الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فحسبي أنني معتقد إن ذلك هو الطريق الأقوم، الذي أمر الله تعالى به المؤمنين،
وبيَّنه نبينا محمد سيد المرسلين، وهو الذي سلكه السلف الصالح من الصحابة
والتابعين ومن بعدهم، وفيهم الأئمة الأربعة - الذين ينتمي اليوم إلى مذاهبهم
جمهور المسلمين -، وكلهم متفق على وجوب التمسك بالسنة، والرجوع إليها، وترك
كل قول يخالفها، مهما كان القائل عظيماً؛ فإن شأنه صلى الله عليه وسلم أعظم، وسبيله أقوم.
ولذلك فإني اقتديت بهداهم، واقتفيت آثارهم، وتبعت أوامرهم
بالتمسك بالحديث؛ وإن خالف أقوالهم، ولقد كان لهذه الأوامر أكبر الأثر في
نهجي هذا النهج المستقيم، وإعراضي عن التقليد الأعمى. فجزاهم الله تعالى
عني خيراً.
أقوال الأئمة في اتِّباعِ السُّنَّةِ وتَركِ أقوالِهم المخالفَةِ لَها
ومن المفيد أن نسوق هنا ما وقفنا عليه منها أو بعضها، لعلَّ فيها عظةً
وذكرى لمن يقلدهم - بل يقلد من دونهم بدرجات - تقليداً أعمى (1) ، ويتمسك
بمذاهبهم وأقوالهم؛ كما لو كانت نزلت من السماء، والله عز وجل يقول: {اتَّبِعُوا
مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] .
1- أبو حَنِيفة رحمه الله:
فأولهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله، وقد روى عنه
أصحابه أقوالاً شتى، وعبارات متنوعة؛ كلها تؤدي إلى شيء واحد وهو:
وجوب الأخذ بالحديث، وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة له:
(1) وهذا التقليد هو الذي عناه الإمام الطحاوي حين قال:
" لا يقلد إلا عصبي أو غبي ". نقله ابن عابدين في " رسم المفتي "(ص 32 ج 1) من
" مجموعة رسائله ".
1-
" إذا صح الحديث؛ فهو مذهبي "(1) .
2-
" لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا؛ ما لم يعلم من أين أخذناه "(2) .
وفي رواية: " حرام على مَن لم يعرف دليلي أن يُفتي بكلامي ".
(1) ابن عابدين في " الحاشية "(1/63) وفي رسالته " رسم المفتي " (1/4 من مجموعة
رسائل ابن عابدين) ، والشيخ صالح الفُلاني في " إيقاظ الهمم "(ص 62) وغيرهم، ونقل ابن
عابدين عن " شرح الهداية " لابن الشَّحْنَة الكبير- شيخ ابن الهُمَام - ما نصه:
" إذا صح الحديث، وكان على خلاف المذهب؛ عُمِل بالحديث، ويكون ذلك مذهبه، ولا
يخرج مقلده عن كونه حنفيّاً بالعمل به؛ فقد صح عن أبي حنيفة أنه قال:
إذا صح الحديث؛ فهو مذهبي. وقد حكى ذلك الإمام ابن عبد البر عن أبي حنيفة،
وغيره من الأئمة ".
قلت: وهذا من كمال علمهم وتقواهم؛ حيث أشاروا بذلك إلى أنهم لم يحيطوا بالسنة
كلها - وقد صرح بذلك الإمام الشافعي؛ كما يأتي -؛ فقد يقع منهم ما يخالف السنة التي لم
تبلغهم؛ فأمرونا بالتمسك بها، وأن نجعلها من مذهبهم رحمهم الله تعالى أجمعين.
(2)
ابن عبد البر في " الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء "(ص 145) ، وابن القيم
في " إعلام الموقعين "(2/309) ، وابن عابدين في " حاشيته " على " البحر الرائق "(6/293)
وفي " رسم المفتي "(ص 29 و 32) ، والشعراني في " الميزان "(1/55) بالرواية الثانية، والرواية
الثالثة رواها عباس الدوري في " التاريخ " لابن معين (6/77/1) بسند صحيح عن زُفَر، وورد
نحوه عن أصحابه: زُفَر، وأبي يوسف، وعافية بن يزيد - كما في " الإيقاظ "(ص 52) -، وجزم
ابن القيم (2/344) بصحته عن أبي يوسف، والزيادة في التعليق على " الإيقاظ "(ص 65)
نقلاً عن ابن عبد البر، وابن القيم وغيرهما.
قلت: فإذا كان هذا قولهم فيمن لم يَعلم دليلَهم؛ فليت شعري! ماذا يقولون فيمن علم أن =
زاد في رواية: " فإننا بَشَر؛ نقول القول اليوم، ونرجع عنه غداً ".
وفي أخرى: " ويحك يا يعقوب! - وهو أبو يوسف - لا تكتب كل ما
تسمع مني؛ فإني قد أرى الرأي اليوم، وأتركه غداً، وأرى الرأي غداً، وأتركه
بعد غد " (1) .
= الدليل خلاف قولهم، ثم أفتى بخلاف الدليل؟! فتأمل في هذه الكلمة؛ فإنها وحدها كافية
في تحطيم التقليد الأعمى؛ ولذلك أنكر بعض المقلدة من المشايخ نسبتها إلى أبي حنيفة؛
حين أنكرتُ عليه إفتاءه بقولٍ لأبي حنيفة لم يعرف دليله!
(1)
قلت: وذلك لأن الإمام كثيراً ما يبني قوله على القياس، فيبدو له قياس أقوى، أو
يبلغه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيأخذ به، ويترك قوله السابق. قال الشعراني في " الميزان "
(1/62) ما مختصره:
" واعتقادنا واعتقاد كل منصف في الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه؛ أنه لو عاش حتى
دُوِّنَت الشريعة، وبعد رحيل الحفاظ في جَمْعِها من البلاد والثغور، وظفر بها؛ لأخذ بها، وترك
كل قياس كان قاسه، وكان القياس قلَّ في مذهبه، كما قل في مذهب غيره بالنسبة إليه،
لكن لما كانت أدلة الشريعة مفرقة في عصره مع التابعين وتابعي التابعين في المدائن والقرى
والثغور؛ كثر القياس في مذهبه بالنسبة إلى غيره من الأئمة ضرورةً؛ لعدم وجود النص في
تلك المسائل التي قاس فيها؛ بخلاف غيره من الأئمة؛ فإن الحفاظ كانوا قد رحلوا في طلب
الأحاديث وجمعها في عصرهم من المدائن والقرى، ودوّنوها؛ فجاوبت أحاديث الشريعة
بعضها بعضاً، فهذا كان سبب كثرة القياس في مذهبه، وقلته في مذاهب غيره ".
ونقل القسم الأكبر منه أبو الحسنات في " النافع الكبير"(ص 135) ، وعلق عليه بما يؤيده
ويوضحه. فليراجعه من شاء.
قلت: فإذا كان هذا عذر أبي حنيفة فيما وقع منه من المخالفة للأحاديث الصحيحة دون
قصد - وهو عذر مقبول قطعاً؛ لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها -؛ فلا يجوز الطعن =