الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القيام
و" كان صلى الله عليه وسلم يقف فيها قائماً، في الفرض والتطوع (1) ؛ ائتماراً بقوله
تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (2)(البقرة: 238) .
(1) أما قيامه في الفرض؛ فقد سبق ذكر بعض الأحاديث الواردة في ذلك.
وأما قيامه في التطوع؛ ففيه حديث حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت:
ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى سبحته قاعداً قط، حتى كان قبل وفاته بعام؛ فكان
يصلي في سبحته قاعداً، ويقرأ بالسورة، فيرتلها؛ حتى تكون أطولَ مِن أطولَ منها.
أخرجه مالك (1/157) عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد عن المطلب بن أبي
وَداعَةَ السَّهْمِي عنها.
ومن طريق مالك أخرجه مسلم (2/164) ، والنسائي (1/245) ، والترمذي في
" السنن "(1/211 - 212) وفي " الشمائل "(2/99) ، وكذا الإمام محمد في " موطئه "
(ص 112) ، والبيهقي (2/490) ، وأحمد (6/285) ؛ كلهم عنه به.
ثم أخرجه مسلم، وأحمد من طريق معمر عن الزهري به.
ومن اللطائف في هذا الإسناد: أن فيه ثلاثة من الصحابة على نسق واحد يروي
بعضهم عن بعض: السائب، والمطلب، وحفصة. رضي الله عنهم أجمعين.
(2)
أي: خاشعين ذَلِيْلِيْنَ مُسْتَكِيْنِيْنَ بين يديه.
وهذا الأمر مستلزم ترك الكلام في الصلاة؛ لمنافاته إياها. ولهذا لما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم
من الرد على ابن مسعود حين سلم عليه وهو في الصلاة؛ اعتذر إليه بذلك، وقال:
" إن في الصلاة لشغلاً "(*) . كذا في " تفسير ابن كثير ".
_________
(*) متفق عليه. وانظر تخريجه في " صحيح أبي داود "(856) .
..............................................................................
وفي الآية دليل على فرضية القيام في الصلاة على القادر عليه؛ كما يدل على ذلك
الآية التي بعدها: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} . وقد نقل العلماء إجماع الأمة على
هذا؛ سواء كان إماماً أو مأموماً.
واختلفوا في المأموم الصحيح يصلي قاعداً خلف إمام مريض لا يستطيع القيام. قال
القرطبي في تفسيره (3/218) :
" فأجازت ذلك طائفة من أهل العلم، بل جمهورهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الإمام:
" إذا صلى جالساً؛ فصلوا جلوساً أجمعون ". وهذا هو الصحيح في المسألة ".
وسيأتي بيان ذلك قريباً عند الكلام على الحديث الذي ذكره.
وأما القيام في النافلة؛ فقد نقل النووي في " شرح مسلم " إجماع العلماء على جواز
تركه مع القدرة عليه؛ مستدلاً بصلاته صلى الله عليه وسلم جالساً في صلاة الليل - كما يأتي -.
ويدل لذلك أيضاً صلاته صلى الله عليه وسلم النافلة راكباً على الدابة دون الفريضة - كما ذكرنا
بَعْدُ، وسبق تخريجه -.
(فائدة) : قال أبو بكر الجصاص في " أحكام القرآن " عند هذه الآية: {وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ} :
" تضمن إيجاب القيام فيها. ولما كان القنوت اسماً يقع على الطاعة؛ اقتضى أن
يكون جميع أفعال الصلاة طاعة، وألا يتخللها غيرها؛ لأن القنوت هو الدوام على
الشيء، فأفاد ذلك النهي عن الكلام فيها، وعن المشي، وعن الاضطجاع، وعن الأكل
والشرب، وكل فعل ليس بطاعة؛ لما تضمنه اللفظ من الأمر بالدوام على الطاعات التي
هي من أفعال الصلاة، والنهي عن قطعها بالاشتغال بغيرها؛ لما فيه من ترك القنوت
الذي هو الدوام عليها، واقتضى أيضاً الدوام على الخشوع والسكون؛ لأن اللفظ ينطوي
عليه ويقتضيه، فانتظم هذا اللفظ - مع قلة حروفه - جميع أفعال الصلاة، وأذكارها،
وأما في السفر؛ فكان يصلي على راحلته النافلة.
وسَنَّ لأمته أن يصلوا في الخوف الشديد على أقدامهم، أو ركباناً - كما
تقدم -، وذلك قوله تعالى:
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى (1) وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ. فَإِنْ
ومفروضها، ومسنونها، واقتضى النهي عن كل فعل ليس بطاعة فيها. والله الموفق والمعين ".
(1)
هي صلاة العصر على القول الصحيح عند جمهور العلماء؛ منهم: أبو حنيفة
وصاحباه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب:
" شغلونا عن الصلاة الوسطى؛ صلاة العصر، ملأ الله قبورهم (*) وبيوتهم ناراً
…
"
الحديث.
رواه الشيخان وغيرهما عن شُتَير بن شَكَل عنه (**) . وله عنه طرق أخرى.
ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم جمع آخر من الصحابة. وقد ساق أحاديثهم بطرقها الحافظ ابن
كثير في " تفسيره ". فليراجعها من شاء.
وأما قول الإمام محمد عبده في " تفسيره ":
" ولولا أنهم اتفقوا على أنها إحدى الخمس؛ لكان يتبادر إلى فهمي من قوله:
{وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى} : أن المراد بالصلاة الفعل، وبـ (الوسطى) : الفضلى؛ أي: حافظوا
على أفضل أنواع الصلاة؛ وهي الصلاة التي يحضر فيها القلب
…
" إلخ. وقول السيد
رشيد رضا (1/433) :
_________
(*) في أصل الشيخ رحمه الله: " قلوبهم "؛ تبعاً لابن كثير في " تفسيره "، والصواب ما أثبتناه؛
كما في مسلم وغيره.
(**) كذا الأصل، وطريق شتير هذه تفرد بها مسلم، ثم رواه هو والبخاري من طريق عَبِيدة
السَّلمْاني عن علي به.
خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا (1) فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا
تَعْلَمُونَ} (البقرة: 238) .
" ليس عندنا نص صريح في الحديث المرفوع ينافي ما ذكره الأستاذ الإمام في
الصلاة الوسطى؛ فقد قال بعض المحدثين: إن لفظ: " صلاة العصر " في حديث علي
مدرج من تفسير الراوي ".
قلت: فهذا منه مما لا يلتفت إليه بعد ثبوت الأحاديث الكثيرة في أنها صلاة
العصر. (وإذا جاء نهر الله؛ بطل نهر معقل) .
وأما ما أشار إليه السيد من إعلال الحديث بالإدراج؛ فليس بشيء؛ لأمور يطول
الكلام بذكرها، ويكفي في بيان ذلك أن هذا الإدراج إنما قيل بخصوص طريق واحد من
طرق حديث علي؛ وهو طريق شُتَيْرٍ هذا.
وأما بقية طرقه عنه، والطرق الأخرى عن غيره من الصحابة؛ فليس فيها هذا
الإدراج المزعوم، ومن طرقه في " المسند " (رقم 1313) من طريق عبيدة قال:
كنا نرى أن صلاة الوسطى صلاة الصبح. قال: فحدثنا عليٌّ أنهم يوم الأحزاب
اقتتلوا، وحبسونا عن صلاة العصر؛ فقال صلى الله عليه وسلم:
" اللهم! املأ قبورهم ناراً - أو: املأ بطونهم ناراً -؛ كما حبسونا عن صلاة
الوسطى ". قال: فعرفنا يومئذٍ أن صلاة الوسطى صلاة العصر.
فهذا نص في إبطال الإدراج المزعوم - كما لا يخفى -، ومن شاء الوقوف على طرق
حديث علي الأخرى المصرحة برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلينظر " المسند " رقم: (990
و994 و 1036 و 1132 و 1134 و 1150 و 1151 و 1287 و 13050 و 13070 و 13130
و13260) .
(1)
أي: فصلّوا رجالاً أو ركباناً. قال القرطبي:
و " صلّى صلى الله عليه وسلم في مرضِ موته جالساً "(1) .
" والرِّجَالُ: جمع راجل أو رَجل؛ من قولهم: رَجَلَ الإنسان يَرْجَل رَجلاً؛ إذا عدم
الركوب ومشى على قدميه؛ فهو رَجِل وراجل ورجُل
…
". ثم قال:
" قال أبو حنيفة: إن القتال يفسد الصلاة. وحديث ابن عمر يرد عليه، وظاهر الآية
أقوى دليل عليه
…
قال الشافعي: لما رخص تبارك وتعالى في جواز ترك بعض الأركان؛
دلَّ ذلك على أن القتال في الصلاة لا يفسدها ".
(1)
أخرجه الترمذي (2/196) ، والطحاوي (1/236) ، وأحمد (6/159) من
حديث شَبَابَة بن سَوَّار: نا شعبة عن نعيم ابن أبي هند عن أبي وائل عن مسروق عن
عائشة قالت:
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، خلف أبي بكر قاعداً في مرضه الذي مات فيه.
وقال الترمذي:
" حديث حسن صحيح غريب ".
قلت: وهو على شرط مسلم.
وقد أخرجه النسائي (1/127) ، وأحمد أيضاً من حديث بكر بن عيسى - صاحب
البصري - قال: سمعت شعبة به نحوه، وليس فيه: قاعداً.
وله شاهد من حديث أنس:
أخرجه الترمذي أيضاً (2/197 - 198) ، والطحاوي (1/236) ، وأحمد
(3/243) من طرق عن حميد عن ثابت - قال: ثني ثابت البناني - عن أنس بن مالك
قال:
..............................................................................
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه خلف أبي بكر قاعداً في ثوبٍ متوشحاً به. زاد
الطحاوي:
فكانت آخر صلاة صلاها. وقال الترمذي:
" حسن صحيح ".
قلت: وهو على شرط الشيخين.
وقد أخرجه النسائي (1/127) ، وأحمد (13/159 و 233 و 243) من طرق عن
أنس؛ فلم يذكر فيه ثابتاً. قال الترمذي:
" والرواية الأولى أصح ".
قلت: وحديث عائشة في البخاري (2/122 و 132 و 137 - 138) ، ومسلم (2/20
- 24) ، والنسائي (1/133 - 134) ، والدارمي (1/287) ، وابن ماجه (1/371 - 373)
والدارقطني (152) ، والطحاوي أيضاً، والبيهقي (2/304) ، وأحمد (6/224 و 249
و251) من طرق عنها بلفظ:
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس جالساً، وأبو بكر قائماً يقتدي أبو بكر بصلاة
النبي صلى الله عليه وسلم، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر.
ففي هذه الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إماماً بخلاف الأولى؛ ففيها أنه كان مقتدياً،
وقد اختلف العلماء في التوفيق بين الروايات على وجوه ذكرها الحافظ في " الفتح "؛ أَوْلاها
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاتين في المسجد؛ كان في إحداهما مأموماً، وفي الأخرى
إماماً. وإليه ذهب ابن حزم في " المحلى "(3/47) ، والبيهقي، وقبله ابن حبان، وقد
ذكر الزيلعي في " نصب الراية "(2/44 - 48) أقوالهما في ذلك؛ فارجع إليه إن
شئت.
وصلاها كذلكَ مرةً أخرى قبل هذه؛ حينَ " اشتكى، وصلّى الناسُ
وراءَهُ قياماً؛ فأشارَ إليهم أنِ اجْلِسُوا؛ فجلسوا، فلما انصرفَ؛ قال:
" إن كِدْتُم آنفاً لتفعلون فِعْلَ فارسَ والروم: يقومون على مُلوكهم وهم
قُعود، فلا تفعلوا؛ إنما جُعِلَ الإمامُ ليُؤْتَمَّ به؛ فإذا ركع؛ فاركعوا، وإذا رفع؛
فارفعوا، وإذا صلى جالساً؛ فصلُّوا جلوساً [أجمعون]" "(1) .
(1) أخرجه البخاري (2/138 و 467) ، ومسلم (2/19) ، ومالك (1/155) ، وأبو
داود (1/99) ، وابن ماجه (1/374) ، والطحاوي (1/235) ، والبيهقي (2/204
و261) ، وأحمد (6/51 و 57 و 68 و 148 و 194) من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه
عن عائشة قالت:
اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه، فصلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم جالساً، فصلوا بصلاته قياماً، فأشار إليهم: أن اجلسوا
…
إلخ الحديث.
وقد جاءت هذه القصة من حديث أنس أيضاً.
أخرجه الشيخان، ومالك، ومن طريقه محمد في " الموطأ "(113) ، وكذا الدارمي
(1/286) ، وأحمد، والترمذي (2/194) ، والنسائي (1/128 و 164) ، وسائر الذين
أخرجوا الحديث الأول؛ رووه من طرق عن الزهري قال: سمعت أنس بن مالك يقول:
سقط النبي صلى الله عليه وسلم عن فرس، فَجُحِش شقه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده، فحضرت
الصلاة، فصلى بنا قاعداً، فصلينا وراءه قعوداً، فلما قضى الصلاة؛ قال:
" إنما جعل الإمام ليؤتم به
…
" الحديث. وزاد في آخره:
" أجمعون ".
وله في " المسند "(3/200) طريق آخر، وكذا الطحاوي.
..............................................................................
ومن حديث جابر قال:
اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يُسمع الناس تكبيرَه،
فالتفت إلينا؛ فرآنا قياماً، فأشار إلينا؛ فقعدنا فصلينا بصلاته قعوداً، فلما سلم؛ قال:
" إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم؛ يقومون على ملوكهم وهم قعود! فلا
تفعلوا؛ ائتموا بأئمتكم: إن صلى قائماً؛ فصلوا قياماً، وإن صلى قاعداً؛ فصلوا قعوداً ".
أخرجه مسلم (2/19) ، والنسائي (1/178) ، وابن ماجه (1/375) ، والبيهقي
(2/261) ، وأحمد (3/334) من طريق الليث بن سعد عن أبي الزبير عنه.
وأخرجه مسلم، والنسائي (1/128) ، والطحاوي (1/234) من طريق عبد الرحمن
ابن حميد الرؤاسي عن أبي الزبير نحوه.
وفيه أن الصلاة صلاة الظهر.
وله طريق ثان: أخرجه أبو داود (1/99) ، والدارقطني (162) ، وأحمد (3/300)
عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال:
صُرِعَ النبي صلى الله عليه وسلم من فرس على جذع نخلة فانفكَّت قدمُه؛ فدخلنا عليه نعوده
…
الحديث بنحوه.
وهذا سند صحيح على شرط مسلم.
وله طريق ثالث: أخرجه أحمد (3/395) عن سالم بن أبي الجعد عن جابر
نحوه.
وسنده صحيح على شرط مسلم.
{والحديث مخرج في كتابي " إرواء الغليل " تحت الحديث (394) } .
واعلم أَن في هذه الأحاديث دلالة على أن الإمام إذا صلى جالساً لمرض به؛
..............................................................................
صلى مَن وراءه جالسين؛ ولو كانوا قادرين على القيام، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم
جعل اتباع الإمام في الجلوس من طاعة الأئمة الواجبة بكتاب الله تعالى، كما
قال صلى الله عليه وسلم:
" من أطاعني؛ فقد أطاع الله، ومن عصاني؛ فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير؛
فقد أطاعني، ومن عصى الأمير؛ فقد عصاني، إنما الإمام جنة، فإن صلى قاعداً؛ فصلوا
قعوداً، وإذا قال: سمع الله لمن حمده؛ فقولوا: اللهم ربنا! ولك الحمد. فإذا وافق قول
أهل الأرض قولَ أهل السماء؛ غفر له ما مضى من ذنبه ".
أخرجه الطيالسي (336) ، ومن طريقه الطحاوي (1/235) ، و {أبو عوانة [2/109] } ،
وأحمد (2/386 - 387 و 416 و 467) - واللفظ له -، من طرق عن يعلى بن عطاء قال:
سمعت أبا علقمة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
…
به.
وهذا سند صحيح على شرط مسلم. وأبو علقمة هذا - هو: المصري مولى بني هاشم -:
لا يعرف إلا بكنيته (*) ، وهو ثقة - كما في " التقريب " -.
وله شاهد من حديث ابن عمر:
أخرجه الطحاوي، وأحمد (2/93) ، والطبراني في " الكبير "، وأبو يعلى، وعن
الثلاثة المقدسي في " المختارة "، وأبو حاتم البستي عن أبي يعلى وحده من طرق عن عقبة
ابن أبي الصهباء قال: سمعت سالماً يقول: ثني عبد الله بن عمر:
أنه كان يوماً من الأيام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في نفر من أصحابه فقال لهم:
" ألستم تعلمون أني رسول الله إليكم؟ ". فقالوا: بلى؛ نشهد أنك رسول الله. قال:
" أفلستم تعلمون [أن] الله قد أنزل في كتابه أن من أطاعني؛ فقد أطاع الله؟ ".
_________
(*) في الأصل: (باسمه) ، والصواب ما أثبتنا.
..............................................................................
قالوا: بلى؛ نشهد أنه من أطاعك؛ فقد أطاع الله. قال:
" فإن من طاعة الله أن تطيعوني، وإن من طاعتي أن تطيعوا أئمتكم، فان صلوا
قعوداً؛ فصلوا قعوداً أجمعين ".
وهذا إسناد صحيح أيضاً. قال الترمذي - بعد أن ساق حديث أنس المذكور آنفاً -:
" وقد ذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الحديث؛ منهم: جابر بن عبد الله،
وأُسَيد بن حُضير، وأبو هريرة، وغيرهم. وبهذا الحديث يقول أحمد وإسحاق ". قال
الحافظ (2/140) :
" وقد قال بقول أحمد جماعة من محدثي الشافعية؛ كابن خزيمة، وابن المنذر، وابن
حبان ". اهـ.
وقد نقل الزيلعي في " نصب الراية "(2/49) كلام ابن حبان في ذلك، وهاك
نصَّه:
" قال في " صحيحه ": وفي هذا الخبر بيان واضح أن الإمام إذا صلى قاعداً؛ كان
على المأمومين أن يصلوا قعوداً. وأفتى به من الصحابة: جابر بن عبد الله، وأبو هريرة،
وأسيد بن حضير، وقيس بن قَهْد (بفتح القاف وسكون الهاء) . ولم يُروَعن غيرهم من
الصحابة خلاف هذا بإسناد متصل ولا منقطع؛ فكان إجماعاً، والإجماع عندنا إجماع
الصحابة. وقد أفتى به من التابعين جابر بن زيد، ولم يُروَ عن غيرهِ من التابعين خلافه
بإسناد صحيح ولا واهٍ؛ فكان إجماعاً من التابعين أيضاً. وأول من أبطل ذلك في الأمة
المغيرة بن مِقْسَم، وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان، ثم أخذه عن حماد أبو حنيفة، ثم
عنه أصحابه. وأعلى حديث احتجوا به حديث رواه جابر الجعفي عن الشعبي: قال
عليه الصلاة والسلام:
..............................................................................
" لا يَؤُمَّنَّ أحد بعدي جالساً ".
وهذا لو صح إسناده؛ لكان مرسلاً، والمرسل عندنا وما لم يُروَ سيان، لأنا لو قبلنا
إرسال تابعي - وإن كان ثقة -؛ لَلَزِمَنَا قبول مثله عن أتباع التابعين، وإذا قبلنا؛ لَزِمَنَا قبوله
من أتباع أتباع التابعين، ويؤدي ذلك إليه أن يقبل من كل أحد إذا قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم!
وفي هذا نقض الشريعة، والعجب أن أبا حنيفة يجرح جابراً الجعفي ويكذبه، ثم لما
اضطره الأمر؛ جعل يحتج بحديثه. وذلك كما أخبرنا به ".
قلت: فساق إسناده إلى أبي يحيى الحماني: " سمعت أبا حنيفة يقول:
ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء، ولا لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر
الجعفي؛ وما أتيته بشيء من رأي قط إلا جاءني فيه بحديث ". اهـ. ما في " نصب
الراية " ببعض اختصار.
وحديث جابر هذا أخرجه الإمام محمد في " الموطأ "(113) ، واحتج به على نسخ
قوله عليه الصلاة والسلام:
" إذا صلى الإمام جالساً؛ فصلوا جلوساً أجمعين ". وقد علمت ما فيه.
وقد احتجوا بحجة أخرى على النسخ؛ وهي ما تقدم من صلاته في مرض موته
بالناس قاعداً وهم قائمون خلفه، ولم يأمرهم بالقعود. قال الحافظ:
" وأنكر أحمد نسخ الأمر المذكور بذلك، وجمع بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين:
إحداهما: إذا ابتدأ الإمام الراتب الصلاة قاعداً لمرض يرجى برؤه؛ فحينئذٍ يصلون
خلفه قعوداً.
ثانيهما: إذا ابتدأ الإمام الراتب قائماً؛ لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قياماً، سواء طرأ
..............................................................................
ما يقتضي صلاة إمامهم قاعداً أم لا؛ كما في الأحاديث التي في مرض موت
النبي صلى الله عليه وسلم، فان تقريره لهم على القيام دل على أنه لا يلزمهم الجلوس في تلك الحالة؛
لأن أبا بكر ابتدأ بالصلاة بهم قائماً، فصلوا معه قياماً؛ بخلاف الحالة الأولى؛ فإنه صلى الله عليه وسلم
ابتدأ الصلاة جالساً، فلما صلوا خلفه قياماً؛ أنكر عليهم.
ويقوي هذا الجمعَ أن الأصل عدم النسخ؛ لا سيما وهو في هذه الحالة يستلزم دعوى
النسخ مرتين؛ لأن الأصل في حكم القادر على القيام أن لا يصلي قاعداً، وقد نسخ إلى
القعود في حق من صلى إمامه قاعداً، فدعوى نسخ القعود بعد ذلك يقتضي وقوع النسخ
مرتين، وهو بعيد ". اهـ.
وللمانعين لدعوى النسخ أجوبة كثيرة تراجع في المطولات، وقد لخصها المحقق
السندي في " حاشيته على البخاري "، ثم قال:
" ومما يدل على بقاء الحكم المذكور: أنه قد جعل قعود المقتدي عند قعود الإمام من
جملة الاقتداء بالإمام، والإجماع على بقاء الاقتداء به؛ فالظاهر بقاء ما هو من جملة
الاقتداء. وكذا يدل على بقاء الحكم: أنه قد عَلّلَ في بعض الروايات حكم القعود؛ بأن
القيام عند قعود الإمام من أفعال أهل فارس بعظمائها - يعني: أنه يشبه تعظيم المخلوق
فيما وُضعَ لتعظيم الخالق من الصلاة -، ولا يخفى بقاء هذه العلة، والأصل بقاء الحكم
عند دوام العلة.
وللطرفين ها هنا كلمات، وما ذكرنا فيه كفاية في بيان أن دعوى النسخ لا يخلو عن
نظر ". اهـ.
ويَرُدُّ هذه الدعوى أيضاً حديثا أبي هريرة وابن عمر المُصَدَّرُ بهما هذا البحث؛ فقد
جعل صلى الله عليه وسلم الصلاة وراء الإمام الجالس جلوساً من طاعة الأئمة، التي هي من
طاعته صلى الله عليه وسلم، وغير معقول أن ينسخ شيء منها. والله أعلم.