الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نَسْخُ القراءة ِوراءَ الإمام في الجهرية
وكان صلى الله عليه وسلم قد أجاز للمؤتمين أن يقرؤوا بها وراء الإمام في الصلاة
الجهرية؛ حيث كان في صلاة الفجر، فقرأ، فثقلت عليه القراءة، فلما
فرغ؛ قال:
" لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ ". قلنا: نعم؛ هذّاً (1) يا رسول الله! قال:
" لا تفعلوا؛ إلا [أن يقرأ أحدكم] بـ: {فاتحة الكتاب} ؛ فإنه لا صلاة
لمن لم يقرأ بها " (2) .
(1) بتشديد الذّال وتنوينها. قال الخطابي (1/205) :
" والهذّ: سرد القراءة، ومداركتها في سرعة واستعجال ".
(2)
هذا حديث صحيح.
أخرجه البخاري في " جزء القراءة "(7 و 22) ، وأبو داود (1/131) ، والترمذي
(2/116 - 117) ، والطحاوي (1/127) ، والدارقطني (120) ، والحاكم (1/238) ،
والطبراني في " الصغير "(134) ، والبيهقي (2/164) ، وأحمد (5/313 و 316 و 322) ،
وابن حزم في " المحلى "(3/236) من طرق عن محمد بن إسحاق عن مكحول عن
محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال:
كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر؛ فقرأ
…
الحديث.
وهذا إسناد جيد لا مطعن فيه - كما قال الخطابي في " المعالم "(1/205) -؛ فقد
صرح ابن إسحاق بالتحديث في رواية لأحمد، والدارقطني وقال:
" هذا إسناد حسن ". وأعله البيهقي. وقال الترمذي:
" حديث حسن ". والحاكم:
..............................................................................
" إسناده مستقيم "(1) .
وقال الحافظ في " نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار " - بعد أن ساقه بإسناده
المتصل إلى أحمد، والبخاري عن ابن إسحاق به -:
" هذا حديث حسن ". وكذا قال النووي في " المجموع "(3/363) ، وقال في " تهذيب
الأسماء " (2/180) :
" حديث صحيح ". كما في " إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام "(189) . قال:
" وأخرجه ابن خزيمة في " صحيحه "، ولم يتفرد به محمد بن إسحاق، بل تابعه
عليه زيد بن واقد؛ أحد الثقات من أهل الشام ".
قلت: لكن خالفه في الإسناد؛ فقال: عن مكحول عن نافع بن محمود بن الربيع:
أنه سمع عبادة بن الصامت. ولم يقل: عن محمود بن الربيع - كما في رواية ابن
إسحاق -. قال البيهقي:
" فكأنه سمعه منهما جميعاً ".
أخرجه الدارقطني (121) ، وعنه البيهقي (2/165) من طريق محمد بن المبارك
الصوري: ثنا صدقة بن خالد: ثنا زيد بن واقد عن حرام بن حكيم ومكحول عن نافع
ابن محمود بن الربيع - كذا قال -: أنه سمع عبادة بن الصامت به نحوه.
وكذا رواه البخاري في " جزئه "(7) وفي " أفعال العباد "(92) ، والبيهقي من طريق
هشام بن عمار: نا صدقة بن خالد به.
_________
(1)
قال الحافظ في " التلخيص "(3/311) :
" رواه أحمد، والبخاري في " جزء القراءة " - وصححه أبو داود -، والترمذي، والدارقطني، وابن
حبان
…
" إلخ.
..............................................................................
ووقع في النسخة المطبوعة من " جزء البخاري " سقط وتحريف؛ كما يتبين من
مقابلته بما نقله الحافظ في " النتائج " عن البخاري.
وكذلك رواه النسائي (1/146) عن هشام، لكن ليس فيه ذكر مكحول.
وعَكَسَ أبو داود، فرواه من طريق الهيثم بن حميد: أخبرني زيد بن واقد عن
مكحول عن نافع ابن محمود به. فلم يذكر فيه حرام بن حكيم.
وكذلك رواه الدارقطني، والبيهقي من طريق أبي داود. وفيه اختلاف آخر على
مكحول، ذكره الدارقطني، والبيهقي. ثم قال الدارقطني:
" هذا إسناد حسن، ورجاله ثقات كلهم ". وقال البيهقي:
" والحديث صحيح عن عبادة بن الصامت، وله شواهد ". وتعقبهما ابن التركماني بقوله:
" قلت: نافع بن محمود لم يذكره البخاري في " تاريخه "، ولا ابن أبي حاتم، ولا
أخرج له الشيخان. وقال أبو عمر: مجهول. وقال الطحاوي: لا يعرف. فكيف يصح أن
يكون سنده حسناً ورجاله ثقاتاً؟! ".
قلت: ومن شواهده التي تقويه، وتأخذ بعضده: ما أخرجه البخاري (7) ،
والبيهقي (2/166) ، وأحمد (4/236 و 5/60 و 81 و 410) من طريقين عن خالد الحَذَّاء
عن أبي قِلابة عن محمد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
" لعلكم تقرؤون، والإمام يقرأ؟ ". قالوا: إنا لنفعل. قال:
" فلا تفعلوا؛ إلا أن يقرأ أحدكم بـ: {فاتحة الكتاب} ".
وهذا إسناد صحيح عندي؛ فإن رجاله كلهم ثقات رجال مسلم. وقال البيهقي:
" إسناد جيد ". والحافظ (3/312) :
..............................................................................
" إسناده حسن ".
ورواه ابن حبان من طريق أيوب عن أبي قِلابة عن أنس. وزعم أن الطريقين
محفوظان. وخالفه البيهقي؛ فقال:
" إن طريق أبي قلابة عن أنس ليست بمحفوظة ". اهـ.
زاد في " النتائج ":
" وهكذا قال غيره ". وقد أخرجه من هذه الطريق: البخاري (22) ، والطحاوي
(1/128) ، والدارقطني (129) ، وأبو يعلى في " مسنده "، ومن طريقه رواه ابن حبان في
" صحيحه "، والطبراني في " الأوسط "، والبيهقي؛ كلهم عن عبيد الله بن عمرو الرَّقِّي
عن أيوب به. وقال البيهقي:
" تفرد بروايته عن أنس عبيدُ الله بنُ عمرو، وهو ثقة؛ إلا أن هذا إنما يعرف عن أبي
قلابة عن محمد بن أبي عائشة ".
ومن الشواهد: ما أخرجه أحمد (5/308) : ثنا يزيد بن هارون: أنا سليمان - يعني:
التيمي - قال: حُدِّثْتُ عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" تقرؤون خلفي؟ ". قالوا: نعم. قال:
" فلا تفعلوا؛ إلا بـ: {أم الكتاب} ".
ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي أيضاً (2/166) .
ورجاله رجال الستة، غير الذي حدث التيمي؛ فهو مجهول؛ ولذا قال البيهقي:
" وهو مرسل ".
وعن عبد الله بن عمر نحوه.
أخرجه البزار، والطبراني في " الكبير ". قال الهيثمي (2/110) :
..............................................................................
" وفيه مَسْلَمَة بن علي، وهو ضعيف ".
وبالجملة؛ فالحديث صحيح بمجموع هذه الطرق، حسن من طريق ابن إسحاق.
واضطراب من تابعه فيه لا يضر في روايته - كما لا يخفى -.
فالحديث حجة في القراءة خلف الإمام في الجهرية، ولكنه لا يدل على الوجوب؛
بل على الإباحة - كما يأتي بيانه قريباً -.
قال الخطابي في " المعالم "(1/205) :
" هذا الحديث نص بأن قراءة {فاتحة الكتاب} واجبة على من صلى خلف
الإمام، سواء جهر الإمام بالقراءة، أو خافت بها ". ثم قال (206) :
" وقد اختلف العلماء في هذه المسألة؛ فروي عن جماعة من الصحابة أنهم أوجبوا
القراءة خلف الإمام. وروي عن آخرين أنهم كانوا لا يقرؤون. وافترق الفقهاء فيها على
ثلاثة أقاويل: فكان مكحول والأوزاعي والشافعي وأبو ثور يقولون: لا بد من أن يقرأ
خلف الإمام فيما يجهر به، وفيما لا يجهر. وقال الزهري ومالك وابن المبارك وأحمد بن
حنبل وإسحاق: يقرأ فيما أسر الإمام فيه، ولا يقرأ فيما جهر به (1) . وقال سفيان الثوري
وأصحاب الرأي: لا يقرأ أحد خلف الإمام؛ جَهَرَ الإمام أو أَسَرَّ. واحتجوا بحديث رواه
عبد الله بن شداد مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" من كان له إمام؛ فقراءة الإمام له قراءة " ". انتهى.
_________
(1)
{ (فائدة) : وقد ذهب إلى مشروعية القراءة خلف الإمام في السرية دون الجهرية الإمامُ
الشافعي في القديم، ومحمدٌ تلميذ أبي حنيفة في رواية عنه اختارها الشيخ علي القاري وبعض
مشايخ المذهب، وهو قول الإمام الزهري، ومالك، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وجماعة من
المحدثين وغيرهم، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية} .
..............................................................................
قلت: وهذا الحديث المرسل صحيح - كما سيأتي -؛ ولكنه لا يدل على المنع من
القراءة كما صنع علماؤنا! وإنما يدل على أن قراءة الإمام تغني عن قراءة المؤتم، بحيث إنه
لو لم يقرأ؛ جازت صلاته. وأما حكم قراءته هو؛ فإنما يؤخذ من أحاديث أخرى.
وأعدل هذه المذاهب الثلاثة، وأقربها إلى الصواب: أوسطها، وهو قول الإمام
الشافعي رحمه الله في القديم - كما في " المهذب " و " شرحه "(3/313 - 314) وغيرهما -.
وليس مع القائلين بالوجوب دليل؛ إلا هذا الحديث، وإلا حديث عبادة بن الصامت:
" لا صلاة لمن لم يقرأ بـ: {فاتحة الكتاب} ". وقد مضى.
وفي الاستدلال على ذلك بهذا الحديث الذي نحن بصدده نظر بيِّن؛ وذلك لأنه
قد تقرر في كتب الأصول: أن الاستثناء من حكم يدل على نقيضه فحسب، ولا دلالة
له على زيادة حكم. فقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تفعلوا "؛ نهي عن القراءة خلف الإمام في الجهرية،
واستثناؤه قراءة {الفَاتِحَة} يدل على عدم النهي عن قراءة {الفَاتِحَة} ، يعني: عدم
كراهتها وحرمتِها. ولا دلالة فيه بوجه من الوجوه على ركنية {الفَاتِحَة} أو وجوبها، فإن
ثبت بدليل آخر؛ فذاك، وإلا؛ فلا دلالة فيه على ما راموا منه من إثبات الوجوب أو
الركنية. قال بعض المتأخرين من المحققين الحنفيين:
" ونظيره: قوله تعالى: {لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا} ؛ فنهى الله عز
وجل عن تصريح المواعدة في العِدَّة، واستثنى منه التعريض والكناية. فالتعريض
والكناية بالاستثناء لم يبق حراماً؛ لا أنه صار فرضاً أو واجباً، ولا يبعد أن يكون قريباً
من الكراهة.
قال تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} ؛
فهل هذا الإغماض والمسامحة واجب عند أحد؟! إنما هو إغضاء على القذى وسحب
الذيل على الأذى.
..............................................................................
فثبت من هذا الاستثناء: أن الاستثناء بعد النهي لا يفيد الوجوب والركنية، وإنما
يفيد الإباحة؛ لا سيما إذا وردت هذه الإباحة على سببٍ حادثٍ؛ لا ابتداءً؛ فلا يبقى
ريبة في أنها إباحة مرجوحة غير مستحسنة ولا مرضية، ويدل على ذلك:
ما رواه ابن أبي شيبة مرسلاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه:
" هل تقرؤون خلف إمامكم؟ ". قال بعض: نعم. وقال بعض: لا. فقال:
" إن كنتم لا بدَّ فاعلين؛ فليقرأ أحدكم بـ: {فاتحة الكتاب} في نفسه ".
فمن قال: لا؛ لم يأمره بالإعادة. ثم قال: " إن كنتم فاعلين " - ووزانه وزان قول الله
عز وجل: {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} -، ثم قال:
" فليقرأ أحدكم "؛ فلفظُ: " أحدكم "، لغير الاستغراق.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم:
" فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن "؛ فهو بيان وصف في {الفَاتِحَة} ، وأنها من
وصفها كذا، لا حكم به الآن ها هنا، والوصف لا يستلزم الحكم ما لم يحكم، ولم
يحكم إلا بالإباحة.
نعم؛ يكون حكماً سابقاً، وهو إذن لغير المقتدي، ثم سبق هنا ثانياً لغير المقتدي
على أنه بيان وصف في {الفَاتِحَة} ، فجعلوه حكماً الآن، وليس كما ينبغي! وهو كقولنا
لابن سَبْعٍ: صلِّ؛ فإنه لا دين لمن لا صلاة له. فالصلاة ليست بواجبة على ابن سبع
بالإجماع؛ ولكن علله بقوله: فإنه لا دين لمن لا صلاة له. يعني: لما كان شأن الصلاة هكذا
- بأنه لا دين لمن لا صلاة له -؛ صح أن يقال لابن سبع: صل. من غير وجوب ولا افتراض.
فكذا قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تفعلوا إلا بـ: {أم القرآن} ؛ حكم بالإباحة، ثم علل
لاستثناء {الفَاتِحَة} بقوله:
..............................................................................
" فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها "، يعني: لما كان شأن {الفَاتِحَة} هكذا - وهو أنه لا
صلاة إلا بها -؛ صح استثناؤها من النهي، ولعل ضمير الشأن في قوله: " فإنه لا
صلاة
…
". إلخ. أليق بهذا " اهـ. كلام هذا المحقق.
وهو غاية في التحقيق، لا يدع مجالاً لأحد بعد هذا البيان أن يحتج به على الوجوب.
ولذلك؛ فقد تنبه لهذا المعنى الصحيح المحقِّقُ السندي، فقال:
" ظاهر هذه الرواية إباحة القراءة بـ: {الفَاتِحَة} ، ولو جهر الإمام. فلعل من يمنع عنها
يقول: إن النهي مقدم على الإباحة عند التعارض. ولا يخفى أن المعارضة حال السر
مفقودة؛ فالمنع حينئذٍ غير ظاهر؛ ولهذا مال محمد وبعض المشايخ وغيرهم إلى قراءة
{الفَاتِحَة} حال السر، ورجحه علي القاري في " شرح موطأ محمد "، ورأى أنه
الأحوط ". اهـ.
وإذ ثبت أن الحديث لا يدل على الوجوب - بل على الإباحة؛ بل الإباحة المرجوحة -؛
دل هو بعد ذلك على أن حديث عبادة - وهو حجتهم الثانية والأخيرة على الوجوب - لا يشمل
المقتدي؛ بل هو خاص بغيره - الإمام والمنفرد -؛ لأنه قد استثنى المؤتم من إيجاب {الفَاتِحَة}
عليه؛ مع الرخصة له بقراءتها، وإنما يبقى النظر في هذه الرخصة؛ هل ظلت باقية أم ارتفعت؟
والظاهر لنا أنها ارتفعت؛ بدليل الحديث الذي بعد هذا في الكتاب، ونحن وإن كنا
نعترف أنه لا نص لدينا يدل على أنه متأخر الورود عن هذا الحديث الذي نحن بصدد
التعليق عليه؛ فإن النظر الصحيح، والرأي الرجيح يقتضي ذلك؛ لأنه ليس من المعقول
أن يكون عليه الصلاة والسلام نهى الصحابة عن القراءة وراءه في ابتداء الأمر، ثم
يخالفونه؛ فيقرؤون وراءه {الفَاتِحَة} وغيرها! هذا بعيد جداً أن يصدر من الصحابة،
وهم يتلون قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
..............................................................................
فثبت بذلك أن النهي كان بعد الرخصة، ولعل هذا هو وجه قول علمائنا بنسخ هذا
الحديث - وإن كنت لم أقف على شيء من كلامهم في توجيه نسخه -، ويكون عليه
الصلاة والسلام قد تدرج في النهي، ولم يفاجئهم بذلك؛ فنهاهم أولاً عن القراءة وراءه
إلا بـ: {الفَاتِحَة} ، ثم نهاهم عن القراءة كلها، وذلك بمقتضى قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ
القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . قال الشافعي في القديم:
" فهذا عندنا على القراءة التي تسمع خاصة ". ويؤيد ذلك سبب نزول الآية؛ كما
قال مجاهد:
كان رسول الله يقرأ في الصلاة، فسمع قراءة فتى من الأنصار؛ فنزلت: {وَإِذَا قُرِئَ
القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} .
أخرجه البيهقي (2/155) وغيره.
وقد قيل في سبب نزولها غير ذلك من الأقوال، ولكن ما ذكرنا أرجحُها؛ كما بينه
أبو الحسنات اللكنوي في " إمام الكلام "(ص 77 - 101) . وقد بسط القول في هذا
الكتاب على هذا الحديث تخريجاً، وتحقيقاً لفقهه، مع إنصاف؛ بما لا تجده في كتاب.
فراجعه (187 - 211) .
وقد استفدنا منه بعض ما ذكرنا في هذا البحث. ومثله في التحقيق من الناحية
الفقهية العلامة الشيخ محمد أنور الكشميري في كتابه " فيض الباري على صحيح
البخاري " (2/271 - 280) ، ولولا أن يطول البحث؛ لنقلت كلامه؛ فإنه غاية في
التحقيق، وفيه شيء جديد لا تراه في الكتب المعروفة، لكن فيما ذكرناه عن ذلك
المحقق كفاية، وكلامه كان خلاصة كلام الكشميري هذا، وأظنه هو الكشميري نفسه،
لكني وجدت كلامه معلقاً عندي في بعض التعليقات منسوباً إليه غير مسمى، ولا
أذكر الآن مصدره، وغالب ظني أنه في كتابه هذا المذكور. والله أعلم.
ثم نهاهم صلى الله عليه وسلم عن القراءة كلها في الجهرية، وذلك حينما " انصرف من
صلاةٍ جهرَ فيها بالقراءة (وفي رواية: أنها صلاة الصبح)، فقال:
" هل قرأ معي منكم أحد آنفاً؟! ".
فقال رجل: نعم؛ أنا يا رسول الله! فقال:
" إني أقول: ما لي أُنازَع (1) ؟! ".
[قال أبو هريرة:] فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر
فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، [وقرؤوا
في أنفسهم سرّاً فيما لا يجهر فيه الإمام] (*) " (2) .
وأما المذاهب الأخرى؛ فيأتي قريباً ذكر أدلتها.
(1)
قال الخطابي:
" معناه: أُدَاخَلُ في القراءة وأُغَالَبُ عليها. وقد تكون المنازعة بمعنى المشاركة
والمناوبة؛ ومنه منازعة الناس في النِّدام ".
قلت: والأنسب في هذا المقام: المعنى الآخر، وهو المشاركة؛ بدليل انتهائهم عن
القراءة. ولو كانوا فهموا أنه المعنى الأول؛ لانتهوا عن المداخلة فقط.
(*) الزيادتان من " صفة الصلاة " المطبوع (ص 99) .
(2)
هو من حديث ابن شهاب الزهري عن ابن أُكيْمة عن أبي هريرة رضي الله
عنه.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف
…
الحديث.
أخرجه عنه مالك (1/108) ، ومن طريقه محمد في " موطئه "(90 - 91) ،
والبخاري في " جزئه "(22) ، وأبو داود (1/131) ، والنسائي (1/146) ، والترمذي
..............................................................................
(2/118) ، والطحاوي (1/127) ، والبيهقي (2/157) ؛ كلهم عن مالك به.
وكذا هو في " المسند "(2/301) .
ثم أخرجه هو (2/284) ، وأبو داود، وابن ماجه (1/279) ، والبيهقي من طريق
معمر عن الزهري قال: سمعت ابن أكيمة به.
وفي رواية لأبي داود: قال معمر عن الزهري: قال أبو هريرة: فانتهى الناس
…
إلخ.
ثم أخرجه {الحميدي [رقم 953] } ، وأبو داود، وابن ماجه، والبيهقي، وأحمد
(2/240) من طريق سفيان بن عيينة: ثنا الزهري - حفظته من فِيْهِ - قال: سمعت ابن
أكيمة يحدث سعيدَ بن المسيب قال: سمعت أبا هريرة به دون قوله: فانتهى الناس. قال
سفيان: وتكلم الزهري بكلمة لم أسمعها. فقال معمر: إنه قال: فانتهى الناس.
ثم أخرجه أحمد (2/285) عن ابن جريج، و (2/487) عن عبد الرحمن بن
إسحاق؛ كلاهما عن الزهري به دون هذه الكلمة.
ثم أخرجه الطحاوي، والبيهقي، من طريق الأوزاعي: ثني الزهري عن سعيد بن
المسيب: أنه سمع أبا هريرة يقول:
…
فذكره بلفظ: قال الزهري: فاتعظ المسلمون
بذلك؛ فلم يكونوا يقرؤون. هكذا قال الأوزاعي: عن سعيد. قال البيهقي:
" حفظ الأوزاعي كون هذا الكلام من قول الزهري؛ فَفَصَلَهُ عن الحديث، إلا أنه لم
يحفظ إسناده. والصواب ما رواه ابن عيينة عن الزهري قال: سمعت ابن أكيمة يحدث
سعيد بن المسيب. وكذلك قاله يونُس بن يزيدَ الأَيْلي ". اهـ.
وروي على وجه آخر عند أحمد (5/345) ، والمحاملي في " الأمالي "(6/139/1) ،
والبيهقي من طريق يعقوب - هو: ابن إبراهيم الزهري -: ثنا ابن أخي ابن شهاب عن
عمه قال: أخبرني عبد الرحمن بن هرمز عن عبد الله ابن بُحَينة - وكان من أصحاب
..............................................................................
رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" هل قرأ أحد منكم معي آنفاً؟ ". قالوا: نعم. قال:
" إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟! ". فانتهى الناس عن القراءة معه حين قال ذلك.
وهذا إسناد رجاله رجال الستة، لكن ابن أخي ابن شهاب - واسمه: محمد بن
عبد الله بن مسلم الزهري -: متكلم فيه؛ لضعف في حفظه. وفي " التقريب ":
" صدوق له أوهام ".
ولذلك قال يعقوب بن سفيان:
" هذا خطأ لا شك فيه ولا ارتياب. ورواه مالك، ومعمر، وابن عيينة، والليث بن
سعد، ويونس بن يزيد، والزبيدي؛ كلهم عن الزهري عن ابن أكيمة عن أبي هريرة ".
وكذا قال البزار - بعد أن رواه من هذا الوجه -:
" إنه أخطأ فيه ابن أخي ابن شهاب ".
ثم أشار إلى أن الصواب رواية الجماعة عن الزهري عن ابن أبي أُكَيْمة - كما في
" المجمع "(2/110) -.
واعلم أنه قد اختُلف في الحديث في أمرين:
الأول: قوله: فانتهى الناس
…
إلخ. هل هو من قول أبي هريرة؛ كما هو ظاهرُ
رواية مالك ومعمر، ونص هذا في رواية؛ أنه قول أبي هريرة قبله؛ فهو متصل، أم من
قول الزهري؛ كما في رواية غير معمر، وصرح بذلك الأوزاعي؛ فهو حينئذٍ مرسل. أم
من قول معمر؛ كما في رواية لأبي داود؟
ثم قال أبو داود:
" سمعت محمد بن يحيى بن فارس قال: قوله: (فانتهى الناس
…
) من كلام
الزهري ".
..............................................................................
وكذلك قال البخاري، ويعقوب بن سفيان، والذُّهلي، والخطابي، وغيرهم - كما في
" التلخيص "(3/310) -.
وقد أجاب عن ذلك أبو الحسنات (120) بقوله:
" إن هذا لا يقدح؛ لأن هذا الكلام - سواء كان من كلام أبي هريرة، أو من كلام
الزهري، أو غيرهما - يدل قطعاً على أن الصحابة تركوا القراءة خلف رسول الله فيما يجهر
فيه، وهذا كاف للاستشهاد به ".
قلت: وهذا الجواب لا يكفي؛ لأننا إذا سلمنا أن هذا الكلام من قول الزهري؛ فهو
حينئذٍ يكون مرسلاً منقطعاً؛ فلا يجوز أن يحتج به عند جمهور المحدثين؛ خلافاً لمذهب
الحنفية وغيرهم.
وأحسن من ذلك قول الكشميري في " الفيض "(2/274) :
" لو سلمنا ما قالوا؛ فالزهري تابعي، ولا يذكر إلا من حال الصحابة، ثم إنَّ مَن
جعله من قول الزهري؛ غرضه أن الزهري قاله نقلاً عن أبي هريرة، وأخفى به صوته،
فثبّتهم معمر فيه؛ فكان إسناد القول إلى معمر أو الزهري لهذا، فزعموا أنه من تلقاء
أنفسهم. وهذا هو الحق: أن هذا الكلام من كلام أبي هريرة؛ كما هو من كلام الزهري
ومعمر، فكل من نسبه إلى أحد منهم؛ فهو صادق غير واهم. بذلك يصلح الحديث
حجة في الانتهاء من القراءة وراء الإمام في الجهرية. والله أعلم ".
ويبقى النظر في الأمر الثاني؛ وهو: أنهم اختلفوا في صحة الحديث؛ فقال
الترمذي - بعد أن ساقه -:
" هذا حديث حسن. وابن أكيمة اسمه: عمارة. ويقال: عمرو ".
وصححه أبو حاتم الرازي - كما قال ابن كثير (2/280) -، وابن حبان، حيث أخرجه
..............................................................................
في " صحيحه "(1) - كما قال ابن التركماني؛ رداً على قول البيهقي:
" في صحة هذا الحديث نظر؛ وذلك لأن راويه ابن أكيمة الليثي، وهو: رجل
مجهول لم يحدث عنه غير الزهري. قال الحميدي: هذا حديث [رواه رجل](*)
مجهول " -. قال ابن التركماني:
" أخرج حديثه ابن حبان في " صحيحه "، وحسنه الترمذي، وأخرجه أيضاً أبو
داود، ولم يتعرض له بشيء، وذلك دليل على حسنه عنده - كما عُرف -.
وفي " الكمال ": روى عن ابن أكيمة مالك، ومحمد بن عمرو. وقال ابن سعد:
توفي سنة إحدى ومئة، وهو ابن تسع وسبعين. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه؟
فقال: صحيح الحديث مقبول. وقال ابن حبان: اسمه: عمرو، هو وأخوه عمر: ثقتان.
وقال ابن معين: روى عنه محمد بن عمرو وغيره، وحسبك برواية ابن شهاب عنه.
وفي " التمهيد ": كان يحدث في مجلس سعيد بن المسيب، وهو يصغي إلى حديثه
وتحديثه، وذلك دليل على جلالته عندهم وثقته. انتهى كلامه. وهذا كله ينفي عنه
الجهالة ". انتهى كلام ابن التركماني.
وممن وثقه أيضاً يحيى بن سعيد - كما في " التهذيب " -. وقال ابن عبد البر في
(باب من لم تشتهر عنه الرواية، واحتملت روايته لرواية الثقات عنه) :
" ولم يُغْمَز ابن أكيمة الليثي ". ولذلك قال الحافظ في " التقريب ":
" ثقة ".
فتبين بهذا أن الحديث صحيح الإسناد، وأن قول من قال في راويه:(مجهول) ؛ مردود
_________
(1)
(126/454 - الموارد) .
(*) ما بين المعقوفتين استدركناه من " سنن البيهقي "، وقد ساق الشيخ رحمه الله قول البيهقي
باختصار.
..............................................................................
بتوثيق من وثقه من العلماء الثقات النقاد، وبتصحيح من صححه منهم.
وقد وجدت له شاهداً مرسلاً بمعناه.
أخرجه الحازمي في " الاعتبار "(73) من طريق أبي العالية قال:
كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ؛ قرأ أصحابه أجمعون خلفه، حتى أنزلت: {وَإِذَا قُرِئَ
القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ؛ فسكت القوم، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذا أخرجه عبد بن حميد، وأبو الشيخ، والبيهقي في " القراءة " - كما في " إمام
الكلام " (78) -.
وله شاهد مرسل آخر مضى قريباً.
ثم رواه الحازمي موصولاً من حديث ابن عباس.
وفيه ابن لهيعة.
إذا علمت ذلك؛ فقد احتج بالحديث من ذهب إلى منع القراءة وراء الإمام في
الجهرية، وهم جمهور العلماء؛ كالأئمة الثلاثة، وغيرهم - كما سبق -، وهو اختيار أكثر
أصحاب الحديث؛ كما قال الترمذي، لكن ذكر هو والبيهقي وغيرهما أن الحديث لا
يدل على ذلك؛ لأن أبا هريرة الذي روى هذا الحديث قد صح عنه أنه سئل في قراءة
{الفَاتِحَة} وراء الإمام؟ فقال:
اقرأ بها في نفسك.
أخرجه مسلم (2/9 - 10) ، وغيره. فلو كان الحديث ثابتاً، أو كان دالاً على المنع؛
لما أفتى بخلاف ذلك.
قلت: لو كانت هذه الحجة صحيحة؛ للزم منها رد كثير من السنن الصحيحة،
ولكان أول من يخالفها هم الذين أوردوها في هذا المكان، كما لا يخفى على البصير.
..............................................................................
بطرق الاستدلال عند العلماء على اختلافهم. وإليك مثالاً على ذلك: فقد صح
عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم؛ فليُرِقْه، ثم ليغسله سبع مرات ".
أخرجه مسلم، والنسائي، وغيرهما.
وممن روى هذا الحديث أبو هريرة، ثم ثبت عنه أنه كان يفتي بالغسل من ولوغه
ثلاثاً، فلم يأخذ به الجمهور؛ لأنه مخالف لقواعدهم، ولذلك تعقب ابن التركماني
البيهقي هنا بقوله:
" مذهب الشافعي والمحدثين: أن الراوي إذا روى حديثاً ثم خالف؛ كان العبرة لما
روى، لا لما رأى، ولا يكون رأيه جرحاً في الحديث؛ فكيف تكون فتوى أبي هريرة دليلاً
على ضعف حديثه المرفوع؟! ". انتهى.
وهذا اعتراض قوي لا جواب لهم عليه، كما أنه اعتراض قوي على الحنفية الذين
خالفوا الجمهور في هذه القاعدة؛ فقالوا:
" العبرة برأي الراوي لا بمرويه ". فيلزم على ذلك أن يَدَعوا الاحتجاج بالحديث؛
لإفتاء أبي هريرة بخلافه - كما ذكرنا -، ويأخذوا به.
وأما الجواب عن ذلك - كما صنع أبو الحسنات (125) - بأن يحمل قول أبي هريرة:
اقرأ بها في نفسك. على السرية، فحينئذٍ لا تعارض بين رأيه ومرويه، ولا إلزام به:
فليس بشيء؛ لأنه ثبت في " جزء البخاري "(8) ، و " سنن البيهقي "(2/166) أن
السائل سأله عن الصلاة الجهرية بلفظ: قال عبد الرحمن أبو العلاء: قلت: يا أبا هريرة!
كيف أصنع إذا كنت مع الإمام، وقد جهر بالقراءة؟ فأجابه بما تقدم.
وأما حمله على سكتات الإمام؛ فشيء لا يخطر على بال أبي هريرة، إذ ليس في
..............................................................................
السنة سكتات تتسع لقراءة {الفَاتِحَة} . ويأتي بيان ذلك قريباً إن شاء الله.
وبالجملة؛ فإن هذا الحديث قد أظهر اضطراب العلماء أحياناً في قواعدهم وفي
فروعهم؛ تأييداً لمذاهبهم؛ فالحنفية أخذوا بالحديث، وليس على قواعدهم؛ فكان عليهم
إما: أن يردوه - كما ردوا حديث الولوغ وغيره -، أو: أن يُعَدِّلوا هذه القاعدة لما هو الحق.
وقد أشار إلى ذلك أبو الحسنات - وهي من حسناته -.
والشافعية عكسوا ذلك؛ فلم يأخذوا به، وأجابوا عنه بما هو مخالف لقاعدتهم،
فكان عليهم إما: أن يَدَعوها ليصحَّ جوابهم، أو: يظلوا متمسكين بها، ويأخذوا
بالحديث، وهو الصواب. و:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} .
هذا، وأيد الجمهور مذهبهم هذا بالآية السابقة الذكر، وسبب نزولها - وقد ذكرناه
آنفاً -، وقال ابن تيمية في " الفتاوى " (2/142 - 143) :
" إنه استفاض عن السلف أنها نزلت في القراءة في الصلاة، وذكر الإمام أحمد
الإجماع على أنها نزلت في ذلك، وذكر الإجماع على أنه لا تجب القراءة على المأموم
حال الجهر.
ثم نقول: قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
لفظ عام، فإما أن يختص في القراءة في الصلاة، أو في القراءة في غير الصلاة، أو
يعمهما.
والثاني باطل قطعاً؛ لأنه لم يقل أحد من المسلمين، أنه يجبُ الاستماع خارج
الصلاة، ولا يجب في الصلاة. ولأن استماع المستمع إلى قراءة الإمام الذي يأتم به،
ويجب عليه متابعته؛ أولى من استماعه إلى قراءة من يقرأ خارج الصلاة، [وذلك]
داخل في الآية: إِما على سبيل الخصوص، وإما على سبيل العموم. وعلى التقديرين؛
..............................................................................
فالآية دالة على أمر المأموم بالإنصات لقراءة الإمام، والمنازع يسلم بذلك إلا في
{الفَاتِحَة} ، والآية أمرت بالإنصات إذا قرئ القرآن، و {الفَاتِحَة} : أم القرآن، وهي التي
لا بد من قراءتها في كل صلاة، وهي أفضل سور القرآن، وهي التي لم ينزل في التوراة،
ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها؛ فيمتنع أن يكون المراد بالآية
الاستماع إلى غيرها دونها، مع إطلاق لفظ الآية وعمومها، مع أن قراءتها أكثر وأشهر.
والعادل عن استماعها إلى قراءتها، إنما يعدل لكون قراءتها أفضل من الاستماع،
وهذا غلط مخالف للنص والإجماع؛ فإن الكتاب والسنة أمرت المؤتم بالاستماع دون
القراءة، والأمة متفقة على أن استماعه لما زاد على {الفَاتِحَة} أفضل من قراءة ما زاد
عليها. فلو كانت القراءة لما يقرؤه الإمام أفضل من الاستماع لقراءته؛ لكان قراءة المأموم
أفضل من قراءته لما زاد على {الفَاتِحَة} .
وهذا لم يقله أحد، وإنما نازع من نازع في {الفَاتِحَة} ؛ لظنه أنها واجبة على المأموم،
أو مستحبة.
وجوابه؛ أن المصلحة الحاصلة له بالقراءة يحصل بالاستماع ما هو أفضل منها؛
بدليل استماعه لما زاد على {الفَاتِحَة} ، فلولا أنه يحصل له بالاستماع ما هو أفضل من
القراءة؛ لكان الأولى أن يفعل أفضل الأمرين وهو: القراءة. فلما دلَّ الكتاب والسنة،
والإجماع على أن الاستماع أفضل من القراءة؛ [دل] على أن المستمع يحصل له أفضل
مما يحصل للقارئ، وهذا المعنى موجود في {الفَاتِحَة} وغيرها، وحينئذٍ فلا يجوز أن يؤمر
بالأدنى، ويُنهى عن الأعلى، وثبت أنه في هذه الحال قراءة الإمام له قراءة؛ كما قال
ذلك جماهير السلف والخلف من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وفي ذلك الحديث
المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من كان له إمام؛ فقراءة الإمام له قراءة ".
..............................................................................
وهذا الحديث روي مرسلاً ومسنداً، ولكن أكثر الأئمة الثقات رووه مرسلاً عن
عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأسنده بعضهم، ورواه ابن ماجه مسنداً، وهذا المرسل
قد عضده ظاهر القرآن والسنة، وقال به جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين،
ومرسِله من أكابر التابعين، ومثل هذا المرسل يحتج به باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم.
وقد نص الشافعي على جواز الاحتجاج بمثل هذا المرسل.
فتبين أن الاستماع إلى قراءة الإمام أمر دل عليه القرآن دلالة قاطعة، ولأن هذا من
الأمور الظاهرة التي تحتاج إليها الأمة؛ فكان بيانها في القرآن بما يحصل به المقصود،
وجاءت السنة بموافقة القرآن ".
ثم ذكر هذا الحديث الذي نتكلم عليه، وقواه، ورد على البيهقي تضعيفه إياه بنحو
ما ذكرنا آنفاً، ثم ساق أيضاً الحديث الآتي بعده - وسنعلق كلامه عليه هناك (*) -، ثم قال:
" وأيضاً: فلو كانت القراءة في الجهر واجبة على المأموم؛ للزم أحد أمرين: إما أن يقرأ
مع الإمام، وإما أن يجب على الإمام أن يسكت له حتى يقرأ. ولم نعلم نزاعاً بين
العلماء أنه لا يجب على الإمام أن يسكت ليقرأ المأموم {الفَاتِحَة} ولا غيرها، وقراءته
معه منهي عنها بالكتاب والسنة، فثبت أنه لا تجب عليه القراءة معه في حال الجهر؛ بل
نقول: لو كان قراءة المأموم في حال الجهر مستحبة؛ لاستحب للإمام أن يسكت ليقرأ
المأموم، ولا يستحب للإمام السكوت ليقرأ المأموم عند جماهير العلماء، وهذا مذهب
مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، وغيرهم، وحجتهم في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن
يسكت ليقرأ المأمومون، ولا نقل أحد هذا عنه؛ بل ثبت عنه في " الصحيح " سكوته بعد
تكبيرة الافتتاح.
_________
(*)(ص 354) .
..............................................................................
وفي " السنن ": أنه كانت له سكتتان: سكتة في أول القراءة، وسكتة بعد القراءة،
وهي لطيفة للفصل؛ لا تتسع لقراءة {الفَاتِحَة} ، وقد روي أن هذه السكتة كانت بعد
{الفَاتِحَة} ، ولم يقل أحد منهم أنه كان له ثلاث سكتات، ولا أربع سكتات، فمن
نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سكتات، أو أربعاً؛ فقد قال قولاً لم ينقله عنه أحد من
المسلمين، والسكتة التي عقب قوله:{وَلَا الضَّالِّينَ} . من جنس السكتات التي عند
رؤوس الآي، ومثل هذا لا يسمى سكوتاً، ولم يقل أحد من العلماء أنه يقرأ في مثل
هذا.
وكان بعض من أدركنا من أصحابنا يقرأ عقب السكوت عند رؤوس الآي، فإذا قال
الإمام: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} . قال: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} . فإذا قال: {إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . وهذا لم يقله أحد من
العلماء ".
قلت: وَيَرِدُ على هذا ما سبق؛ وهو: أنه لا يجب الوقوف على رؤوس الآي، وإن
كان مستحباً؛ لما سبق، ولكن قد لا يفعل الإمام ذلك؛ إما ترخصاً في بعض الأحيان،
وإما جهلاً بسنة خير الأنام - كما هو الغالب في أئمة هذا الزمان -، حتى ولو سكت؛ لا
تتسع هذه السكتة لقراءة الآية فيها بتمامها، فلا بد أن يقع بعضها والإمام يقرأ؛ فلا
مناص من الوقوع في مخالفة النص القرآني.
وحديث السكتتين هو من رواية الحسن البصري عن سمرة. وفي سماع الحسن منه
خلاف؛ قال ابن القيم في " الزاد "(1/74) :
" ومن يحتج بالحسن عن سمرة؛ يحتج بهذا ".
والراجح أنه سمع منه بعض الأحاديث. وقد قال الدارقطني - بعد أن ساق هذا
الحديث (128) -:
..............................................................................
" الحسن مختلف في سماعه من سمرة، وقد سمع منه حديثاً واحداً، وهو حديث
العقيقة ".
قلت: والحسن - على جلالته ومنزلته في العلم -: مشهور بالتدليس والإرسال؛
ولذلك فالقواعد الحديثية تقتضي أن لا يحتج بشيء من حديثه عن سمرة وغيره، إلا بما
صرح فيه بالتحديث، وقد تأملت جميع طرق هذا الحديث - فيما لدي من كتب السنة
المطهرة -؛ فلم أجده إلا معنعناً؛ غير مصرح بسماعه له من سمرة، وقد جهدت أن أجد
له شاهداً - ولو بإسناد فيه ضعف -؛ فلم أجد. ولذلك فهو غير حجة عندي، وإن حسنه -
الترمذي وغيره! ولذلك جرَّدت الكتاب منه، على أن الحديث قد اضطرب فيه في محل
السكتة الثانية - كما أشار شيخ الإسلام إلى ذلك -، وإليك توضيح ذلك باختصار:
اعلم أن الحديث رواه عن الحسن أربعة من الثقات؛ وهم: يونُس بن عُبيد، وقتادة،
وأشعث الحُمْراني، وحُميد الطويل، وقد اتفقوا جميعاً على أن محلها بعد القراءة؛ قبل
الركوع، إلا أن يونس وقتادة اختلف عليهما في ذلك؛ فقيل عنهما: إنها قبل الركوع.
وقيل: إنها بعد {الفَاتِحَة} ؛ قبل السورة. ولا شك أن رواية أشعث وحميد التي لم
يختلف عليهما فيها أصح وأولى؛ لا سيما وقد وافقهما الآخران في رواية على ذلك.
ومن شاء التفصيل؛ فعليه مراجعة رسالة " الصلاة " لابن القيم، و " تعليقاتنا الجياد "
على كتابه " زاد المعاد ".
ثم قال شيخ الإسلام:
" ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يسكت سكتةً تتسع لقراءة {الفَاتِحَة} ؛ لكان هذا مما
تتوافر الهمم والدواعي على نقله، فلما لم ينقل هذا أحد؛ عُلم أنه لم يكن، وأيضاً فلو
كان الصحابة كلهم يقرؤون {الفَاتِحَة} خلفه؛ إما في السكتة الأولى، وإما في الثانية؛
لكان هذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله؛ فكيف ولم ينقل أحد عن أحد من
..............................................................................
الصحابة أنهم كانوا في السكتة الثانية يقرؤون {الفَاتِحَة} ؟! مع أن ذلك لو كان
مشروعاً؛ لكان الصحابة أحق الناس بعلمه وعمله؛ فعُلم أنه بدعة.
وأيضاً؛ فالمقصود بالجهر: استماع المأمومين؛ ولهذا يؤمِّنون على قراءة الإمام في
الجهر دون السر، فإذا كانوا مشغولين عنه بالقراءة، فقد أُمِرَ أن يقرأ على قوم لا يستمعون
لقراءته، وهو بمنزلة من يحدث من لا يستمع لحديثه، ويخطُب من لا يستمع لخطبته!
وهذا سَفَهٌ تتنزه عنه الشريعة؛ ولهذا رُوي في الحديث:
" مثل الذي يتكلم، والإمام يخطب؛ كمثل الحمار يحمل أسفاراً "(*) . فهكذا إذا
كان يقرأ والإمام يقرأ عليه ". اهـ كلام شيخ الإسلام باختصار.
وهو مما يدل على علو كعبه في علم المنقول والمعقول رحمه الله.
واعلم أنه قد اشتهر بين علمائنا الاحتجاج بالآية السابقة الذكر على النهي عن ترك
القراءة وراء الإمام حتى في السرية؛ قال ابن الهُمَام في " الفتح "(1/241) :
" وحصل الاستدلال بالآية أن المطلوب أمران: الاستماع، والسكوت. فيعمل بكل
منهما، والأول: يخص الجهرية، والثاني: لا؛ فيجري على إطلاقه، فيجب السكوت
عند القراءة مطلقاً ".
وقد تعقبه أبو الحسنات اللكنوي بقوله (104) :
" وفيه نظر؛ وهو أن الأمر باستماع القرآن والسكوت ليس أمراً تعبدياً غير معلل - كما
هو ظاهر -، بل هو حكم معلل بإجماع القائسين والمعللين؛ كوجوب السكوت عند
الخطبة، والقراءة خارج الصلاة، ونحو ذلك، ولا تظهر له علة - ولو بعد التأمل -؛ إلا
كون القرآن منزلاً للتدبر والتأمل، وهو لا يحصل بدون الاستماع والإنصات. ومن المعلوم
_________
(*) هو ضعيف كما في " السلسلة الضعيفة "(1760) .
وجعل الإنصات لقراءة الإمام من تمام الائتمام به؛ فقال:
" إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر؛ فكبروا، وإذا قرأ؛ فأنصتوا "(1) .
كما جعل الاستماع له مُغْنِيَاً عن القراءة وراءه؛ فقال:
أن هذا خاص بالجهرية؛ التي يقرأ فيها الإمام جهراً، فيلزم على المقتدين التدبر؛ فيجب
عليهم الإنصات.
وأما في السرية؛ فالإمام لا يقرأ إلا سراً، بحيث لا يقرع صِماخ المقتدين؛ فلا يمكن
أن يحصل التدبر لهم فيها - وإن كانوا منصتين -؛ فلا يظهر لوجوب السكوت عليهم فيها
وجه معتد به.
والقول بأن وجوب السكوت أمر تعبدي غير معقول: مطالب بالدليل المعقول، على
أن كثيراً من أصحابنا وغيرهم أخذوا بعموم الآية المذكورة، وعدم اختصاصها بالموارد
المأثورة؛ حتى فَرَّعوا عليه كون سماع القرآن مطلقاً - ولو خارج الصلاة - فرض عين أو
كفاية، فلو كان المأمور فيها أمرين - الاستماع، والسكوت؛ الأول في الجهر، والثاني في
السر -؛ لزم أن يقال بوجوب سكوت من يقرأ القرآن عنده خارج الصلاة سراً؛ كفاية أو
عيناً، وهو خلاف الإجماع بلا نزاع ". اهـ.
وإنما أمر تعالى بالاستماع بعد الأمر بالإنصات؛ لأنه قد يقول قائل: أقرأ وأسمع.
كما يفعله بعض المتزهدين في خطبة الجمعة؛ فإنك تراهم يذكرون الله بالسبحة، ولو
سألتهم؛ لقالوا: نحن نسمع ونقرأ! و: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} .
فكان من الحكمة أن يُتْبعَ الأمرَ بالاستماعِ الأمرَ بالإنصات. هذا ما ظهر لي. والله أعلم.
(1)
أخرجه {ابن أبي شيبة (1/97/1) = [1/331/3799] } ، وأبو داود
(1/99) ، والنسائي (1/146) ، وابن ماجه (1/279) ، والطحاوي (1/128) ،
والدارقطني (124) ، وأحمد (2/420) من طريق أبي خالد سليمان بن حَيَّان عن محمد
..............................................................................
ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً به.
وهذا سند حسن. وقد أُعِلَّ بعلتين:
الأولى: تفرد أبي خالد عن محمد بن عجلان.
والأخرى: تفرد ابن عجلان عن أبي صالح.
أما الأولى: فقال أبو داود:
" قوله: " فأنصتوا ": ليست بمحفوظة؛ الوهم من أبي خالد ".
قلت: أبو خالد: ثقة، أخرج له الجماعة؛ فنسبة الوهم إليه دون ابن عجلان تدل
على أن ابن عجلان أحسن حالاً عنده من أبي خالد! وهذا أعجب؛ فإن ابن عجلان
فيه كلام. وأبو خالد ثقة بلا شك - كما قال ابن التركماني وغيره -. ثم إنه لم يتفرد به؛
بل تابعه عليه جمع:
منهم: محمد بن سعد الأنصاري: عند النسائي، ومن طريقه الدارقطني (125) ،
وهو ثقة - كما ذكر النسائي -.
ومنهم: أبو سعد الصاغاني محمد بن مُيسَّر - بتحتانية ومهملة؛ وزن محمد -.
أخرجه الدارقطني، وأحمد (2/376) ؛ وقال الأول:
" ضعيف ".
وإسماعيل بن أَبَان الغَنَوي: عنده، وعند البيهقي (2/156) ، وضعفه الدارقطني أيضاً.
قلت: ومتابعة هذين - على ضعفهما - يعطي الحديث قوة - كما لا يخفى -؛ ولا
سيما وقد تابعا ثقتين: سليمانَ بنَ حيان، ومحمدَ بنَ سعد. فانتفت العلة الأولى.
وأما العلة الأخرى: فالحق يقال؛ إنها أقوى من الأولى. فروى البيهقي (2/157)
عن ابن أبي حاتم قال:
..............................................................................
" سمعت أبي - وذكر هذا الحديث، فقال أبي -: ليست هذه الكلمة محفوظة؛ هي
من تخاليط ابن عجلان. قال: وقد رواه خارجة بن مصعب أيضاً - يعني: عن زيد بن
أسلم -. وخارجة أيضاً: ليس بالقوي ". قال البيهقي:
" وقد رواه يحيى بن العلاء الرازي - كما روياه -؛ ويحيى بن العلاء: متروك ". اهـ.
وفي " التقريب ":
" رمي بالوضع ". وعن خارجة:
" متروك، وكان يدلس عن الكذابين ".
فمتابعة هذين لا تعطي الحديث قوة؛ فيبقى متفرداً به ابنُ عجلان، وهو وإن كان
ثقة؛ ففيه كلام من جهة حفظه - كما أشار أبو حاتم إلى ذلك -، وفي " التقريب ":
" صدوق. اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة ". اهـ.
وهو حسن الحديث ما لم يخالف، وقد خولف هنا؛ فقد رواه الأعمش عن أبي
صالح به؛ بدون قوله:
" وإذا قرأ؛ فأنصتوا ".
أخرجه ابن ماجه (1/305) ، وأحمد (2/440) .
وسنده صحيح على شرطهما.
وكذلك رواه مصعب بن محمد عن أبي صالح بدون هذه الزيادة، وقد مضى لفظه
في (التكبير) .
وكذلك رُوي الحديث من طرق عن أبي هريرة: عند البخاري (2/166 - 172) ،
ومسلم (2/19 - 20) ، وابن ماجه أيضاً (1/374) ، والدارمي (1/300) ، وأحمد
(2/230 و 214 و 411 و 438) بدونها.
..............................................................................
فهذا مما يجعل النفس لا تطمئن لتفرد ابن عجلان بها. ومع ذلك؛ فقد صححها
الإمام مسلم - كما سيأتي -، وابن حزم في " المحلى "(3/240) ، والإمام أحمد، وابن
خزيمة - كما في " إمام الكلام "(113) -، وغيرهم من الأئمة. فراجع (التعليق) على
" نصب الراية "(2/15) .
ونحن نقطع بأنه صحيح لغيره؛ فإن له شاهداً من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعاً بلفظ:
" إذا قمتم إلى الصلاة؛ فليؤمكم أحدكم، وإذا قرأ الإمام؛ فأنصتوا ".
أخرجه أحمد (4/415) والسياق له، ومسلم (2/15) ، {وأبو عوانة [2/133] } ،
وابن ماجه (1/279) ، والدارقطني (125) ، والبيهقي (2/155) من طريق جَرير عن
سليمان التيمي عن قتادة عن أبي غَلاب عن حِِطَّان بن عبد الله الرَّقَاشي عنه.
وهذا سند صحيح. {وهو مخرج في " الإرواء " (332 و 394) } .
وقد أخرجه {أبو عوانة [2/133] } ، وأبو داود (1/154) من طريق المعتمر بن
سليمان قال: سمعت أبي: ثنا قتادة به. ثم أعله بقوله:
" وقوله: " فأنصتوا " ليس بمحفوظ؛ لم يجئ به إلا سليمان التيمي في هذا الحديث ".
كذا قال! وليس بصواب؛ فقد تابعه عليه سفيان الثوري (*) ، فقد قال الدارقطني -
بعد أن ساق الحديث -:
" وكذلك رواه سفيان الثوري عن سليمان التيمي، ورواه هشام الدستوائي وسعيد
وشعبة وهمام وأبو عوانة وأبان وعدي بن أبي عمارة؛ كلهم عن قتادة، فلم يقل أحد
منهم: " وإذا قرأ؛ فأنصتوا ". وهم أصحاب قتادة الحفاظ عنه ".
قلت: وقد أخرجه مسلم وغيره عن بعض هؤلاء عن قتادة به مطولاً - كما سيأتي
_________
(*) كذا الأصل، وفي العبارة نظر، كأنه انتقال بصر. والله أعلم.
..............................................................................
في (التأمين) -، ولم يذكر أحد منهم هذه الزيادة.
لكن لا يخفى أنها زيادة من ثقتين حجتين؛ فيجب الأخذ بها، لا سيما وأنها لا
تخالف المزيد، بل توافق معناه؛ فإن الإنصات إلى قراءة القارئ من تمام الائتمام به، فإن
من قرأ على قوم لا يستمعون لقراءته؛ لم يكونوا مؤتمين به - كما قال شيخ الإسلام
(2/144) -. على أنه لم ينفردا بها، بل تابعهما جمع آخر؛ منهم: عمر بن عامر،
وسعيد بن أبي عَرُوبة.
أخرجه الدارقطني، وعنه البيهقي (2/156) من طريق سالم بن نوح عنهما. ثم قال:
" سالم بن نوح: ليس بالقوي ".
قلت: وهو من رجال مسلم، وفي " التقريب ":
" صدوق له أوهام ".
وكذا قال في شيخه عمر بن عامر، وهو من رجال مسلم أيضاً.
وأما سعيد بن أبي عروبة: فمن رجال الشيخين، وهو من أثبت الناس في قتادة.
وبالجملة: فهذه الزيادة صحيحة من حديث أبي موسى، وقد صححها مسلم؛ ففي
" صحيحه " بعد أن ساق الحديث:
" قال أبو إسحاق - يعني: صاحب مسلم وراوي كتابه -: قال أبو بكر ابن أخت أبي
النضر في هذا الحديث - أي: طَعَنَ فيه -. فقال مسلم: تريد أحفظ من سليمان؟! فقال
له أبو بكر: فحديث أبي هريرة؟ فقال: هو صحيح - يعني: " وإذا قرأ؛ فأنصتوا " -. فقال:
هو عندي صحيح. فقال: لم تضعه ها هنا - يعني: في كتابه -؟ قال: ليس كل شيء
عندي صحيح وضعته ها هنا، إنما وضعت ها هنا ما أجمعوا عليه ". قال أبو الحسنات:
..............................................................................
" وبالجملة: فالحكم بصحة هذا الحديث هو الأرجح بالنظر الدقيق؛ فيكفي
للاستدلال به، ومن حكم بضعفها؛ ليس له دليل معتد به يقبله أرباب التحقيق ".
وهذا الحديث كالآية المذكورة سابقاً في الدلالة على وجوب الاستماع لقراءة القرآن
من الإمام، ولكنه أعم منها - كما لا يخفى -، وهو - كهي - يشمل بعمومه {الفَاتِحَة}
وغيرها، وقد خصه الشافعية وغيرهم ممن سبق ذكرهم بما عدا {الفَاتِحَة} . وقالوا بوجوب
قراءتها، وقد ذكرنا فيما سبق أن الحديث الذي احتجوا به على الوجوب لا يدل على
ذلك؛ بل على الإباحةِ، والإباحةِ المرجوحة - كما سلف بيانه عن الكشميري -.
وحينئذٍ فإذا كان لا بد من المصير إلى التخصيص؛ فإنما يخصص بجواز قراءة
{الفَاتِحَة} جوازاً مرجوحاً؛ لا بوجوبها، وحينئذٍ فالتباين بين هذا الجواز وبين النهي
المستفاد من الآية والحديث يسيرٌ؛ لأن النتيجة ترك القراءة والاستماع للإمام، وهذا هو
المطلوب.
هذا يقال؛ إن أردنا أن نذهب مذهب الجمع، ولكننا قد بينا أن حديث الجواز
منسوخ بحديث أبي هريرة وبسبب نزول الآية، وبين أيضاً شيخ الإسلام أن الاعتبار يدل
على بقاء الآية على عمومها؛ فيقال عن الحديث - الذي نحن في صدد الكلام عنه - ما
قيل فيها.
وإليك الآن بقية كلام شيخ الإسلام المتعلق بالحديث؛ قال:
" وهذا يبين حكمة سقوط القراءة عن المأموم، وأن متابعته لإمامه مقدمة على غيرها
حتى في الأفعال، فإذا أدركه ساجداً؛ سجد معه، وإذا أدركه في وتر من صلاته؛ تشهد
عقب الوتر، وهذا لو فعله منفرداً؛ لم يجز، وإنما فعله لأجل الائتمام؛ فدل على أن
الائتمام يجب به ما لا يجب على المنفرد، [ويسقط به ما يجب على المنفرد] ". وقال في
موضع آخر (2/412) :
" من كان له إمام؛ فقراءة الإمام له قراءة "(1) ، هذا في الجهرية.
" فكيف لا يستمع لقراءته، مع أنه بالاستماع يحصل له مصلحة القراءة؟! فإن
المستمع له مثل أجر القارئ.
ومما يبين هذا اتفاقُهُم كلهم على أنه لا يقرأ معه فيما زاد على {الفَاتِحَة} ؛ إذا
جهر، فلولا أنه يحصل له أجر القراءة بإنصاته له؛ لكانت قراءته لنفسه أفضل من
استماعه للإمام، وإذا كان يحصل له بالإنصات أجر القارئ؛ لم يَحْتَجْ إلى قراءته، فلا
يكون فيها منفعة، بل فيها مضرة شغلته عن الاستماع المأمور به.
وقد تنازعوا إذا لم يسمع الإمام؛ لكون الصلاة صلاة مخافتة، أو لبعد المأموم، أو
لطرشه، أو نحو ذلك؛ هل الأولى له أن يقرأ، أو يسكت؟
والصحيح: أن الأولى أن يقرأ في نفسه، وأنه أنفع؛ لأنه لا يستمع قراءة يحصل له
بها مقصود القراءة. فإذا قرأ لنفسه؛ حصل له أجر القراءة، وإلا؛ بقي ساكتاً، لا قارئاً
ولا مستمعاً، ومن سكت غير مستمع ولا قارئ في الصلاة؛ لم يكن مأجوراً بذلك
ولا محموداً؛ بل جميع أفعال الصلاة لا بد فيها من ذكر الله تعالى؛ كالقراءة والتسبيح
والدعاء أو الاستماع للذكر، وإذا قيل بأن الإمام يحمل عنه فرض القراءة؛ فقراءته
لنفسه أكمل له، وأنفع له، وأصلح لقلبه، وأرفع له عند ربه. والإنصات لا يؤمر به إلا
حال الجهر، فأما حال المخافتة؛ فليس فيه صوت مسموع حتى ينصت له ". اهـ.
(1)
هو من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. رواه أبو حنيفة الإمام قال: ثنا
أبو الحسن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد بن الهاد عنه مرفوعاً به.
أخرجه الإمام محمد في " الموطأ "(94 - 96) وفي " الآثار "(16) ، والطحاوي
(1/128) ، والدارقطني (122 و 123) ، والبيهقي (2/159) ؛ كلهم عن أبي حنيفة به.
ورواه عبد الله بن المبارك عنه، وعن غيره مرسلاً؛ بدون ذكر: جابر.
..............................................................................
أخرجه البيهقي (2/160) عنه: أنبا سفيان وشعبة وأبو حنيفة عن موسى بن أبي
عائشة عن عبد الله بن شداد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
فذكره.
وكذا رواه الطحاوي من طريق سفيان وحده. وكذلك رواه منصور بن المعتمر، وابن
عيينة، وإسرائيل بن يونس، وأبو عوانة، وأبو الأحوص، وجرير بن عبد الحميد، وغيرهم
من الثقات الأثبات عن موسى عن ابن شداد مرسلاً. قال الدارقطني والبيهقي:
" وهو الصواب ".
قلت: وتعقبهما ابن الهمام في " الفتح "(1/239) بقوله:
" قال أحمد بن منيع في " مسنده ": أخبرنا إسحاق الأزرق: ثنا سفيان وشريك عن
موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً به ". ثم قال:
" وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، فقد وصله سفيان وشريك؛ فبطل عدهم
فيمن رواه مرسلاً ".
قلت: فإذا صح وثبت هذا الإسناد في " مسند أحمد بن منيع " - فإنه مفقود اليوم (*) ،
حتى إنها لم تكن عند الحافظ ابن حجر كما ذكر الكشميري في " الفيض "(2/277) -.
أقول: إذا ثبت ذلك؛ فالحديث صحيح موصولاً، ويكون أبو حنيفة لم ينفرد به،
وإلا؛ فهو مرسل صحيح الإسناد. ثم إن مرسله عبد الله بن شداد من كبار التابعين
الثقات، ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان معدوداً في الفقهاء - كما في " التقريب " -،
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيما سبق:
" ومثل هذا المرسل يحتج به باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد نص الشافعي على
_________
(*) هو أحد كتب " المطالب العالية " الذي ألّفه ابن حجر. وقد أورده بهذا الإسناد نفسه الإمامُ
البوصيري في " إتحاف الخيرة المهرة "(1567) و (1832) وصحح إسناده.
..............................................................................
جواز الاحتجاج بمثل هذا المرسل ".
قلت: ولا سيما وأن له طرقاً أخرى يشد بعضها بعضاً - كما قال الزيلعي في
" نصب الراية "(2/7) -:
الطريق الأولى: عن جابر الجعفي عن أبي الزبير عن جابر.
أخرجه ابن ماجه (1/280) ، والطحاوي، والدارقطني (126) من طريقين عن
الحسن بن صالح عن جابر الجعفي به.
وجابر: ضعيف. وقد تابعه ليث بن أبي سليم، وهو خير منه؛ فإنه ضعيف لسوء حفظه.
أخرجه الطحاوي، والدارقطني، والبيهقي (2/160) من طريق يحيى بن أبي بُكَير
وإسحاق بن منصور السَّلُولي قالا: ثنا الحسن بن صالح بن حَيّ عن جابر وليث بن أبي
سُلَيم عن أبي الزبير به. قال الدارقطني:
" جابر وليث: ضعيفان ".
قلت: وقد ورد بإسقاطهما من بين الحسن بن صالح وأبي الزبير؛ قال ابن
التركماني:
" قلت: في " مصنف ابن أبي شيبة ": ثنا مالك بن إسماعيل عن حسن بن صالح
عن أبي الزبير عن جابر به مرفوعاً.
وهذا سند صحيح. وكذا رواه أبو نعيم عن الحسن بن صالح عن أبي الزبير، ولم
يذكر الجعفي. كذا في " أطراف المزي ".
وتوفي أبو الزبير سنة ثمان وعشرين ومئة. ذكره الترمذي وعمرو بن علي. والحسن
ابن صالح ولد سنة مئة، وتوفي سنة سبع وستين ومئة، وسماعه من أبي الزبير ممكن.
ومذهب الجمهور: إن أمكن لقاؤه لشخص، وروى عنه؛ فروايته محمولة على الاتصال،
..............................................................................
فيُحمل على أن الحسن سمعه من أبي الزبير مرة بلا واسطة، ومرة أخرى بواسطة
الجعفي وليث ". اهـ.
وما ذكره عن أبي نعيم لعله رواية عنه، وإلا؛ فقد رواه الدارقطني من طريقه عن
الحسن عن جابر به.
وقد رواه أحمد في " المسند "(3/339) - مثلَ ابن أبي شيبة { (1/97/1) } -؛
فقال: ثنا أسود بن عامر: أنا حسن بن صالح عن أبي الزبير عن جابر به مرفوعاً. ونقل
المعلق على " نصب الراية " عن " الشرح الكبير للمقنع "(2/11) أنه قال:
" وهذا إسناد صحيح متصل، رجاله كلهم ثقات؛ الأسود بن عامر روى له البخاري.
والحسن بن صالح أدرك أبا الزبير؛ ولد قبل وفاته بنيف وعشرين سنة ". اهـ.
قلت: وفي قوله أنه " متصل " نظر؛ فإن أبا الزبير مشهور بالتدليس، وقد عنعن، ولم
يصرح بالسماع؛ فهو محمول على الانقطاع.
ثم وجدت للحديث طريقاً أخرى عن أبي الزبير.
أخرجه الإمام محمد في " الموطأ "(96) ، والدارقطني (154) ، والطبراني في
" الأوسط " عن سهل بن العباس الترمذي: ثنا إسماعيل ابن عُلَيّة عن أيوب عن أبي
الزبير به. وقال الدارقطني:
" هذا حديث منكر، وسهل بن العباس: متروك ".
وتراجع طرق هذا الحديث في كتاب " إمام الكلام "(ص 133 - 138) . ثم قال في
نهاية ذلك:
" والحاصل: أن طرق الحديث بعضها صحيحة أو حسنة، وبعضها ضعيفة ينجبر
ضعفها بغيرها من الطرق الكثيرة، فالقول بأنه حديث غير ثابت، أو غير محتج به، ونحو
..............................................................................
ذلك؛ غير معتدٍّ به ".
وللحديث شواهد كثيرة عن ابن عمر، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وابن عباس،
وأنس.
خرجها الزيلعي في " نصب الراية "(2/10 - 12) ، و [الحافظ ابن حجر في]
" الدراية "(93) .
{وقواه شيخ الإسلام ابن تيمية - كما في " الفروع " لابن عبد الهادي (ق 48/2)(1) ،
وصحح بعض طرقه البوصيري، وقد تكلمت عليه بتفصيل، وتتبعت طرقه في " إرواء
الغليل " (500) } .
[فائدة] : والذي يتبادر من الحديث أن معناه: إن قراءة الإمام تكفيه، وتنوب عن
قراءته؛ أي: المؤتم؛ فلا تجب عليه. وشرحه الشيخ علي القاري في " شرح مسند أبي
حنيفة " (ص 150) بقوله:
" أي: فلا يجب على المأموم قراءة، ولا يجوز له أن يقرأ وراءه، وظاهره الإطلاق،
يعني: سواء كان في الصلاة السرية أو الجهرية ". اهـ.
وفي دلالة الحديث على أنه لا يجوز القراءة وراءه بُعْدٌ ظاهر، وقد وجهه الشيخ ابن
الهُمَام بقوله (239) :
" إن القراءة ثابتة من المقتدي شرعاً؛ فإن قراءة الإمام قراءة له، فلو قرأ؛ لكان له
قراءتان في صلاة واحدة، وهو غير مشروع ". وقد رد عليه أبو الحسنات بقوله (148) :
" إن قراءة الإمام ليست بقراءة المأموم حقيقة؛ لا عرفاً ولا شرعاً، وإنما هي قراءة له
حكماً، فلو قرأ المؤتم؛ لا يلزم إلا أن تكون له قراءتان: إحداهما حقيقية، وثانيهما
_________
(1)
ثم رأيته في " الفتاوى "(23/271 - 272) . كذا في نسخة الشيخ الخاصة من " الصفة ".
..............................................................................
حكمية. ولا عائبة في اجتماعهما، ولا دليل يدل على قبح اجتماعهما ".
وقد أوضح ذلك في حاشيته المسماة: " غيث الغمام "، فراجعه؛ فإنه - كما قال: -
من النفائس.
واعلم أن علماءنا قد اختلفوا في القراءة خلف الإمام على أقوال:
الأول: أنهم اختاروا ترك القراءة، لا أنهم لم يجيزوه؛ بأن كرهوه أو حرموه.
الثاني: أنها مكروهة كراهة تحريم. وهو الذي اختاره ابن الهمام، وتبعه كثيرٌ ممن
بعده، وبه صرح جمعٌ ممن قبله.
الثالث: أن قراءة الفَاتِحَة مستحبة في السرية، ومكروهة في الجهرية في رواية عن
محمد - كما ذكره صاحب " الهداية " و " الذخيرة " وغيرهما -، وهو رواية عن أبي حنيفة
- كما ذكره الزاهدي في " المجتبى " -، وهو الذي اختاره أبو حفص الكبير - من كبار
تلامذة الإمام محمد -، وغيره من الحنفية.
والرابع: أن الإنصات واجب؛ كما ذكره الكيداني.
وذكر في بحث المحرمات: أن ترك كل واجب في الصلاة حرام. فيعلم منه أنه قائل
بحرمة القراءة خلف الإمام.
والخامس: أن الصلاة تفسد بالقراءة خلف الإمام، ويكون فاسقاً - كما نقله في
" الدر "(1/508 - بحاشية ابن عابدين) -.
وقد ذكر هذه الأقوال أبو الحسنات اللكنوي في " الإمام "(ص 21 - 29) معزوة إلى
مصادرها المشهورة من كتب الحنفية، ثم قال:
" فهذه خمسة أقوال لأصحابنا، أضعفها وأوهنها؛ بل أوهن جميع الأقوال الواقعة
في هذه المسألة: القول الخامس. وهو نظير رواية مكحول الدمشقي الشاذة المروية عن أبي
..............................................................................
حنيفة: أن رفع اليدين عند الركوع وغيره مفسد للصلاة! وبناءُ بعض مشايخنا عليها
عَدَمَ جواز الاقتداء بالشافعية!
وكلاهما من الأقوال المردودة التي لا يحل ذكرها إلا للقدح فيها؛ وإن ذُكرا في كثير
من الكتب الفقهية لأصحابنا الحنفية! وقد أوضحت ذلك في رسالتي " الفوائد البهية
في تراجم الحنفية "؛ فلتطالع، وليت شعري! هل يقول عاقل بفساد الصلاة بما ثبت فعله
عن النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من أكابر أصحابه؟!
ولو فرضنا أنه لم يثبت؛ لا من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من أصحابه، أو ثبت وصار منسوخاً؛
فغايته أن يكون خلاف السنة، أو مكروهاً تنزيهاً، أو تحريماً، وهو لا يستلزم فساد الصلاة
به، بل لو فرضنا أنه حرام حرمة قطعية؛ لا يلزم منه فساد الصلاة أيضاً؛ فليس ارتكاب
كل حرام في الصلاة مفسداً لها، ما لم يكن منافياً للصلاة، ومن المعلوم أن قراءة القرآن
في نفسها ليست بمنافية للصلاة؛ بل الصلاة ليست إلا الذكر والتسبيح والقراءة ". قال:
" فكيف يصح الحكم بفساد الصلاة بها، وكون ذلك مكروهاً أو حراماً بما لاح من
الدلائل لا يستلزم ذلك؟!
وإني - والله! - لفي تعجب شديد من صنيع الذين نقلوا هذا القول في كتبهم
ساكتين عليه، ولم يحكموا بكونه غلطاً مردوداً، وغاية ما قالوا: إن عدم الفساد أصح.
ولم يحكموا بكونه صحيحاً، وكون ما يخالفه غلطاً صريحاً، وغاية ما استدل أصحاب
هذا القول الواهي بعض آثار الصحابة؛ كأثر:
" من قرأ خلف الإمام؛ فلا صلاة له "(1) .
_________
(1)
أخرجه ابن حبان في " الضعفاء "، وابن الجوزي من طريقه، واتهم فيه أحمد بن علي بن
سليمان. كذا في " الدراية "(95)، وقال البخاري (6) :
" لا يصح ".
..............................................................................
وستعرف أنه مما لاُ يحتج به، ولا يستقيم الاستدلال به. وما ذكره السَّرَخْسِي ومن
تبعه: أن فساد الصلاة مذهبُ عدة من الصحابة (1) . يقال له: أي صحابي قال بهذا؟!
_________
(1)
ومثل هذه المبالغة قول صاحب " الهداية ":
" ولا يقرأ المؤتم خلف الإمام، وعليه إجماع الصحابة ". وإن العاقل المنصف ليعجب كل العجب
من مثل هذَه العبارات والمبالغات! فإنها تدل على أحد شيئين:
الأول: التعصب الذي يعمي ويصم.
والثاني: الجهل بكتب الحديث، وعدم الاشتغال بمطالعتها، حتى ولو كانت من كتب الحديث
المذهبية؛ ككتاب " شرح معاني الآثار " للطحاوي؛ فإنه قد ذكر فيه الخلاف بين الصحابة في هذه
المسألة! ولعل ذلك هو منشأ قول بعض مشايخنا: علم الحديث صنعة المفاليس!
وأي الأمرين كان؛ فهو عظيم بالنسبة لهؤلاء الأئمة الذين هم القدوة لمن بعدهم. ومثل ذلك في
الغرابة قول صاحب " العناية شرح الهداية ":
" وقوله: " وعليه إجماع الصحابة ". قيل: فيه نظر؛ لأن منهم من يقول بوجوب قراءة
{الفَاتِحَة} . وأُجِيبَ بأن المراد به إجماع أكثر الصحابة؛ فإنه روي عن ثمانين نفراً من كبار الصحابة
منع المقتدي عن القراءة خلف الإمام ". ثم قال:
" وليس بشيء؛ لأن هذا المقدار ليس أكثر الصحابة. وموضع الغرابة تعيين هذا العدد بما ليس له
مستند؛ فأين النص بذلك؟! ومن الذي اتصل بهذا العدد من الصحابة فأخبروه عن رأيهم في
ذلك؟! ".
وقد نقل هذا القول أيضاً العيني وغيره. قال أبو الحسنات (160) :
" وهذا وأمثاله، وإن ذكره كبار الفقهاء؛ لكن أكثرهم ليسوا بمحدثين، ولم يسندوها بأسانيد معتبرة
في الدين، ولا عَزَوْها إلى المخرجين المعتبرين؛ فكيف يطمئن به في إثبات أمر من أمور الدين؟! ". اهـ.
وفي أمثال هؤلاء الفقهاء قال الشيخ علي القاري في " موضوعاته "(ص 85) :
" حديث: " من قضى صلاة من الفرائض في آخر جمعة من شهر رمضان؛ كان ذلك جابراً لكل
صلاة فاتته في عمره إلى سبعين سنة ". باطل قاطعاً؛ لأنه مناقض للإجماع، على أن شيئاً من
العبادات لا يقوم مقام فائتة سنوات. ثم لا عبرة بنقل " النهاية "، ولا بقية شراح " الهداية ". فإنهم
ليسوا من المحدثين، ولا أسندوا الحديث إلى أحد من المخرِّجين ".
..............................................................................
وأي مخرِّج خرَّج هذا؟! وأي راو ٍروى هذا؟! ومجرد نسبته إليهم - حاشاهم عنه - من دون
سند مسلسل محتج برواته مما لا يعتد به!
وقريب من هذا القول: قول الحرمة، ووجوب ترك القراءة؛ فإنه مجرد دعوى لا بد
من دليل وتعليل، ولا يختاره - بل ولا يذكره - إلا مثل الكيداني الذي عد الإشارة في
التشهد من المحرمات! وقد رد عليه علي القاري المكي في رسالته: " تزيين العبارة
بتحسين الإشارة " ورسالة: " التزيين بالتدهين " رداً بليغاً، وحقق ثبوت الإشارة - بل
سنيتها - بالدلائل الواضحات.
وأما القول بالكراهة التحريمية؛ فهو الذي ذهبت إليه جماعة غفيرة من الحنفية،
واستدلوا عليها بدلائل سيأتي ذكرها، مع ما لها وما عليها؛ بحيث يتنبّه الجاهل،
وَيَنْشَطُ الفاضل الكامل.
وأحسن هذه الأقوال: هو القول الثالث، وهو - وإن كان ضعيفاً رواية؛ لكنه - قوي
دراية - كما ستقف عليه - ".
ثم ذكر أدلتهم في ذلك (ص 74 - 159) ، وناقشها، وبين ما لها وما عليها، وأقواها
سنداً - بعد الآية الكريمة: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} حديثُ أبي هريرة
في المنازعة، ثم حديثه:" وإذا قرأ؛ فأنصتوا "، ثم هذا الحديث الذي نحن بصدد الكلام
عليه - وقد بينا ونقلنا عنه أيضاً أن كل ذلك لا يدل على المنع من القراءة في السرية؛ إلا
إن كان فيها تخليط وتشويش -، ثم بقية الأحاديث - وأكثرها ضعيفة الأسانيد؛ مع أنها
كلَّها لا تدل على الحرام -. ثم قال:
" فظهر أن قول أصحابنا بكفاية قراءة الإمام، وعدم افتراض القراءة للمأموم في غاية
القوة، وكذا قولهم بكراهة القراءة مع قراءة الإمام في الجهر؛ بحيث يخل بالاستماع، أو
بالحرمة، ووجوب السكوت عند ذلك، في نهاية الوثاقة ". قال:
..............................................................................
" فإذن؛ ظهر حقَّ الظهور أن أقوى المسالك اتي سلك عليها أصحابنا هو مسلك
استحسان القراءة في السرية، كما هو رواية عن محمد بن الحسن، واختارها جمع من
فقهاء الزمن ". قال:
" وهذا هو مذهب جماعة من المحدثين - جزاهم الله يوم الدين -، ومن نظر بنظر
الإنصاف، وغاص في بحار الفقه والأصول، متجنباً الاعتساف؛ يُسلِّم تسليماً يقينياً أن
أكثر المسائل الفرعية والأصلية التي اختلف العلماء فيها، فمذهب المحدثين فيها أقوى من
مذاهب غيرهم. وإني كلما أسير في شعب الاختلاف؛ أجد قول المحدثين فيه قريباً من
الإنصاف، فلله درهم! وعليه شكرهم! كيف لا، وهم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم حقاً، ونُوَّابُ
شرعه صدقاً، حشرنا الله في زمرتهم، وأماتنا على حبهم وسيرتهم ". اهـ.
* * *