المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[اللباس في الصلاة] - أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم - جـ ١

[ناصر الدين الألباني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الناشر:

- ‌مقدمة الكتاب

- ‌سَبَبُ تأليفِ الكتابِ

- ‌منهج الكتاب

- ‌أقوال الأئمة في اتِّباعِ السُّنَّةِ وتَركِ أقوالِهم المخالفَةِ لَها

- ‌1- أبو حَنِيفة رحمه الله:

- ‌2- مالك بن أنس رحمه الله:

- ‌3- الشافعي رحمه الله:

- ‌4- أحمد بن حنبل رحمه الله:

- ‌ترك الأَتْباع بعضَ أقوالِ أئمتِهِم اتباعاً لِلسُّنَّةِ

- ‌شبهات وجَوَابها

- ‌استقبال الكعبة

- ‌القيام

- ‌صلاة المريض جالساً

- ‌الصلاةُ في السَّفِينة

- ‌[الاعتماد على عمود ونحوه في الصلاة]

- ‌القيام والقُعود في صلاة الليل

- ‌الصلاةُ في النِّعال والأمْرُ بها

- ‌الصلاةُ على المنبر

- ‌السُّتْرَةُ ووجُوبها

- ‌ما يَقْطَعُ الصَّلاةَ

- ‌الصلاةُ تجاه القبر

- ‌[اللباسُ في الصلاة]

- ‌[المرأة تصلي بخمار]

- ‌النِّيَّةُ

- ‌التكبير

- ‌رَفْعُ اليدَيْنِ

- ‌وَضْعُ اليمنى على اليُسرى، والأمرُ به

- ‌وضعهُمَا على الصَّدْرِ

- ‌[النهي عن الاختصار]

- ‌النَّظَرُ إلى مَوْضع السُّجُودِ، والخُشُوعُ

- ‌أدعية الاستفتاح

- ‌القراءة

- ‌القراءةُ آيةً آيةً

- ‌رُكنيةُ {الفَاتِحَة} وفضائلُها

- ‌نَسْخُ القراءة ِوراءَ الإمام في الجهرية

- ‌وُجُوبُ القراءةِ في السِّرِّيَّةِ

- ‌التَّأمِينُ، وجَهْرُ الإمامِ به

- ‌الأولى:

- ‌ الثانية:

- ‌ الثالثة:

- ‌ الرابعة:

- ‌قراءتُهُ صلى الله عليه وسلم بعدَ {الفَاتِحَة}

الفصل: ‌[اللباس في الصلاة]

[اللباسُ في الصلاة]

وكان صلى الله عليه وسلم يدخل في الصلاة بما تيسر عليه من الثياب، فلم يكن يتخذ

لها ثوباً خاصاً؛ إلا صلاة الجمعة - كما سيأتي -؛ فكان تارة " يصلي في

حُلّة حمراء " (1)(وهي (2) ثوبان: إزار، ورداء) ، وكان يأمر بهما؛ فيقول:

(1) كما قال أبو جحيفة:

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء مشمراً، فصلى إلى العنَزَةِ بالناس ركعتين،

ورأيت الناس والدواب يمرون بين يدي العَنَزةِ.

أخرجه البخاري (1/386 و 10/210) ، ومسلم (2/56) ، وأبو داود (1/86) ،

والنسائي (1/125) وترجم له: (الصلاة في الثياب الحُمْر) ، والترمذي (1/375)

وصححه، وأحمد (4/308) عن عون بن أبي جُحيفة عن أبيه به.

وفي الحديث دلالة على جواز لبس الثياب الحمراء، وهو مذهب الشافعية وغيرهم،

وهو الصواب إن شاء الله تعالى، ولا يصح شيء من الأحاديث في النهي عن لباس

الأحمر، وتأويل الحلة الحمراء بأنها ذات خطوط حمر - كما فعل ابن القيم في " الزاد "

(1/48 و 172) وفي غيره - خلاف الظاهر - كما بينه الشوكاني -.

على أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على الحسن والحسين قميصين أحمرين؛ فلم

ينكر ذلك، وليس هذا موضع تفصيل ذلك، وإنما أردنا الإشارة إليه، فمن شاء التوسع

فيه؛ فليراجع " نيل الأوطار "(2/80 - 83) ، وكذا " التعليقات الجياد ".

(2)

تفسير (الحلة) بذلك هو الأشهر - كما قال الحافظ في " الفتح "(10/213) -.

وقيل:

هي: ثوبان؛ أحدهما فوق الآخر. والرداء: هو الثوب أو البُرْدُ الذي يضعه الإنسان

على عاتقيه، وبين كتفيه فوق ثيابه.

ص: 145

" إذا صلى أحدكم؛ فليأتزر وليرتَدِ "(1) .

حتى " نهى أن يصلي الرجل في سراويل وليس عليه رداء "(2) .

وإنما أراد به القادر على الرداء (3) ؛ كما قال عليه الصلاة والسلام:

" إذا صلى أحدكم؛ فليلبس ثوبيه؛ فإن الله أحق من يُزَّيَّنُ له، فإن لم

يكن له ثوبان؛ فليتزر إذا صلى، ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال (4)

(1) أخرجه الطحاوي (1/221) ، والبيهقي (2/235) من طريق عبيد الله بن معاذ

قال: ثنا أبي قال: ثنا شعبة عن توبة العنبري سمع نافعاً عن ابن عمر مرفوعاً به.

وهذا سند صحيح على شرط الشيخين.

(2)

أخرجه أبو داود (1/103) ، والطحاوي (1/224) ، والحاكم (1/250) ، وعنه

البيهقي (2/236) عن أبي المُنيب عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال:

نهى أن يصلي في لحاف لا يتوشح به، ونهى أن يصلي الرجل

إلخ.

وهذا سند حسن. وأما قول الحاكم وكذا الذهبي: إنه " صحيح على شرط

الشيخين "! فمن أوهامهما؛ فإن أبا المُنِيْب - واسمه: عبيد الله بن عبد الله العَتَكي - ليس

من رجالهما، وهو صدوق يخطئ - كما في " التقريب " -.

(3)

قال الطحاوي:

" وهذا عندنا على الوجود معه لغيره، فإن كان لا يجد غيره؛ فلا بأس بالصلاة فيه،

كما لا بأس في الثوب الصغير؛ مُتّزراً به ".

قلت: ويدل لذلك الأحاديث الآتية بعدُ.

(4)

قال الخطابي في " المعالم "(1/178) :

ص: 146

اليهود " (1) .

" اشتمال اليهود المنهي عنه هو: أن يجلل بدنه الثوب ويسبله؛ من غير أن يشيل

طرفه ".

(1)

أخرجه البيهقي (2/235 - 236) عن أنس بن عياض عن موسى بن عقبة

عن نافع عن عبد الله - ولا يرى نافع إلا أنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

فذكره.

وهذا سند صحيح على شرط الستة؛ لولا التردد في رفعه.

لكن أخرجه الطحاوي (221) من طريق حفص بن ميسرة عن موسى بن عقبة عن

نافع عن ابن عمر قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فذكره بدون تردد في رفعه.

وهذا صحيح أيضاً على شرط الشيخين.

وقد تابعه أيوب عن نافع به.

أخرجه أبو داود (1/103) : ثنا سليمان بن حرب: ثنا حماد بن زيد عنه.

وسنده صحيح أيضاً على شرطهما. وصححه النووي (3/173) .

وأخرجه البيهقي (236) من طريق يوسف بن يعقوب القاضي: ثنا سليمان بن

حرب به؛ إلا أنه تردد في رفعه.

ثم أخرجه كذلك من طريق أبي الربيع: ثنا حماد بن زيد به؛ إلا أنه قال:

وأكثر ظني أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال:

" ورواه الليث بن سعد عن نافع؛ هكذا بالشك ".

ثم أخرجه من طريق سعيد - وهو: ابن أبي عَرُوبة - عن أيوب به مرفوعاً بدون

شك بلفظ:

ص: 147

..............................................................................

" إذا صلى أحدكم في ثوب؛ فليشدَّه على حَقْوِهِ، ولا تشتملوا اشتمال اليهود ".

وسنده صحيح.

وأخرجه الطحاوي - والسياق له -، وأحمد (2/148) عن ابن جريج: قال: أخبرني

نافع:

أن ابن عمر رضي الله عنهما كساه وهو غلام، فدخل المسجد، فوجده يصلي

متوشحاً، فقال: أليس لك ثوبان؟ قال: بلى. قال: أرأيت لو استعنت بك وراء الدار؛

أكنت لابسهما؟ قال: نعم. قال: فالله أحق أن تَزَّيَّنَ له أم الناس؟ قال نافع: بل الله.

فأخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن عمر رضي الله عنه قال نافع: قد استيقنت أنه عن

أحدهما، وما أُراه إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

" لا يشتمل أحدكم في الصلاة اشتمال اليهود - زاد أحمد: ليتوشح -، من كان له

ثوبان؛ فليتّزر، وَلْيَرْتَدِ، ومن لم يكن له ثوبان؛ فليتزر، ثم ليصلِّ ".

ثم أخرجه أحمد (1/16) عن ابن إسحاق: ثنا نافع به نحوه موقوفاً، وفيه قال

نافع:

ولو قلت لك: إنه أسند ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لرجوت أن لا أكون كذبت.

وهذا سند جيد.

وبالجملة؛ فالحديث صحيح مرفوعاً وموقوفاً، ولا منافاة بينهما. والتردد الذي وقع

في بعض الروايات قد زال بقول بعضهم:

" وأكثر ظني أنه رفعه ". وبجزم البعض الآخر برفعه - كما سبق -. وقد جزم برفعه

عن نافع توبة العنبري - كما سبق قريباً -.

ص: 148

وتارة " في جُبَّةٍ شاميةٍ ضيقةِ الكُمَّين "(1) ، حتى إنه " لما أراد الوضوء؛

ذهب يخرج يده من كُمِّها ليتوضأ؛ فضاقتْ عليه، فأخرج يده من

أسفلها " (2) . وكان تحت الجبة قميص أو إزار.

(1) قال ابن القيم في " الزاد "(1/49) :

" وأما هذه الأكمام الواسعة الطوال التي هي كالأخراج؛ فلم يلبسها هو، ولا أحد

من أصحابه ألبتة، وهي مخالفة لسنته، وفي جوازها نظر؛ فإنها من جنس الخُيَلاء ".

قال الشوكاني (2/90) :

" وقد صار أشهر الناس بمخالفة هذه السنة في زماننا هذا العلماء؛ فيُرى أحدهم وقد

جعل لقميصه كمين، يَصْلُحُ كل واحد منهما أن يكون جبة أو قميصاً لصغير من أولاده

أو يتيم، وليس في ذلك شيء من الفوائد الدنيوية إلا العبث، وتثقيل المؤنة على

النفس، ومنع الانتفاع باليد في كثير من المنافع، وتعريضه لسرعة التمزق، وتشويه

الهيئة، ولا الدينية إلا مخالفة السنة، والإسبال، والخيلاء ". اهـ.

(2)

أخرجه البخاري (1/377) ، ومسلم (1/158) ، ومالك (1/57) ، وأبو داود

(1/24) ، والنسائي (1/31 و 5/26 و 32) ، والبيهقي (2/412) ، وأحمد (4/247

و250 و 251) من طرق عن المغيرة بن شعبة قال:

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقضي حاجته، فلما رجع؛ تلقيته بالإداوة، فصببت عليه،

فغسل يديه، ثم غسل وجهه، ثم ذهب ليغسل ذراعيه؛ فضاقت الجبة؛ فأخرجهما من

تحت الجبة، فغسلهما، ومسح رأسه، ومسح على خفيه، ثم صلى بنا.

واللفظ لمسلم. وفي رواية له:

وعليه جبة شامية ضيقة الكمين. زاد في أخرى:

من صوف. وهي عند أبي داود، وزاد

ص: 149

..............................................................................

من جِبَاب الروم. وزاد مسلم في رواية (1/159) :

فأخرج يده من تحت الجبة، وألقى الجبة على منكبيه.

قال الشيخ علي القاري في " المرقاة "(1/361) :

" فيه دليل على أنه كان تحته إزار أو قميص، وإلا؛ لظهرت العورة ". قال البيهقي:

" والجبة الشامية في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من نسج المشركين، وقد توضأ وهي عليه،

وصلى ". ثم روى عن الحسن قال:

" لا بأس بالصلاة في رداء اليهود والنصارى ".

وفي الحديث فوائد كثيرة ذكرها الحافظ في " الفتح "(1/246) منها:

" جواز الانتفاع بثياب الكفار حتى يتحقق نجاستها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لبس الجبة الرومية،

ولم يستفصل ". انتهى.

فإن قيل: قد تقرر في الشرع النهي عن لبسة الكفار؛ كما قال عبد الله بن عمرو:

رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفرين، فقال:

" إن هذه من ثياب الكفار؛ فلا تلبسها ".

أخرجه مسلم (6/144) وغيره؛ فكيف لبس صلى الله عليه وسلم لباس الروم وهم من الكفار، وقد

نهى عن لباسهم؟!

والجواب: إن الألبسة نوعان:

نوع منها مشترك بين جميع الأمم والأديان، ليس شعاراً لبعضهم دون بعض. فهذا

مباح للمسلم لبسها مهما كان شكلها ومصدرها، لا ضير على المسلم في ذلك، وقد جاء

في " الدر المختار ":

ص: 150

..............................................................................

" إن التشبه بأهل الكتاب لا يكره في كل شيء. وذكروا على ذلك عن هشام قال:

رأيت على أبي يوسف نعلين مخصوفين بمسامير، فقلت: أترى بهذا بأساً؟ قال: لا.

قلت: سفيان وثور بن يزيد كرها ذلك؛ لأن فيه تشبهاً بالرهبان. فقال:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي لها شعر، وإنها من لباس الرهبان ". اهـ.

ومن هذا النوع كانت جبة النبي صلى الله عليه وسلم الرومية فيما يظهر لنا.

وأما النوع الآخر؛ فهو ما كان شعاراً لبعض الأمم الكافرة؛ يتميزون به عن غيرهم

من الأمم. فلا يجوز حينئذٍ لمسلم أن يقلدهم، وأن يتشبه بهم في ذلك؛ لما في ذلك من

تضعيف شوكة المسلمين؛ بتقليل عددهم في الظاهر، وتقوية أعدائهم عليهم بذلك، وقد

تقرر في علم النفس - كما كنت قرأت في بعض الكتب والمجلات العصرية -: أن للظاهر

تأثيراً في الباطن. وذلك مشهود في بعض المظاهر، وقد أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم

بقوله حينما كان يسوي الصفوف:

" لا تختلفوا؛ فتختلفَ قلوبكم ".

رواه أبو داود (1/107) ، والنسائي (1/130) ، وابن خزيمة في " صحيحه ".

وسنده صحيح عن البراء به. وعن النعمان بن بشير مرفوعاً:

" عباد الله! لَتُسَوُّنَّ صفوفكم؛ أو ليخالفن الله بين وجوهكم ".

أخرجه الشيخان، وأصحاب " السنن " وغيرهم.

فجعل صلى الله عليه وسلم اختلاف الظواهر سبباً لاختلاف البواطن والقلوب، وعلى هذا النوع من

اللباس يُنَزَّل حديث ابن عمرو المذكور سابقاً، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم:

" من تشبه بقوم؛ فهو منهم ".

أخرجه أبو داود (2/172 - 173) ، وأحمد (2/50) من طريق عبد الرحمن بن ثابت

ص: 151

وكان أحياناً " يصلي في بُرْدٍ له حضرميٍّ متَوَشِّحَه، ليس عليه غيره "(1) .

و" في ثوب واحد؛ مخالفاً بين طرفيه، يجعلهما على منكبيه (2) "(3) .

ابن ثوبان: ثنا حسان بن عطية عن أبي منيب الجُرَشي عن ابن عمر مرفوعاً به.

وهذا إسناد حسن - كما قال الحافظ في " الفتح "(10/222) -، وصححه شيخه

العراقي في " تخريج الإحياء "(1/242) ، وسبقه إلى ذلك ابن حبان - كما في " بلوغ

المرام " (4/239 - سبل السلام) -.

قلت: وقد أخرجه الطحاوي في " مشكل الآثار "(1/88) من طريق الوليد بن

مسلم: ثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية به.

وهذا سند صحيح إذا كان الأوزاعي سمعه من حسان؛ فإن الوليد بن مسلم يدلس

تدليس التسوية؛ لا سيما عن الأوزاعي.

وفي الباب أحاديث أخرى كثيرة في النهي عن التشبه بالكفار، ليس هذا موضع

روايتها؛ فليراجع لذلك كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " لشيخ

الإسلام ابن تيمية، فإنه خير كتاب وقفنا عليه في هذا الموضوع.

(1)

أحمد (1/265) ، والطحاوي.

(2)

قال الباجي:

" يريد أنه أخذ طرف ثوبه تحت يده اليمنى، ووضعه على كتفه اليسرى، وأخذ

الطرف الآخر تحت يده اليسرى، فوضعه على كتفه اليمنى. وهذا نوع من الاشتمال

يسمى: التوشيح. ويسمى: الاضطباع. وهو مباح في الصلاة وغيرها؛ لأنه يمكنه إخراج

يده للسجود وغيره دون كشف عورته ". كذا في " تنوير الحوالك ".

(3)

قد جاء ذلك من طرق كثيرة عن جمع من الصحابة؛ حتى صار بذلك

ص: 152

..............................................................................

متواترا تواتراً معنوياً، وإليك بعضاً - أو كثيراً - من أحاديثهم:

1-

عن عمر بن أبي سلمة قال:

رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد، مشتملاً به في بيت أم سلمة، واضعاً

طرفيه على عاتقيه.

أخرجه البخاري (1/373) ، ومسلم (2/61 - 62) ، ومالك (1/158) ، وأبو داود

(1/102) ، والنسائي (1/124) ، والترمذي (2/166) وصححه، وابن ماجه

(1/324) ، والطحاوي (1/222) ، والبيهقي (2/237) ، وأحمد (4/26 و 27) ؛ كلهم

عن هشام بن عروة عن أبيه.

إلا أبا داود، ورواية لمسلم، وللطحاوي، وأحمد؛ فعن أبي أمامة بن سهل؛ كلاهما

عنه.

واللفظ لعروة عند البخاري وغيره. وفي لفظ:

متوشحاً.. بدل: مشتملاً. وقال أبو أمامة:

ملتحفاً مخالفاً بين طرفيه.

2-

عن أم هانئ:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في بيتها عام الفتح ثماني ركعات في ثوب قد خالف بين

طرفيه.

أخرجه مالك (1/166) ، وعنه البخاري (1/373 و 6/209 و 10/454) ، ومسلم

(1/182 - 183 و 2/158) ، ومحمد في " موطئه "(116) ، والنسائي (1/46) ،

والطحاوي (1/222) ، وأحمد (6/343) ؛ كلهم عن مالك عن أبي النضر مولى عمر ابن

عبيد الله: أن أبا مرة مولى عقيل بن أبي طالب أخبره أنه سمع أم هانئ به. واللفظ لمسلم.

ص: 153

..............................................................................

وأخرجه مسلم، والطحاوي، وأحمد (6/341 و 342) ، والطيالسي (225) من طرق

أخرى عن أبي مرة به.

3-

عن جابر بن عبد الله قال:

رأيت رسول الله يصلي في ثوب واحد متوشحاً به.

أخرجه البخاري (1/372) ، ومسلم (1/62) ، والطحاوي (1/223) ، والبيهقي

(2/237) ، والطيالسي (238) ، وأحمد (3/294 و 312 و 326 و 343 و 351 و 352

و356 و 357 و 386 و387 و 391) من طرق عنه به. واللفظ لمسلم. وقال الطيالسي،

والبيهقي، وأحمد:

مخالفاً بين طرفيه على عاتقه.

وفي رواية للطحاوي (1/222) من طريق القعقاع بن حكيم قال:

دخلنا على جابر بن عبد الله وهو يصلي في ثوب واحد، وقميصه ورداؤه في

المشجب، فلما انصرف؛ قال:

أما والله! ما صنعت هذا إلا من أجلكم، إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة في ثوب

واحد؟ فقال:

" نعم؛ ومتى يكون لأحدكم ثوبان؟! ".

وسنده صحيح.

4-

عن أبي سعيد الخدري مثله.

أخرجه مسلم، وابن ماجه، والبيهقي، وأحمد (3/10 و 59) من طريق أبي سفيان

عن جابر عنه.

وله في " المسند "(3/379) طريق آخر.

ص: 154

..............................................................................

5- عن عبد الرحمن بن كيسان عن أبيه قال:

رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر والعصر في ثوب واحد مُتَلَيِّبَاً به.

أخرجه ابن ماجه، وأحمد (3/417) .

وسنده محتمل للتحسين، وجزم بحسنه البوصيري في " الزوائد ".

وفي الباب عن جمع غير هؤلاء من الصحابة، وقد أخرج أحاديثهم الهيثمي في

" المجمع "(2/48 - 51) ، فمن شاء؛ فليراجعها هناك.

وفي الباب عن أنس، ويأتي حديثه قريباً، وهو المذكور بعد هذا.

واعلم أن الالتحاف والتوشح بمعنى واحد، وهو: المخالف بين طرفيه على عاتقيه.

وهو الاشتمال على منكبيه - كما ذكره البخاري عن الزهري -. وذكر نحوه النووي في

" شرح مسلم ".

وأما المُتَلَبِّبُ بالثوب: فهو أن يجمعه عند صدره، يقال:(تَلَبّبَ بثوبه) : إذا جمعه

عليه. قال النووي:

" وفي هذه الأحاديث جواز الصلاة في الثوب الواحد، ولا خلاف في ذلك؛ إلا ما

حكي عن ابن مسعود رضي الله عنه فيه. ولا أعلم صحته ".

قلت: كأنه يشير إلى ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال:

لا تُصَلِّيَنَّ في ثوب واحد؛ وإن كان أوسع ما بين السماء والأرض.

سكت عليه في " الفتح ". ولعل قول ابن مسعود هذا محمول على ما إذا كان عنده

ثوب آخر؛ بدليل حديثه الآخر:

وهو ما أخرجه عبد الله بن أحمد في " زوائده "(5/141) من طريقين عن أبي مسعود

ص: 155

..............................................................................

الجريري عن أبي نضرة بن بقية قال: قال أُبي بن كعب:

الصلاة في الثوب الواحد سنة؛ كنا نفعله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعاب علينا.

فقال ابن مسعود:

إنما كان ذاك؛ إذ كان في الثياب قلة، فأما إذ وسع الله؛ فالصلاة في الثوبين أزكى.

ورجاله ثقات رجال مسلم؛ لكن قال في " مجمع الزوائد "(2/49) :

" وأبو نضرة: لم يسمع من أُبيٍّ، ولا من ابن مسعود ".

قلت: قد وصله البيهقي (2/238) من طريق يزيد بن هارون: أبنا داود عن أبي

نضرة عن أبي سعيد قال:

اختلف أبي بن كعب وابن مسعود في الصلاة في ثوب واحد

الحديث بنحوه.

وهذا سند صحيح. قال البيهقي:

" وهذا يدل على أن الذي أمر به ابن مسعود في الصلاة في ثوبين استحباب لا

إيجاب ". اهـ.

ويدل لما قاله ابن مسعود رضي الله عنه من أن الاقتصار على الثوب الواحد إنما

كان وفي الثياب قلة - حديث جابر المتقدم عند الطحاوي، ومثله حديث أبي هريرة

الآتي: "أَوَلكلكم ثوبان؟ ". وما سنذكره من قول عمر في ذلك.

وكون الصلاة في الثوبين أزكى وأفضل - كما قال ابن مسعود -؛ مجمع عليه - كما

حكاه النووي في " شرح مسلم " -، ويدل لذلك الأمر بالارتداء والاتزار - كما في الحديث

السابق -.

ص: 156

و " آخر صلاة صلاها في ثوب قِطْرِيٍّ (1) متوشحاً به "(2) . وقال:

(1) هو ضرب من البرود؛ فيه حمرة، ولها أعلام فيها بعض الخشونة. وقيل: هي

حُلل جِيَاد، وتحمل من قبل البحرين. وقال الأزهري: في أعراض البحرين قرية يقال

لها: قَطَر، وأحسب الثياب القِطْرِيَّةَ نسبت إليها، فكسروا القاف للنسبة، وخففوا. كذا

في " النهاية ". وقال العسقلاني:

" ثياب من غلِيظ القطن ونحوه ". نقله القاري في " شرح الشمائل ".

(2)

هو من حديث أنس:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر في ثوب واحد بُرْدٍ مخالفاً بين طرفيه،

فكانت آخر صلاة صلاها.

أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح عن حميد عن ثابت عنه.

وأخرجه الترمذي وغيره. وقد تقدم في صلاته صلى الله عليه وسلم قاعداً [ص 83 - 84] .

ورواه الترمذي في " الشمائل "(1/136 - 138) ، وأحمد (3/262) من طريقين عن

حماد بن سلمة عن حبيب بن الشهيد عن الحسن عن أنس بن مالك:

أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وهو متكئ على أسامة بن زيد، عليه ثوب قِطْري قد توشح به،

فصلَّى بهم.

وهذا إسناد على شرط مسلم.

ثم أخرجه أحمد (3/257 و 281) قال: ثنا عفان: ثنا حماد بن سلمة قال: ثنا

حميد عن الحسن وعن أنس - فيما يحسب حماد -:

أن رسول الله خرج يتوكأ على أسامة بن زيد، وهو متوشح بثوب قطن قد خالف بين

طرفيه، فصلى بالناس.

ص: 157

" إذا صلى أحدُكم في ثوبٍ واحدٍ؛ فَلْيُخَالِفْ بين طَرفيه [على عاتِقَيْهِ] "(1) .

وفي لفظ:

" لا يصلِّي أحدُكم في الثوبِ الواحد ليس على عاتِقَيْه منه شيءٌ "(2) .

وهذا أيضاً صحيح على شرط مسلم. وقد عزاه في " المجمع "(2/49) للبزار وحده، وقال:

" رجاله رجال " الصحيح " "! وهو ذهول منه عن كونه في " مسند أحمد ".

وأخرجه الطيالسي (285) ، لكنه شك؛ هل هو عن أنس أو الحسن؟

(1)

أخرجه البخاري (1/375) ، وأبو داود (1/102) ، والبيهقي (2/238) ،

وأحمد (2/255 و 427) من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن أبي هريرة

مرفوعاً به. واللفظ لأحمد، والزيادة عند الجميع ما عدا البخاري، وهي في " مستخرج "

الإسماعيلي، وأبي نعيم - كما في " فتح الباري " -.

وله طريق آخر: رواه الطحاوي (1/223) عن عبد الله بن عياش عن ابن هرمز عنه مرفوعاً.

وأما اللفظ الآخر؛ فأخرجه البخاري (1/374 - 375) ، ومسلم (2/61) ، وأبو

داود، والنسائي أيضاً (1/125) ، والدارمي (1/318) ، والطحاوي، والبيهقي من طريق

أبي الزناد عن الأعرج عنه مرفوعاً به. ولفظ الدارمي والبيهقي:

" لا يصلين "؛ بزيادة نون التأكيد.

وكذلك أخرجه الشافعي في " الأم "(1/77) من طريق مالك عن أبي الزناد، ومن طريقه

أيضاً الدارقطني في " غرائب مالك " عن عبد الوهاب بن عطاء عنه - كما في " الفتح " -.

(2)

قال الخطابي:

" يريد أنه لا يتزر به في وسطه ويشد طرفيه على حَقويْه؛ ولكن يتزر به، ويرفع

طرفيه؛ فيخالف بينهما، ويشده على عاتقه؛ فيكون بمنزلة الإزار والرداء ". قال الشيخ

ص: 158

..............................................................................

علي القاري (1/479) :

" والحكمة في ذلك أن لا يخلو العاتق من شيء؛ لأنه أقرب إلى الأدب، وأنسب

إلى الحياء من الرب، وأكمل في أخذ الزينة عند المطلب. والله أعلم ".

وظاهر النهي في هذه الرواية يفيد التحريم؛ كما أن ظاهر الرواية الأولى يفيد

الوجوب. وقد ذهب إلى ذلك جماعة من السلف، ومنهم الإمام أحمد رضي الله عنه،

والمشهور عنه: أنه لو صلى مكشوف العاتق مع القدرة على السترة؛ لم تصح صلاته.

فجعله شرطاً. وهو مذهب ابن حزم في " المحلى "(4/70) .

وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد: أنه تصح صلاته، ولكن يأثم بتركه.

وذهب الجمهور - مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وغيرهم - إلى أن النهي للتنزيه،

والأمر للاستحباب؛ فلو صلى في ثوب واحد ساتراً لعورته، ليس على عاتقه منه شيء؛

صحت صلاته مع الكراهة، سواء قدر على شيء يجعله على عاتقه أم لا. قال النووي

في " شرح مسلم ":

" وحجة الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم:

" فإن كان واسعاً؛ فالتحِفْ به، وإن كان ضيقاً؛ فاتَّزِرْ به " ".

قلت: لست أدري ما وجه الاحتجاج بهذا الحديث على عدم الوجوب؛ بينما هو

واضح الدلالة لمذهب أحمد وغيره، وهو التفريق بين الثوب الواسع - فيجب الالتحاف به -،

وبين الضيِّق - فلا يجب -، فكما أنه أمر بالائتزار به إن كان ضيقاً - وذلك واجب -؛

فكذلك أمر بالالتحاف به إذا كان واسعاً؛ فهو واجب.

فهذا المذهب - وهو وجوب المخالفة بين طرفي الثوب - هو الأقوى من حيث الدليل

والبرهان، وإليه مال البخاري - كما يدل تصرفه في " صحيحه " -؛ كما قال الحافظ، قال:

ص: 159

وقيد ذلك بالثوب الواسع؛ فقال:

" إذا صلَّيتَ وعليك ثوبٌ واحد، فإن كان واسعاً؛ فالتحف به، وإن

كان ضيقاً؛ فاتزر به " (1) .

" وهو اختيار ابن المنذر وتقي الدين السبكي من الشافعية ".

قلت: وإليه ذهب الشوكاني في " نيل الأوطار "(2/59 - 61) .

وأما بطلان الصلاة بترك ذلك؛ فالحديث لا يدل إلا على بعض القواعد؛ وبها نظر.

والله أعلم.

واحتج الجمهور بحجة أخرى، وهي صلاته صلى الله عليه وسلم وبعض ثوبه على زوجه، كما يأتي

ذلك قريباً، وسنذكر هناك وجه الاستدلال بذلك، والجواب عنه إن شاء الله تعالى.

(1)

هو من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه، وقد جاء عنه من طرق:

الطريق الأول: عن فُلَيح بن سليمان عن سعيد بن الحارث قال:

دخلنا على جابر بن عبد الله وهو يصلي في ثوب واحد ملتحفاً به، ورداؤه قريب، لو

تناوله؛ بلغه، فلما سلّم؛ سألناه عن ذلك؟ فقال:

إنما أفعل هذا ليراني الحمقى أمثالكم؛ فَيُفْشوا على جابر رخصةً رخصها رسول

الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال جابر:

خرجت مع رسول الله في بعض أسفاره، فجئته ليلة وهو يصلي في ثوب واحد،

وعليَّ ثوب واحد، فاشتملت به، ثم قمت إلى جنبه. قال:

" جابرُ! ما هذا الاشتمال؟ إذا صليت

" فذكر الحديث.

أخرجه البخاري (1/375 - 376) ، والبيهقي (2/238) ، وأحمد (3/328)

والسياق له.

ص: 160

..............................................................................

وفي رواية الآخَرَين التصريح بأنه عليه الصلاة والسلام قال له ذلك بعد الانصراف

من الصلاة.

الطريق الثاني: عن حاتم بن إسماعيل عن يعقوب بن مجاهد أبي حَزْرَة عن عبادة

ابن الوليد بن عبادة بن الصامت قال:

أتينا جابر بن عبد الله في مسجده وهو يصلي

فذكره بنحوه. ولفظ المرفوع:

" إذا كان واسعاً؛ فخالف بين طرفيه، وإذا كان ضيقاً؛ فاشدده على حَقوك ".

أخرجه مسلم في حديث جابر الطويل (8/231 - 234) ، وأبو داود (1/103) ،

والبيهقي (2/239)، وكذا الحاكم (1/254) وقال:

" صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه ". ووافقه الذهبي! فوهم في الاستدراك

على مسلم.

الطريق الثالث: عن شُرحبيل بن سعد أنه دخل على جابر وهو يصلي

الحديث

نحوه. وشرحبيل: صدوق اختلط بآخره - كما في " التقريب " -، وبقية رجاله عند أحمد

رجال الشيخين. وله:

طريق رابع: بلفظ مختصر عن ابن جريج قال: قال أبو الزبير: قال جابر: قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" من صلى في ثوب واحد؛ فلينعطف به ".

ورجاله على شرط مسلم؛ لكن ابن جريج وشيخه أبو الزبير مدلسان، ولم يصرحا بالسماع.

والحديث نص واضح في التفريق بين الثوب الواسع والضيق؛ فيجب الالتحاف

بالأول - لظاهر الأمر -، دون الثاني؛ فيجوز الائتزار به بدون كراهة. وهو مذهب أحمد

وغيره من السلف، وهو الحق إن شاء الله تعالى - كما سبق بيانه فيما تقدم قريباً -.

ص: 161

و " قال له رجل: أيصلي أحدنا في ثوب واحد؟ فقال:

" أَوَ كلكم يجد ثوبين؟! " " (1) .

(1) هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد جاء عنه من ثلاثة طرق:

الطريق الأول: أخرجه مالك (1/128) ، وعنه محمد في " موطئه "(113) ،

والبخاري (1/374) ، ومسلم (2/61) ، وأبو داود (1/102) ، والنسائي (1/124) ،

والطحاوي (1/221) ، والبيهقي (2/237) ؛ كلهم عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد

ابن المسيب عنه.

ورواه ابن ماجه (1/334) ، وأحمد (2/278) من حديث سفيان بن عيينة عن

الزهري به.

الطريق الثاني: أخرجه البخاري (1/378) ، ومسلم، والدارمي (1/318) ،

والطحاوي، والدارقطني (105) ، والبيهقي (2/236) ، والطيالسي (326) ، وأحمد

(2/230 و 495 و 498 و 499) ، والطبراني في " الصغير "(ص 28 و 231) من طرق

كثيرة عن محمد بن سيرين عنه به.

الطريق الثالث: أخرجه مسلم، والطحاوي، وأحمد (2/265 و 285 و 345) من

طرق عن الزهري عن أبي سلمة عنه به.

وتابعه محمد بن عمرو عن أبي سلمة.

أخرجه الطحاوي، وأحمد (2/501) .

وله شاهد من حديث طلق بن علي قال:

خرجنا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم وفداً حتى قدمنا عليه، فبايعناه، وصلينا معه. فجاء

رجل، فقال: يا نبي الله! ما ترى في الصلاة في الثوب الواحد؟ فأطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم

إزاره، وطارق به رداءه، واشتمل بهما، وقام يصلي بنا، فلما قضى الصلاة؛ قال:

ص: 162

..............................................................................

" أوكلكم يجد ثوبين؟! ".

أخرجه أبو داود، والطحاوي (1/222) ، والبيهقي (2/240) ، وأحمد (4/22) من طريق

ملازم بن عمرو الحنفي: ثنا عبد الله بن بدر عن قيس بن طلق عن أبيه به. واللفظ للبيهقي.

وهذا إسناد صحيح.

وتابعه محمد بن جابر بن يسار بن طارق الحنفي عن عبد الله مختصراً.

أخرجه أحمد (4/23) .

ثم أخرجه هو، والطحاوي من طريق أخرى عن أبان بن يزيد قال: ثنا يحيى بن أبي

كثير عن عيسى - وفي الطحاوي: عثمان! وهو تحريف - ابن خثيم عن قيس بن طلق:

أن أباه شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأله رجل عن الصلاة في الثوب الواحد، فلم يقل

له شيئاً، فلما أقيمت الصلاة؛ طارق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ثوبيه، فصلى فيهما.

وإسناده حسن. رجاله كلهم ثقات مشهورون، غير عيسى بن خثيم - وهو: الحنفي

اليمامي -: وثقه ابن حبان؛ وقد روى عنه جماعة غير يحيى بن أبي كثير.

وقد تابعه أيوب بن عتبة عن قيس.

أخرج الطيالسي ذلك، وزاد البخاري والدارقطني والبيهقي في حديث محمد بن سيرين:

ثم قام رجل إلى عمر، فسأله عن الصلاة في الثوب الواحد. وقال الدارقطني:

" فلما كان عمرُ؛ قام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين! أيصلي الرجل في الثوب

الواحد؟ فقال:

إذا وسع الله عليكم؛ فأوسعوا. جمع رجل عليه ثيابه، صلى رجل في إزار ورداء،

في إزار وقميص، في إزار وقَباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل

- قال: وأحسبه قال: - في تُبّان وقباء، في تبّان وقميص، في تبّان ورداء ". اهـ.

ص: 163

..............................................................................

قوله: (طارَقَ بينهما) ؛ أي: طابق بينهما، فجعلهما كأنهما ثوب واحد، فصلى

بهما. يريد صلى الله عليه وسلم أن يبين للسائل جواز الصلاة في الثوب الواحد مع وجود الآخر، فكيف

إذا لم يوجد غيره؟!

وقوله: (التبان) - بضم المثناة، وتشديد الموحدة -: وهو على هيئة السراويل؛ إلا أنه

ليس له رجلان. قال ابن الملك:

" تضمّن هذا الحديث فائدتين:

إحداهما: ورود الفعل الماضي بمعنى الأمر؛ وهو قوله: " صلى ". والمعنى: لِيُصَلّ.

ومثله قولهم: " اتقى اللهَ عبدٌ ". والمعنى: لِيَتَّقِ.

ثانياً: حذف حرف العطف؛ فإن الأصل: صلى رجل في إزار ورداء، وإزار

وقميص. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم:

" تصدق امرؤ من ديناره، من درهمه، من صاع بره "". اهـ. " الفتح ".

وقال النووي:

" ومعنى الحديث: أن الثوبين لا يقدر عليهما كل واحد، فلو وجبا؛ لعجز من لا

يقدر عليهما عن الصلاة، وفي ذلك حرج، وقد قال الله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} .

وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم في ثوب واحد؛ ففي وقت كان

لعدم ثوب آخر، وفي وقت - كان مع وجوده - لبيان الجواز؛ كما قال جابر:

ليراني الجهال.

وإلا؛ فالثوبان أفضل؛ لما سبق ". انتهى. وقال أبو زرعة في " طرح التثريب " (2/239) :

" واستُدل به على أن الصلاة في ثوبين أفضل لمن قدر على ذلك؛ لأنه عليه الصلاة

ص: 164

..............................................................................

والسلام أشار إلى أن المعنى في ذلك ضِيْقُ الحال، وعجز بعض الناس عن ثوبين؛ فدلَّ

على أن الأكمل ثوبان؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه:

إذا وسع الله عليكم؛ فأوسعوا. ولا خلاف في ذلك - كما صرح به القاضي عياض وغيره - ".

(فائدة) : قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على " الترمذي "(2/ 168 - 169)

- بعد ذكر هذا الحديث، وحديث جابر المتقدم -:

" وقد فرَّع الفقهاء هنا فروعاً كثيرة، وتجد العلماء ينكرون على من يصلي في بعض

ثيابه ويدع بعضها، وخصوصاً من يصلي مكشوف الرأس؛ يزعمون الكراهة! ولا دليل

لهم على هذا. ومن البديهي أن من يصلي في ثوب واحد - يشتمل به أو يتزر -؛ لا

يكون على رأسه عمامة، ولم يرد أي حديث - فيما نعلم - يدل على كراهة الصلاة

مكشوف الرأس ".

قلت: ذكر الشعراني في " كشف الغمة "(1/70) :

وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بستر الرأس في الصلاة بالعمامة أو القلنسوة، وينهى عن كشف

الرأس في الصلاة، ويقول:

" إذا أتيتم المساجد؛ فأتوها معصّبين ". والعصابة هي: العمامة ". اهـ.

وهذه أخبار غريبة لم نجد لها أصلاً في شيء من الكتب التي عندنا! وكتاب

الشعراني هذا مليء بمثل هذه الأخبار الغريبة، وبالأحاديث الضعيفة الواهية؛ فقد جمع

فيه ما صح وما لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال في سيرته صلى الله عليه وسلم!

لكن ما ذهب إليه الشيخ أحمد شاكر من نفي كراهة كشف الرأس في الصلاة،

واستدلاله بجواز الصلاة في الثوب الواحد؛ غير سديد؛ وذلك لأنا قد بَيَّنَّا - فيما سبق -

أن الصلاة في الثوبين أفضل لمن وجد ذلك، فمن لم يفعل وصلى في ثوب واحد؛ فقد

ارتكب الكراهة، فحديث أبي هريرة يفيد جوازاً مرجوحاً بالشرط المذكور، فكذلك من

ص: 165

..............................................................................

صلى مكشوف الرأس وعنده ما يستره؛ فهو مكروه، ومن لا؛ فلا.

هذا يقال فيما إذا كانت الأخبار الواردة في الصلاة في الثوب الواحد تشمل حتى

صلاة مكشوف الرأس كما يريد الشيخ المذكور أن يفهم ذلك منها. ونحن نخالفه في

ذلك، ونزعم أن تلك الأحاديث لا تتعرض لكشف الرأس مطلقاً؛ بل لستر ما دونه من

البدن؛ وذلك لأن المعهود من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه كان يتعمم، أو يَتَقَلْنَسُ، وكذلك كان

أصحابه، فلو أنه صلى الله عليه وسلم حينما صلى في الثوب الواحد صلى مكشوف الرأس؛ لذكر ذلك

من روى صلاته تلك، لا سيما وهم جمع غفير - كما سبق -، فعدم روايتهم لذلك دليل

على أنه صلى صلاته المعتادة؛ إلا فيما ذكروه من اقتصاره صلى الله عليه وسلم في الثوب الواحد لبدنه.

ومثل هذا الأمر لا يقال فيه: إن الأصل العدم، فمن ادعى الثبوت؛ فعليه الإثبات!

لأننا بيَّنا أن المعتاد منه صلى الله عليه وسلم ستر الرأس؛ فالأصل هنا ثابت، فمن ادعى خلافه؛ فعليه

الدليل ولو كان نافياً، وليس مَن نفى لا يطالب بالدليل دائماً - كما هو مقرر في موضعه -،

فثبت بذلك أن هديه صلى الله عليه وسلم الصلاةُ مستورَ الرأس (*) . وقد قال صلى الله عليه وسلم:

" صلوا كما رأيتموني أصلي ".

فأقل ما يستفاد من مجموع الفعل والأمر الاستحباب، وعكسه الكراهة، ويؤيد

ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بالصلاة في النعلين مخالفةً لليهود - كما سبق في محله -،

فالقياس، وعموم النصوص الناهية عن التشبه بالكفار - لا سيما في عبادتهم -، كل

ذلك يقتضي كراهة الصلاة حاسر الرأس؛ لأن ذلك من التشبّه بالنصارى حينما يقومون في

عبادتهم حاسرين - كما هو مشهور عنهم -، فهل المخالفة في الأرجل أقوى، أم في الرؤوس؟!

هذا ما ظهر لي في هذا المقام. والله تعالى هو الموفق.

_________

(*) وانظر " تمام المنة "(ص 164) ؛ ففيه مزيد بيان.

ص: 166

وقال له آخر (1) :

" إني أصيد (2) ؛ أفأصلي في القميص الواحد؟ قال:

(1) هو سلمة بن الأكوع.

أخرجه عنه أبو داود (1/102) ، والطحاوي (1/222) ، والحاكم (1/250) ،

والبيهقي (2/240) من طريق عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدِيّ: ثنا موسى بن إبراهيم عنه.

وقد تابعه عَطَّاف بن خالد المخزومي عن موسى.

أخرجه النسائي (1/124) ، وأحمد (4/49) ، وصرح موسى بسماعه من سلمة في

رواية عنده.

وكذا أخرجه البخاري في " تاريخه "، وكذلك صرح في رواية الحاكم.

وأخرجه ابن خزيمة، وابن حبان في " صَحيحَيهِما " - كما في " الفتح " و " التهذيب " -.

وأخرجه الشافعي في " الأم "(1/78) من الطريقين فقال: أخبرنا العطاف بن خالد

وعبد العزيز بن محمد الدراوردي عن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن

أبي ربيعة به.

وهذا سند حسن - كما قال في " المجموع "(3/4 و 110) -؛ موسى هذا: قال ابن

المديني:

" وسط ". وذكره ابن حبان في " الثقات ". وقال الحاكم:

" صحيح ". ووافقه الذهبي.

(2)

إنما ذكر الصيد لأن الصائد يحتاج أن يكون خفيفاً؛ ليس عليه ما يشغله عن

الإسراع في طلب الصيد. قاله ابن الأثير في شرحه لـ " المسند " [يعني: " مسند

الشافعي "]- كما في " النيل " (2/61) -. =

ص: 167

" نعم، وزُرَّهُ (1) ولو بشوكة " ".

= ثم أخرجه البخاري عن إسماعيل بن أبي أُوَيْس عن أبيه عن موسى بن إبراهيم

عن أبيه عن سلمة. زاد في الإسناد رجلاً. قال الحافظ:

" فاحتمل أن يكون من المزيد في متصل الأسانيد، أو يكون التصريح في رواية

عطاف وهماً؛ فهذا وجه النظر في إسناده - يعني الذي قاله البخاري في " صحيحه "؛

وقد ذكر الحديث معلقاً، وقال: في إسناده نظر. ثم قال: -، وأما من صححه؛ فاعتمد

رواية الدراوردي، وجعل رواية عطاف شاهدة؛ لاتصالها ". اهـ.

(1)

بتقديم المعجمة على المهملة المشددة؛ من باب (نَصَرَ) والمراد: ربِّطْ جيبه؛ لئلا

تظهر عورتك، ثم صلِّ فيه. " سِنْدِي ".

قلت: وأما ما أخرجه الحاكم (1/250) ، وعنه البيهقي (2/240) من طريق الوليد

ابن مسلم: ثنا زهير بن محمد التميمي: ثنا زيد بن أسلم قال:

رأيت ابن عمر يصلي محلول إزارِه، فسألته عن ذلك؟ فقال:

رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. قال الحاكم:

" صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا؛ لكن قال البيهقي:

" تفرد به زهير بن محمد، وبلغني عن أبي عيسى الترمذي أنه قال: سألت محمداً

- يعني: البخاري - عن حديث زهير هذا؟ فقال:

أنا أتقي هذا الشيخ؛ كأن حديثه موضوع، وليس هذا عندي زهير بن محمد، وكان

أحمد بن حنبل يضعف هذا الشيخ، ويقول: هذا شيخ ينبغي أن يكونوا قلبوا اسمه.

وأشار البخاري إلى بعض هذا في " التاريخ "، وروى ذلك عن ابن عمر من أوجه دون

السند ". اهـ.

ص: 168

..............................................................................

والحديث رواه ابن خزيمة في " صحيحه " عن الوليد بن مسلم عن زيد.

كذا ذكره في " الترغيب "(1/42) ، وأورده في " المجمع "(1/175)، فقال:

"رواه البزار، وأبو يعلى. وفي إسنادهما عمرو بن مالك، ذكره ابن حبان في

" الثقات "؛ قال:

يغرب ويخطئ ". اهـ.

قلت: وهو الراسبي، وهو ضعيف - كما في " التقريب " -، وهو من شيوخ الترمذي؛

فهو متأخر الطبقة عن الوليد بن مسلم، وقد روى عنه؛ فلعل هذا الحديث من روايته

عنه، فإن كان كذلك؛ فقد تابعه صفوان بن صالح في رواية الحاكم، وهو ثقة؛ كما في

" التقريب "، قال:

" وكان يدلس تدليس التسوية ".

قلت: وقد صرح بسماعه من الوليد، وكذلك صرح سائر الرواة بسماع بعضهم من

بعض - كما رأيت -؛ فلا علة للحديث؛ إلا إن صح ما قاله البخاري وأحمد في زهير بن

محمد.

والقصد: أن هذا الحديث محمول على أن القميص كان ضيق الجيب بحيث لا

ترى منه العورة، أو أنه لم يكن وحده؛ بل كان تحته ثوب آخر. والله أعلم.

واختلف العلماء في الذي يصلي في قميص واسع الجيب بحيث تُرى عورتُه

منه؛ فذهب الشافعي وأصحابه إلى أن الصلاة باطلة لا تجزئه، وهو نصه في " الأم "

(1/78) .

وعند أبي حنيفة ومالك: تصح صلاته؛ كما لو رآها غيره من أسفل ذيله - كما في

" المجموع " للنووي (3/174 - 175) -.

ص: 169

وكان يصلي في مِرْطٍ بعضُه على زوجه وهي حائض (1) .

وكان يصلي في الثوب الذي يصيب فيه أهله إذا لم يَرَ فيه أذىً (2) .

وكان يصلي المغرب في فَرُّوج من حرير - وهو القَباء -، فلما قضى

صلاته؛ نزعه نزعاً شديداً كالكاره له، ثم ألقاه، ثم قال:

" لا ينبغي هذا للمتقين "(3) .

وقد " صلى في خَمِيْصَةٍ (4) لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما

انصرف؛ قال:

" اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جَهْمٍ، وائتوني بأنْبِجَانِيَّة (5) أبي

جهم؛ فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي (وفي رواية: فإني نظرتُ إلى عَلَمِها

في الصلاة، فكاد يفتنني) " "(6) .

(1)[أخرجه] مسلم (2/61) ، وأبو داود (1/61) ، وابن ماجه (1/234) ،

والدارمي (1/188) ، والبيهقي (2/239) .

(2)

[أخرجه] أبو داود (1/61) .

(3)

[أخرجه] البخاري (1/385 و 10/222) ، [ومسلم] ، والنسائي (1/125) ،

وأحمد (4/143 و 149 و 150) .

(4)

{ثوب خزّ أو صوف معلّم} .

(5)

كساء غليظ لا عَلَم له.

(6)

{ [أخرجه] البخاري، ومسلم، ومالك. وهو مخرج في " الإرواء " (376) } .

ص: 170