الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استقبال الكعبة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة؛ استقبل الكعبة في الفرض
والنفل (1)، وأمر صلى الله عليه وسلم بذلك؛ فقال لـ (المسيء صلاته) :
" إذا قمتَ إلى الصلاة؛ فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبر "(2) .
(1) هذا شيء مقطوع به؛ لتواتره عنه صلى الله عليه وسلم، وفيه أحاديث كثيرة؛ منها حديث ابن
عمر وغيره - كما يأتي قريباً -.
(2)
هذا قطعة من الحديث المشهور بـ: (حديث المسيء صلاته) ؛ وهو من حديث
أبي هريرة - {وهو مخرج في " الإرواء " (289) } -:
أن رجلاً دخل المسجد يصلي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية المسجد، فجاء فسلَّم
عليه، فقال له:
" [وعليك السلام] ، ارجع فصل؛ فإنك لم تصل ". فرجع فصلى، ثم سلم، فقال:
" وعليك [السلام] ، ارجع فصل؛ فإنك لم تصل ". فقال في الثالثة: فعلمني؟ قال:
" إذا قمت إلى الصلاة؛ فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبر، واقرأ بما تيسر
معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائماً، ثم
اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوي وتطمئن جالساً، ثم اسجد حتى
تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ".
أخرجه البخاري (11/31 و 467) ، ومسلم (2/10 - 11) ، وابن ماجه (1/327) ،
والبيهقي (2/15 و 372) من طريق عبد الله بن نمير وأبي أسامة حماد بن أسامة؛ كلاهما
عن عبيد الله بن عمر عن سعيد بن أبي سعيد عنه.
وأخرجه أبو داود (1/136) ، والنسائي (41) ، والترمذي (2/103) ، وأحمد
..............................................................................
(2/437) من طريق يحيى بن سعيد القطان: ثنا عبيد الله بن عمر: أخبرني سعيد بن
أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة به. لكن ليس فيه ذكر استقبال القبلة، وزاد في
السند - كما ترى -: (عن أبيه) .
وكذلك أخرجه البخاري (2/191 و 219 و 222) ، ومسلم، والبيهقي (2/37 و 62
و372) في رواية لهم. وقال الترمذي:
" إنها أصح من رواية ابن نمير ". ومال الحافظ في " الفتح " إلى صحة الروايتين، وهو
الصواب إن شاء الله.
وللحديث شاهد صحيح من رواية رفاعة بن رافع البدري:
أخرجه البخاري في " جزء القراءة "(11 - 12) ، والنسائي (1/194) ، والحاكم
(1/242) من طريق داود بن قيس، والبخاري، والنسائي (161 و 193) أيضاً،
والشافعي في " الأم "(1/88) ، والبيهقي (2/372) ، وأحمد (4/340) عن محمد بن
عجلان، وأبو داود (1/137) عن محمد بن عمرو؛ ثلاثتهم عن علي بن يحيى بن
خلاد بن رافع بن مالك الأنصاري قال: ثني أبي عن عم له بدريّ - وقال محمد بن
عمرو: عن رِفاعة بن رافع -
…
بهذه القصة.
وهذا سند صحيح. رجاله رجال البخاري.
وهذا في " السند "(4/340) من طريق محمد بن عمرو عن علي بن يحيى عن رفاعة.
فأسقط من الإسناد: (عن أبيه) .
وكذلك ذكره البيهقي.
ثم رواه (2/374) من طريق أبي داود، وكذا رواه الطحاوي (1/232) عن شريك
ابن أبي نَمِرٍ؛ دون ذكر الأب. ثم قال البيهقي:
..............................................................................
" والصحيح رواية داود بن قيس ومن وافقه ".
قلت: وممن وافقه على إقامة إسناده - سوى من ذكرنا -:
إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة: عند أبي داود، والبخاري، والنسائي (171) ،
والدارمي (1/305) ، والحاكم (1/241) ، ومن طريقه البيهقي (2/102 و 345) ، وابن حزم
في " المحلى "(3/256) . وقال الحاكم:
" صحيح على شرط الشيخين ".
قلت: علي بن يحيى بن خلاد وأبوه لم يخرج لهما مسلم شيئاً؛ فهو على شرط البخاري.
وممن وافقه أيضاً:
يحيى بن علي بن خلاد: أخرجه أبو داود، والترمذي (2/100 - 102) وحسنه،
والنسائي (1/108) ، والطحاوي، والحاكم، والطيالسي (196) .
ومحمد بن إسحاق: رواه أبو داود، وعنه البيهقي (2/133) ، والحاكم (1/243) ؛
كل هؤلاء رووه عن علي بن يحيى عن أبيه عن عمه رفاعة.
ولكن ليس عند هؤلاء الثلاثة الآخرين ذكر استقبال القبلة أيضاً.
وكذلك أخرجه الشافعي في " الأم " عن إبراهيم بن محمد عن علي به.
ولا يضر ذلك في هذه الزيادة؛ لأنها زيادة من ثقات؛ فيجب قبولها، لا سيما وأن
هذا الحديث قد اختلف فيه الرواة كثيراً في ألفاظه؛ فيزيد بعضهم على بعض، ويقصر
بعضهم عن بعض؛ فيجب الأخذ بالزائد بشرطه المعلوم في مصطلح الحديث.
وقد جمع الحافظ في " الفتح " جميع ألفاظ الحديث تقريباً. فليراجعه من شاء
الاستقصاء. وسيأتي بعض ألفاظه في الأماكن المناسبة لها؛ كـ: (التكبير) في موضعين
منه، و (الاستفتاح)، و (القراءة بـ:{أم القرآن} ) ، وغيرها من المواضع.
و " كان صلى الله عليه وسلم في السفر يصلي النوافل على راحلته، ويوتر عليها حيث
توجهت به [شرقاً وغرباً](*) "، وفي ذلك نزل قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمُّ
وَجْهُ اللَّهِِ} (البقرة: 115) .
و" كان يركع ويسجد على راحلته إيماءً برأسه، ويجعل السجود أخفض
من الركوع " (1) .
(*) زيادة من " صفة الصلاة " المطبوع.
(1)
قد جاء ذلك في عدة أحاديث:
الأول: حديث عبد الله بن عمر قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم! يُسَبِّحُ على الراحلة قِبَلَ أيِّ وجه توجه، ويوتر عليها، غير أنه لا
يصلي عليها المكتوبة.
أخرجه البخاري (2/460) ، ومسلم (2/150) ، وأبو داود (1/190 - 191) ،
والنسائي (1/85 و 122) ، والطحاوي (1/249) ، والبيهقي (2/491) من طريق ابن
شهاب عن سالم عنه. وفي لفظ:
كان يصلي على راحلته في السفر حيثما توجهت به.
أخرجه البخاري (2/459) ، ومالك (1/165) ، والشافعي (1/84) عنه، ومسلم
أيضاً، وكذا النسائي، والترمذي (2/183) ، والبيهقي، والطيالسي (256) ، وأحمد
(2/7 و 38 و 44 و 46 و 56 و 66 و 72 و 75 و 81) من طرق عنه.
وزاد البخاري في رواية (2/392) :
يُوْمِئُ إيْمَاءً.
وكذا في رواية لأحمد (3/73)، وزاد:
..............................................................................
ويجعل السجود أخفض من الركوع. وفي لفظ:
كان يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه. قال: وفيه
نزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} .
أخرجه مسلم، والنسائي، والترمذي (2/159 - طبع بولاق) - وقال: " حسن
صحيح " -، والبيهقي (2/4)، وأحمد (2/20) عن عبد الملك بن أبي سليمان: ثنا
سعيد بن جبير عنه.
وفى رواية عن سعيد بن يسار عنه قال:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو متوجّه إلى خيبر.
أخرجه مسلم، ومالك (1/365) ، والشافعي، وأبو داود، والنسائي (1/121) - وله
عنده شاهد من حديث أنس بسند حسن؛ وبذلك يَخْرُجُ الحديث عن كونه شاذاً؛ كما
أعله النووي في " شرح مسلم "، وأشار إلى ذلك ابن القيم (1/187) ، ورددنا عليه مطولاً
في " التعليقات " -، والبيهقي، والطيالسي (255) ، وأحمد (2/49 و 57 و 75 و 83) ،
وزاد في رواية:
قبل المشرق تطوعاً.
وإسنادها صحيح.
الثاني: حديث عامر بن ربيعة قال:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الراحلة يُسَبِّحُ؛ يومئ برأسه قِبَلَ أيِّ وجه توجه. ولم
يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة.
أخرجه البخاري (2/460) ، والدارمي (1/356) ، والبيهقي (2/7) ، وأحمد
(3/446) . ورواه مسلم (2/150) بلفظ:
..............................................................................
رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يصلي السبحة بالليل في السفر على ظهر راحلته حيث
توجهت به.
وهو رواية لأحمد (3/344) .
الثالث: عن أنس بن سيرين قال:
استقبلنا أنساً حين قدم من الشام، فلقيناه بعَيْن التَّمْر، فرأيته يصلي على حمار،
ووجهه من ذا الجانب - يعني: عن يسار القبلة -. فقلت: رأيتك تصلي لغير القبلة؟! فقال:
لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله؛ لم أفعله.
أخرجه الشيخان، والبيهقي (2/5) ، وأحمد (3/204) . وقد رواه مختصراً
(3/126) بلفظ:
كان يصلي على ناقته تطوعاً في السفر لغير القبلة.
الرابع: عن عثمان بن عبد الله بن سُراقة عن جابر بن عبد الله قال:
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أنمار يصلي على راحلته متوجهاً قبل المشرق تطوعاً.
أخرجه البخاري (7/346) ، والشافعي (1/84) ، والبيهقي (2/4) ، وأحمد
(3/300) عن ابن أبي ذئب عنه.
ورواه أبو داود (1/191) ، والترمذي (2/182) ، والبيهقي (2/5) ، وأحمد
(3/332) عن سفيان الثوري.
والبيهقي، وأحمد (3/296 و 380) عن ابن جريج: أخبرني أبو الزبير: أنه سمع
جابراً - وقال سفيان: عن أبي الزبير عن جابر - قال:
بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة. قال: فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق،
والسجود أخفض من الركوع. وقال الترمذي:
..............................................................................
" حسن صحيح ". وهو على شرط مسلم. قال الحافظ في " التلخيص "(3/211) :
"ورواه ابن خزيمة، ولابن حبان نحوه ". اهـ.
وفي رواية لأحمد (3/351) من طريق هشام عن أبي الزبير:
ورأيته يركع ويسجد. وله لفظ آخر عند البخاري وغيره يأتي قريباً. قال الترمذي:
" والعمل على هذا عند أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافاً؛ لا يرون بأساً أن يصلي
الرجل على راحلته تطوعاً حيث ما كان وجهه؛ إلى القبلة وغيرها ". وقال الحافظ
(2/460) :
" وقد أخذ بمضمون هذه الأحاديث فقهاء الأمصار، إلا أن أحمد وأبا ثور كانا
يستحبان أن يستقبل القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة، والحجة لذلك حديث الجارود
ابن أبي سبرة عن أنس:
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يتطوع في السفر؛ استقبل بناقته القبلة
…
"
الحديث. وهو مذكور في الأصل (*) . قال:
" واختلفوا في الصلاة على الدواب في السفر الذي لا تقصر فيه الصلاة؛ فذهب
الجمهور إلى جواز ذلك في كل سفر، غير مالك؛ فخصه بالسفر الذي تقصر فيه
الصلاة. قال الطبري: لا أعلم أحداً وافقه على ذلك.
قلت: ولم يُتَّفق على ذلك عنه، وحجته أن هذه الأحاديث إنما وردت في
أسفاره صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عنه أنه سافر سفراً قصيراً فصنع ذلك.
وحجة الجمهور مطلق الأخبار في ذلك. واحتج الطبري للجمهور من طريق النظر ".
فانظر كلامه في " الفتح ".
_________
(*) أي: المتن. انظر (ص 63) .
..............................................................................
قلت: وفي قول ابن عمر: وكان يوتر عليها. دليل على أنه يجوز الوتر أيضاً على
الراحلة.
وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور - كما في " شرح مسلم " للنووي -،
وذهب أئمتنا الثلاثة إلى أنه لا يجوز ذلك.
وأجاب الطحاوي (1/249) عن الأحاديث الواردة في الإيتار على الراحلة - وقد
ساقها من طرف عن ابن عمر - بأنها منسوخة. قال:
" وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله ".
واحتج على ذلك بما رواه من طريق يزيد بن سنان قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا
حنظلة بن أبي سفيان عن نافع عن ابن عمر:
أنه كان يصلي على راحلته، ويوتر بالأرض، ويزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.
وهذا سند صحيح.
وهذا لا دليل فيه على النسخ مطلقاً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كما كان يوتر على الراحلة - أوتر
أيضاً على الأرض. وهذا هو الأصل، والأول جاء للرخصة؛ فلا تعارض. وقد قال
الحافظ في " الفتح "(2/458) :
" قوله: (ويوتر عليها) : لا يعارض ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير:
أن ابن عمر كان يصلي على الراحلة تطوعاً، فإذا أراد أن يوتر؛ نزل فأوتر على الأرض.
لأنه محمول على أنه فعل كلا الأمرين، ويؤيد روايةَ الباب ما تقدم في (أبواب
الوتر) أنه أنكر على سعيد بن يسار نزوله الأرض ليوتر؛ وإنما أنكر عليه - مع كونه كان
يفعله -؛ لأنه أراد أن يبين له أن النزول ليس بحتم ". اهـ.
قلت: وفي إنكاره ذلك أكبر دليل على أنه لا نسخ هنالك.
و " كان - أحياناً - إذا أراد أن يتطوع على ناقته؛ استقبل بها القبلة،
فكبر، ثم صلى حيث وجَّهَهُ رِكَابُهُ " (1) .
(1) أخرجه أبو داود (1/191) ، {وابن حبان في " الثقات " (4/14) } ،
والدارقطني (152) ، والبيهقي (2/5) ، والطيالسي (282 - 283) ، وأحمد (3/203) ،
والضياء في " المختارة "(2/72) من طريق رِبْعِىّ بن عبد الله بن الجارود: ثنا عمرو بن أبي
الحجاج: ثنا الجارود بن أبي سَبْرَة: ثني أنس بن مالك:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فأراد أن يتطوع؛ استقبل بناقته القبلة، فكبَّر، ثم
صلى حيث وجهه ركابه. لفظ أبي داود. وقال أحمد وغيره:
حيثما توجهت به.
وهذا إسناد حسن - كما قال النووي في " المجموع "(3/234) ، والحافظ في " بلوغ
المرام " (1/189) -، وصححه ابن السكن - كما في " التلخيص " (3/213) -، {وابن
الملقن في " خلاصة البدر المنير "(22/1) ، ومن قبل عبد الحق الإشبيلي في " أحكامه "
(رقم 1394 - بتحقيقي) وبه قال أحمد - فيما رواه ابن هانئ في " مسائله "(1/67) -} .
وأعله ابن القيم في " الزاد " بقوله:
" وفي هذا الحديث نظر، وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم على راحلته أطلقوا أنه كان
يصلي عليها قِبَل أي جهة توجهت به، ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإحرام ولا غيرها؛
كعامر بن ربيعة، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأحاديثهم أصح من حديث
أنس هذا. والله أعلم ".
قلت: وهذا غير قادح في الحديث بعد أن ثبت إسناده؛ لأنه يجوز أن يكون قد علم
ما لم يعلمه غيره، ومن علم حجة على من لم يعلم.
ويجوز أيضاً أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام كان أحياناً يستقبل بناقته القبلة عند
التكبير؛ بياناً لما هو الأفضل - كما رواه أنس -، وأحياناً لا يستقبل، بل كيفما تيسر؛
..............................................................................
بياناً للجواز. وعليه تحمل الأحاديث الصحيحة التي أشار إليها ابن القيم، وبذلك يجمع
بين الأحاديث، ولا يجوز ضرب بعضها ببعض. هذا ما ظهر لي. والله تعالى أعلم.
وأما الشوكاني؛ فقال (2/144) :
" والحديث يدل على جواز التنفل على الراحلة، وعلى أنه لا بد من الاستقبال حال
تكبيرة الإحرام، ثم لا يضر الخروج بعد ذلك عن سَمْتِ القبلة ". اهـ.
أقول: ولا دلالة في الحديث على أنه لا بد من الاستقبال في تلك الحال؛ لأنه
فعلٌ، وغاية ما يدل عليه: أن ذلك يشرع ويستحب، لا سيما وأنه لم يكن صلى الله عليه وسلم يفعل
ذلك دائماً - كما سبق -؛ ولذلك قال الإمام أحمد - فيما رواه عنه أبو داود في " مسائله "
(ص 76) :
" إذا تطوع الرجل على راحلته؛ يعجبني أن يستقبل القبلة بالتكبير على حديث
أنس " (1) . وذكر نحوه عبد الله بن أحمد في " مسائله " أيضاً عنه.
وللشافعية في وجوب الاستقبال في هذه الحالة وجوه؛ أصحها - كما قال النووي في
" المجموع "(3/234) ؛ -: إنه إن سهل عليه ذلك؛ وجب، وإلا؛ فلا. قال:
" فالسهل أن تكون الدابة واقفة، وأمكن انحرافه عليها أو تحريفها، أو كانت سائرة
وبيده زمامها؛ فهي سهلة، وغير السهلة أن تكون مُقَطَّرَةً أو صَعْبة ".
هذا، وأما صلاة الفريضة على الراحلة؛ فقد سبق أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعله.
وقد ورد خلافه في حديث يعلى بن مُرَّة قال:
_________
(1)
وفيه إشارة إلى أنه حديث ثابت عند أحمد؛ فهو يعضد ما ذهبنا إليه، ويَرُدُّ على ابن القيم
اعلالَهُ إياه.
..............................................................................
انتهينا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مضيق، السماء من فوقنا، والبِلَّةُ من أسفلنا، وحضرت
الصلاة، فأمر المؤذن؛ [فأذن] وأقام - أو: أقام بغير أذان -، ثم تقدم النبي صلى الله عليه وسلم، فصلَّى بنا
على راحلته، وصلينا خلفه على رواحلنا، وجعل سجوده أخفض من ركوعه.
ولكنه حديث ضعيف. أخرجه الترمذي (2/266 - 267) ، والدارقطني (146) ،
والبيهقي (2/7) ، وأحمد (4/173 -174) من طريق عمرو بن عثمان بن يعلى بن مرة
عن أبيه عن جده يعلى بن مرة.
وعلته عمرو بن عثمان ووالده؛ فإنهما مجهولان؛ ولذلك قال الترمذي:
" حديث غريب ". يعني: ضعيف. وقال البيهقي:
" وفي إسناده ضعف، ولم يثبت من عدالة بعض رواته ما يوجب قبول خبره،
ويحتمل أن يكون ذلك في شدة الخوف ". اهـ. قال الصنعاني (1/189) :
" وثبت ذلك عن أنس من فعله
…
وذهب البعض إلى أن الفريضة تصح على
الراحلة؛ إذا كان مستقبل القبلة في هَوْدَجٍ، ولو كانت سائرة كالسفينة؛ فان الصلاة
تصح فيها إجماعاً - قال الصنعاني: - قلت: وقد يفرق بأنه قد يتعذر في البحر وجدان
الأرض؛ فَعُفِيَ عنه بخلاف راكب الهودج.
وأما إذا كانت الراحلة واقفة؛ فعند الشافعي تصح الصلاة للفريضة، كما تصح
عندهم في الأرجوحة المشدودة بالحبال، وعلى السرير المحمول على الرجال؛ إذا كانوا
واقفين ". اهـ.
قلت: فإذا تعذرت الصلاة على الأرض - كأن تكون موحلة؛ كما في حديث يعلى،
أو كان راكباً في قطار، أو طائرة محلقة في السماء، ولا يمكنه النزول منهما، وخشي
خروج الوقت -؛ فالقول بجواز الصلاة هو المعتمد؛ لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا
و " كان إذا أراد أن يصلي الفريضة؛ نزل، فاستقبل القبلة "(1) .
وُسْعَهَا} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:
" وما أمرتكم به؛ فأتوا منه ما استطعتم ".
أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة.
وقال أبو داود في " مسائله "(76) :
" قلت لأحمد: الرجل يكون في السَّرِيَّةِ، ويكون الثلج كثيراً؛ لا يقدر يسجد عليه
الرجل؟ قال: يصلي على دابته. قال: قلت: يكون مطرٌ فيخاف أن تبتل ثيابه؟ قال:
يصلي على دابته ". وقال المروزي في " مسائله ":
" قلت - يعني لأحمد -: إذا صلى في ماء وطين؛ كيف يسجد؟ قال: إذا كان لا
يقدر على السجود ويفسد ثيابه؛ يومئ إيماءً - كما قال أنس -. قال إسحاق: كما قال.
قال: ويجزيه المكتوبة في الحضر - كما قال أنس - ".
(1)
رواه جابر بن عبد الله قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته نحو المشرق، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة؛ نزل
فاستقبل القبلة.
أخرجه البخاري (1/400 و 2/460) ، والدارمي (1/356)، والبيهقي (2/6) - وزاد:
وصلى -، وأحمد (3/305 و 330 و 378) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عنه.
وفي الباب عن ابن عمر وعامر بن ربيعة، وقد ذكرنا حديثَيْهِما قريباً. قال الحافظ
في " الفتح ": " قال ابن بطال: أجمع العلماء على اشتراط النزول للفريضة، وأنه لا يجوز لأحد أن
يصلي الفريضة على الدابة من غير عذر، حاشا ما ذكر في صلاة شدة الخوف ".
وأما في صلاة الخوف الشديد؛ فقد سنَّ صلى الله عليه وسلم لأمته أن يصلوا " رجالاً؛
قياماً على أقدامهم، أو ركباناً؛ مستقبلي القبلة، أو غير مستقبليها " (1) .
قلت: يعني حديث ابن عمر الآتي؛ وهو:
(1)
أخرجه مالك في " الموطأ "(1/193) ، ومن طريقه البخاري (8/161) ، ومحمد
في " موطئه "(ص 155) ، والشافعي في " الأم "(1/83)، وعنه البيهقي (2/8) عن نافع:
أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف؛ قال:
يتقدم الإمام وطائفة
…
ثم قصَّ الحديث. وقال ابن عمر في الحديث:
فإن كان خوفٌ أشد من ذلك؛ صلوا رجالاً؛ قياماً على أقدامهم، أو ركباناً؛
مستقبلي القبلة، أو غير مستقبليها. قال مالك:
قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواه ابن خزيمة من حديث مالك بلا شك. " تلخيص "(3/209) .
{وهو مخرج في " الإرواء " (588) } .
وأخرجه مسلم (2/212) عن سفيان الثوري عن موسى بن عقبة عن نافع به نحوه
مرفوعاً، وفي آخره:
وقال ابن عمر: فإذا كان خوف أكثر من ذلك؛ فَصَلِّ راكباً أو قائماً؛ تُؤْمِئُ إيْمَاءً.
فجعل قول ابن عمر هذا فقط موقوفاً. قال الحافظ (2/326) :
" ورواه ابن المنذر من طريق داود بن عبد الرحمن عن موسى بن عقبة موقوفاً كله.
لكن قال في آخره: وأخبرنا نافع: أن عبد الله بن عمر كان يخبر بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فاقتضى ذلك رفعه كله ".
وأخرجه البخاري (2/345) من طريق ابن جريج عن موسى به مرفوعاً؛ بلفظ:
..............................................................................
" وإن كانوا أكثر من ذلك؛ فليصلوا قياماً وركباناً ".
وأخرجه الطبري بإسناد البخاري، ولفظه: عن ابن عمر قال:
إذا اختلطوا - يعني: في القتال -؛ فإنما هو الذكر وإشارة الرأس.
قال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فإن كانوا
…
" إلخ.
قلت: وكذا رواه البيهقي (3/255) .
وأخرجه ابن ماجه (1/379) من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف:
" أن يكون الإمام يصلي بطائفة
…
" الحديث، وفيه:
"
…
فإن كان خوف أشد من ذلك؛ فرجالاً أو ركباناً
…
".
وهذا شاهد قوي لرواية ابن المنذر المرفوعة كلها. قال الحافظ:
" وإسناده جيد. والحاصل: أنه اختُلف في قوله: " فإن كان خوف أشد من
ذلك
…
"؛ هل هو مرفوع، أو موقوف على ابن عمر؟ والراجح رفعه. والله أعلم ".
انتهى. ثم قال:
" قوله: (وإن كانوا أكثر من ذلك) : أي: إن كان العدو. والمعنى: أن الخوف إذا
اشتد، والعدو إذا كثر، فخيف من الانقسام لذلك؛ جازت الصلاة حينئذ بحسب
الإمكان، وجاز ترك مراعاة ما لا يقدر عليه من الأركان؛ فينتقل عن القيام إلى الركوع،
وعن الركوع والسجود إلى الإيماء، إلى غير ذلك، وبهذا قال الجمهور. ولكن قال
المالكية: لا يصنعون ذلك حتى يخشى فوات الوقت ". اهـ.
وبمثل ما ذكره عن الجمهور حكاه الطحاوي (1/190) عن الأئمة الثلاثة؛ قالوا:
وقال صلى الله عليه وسلم:
" إذا اختلطوا؛ فإنما هو التكبير والإشارة بالرأس "(1) .
وكان صلى الله عليه وسلم يقول:
" ما بين المشرق والمغرب قبلة "(2) .
" وكذلك لو أن رجلاً كان على الأرض، فخاف إن سجد أن يفترسه سَبُع، أو يضربه
رجل بسيف؛ فله أن يصلي قاعداً، إن كان يخاف ذلك في القيام، ويومئ إيماء ".
(1)
هو قطعة من حديث ابن عمر الذي تقدم (ص 67) ، وقد أخرجه البيهقي
(3/255 - 256){بسند " الصحيحين "} ، وفيه عنده هذه القطعة. ورواه مسلم، قال:
فقال ابن عمر: فإذا كان خوف أكثر من ذلك؛ فصلِّ راكباً أو قائماً؛ تومئ إيماءً.
وهذا، وان كان ظاهره موقوفاً؛ فقد ذكرنا فيما تقدم ما يدل على أن الحديث كله
مرفوع. فراجعه.
(2)
هذا حديث صحيح (1) . أخرجه الترمذي (2/171) ، وابن ماجه (317) من
طريق أبي مَعْشَر نَجِيح عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً به.
وأبو معشر: ضعيف؛ قال الترمذي:
" وقد تكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه ".
قلت: لكنه لم يتفرد به؛ فقد أخرجه الترمذي بسند آخر، فقال (173) :
ثنا الحسن بن أبي بكر المروزي: ثنا المُعَلَّى بن منصور: ثنا عبد الله بن جعفر المُخَرِّمي
عن عثمان بن محمد الأَخْنَسِي عن سعيد المَقْبُري عن أبي هريرة مرفوعاً به. وقال:
" حديث حسن صحيح ". قال:
_________
(1)
{وقد خرجته في " إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل " (292) } .
..............................................................................
" قال محمد - يعني: البخاري -: هو أقوى من حديث أبي معشر وأصح ".
قلت: ورجاله ثقات. غير شيخ الترمذي الحسن بن أبي بكر. كذا هو في " السنن "،
حتى في النسخة التي صححها أحمد شاكر القاضي! وهو خطأ، والصواب: الحسن بن بكر؛
بحذف لفظة: (أبي) - كما في كتب الرجال: " التهذيب "، و " الخلاصة "، و " التقريب " -.
وهو: الحسن بن بكر بن عبد الرحمن المروزي، أبو علي، نزيل مكة. وقال مسلم:
" مجهول ". كما في " التهذيب ". وذكر فيه جمعاً من الثقات رووا عنه، وكأنه لذلك
قال في " التقريب ":
" صدوق ". والله أعلم.
وللحديث شاهد من حديث ابن عمر.
أخرجه الدارقطني (101)، والحاكم (1/206) عن يزيد بن هارون: أخبرنا محمد
ابن عبد الرحمن بن المُجَبِّر عن نافع عنه مرفوعاً به. وقال الحاكم:
" صحيح. وابن مجبر: ثقة ".
قلت: كلا؛ ليس بثقة؛ بل هو متفق على تضعيفه. وقد أورده الذهبي في
" الميزان "، وكذا الحافظ في " اللسان "، فلم يذكرا توثيقه عن أحد؛ بل حَكَوا عبارات
الأئمة في ضعفه. فقد تفرد الحاكم بتوثيقه؛ فلا يعتمد عليه.
لكنه قد توبع؛ فأخرجه الدارقطني، وعنه الضياء في " المختارة "، والحاكم أيضاً
(205)
من طريق أبي يوسف يعقوب بن يوسف الواسطي: ثنا شعيب بن أيوب: ثنا
عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع به. وقال الحاكم:
" صحيح على شرط الشيخين؛ فإن شعيب بن أيوب ثقة، وقد أسنده ". ووافقه
الذهبي.
..............................................................................
قلت: ولكن شعيباً لم يخرج له الشيخان؛ إنما أخرج له أبو داود فقط، فالحديث
صحيح فقط؛ إن كان الراوي عنه يعقوب بن يوسف الواسطي ثقة؛ فقد تفرد به عنه،
ولم أجد له ذكراً في شيء من كتب الرجال التي عندي.
وقد أخرجه البيهقي (2/9) عن الحاكم من الطريقين، ثم قال:
" تفرد بالأول ابن مُجَبِّر. وتفرد بالثاني يعقوب بن يوسف الخلال. والمشهور رواية
الجماعة؛ حماد بن سلمة، وزائدة بن قدامة، ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم عن
عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن عمر من قوله ". قال:
" وروي عن أبي هريرة مرفوعاً. وروي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قِلابة عن
النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً ". قال:
" والمراد به - والله أعلم - أهل المدينة، ومن كان قبلته على سمت أهل المدينة فيما
بين المشرق والمغرب ". اهـ.
وذلك ينطبق على من كان في الشمال أو الجنوب بالنسبة لمكة.
وأما من كان في الشرق أو الغرب؛ فقبلته ما بين الشمال والجنوب. قال العلامة
الصنعاني في " سبل السلام "(1/188) :
" والحديث دليل على أن الواجب استقبال الجهة لا العين في حق من تعذرت عليه
العين، وقد ذهب إليه جماعة من العلماء؛ لهذا الحديث ".
قلت: وعليه الحنفية. قال:
" ووجه الاستدلال به على ذلك أن المراد أن بين الجهتين قبلةً لغير المُعايِن، ومَن في
حكمه؛ لأن المعايِن لا تنحصر قبلته بين الجهتين المشرق والمغرب، بل كل الجهات في
حقه سواء متى قابل العين أو شطرها ".
وقال جابر رضي الله عنه:
" كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيرةٍ أو سريَّة، فأصابنا غيم، فتحرَّينا
واختلفنا في القبلة؛ فصلى كلُّ رجل منا على حدة، فجعل أحدنا يخطُّ
بين يديه؛ لنعلم أمكنتنا، فلما أصبحنا؛ نظرناه، فإذا نحن صلينا على غير
القبلة، فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، [فلم يأمرنا بالإعادة]، وقال:
" قد أجزأت صلاتكم "(1) .
(1) هذا حديث حسن - أو صحيح -؛ جاء من طرق يقوي بعضها بعضاً، {وهو
مخرج في " الإرواء "(296) } .
فأخرجه الدارقطني (101) ، والحاكم (1/206) ، والبيهقي (2/10) من طريق داود
ابن عمرو الضَّبِّي: ثنا محمد بن يزيد الواسطي عن محمد بن سالم عن عطاء عنه به.
والسياق للبيهقي بدون الزيادة؛ فهي عند الأَوَّلَيْن. وقال الحاكم:
" هذا حديث محتج برواته كلهم، غير محمد بن سالم؛ فإني لا أعرفه بعدالة ولا
جرح ". قال الذهبي:
" هو أبو سهل، واهٍ ".
قلت: لكنه توبع؛ فرواه الدارقطني أيضاً، وكذا البيهقي (2/10) ، وابن مردويه في
" تفسيره " من طريق أحمد بن عبيد الله بن الحسن العنبري قال: وجدت في كتاب أبي:
ثنا عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن عطاء به نحوه.
وعبد الملك هذا: ثقة؛ من رجال مسلم. لكن في الطريق إليه أحمد بن عبيد الله
العنبري: وليس بالمشهور؛ قال الذهبي:
" قال ابن القطان: مجهول ". قال الحافظ في " اللسان ":
" وذكره ابن حبان في " الثقات " فقال: روى عن ابن عنبسة، وعنه ابن الباغندي.
..............................................................................
لم تثبت عدالته. وابن القطان تبع ابن حزم في إطلاق التجهيل على من لا يَطَّلِعُون على
حاله. وهذا الرجل بصري شهير، وهو ولد عبيد الله القاضي المشهور ". اهـ.
وأعله البيهقي بما فيه من الوجادة. وهذه ليست بعلة قادحة؛ فقد أجاز الشافعي وغيره
العمل بالوجادة - كما هو مذكور في مصطلح الحديث -، وذكرنا شيئاً منه في كتابنا " نقد
التاج " رقم (84) ، ولذلك لما ذكر الحديث الحافظ في " الدراية " (68) ؛ ما أعله إلا بقوله:
" وفيه جهالة ". يعني: جهالة أحمد بن عبيد الله المذكور، على أن الحافظ لم يرتضِ - كما
يُستشمّ من كلامه السابق - إطلاق الجهالة عليه كما فعل ابن القطان وغيره. والله أعلم.
وللحديث متابعة أخرى؛ فأخرجه البيهقي (2/10 - 11) عن محمد بن عبيد الله
العَرْزَمي عن عطاء به نحوه.
والعرزمي: ضعيف.
وللحديث شواهد:
منها: ما أخرجه الترمذي (2/176) ، وابن ماجه (1/319) والدارقطني،
والطيالسي (156) ، وعنه البيهقي من طريقين عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن
عامر بن ربيعة عن أبيه نحوه.
ورجاله عند الطيالسي رجال مسلم، غير عاصم هذا؛ فهو ضعيف لسوء حفظه.
فمثله لا بأس به في المتابعات.
ومنها: ما أخرجه الطبراني في " الأوسط " من حديث معاذ بن جبل بنحو حديث
جابر. قال الهيثمي (2/15) :
" وفيه أبو عبلة والد إبراهيم، ذكره ابن حبان في " الثقات "، واسمه: شمر بن يقظان ".
ومنها: ما رواه ابن مردويه في " تفسيره " أيضاً من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن
عباس بنحو حديث عامر بن ربيعة.
و " كان صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس -[والكعبة بين يديه]- قبل أن
تنزل هذه الآية: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ} (البقرة: 144) . فلما نزلت؛ استقبلَ الكعبة.
فبينما الناس بقُباء في صلاة الصبح؛ إذ جاءهم آتٍ، فقال: إنَّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد أُنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمِرَ أن يستقبل الكعبة؛ [ألا]
فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا، [واستدار إمامهم
حتى استقبل بهم القبلة] " (1) .
ذكره الحافظ ابن كثير في " تفسيره "(1/159)، ثم قال:
" وهذه الأسانيد فيها ضعف. ولعله يشد بعضها بعضاً. وأما إعادة الصلاة لمن تبين
له خطؤه؛ ففيها قولان للعلماء، وهذه دلائل على عدم القضاء ". اهـ.
قلت: وهو مذهب أحمد وغيره؛ فقد قال الترمذي - بعد أن ساق حديث عامر بن ربيعة -:
" وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى هذا. قالوا: إذا صلى في الغيم لغير القبلة، ثم
استبان له بعدما صلى أنه صلى لغير القبلة؛ فإن صلاته جائزة. وبه يقول سفيان الثوري
وابن المبارك وأحمد وإسحاق ".
وكلامهما في ذلك مذكور في " مسائل المروزي " عنهما، وفي " مسائل عبد الله " عن أبيه.
قلت: وهو الصحيح من مذهب الحنفية - كما في " الهداية " -، خلافاً للشافعية؛
فإن الأصح عندهم - كما قال النووي (3/255) - أنه:
" تجب الإعادة؛ إن تيقن الخطأ ". وعليه يدل كلام الشافعي في " الأم "(1/82) .
والصواب: ما ذهب إليه الأولون للأحاديث التي ذكرنا، ولحديث صلاة أهل قباء نحو
بيت المقدس، واستدارتهم إلى الكعبة - كما يأتي قريباً -. وإلى هذا ذهب الصنعاني (1/187) .
(1)
ورد ذلك كله في أحاديث صحيحة:
..............................................................................
الحديث الأول: عن أنس قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس، فنزلت: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِِ الحَرَامِ} . فمرّ رجل من بني
سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر، وقد صلوا ركعة فنادى: ألا إن القبلة قد حُوِّلَتْ.
فمالوا كما هم نحو القبلة.
أخرجه مسلم (2/66) ، وأبو داود (1/164 - 165) ، وعنه البيهقي (2/11) ،
{وابن سعد (1/242) } ، وأحمد (3/284) ، والحازمي في " الاعتبار "(43) عن حماد
عن ثابت - زاد أبو داود: وحميد - عنه.
الثاني: حديث ابن عمر قال:
بينما الناس بقباء
…
الحديث. وفي آخره: فاستداروا إلى الكعبة.
أخرجه البخاري (1/402 و 8/141) ، ومسلم، ومالك (1/201) ، ومن طريقه
محمد في " موطئه "(152) ، والشافعي في " الأم "(1/81 - 82) ، وعنه البيهقي
(2/2) ، والنسائي أيضاً (1/85 و 122) ، والدارمي (1/281) ، والدارقطني (102) ،
وأحمد (2/15 - 16 و 26 و 105 و 113) من طرق عن عبد الله بن دينار عنه.
والسياق للبخاري. والزيادة الأولى هي عنده في رواية. وأما الرواية الأخرى؛ فهي
في حديث آخر، وهو:
الثالث: عن سهل بن سعد:
أن النبي صلى الله عليه وسلم. كان يصلي قِبَل بيت المقدس، فلما حُوِّلَ؛ انطلق رجل إلى أهل قباء،
فوجدهم يصلون صلاة الغداة، فقال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يصلى إلى الكعبة. فاستدار إِمامُهم؛ حتى استقبل بهم
القبلة. قال الهيثمي (2/14) :
..............................................................................
" رواه الطبراني في " الكبير " { (3/108/2) = [6/162/5860] } . ورجاله موثقون ".
قلت: وأخرجه أيضاً الدارقطني (102) من طريق عبيد الله بن موسى: ثنا
عبد السلام بن حفص عن أبي حازم عنه به.
وهذا سند جيد؛ رجاله رجال الستة، غير عبد السلام هذا، وقد روى عنه جمع،
ووثقه ابن معين.
وقد جاء بيان كيفية التحول الوارد في هذا الحديث في حديث آخر بأوضح منه، وهو:
الحديث الرابع: عن تُوَيلة - بالمثناة الفوقية مصغراً - بنت أسلم قالت:
إنَّا لَبِمَقَامِنا نصلي في بني حارثة، فقال عباد بن قبطي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
استقبل البيتَ الحرامَ والكعبةَ. فتحول الرجالُ مكان النساءِ، والنساءُ مكان الرجالِ؛
فصلوا الركعتين الباقيتين نحو الكعبة. قال الهيثمي:
" رواه الطبراني في " الكبير ". ورجاله موثقون ".
قلت: وعزاه الحافظ في " الفتح "(1/399 و 402) لابن أبي حاتم، وسكت عليه (*) .
فالعهدة عليهما؛ فإني رأيت الحافظ قد ذكره في " الإصابة " في ترجمة تويلة، فقال:
" روى حديثها الطبراني من طريق إبراهيم بن حمزة الزبيري عن إبراهيم بن جعفر
ابن محمود بن محمد بن مسلمة عن أبيه عن جدته أم أبيه تُويَلة بنت أسلم - وهي من
المبايعات - قالت:
…
" فذكر الحديث.
وهذا إسناد رجاله ثقات، غير إبراهيم بن جعفر هذا؛ فإني لم أجد من ذكره، وأظن
أنه في كتاب " الثقات " لابن حبان؛ فإنه عمدة الهيثمي فيمن يوثقه في " المجمع " ممن لا
ذكر لهم في الكتب المشهورة. والله أعلم.
_________
(*) وعزاه الشيخ رحمه الله تعالى في " الصفة " المطبوع (ص 77) للسراج.
..............................................................................
ثم قال الحافظ - بعد أن ساق القطعة الأخيرة من حديث تُويلة -:
" قلت: وتصويره: أن الإمام تحول من مكانه في مقدم المسجد إلى مؤخر المسجد.
لأن من استقبل الكعبة؛ استدبر بيت المقدس. وهو لو دار كما هو في مكانه؛ لم يكن
خلفه مكان يسع الصفوف. ولَمَّا تحول الإمام؛ تحولت الرجال حتى صاروا خلفه، وتحوّلت
النساءُ حتى صِرْنَ خلف الرجالِ.
وهذا يستدعي عملاً كثيراً في الصلاة؛ فيحتمل أن يكون ذلك وقعَ قبل تحريم العمل
الكثير - كما كان قَبْلَ تحريم الكلام -. ويحتمل أن يكون اغْتُفِرَ العملُ المذكور؛ من أجل
المصلحة المذكورة، أو لم تَتَوَالَ الخُطى عند التحول؛ بل وقعت مفرقة. والله أعلم ".
ثم إن هذه القصة التي روتها تويلة هي غير قصة أهل قباء؛ بدليل أن هذه كانت في
بني حارثة، وكانت الصلاة رباعية، وتلك كانت في بني عمرو بن عوف، وهم أهل قباء
وكانت الصلاة ثنائية وهي صلاة الصبح - كما سبق -.
ويشهد لما ذكرنا حديث البراء بن عازب، وهو:
الحديث الخامس: قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [لما قدم المدينة] صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو
سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يُوَجَّهَ إلى الكعبة؛ فأنزل الله: {قَدْ
نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} ؛ فتوجه نحو الكعبة. وقال السفهاء من الناس (وهم
اليهود) : {مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ يَهْدِيْ مَنْ يَشَاءُ
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ} .
فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رجل، ثم خرج بعدما صلى، فمرَّ على قوم من الأنصار في
صلاة العصر نحو بيت المقدس، فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه توجه
نحو الكعبة. فَتَحَرَّفَ القوم حتى توجهوا نحو الكعبة.
..............................................................................
أخرجه البخاري (1/79 - 81 و 399 - 400 و 8/138 - 139) ، - واللفظ له، إلا
الرواية الثانية؛ فهي للترمذي -، ومسلم (2/55 و 66) ، والنسائي (1/85 و 121) ،
والترمذي (2/169 - 170) - وقال: " حسن صحيح " -، وابن ماجه (317) ، والدارقطني
(102)
، والبيهقي (2/2 - 3) ، والطيالسي (98) ، وأحمد (4/283 و 289 و 304) من
طرق عن أبي إسحاق عنه؛ صرح في بعضها بسماعه منه.
فهذا شاهد قوي لرواية تويلة: أن الصلاة كانت صلاة العصر. قال القاضي أبو بكر
ابن العربي في " عارضة الأحوذي شرح الترمذي "(2/139) :
" ووجه الجمع بين اختلاف الرواية في الصبح والعصر: أن الأمر بلغ إلى قوم في
العصر، وبلغ إلى أهل قباء في الصبح ". وذكر مثله الحافظ ابن حجر في " الفتح ".
واعلم أن في هذا الحديث فوائد كثيرة:
منها: أن من كان في صلاة فعلم أنه قد اخطأ القبلة؛ فعليه أن يستدير فيها نحوها، ولو
تكرر ذلك مراراً - كما قال به علماؤنا -، وقال الإمام محمد في " الموطأ " - بعد أن ساق الحديث -:
" وبهذا نأخذ فيمن أخطأ القبلة حتى صلى ركعة أو ركعتين، ثم علم أنه يصلي إلى
غير القبلة؛ فليحرف إلى القبلة، فيصلي ما بقي، ويعتد بما مضى. وهو قول أبي حنيفة
رحمه الله ".
وفيه: جواز تعليم من ليس في الصلاة مَنْ هو فيها. وأن استماع المصلي لكلام من
ليس في الصلاة لا يفسد صلاته. وسيأتي في هذا مثال وأمثلة أخرى في مكان آخر من
الكتاب. وفيه فوائد أخرى ذكرها في " فتح الباري ".
* * *