رضي الله عنه الجند في الدواوين التى أسسها في الدولة الإسلامية كانوا الطبقة الأولى التى تأخذ أعلى العطاء، وها هي دواوين السنة والرجال توشى صفحاتها الأولى بأسمائهم ومناقبهم مكرمين بذلك على مر الدهور والأعصار (2) مرضيين برضا الله عنهم، ومزدادين رضا بترضى كل من يترضى عنهم إلى يوم القيامة رضى الله عنهم وعن الصحابة أجمعين.
وما ذِكْرُنا لهذه القيمة - نحن غير أهل لذلك - إلا لنبين قليلاً مما قدموا بما وفقهم الله له، واختصهم الله تعالى به، ونسوق منا شيئاً ليتدبر المؤمنون اليوم سيرتهم فيثوبوا إلى مجدهم وعزهم، ولينظر المستشرقون إلى تفسيراتهم للوقائع بما يخالف الحقيقة ويجافى الحق ويناقض العقل والمنطق.
وأول ذلك: هو رفعهم للعقيدة واستعلاؤهم بها (3)، فكانت الدافع لهم والمحرك في كل ما يأتون ويذرون، فكانوا مستعلين بها فوق ما يدعى المستشرقون من مصالح مادية أو منافع دنيوية أو غيرها، وإنما رفع الإسلام بالنصر أو الشهادة، إذ كيف يعن أو يقع في تفكير هؤلاء أن يحصلوا في معركة غير متكافئة غير الهزيمة والقتل أو الإعطاء باليد.
الثاني: الوفاء بالبيعة مع الرسول صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة - ولم يمنعهم شروط الوثيقة بأن نصر النبي صلى الله عليه وسلم والقتال معه لمن دهم يثرب، بل قالوا لو خضت البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد.
(1) مسلم (4551).
(2)
انظر د. أكرم العمرى، السيرة (371).
(3)
انظر د. أكرم العمرى، السيرة (370).
الثالث: الطاعة التامة للرسول صلى الله عليه وسلم، فهم جند مطيعون ومضحون مهما كان الثمن ليقينهم بصدق رسالته صلى الله عليه وسلم وأن في طاعته العاقبة الحسنى في الدنيا والآخرة.
الرابع: إذا كان تقديمهم لعقيدتهم ودينهم على أنفسهم وأموالهم، فمن باب الأولى أن يظهر ذلك مع غيرهم من الأهل والولد فهاهم المهاجرون يواجهون أقاربهم في المعركة، الابن يواجه أباه، والأخ يواجه أخاه، وغيرهم من عصباتهم فلا تمنعهم أواصر القربى ووشائج النسب أن يقتلوهم لمصلحة الدين والعقيدة (1)، وقد كان ذلك واضحاً جلياً كذلك في موقف عمر رضي الله عنه من الأسارى بعد المعركة.
الخامس: أنهم الطبقة الأولى التى تحملت قبل أي أحد عبء الصدمة الأولى في الإيمان والعبادة والسلوك والدعوة، والتضحية والبذل ثم الهجرة والجهاد، وضربوا في كل ذلك بأعلى سهم، وأروع مثل.
نتائج بدر:
عرفت غزوة بدر بتمجيد القرآن العظيم لها بأنها يوم الفرقان، لأنه فرق بها بين الحق والباطل، ولأنها كانت الفارقة بين عهدين من عهود الإسلام وتاريخه، وكان لها الأثر الكبير في إعلاء شأن الإسلام.
شُدِه العرب وغيرهم قاطبةً لذلك النصر الحاسم الذى أكرم الله به المؤمنين في بدر، بل إن أهل مكة استنكروا الخبر أول ما جاءهم وحسبوه هذيان مجنون إذ أول من قدم بمكة بمصاب قريش الَحيْسُمان بن عبد الله الخزاعى، فقالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة
(1) وفيه قصه والد أبى عبيدة بن الجراح حيث تعرض لإبنه ليقتله، فيحيد عنه أبو عبيدة ثم قتله، وذكر ابن حجر في الإصابة (2/ 252 - 253)، ذلك من روايه الطبرانى وجودها.
وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأبو البخترى بن هشام، فلما جعل يعدد أشراف قريش قال صفوان ابن أمية وهو قاعد في الحجر، والله أن يَعْقّل هذا فاسألوه عنى فقالوا: ما فعل صفوان ابن أمية؟ قال: ها هو ذاك جالساً في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا (1).
فلما إستبان صدق الخبر صعق بعضهم حتى كاد يهلك، وماج بعضهم في بعض من هول المصاب لا يدرى ما يفعل.
وكذا استبعد مشركو المدينة ويهودها ما قرع أسماءهم من بشريات النصر، وذهب بعضهم إلى أنها أخبار من محض الاختلاق، ولم يصدقوا إلا عندما رأوا الأسرى مقرنين في الأصفاد وقد تعددت مسالك الجميع مختلفة في معالجة الموقف أو توفيق الأوضاع أو الإعلان بالعداوة والمجاهرة بما ينم عن الحقد والسخط.
فأما أهل مكة فقد منعوا البكاء والنياحة على قتلاهم لئلا يشمت بهم المسلمون، وأمروا بتأخير دفع الفداء لئلا يأرب عليهم المؤمنون فيه (2)، ثم إنطووا على أنفسهم يداوون جروحهم، ويستعيدون قواهم، ويستعدون لنيل الثأر، ولم تزدهم الهزيمة إلا كرهاً للإسلام، ونقمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه، ومزيداً من الاضطهاد لمن يدخل في دينه.
وبدأ الانتقام والثأر فأرسل صفوان بن أمية عمير بن وهب الجمحى وكان شيطاناً من شياطين قريش لاغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن وعده صفوان بأن يعول أهله مع أهله وأن يتحمل دينه، وكانت حجة عمير في السفر إلى المدينة في هذه المهمة الخسيسة هو ولده الأسير ليحسنوا إليه، خلاصة ما حدث أن أمسك به عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند وصوله
(1) ابن اسحاق، ابن هشام، السيرة (2/ 213).
(2)
ابن اسحاق، ابن هشام، السيرة (2/ 214).
لمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم حاملاً سيفه، وسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن سبب مجيئه فتعلل بولده الأسير، فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بوحى السماء بما حدث بينه وبين صفوان بن أمية في الحجر، فأسلم لتوه إذ ما حضر ذلك ثالث، وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم الرجوع إلى مكة للدعوة للإسلام بالشدة التى كان يهاجمه بها ويؤذى بها المسلمين. (1)
فأما في المدينة حيث المسلمون كثره مكينة ظاهرة، فقد إستعلى المؤمنون فيها على اليهود وبقايا المشركين، وأخذت العداوة للإسلام وأهله منحى الدس والنفاق والمخاتلة، فأسلم فريق من المشركين واليهود ظاهراً وقلوبهم تغلى حقداً وكفراً.
فأما المشركون فكان زعيمهم عبد الله بن أبى بن سلول رأس المنافقين حيث قال في رجوع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين منصورين غانمين من بدر: هذا أمر قد توجه - لا مطمع في إزالته - فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأسلموا (2). ومن بين من عرفوا بالنفاق من مشركى المدينة غير ابن أبى! جلاس بن سويد وأخوة الحارث وأوس بن قيظى.
ومن بين من عرف بالنفاق من أحبار يهود المدينة: زيد بن اللصيت ورافع بن حريملة ورفاعة بن زيد بن التابوت. وقد أسلم من أسلم منهم وحسن إسلامه، ومات على النفاق من مات منهم (3)، على أن هذا الخداع الذى لاذ به هذا الفريق كان في الوقت الذى عالن فيه الفريق الباقى من اليهود بسخطهم على الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يعودوا يسيطرون على مشاعرهم وأقوالهم وأفعالهم بسبب غيظهم من النتيجة التى لم يكونوا يتوقعونها فاندفعوا نحو العدوان، وأظهروا ألمهم للهزيمة التى أصابت قريشاً، حتى إن كعب بن الأشرف من
(1) ابن اسحاق، ابن هشام، السيرة (2/ 224 - 225).
(2)
وخبر نفاقه ومعادته للإسلام وإيذائه للرسول صلى الله عليه وسلم، البخاري (4566)، وابن حجر فتح الباري ().
(3)
انظر مواقف بعضهم في السيرة، لأبى بكر الجزائرى، هذا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم (189 - 194)، د. مهدى رزق الله، السيرة (362 - 363).
زعماء يهود أرسل القصائد في رثاء زعماء المشركين وطالب بالثأر لهم، وحاول اليهود في نفس الوقت التحقير من شأن هذا النصر وأن المسلمين لو لاقوا يهوداً لعلموا من المقاتلون حقاً. أكد كل ذلك نيات اليهود في نكث عهودهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستعداد لمجابهة المسلمين، مما مهد للأحداث العنيفة التى وقعت بعد ودفع فيها اليهود ثمن غدرهم ونقضهم للعهد غالياً أفراداً وجماعات حيث بدأ ذلك بإجلاء بنى قينقاع من المدينة لما ابتدأوا هم السير في هذا الطريق العفن، طريق المؤامرات والعدوان وتمزيق العهود (1).
بقى موقف الأعراب الضاربين حول المدينة، وهؤلاء قوم لا يهمهم شيء من قضايا الإيمان والكفر، إذ همهم الحصول على قوتهم ولو بالسلب والنهب وقطع الطريق، لقد أقض ذلك النصر مضجعهم فحشدوا جموعهم لانتهاز فرصة للإغارة على المدينة، وقد سبق لهم استياق نعم المدينة، نهض الرسول صلى الله عليه وسلم سريعاً فشتت هذه الجموع، ولم يلق في سبيل ذلك متاعب ذات بال. (2)
أتينا إلى نهاية ما إستطعنا تفصيله من غزوة بدر مما ورد في السيرة المشرفة، وكان ينبغى أن نلم بطرف من الحكم والأحكام في نهايتها، ولكن آثر الباحث أن يكون ذلك بعد عرض منهجه في السيرة من القرآن الكريم مع المقارنة والتحليل، ثم نسوق كلام المستشرقين ونخص منهم وات بالذات لنرد عليه.
(1) الغزالى، فقه السيرة (239).
(2)
الغزالى، فقه السيرة (239).