المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌القراءة ثم كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله تعالى؛ فيقول: " - أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم - جـ ١

[ناصر الدين الألباني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الناشر:

- ‌مقدمة الكتاب

- ‌سَبَبُ تأليفِ الكتابِ

- ‌منهج الكتاب

- ‌أقوال الأئمة في اتِّباعِ السُّنَّةِ وتَركِ أقوالِهم المخالفَةِ لَها

- ‌1- أبو حَنِيفة رحمه الله:

- ‌2- مالك بن أنس رحمه الله:

- ‌3- الشافعي رحمه الله:

- ‌4- أحمد بن حنبل رحمه الله:

- ‌ترك الأَتْباع بعضَ أقوالِ أئمتِهِم اتباعاً لِلسُّنَّةِ

- ‌شبهات وجَوَابها

- ‌استقبال الكعبة

- ‌القيام

- ‌صلاة المريض جالساً

- ‌الصلاةُ في السَّفِينة

- ‌[الاعتماد على عمود ونحوه في الصلاة]

- ‌القيام والقُعود في صلاة الليل

- ‌الصلاةُ في النِّعال والأمْرُ بها

- ‌الصلاةُ على المنبر

- ‌السُّتْرَةُ ووجُوبها

- ‌ما يَقْطَعُ الصَّلاةَ

- ‌الصلاةُ تجاه القبر

- ‌[اللباسُ في الصلاة]

- ‌[المرأة تصلي بخمار]

- ‌النِّيَّةُ

- ‌التكبير

- ‌رَفْعُ اليدَيْنِ

- ‌وَضْعُ اليمنى على اليُسرى، والأمرُ به

- ‌وضعهُمَا على الصَّدْرِ

- ‌[النهي عن الاختصار]

- ‌النَّظَرُ إلى مَوْضع السُّجُودِ، والخُشُوعُ

- ‌أدعية الاستفتاح

- ‌القراءة

- ‌القراءةُ آيةً آيةً

- ‌رُكنيةُ {الفَاتِحَة} وفضائلُها

- ‌نَسْخُ القراءة ِوراءَ الإمام في الجهرية

- ‌وُجُوبُ القراءةِ في السِّرِّيَّةِ

- ‌التَّأمِينُ، وجَهْرُ الإمامِ به

- ‌الأولى:

- ‌ الثانية:

- ‌ الثالثة:

- ‌ الرابعة:

- ‌قراءتُهُ صلى الله عليه وسلم بعدَ {الفَاتِحَة}

الفصل: ‌ ‌القراءة ثم كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله تعالى؛ فيقول: "

‌القراءة

ثم كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله تعالى؛ فيقول:

" أعوذ بالله من الشيطان (1) الرجيم؛ من هَمْزِه، ونَفْخِه، ونَفْثِه ".

(1)(الشيطان) : اسم لكل متمرد عاتٍ: سُمّي شيطاناً لِشُطونِه عن الخير؛ أي:

تباعده. وقيل: لشيطه؛ أي: هلاكه واحتراقه. فعلى الأول النون أصلية، وعلى

الثاني زائدة. و (الرجيم) : المطرود والمبعد. وقيل: المرجوم بالشهب. كذا في " المجموع "

(3/323) .

وأما قوله: (همزه) : ففسره بعض الرواة - كما سبق - بالمُوْتَةِ؛ وهو - بالضم، وفتح

التاء -: نوع من الجنون والصرع يعتري الإنسان، فإذا فاق؛ عاد إليه كمالُ عقله؛ كالنائم

والسكران. قاله الطيبي. وقال أبو عبيدة:

" الجنون سماه همزاً؛ لأنه يحصل من الهمز والنخس، وكل شيء دفعته فقد

همزته ".

وقوله: (ونفخه) : فسره الراوي بالكبر. قال الطيبي:

" النفخ: كناية عن الكبر؛ كأن الشيطان ينفخ فيه بالوسوسة فيعظمه في عينه،

ويحقر الناس عنده ".

وقوله: (ونفثه) : فسره الراوي بالشِّعر، والمراد: الشِّعر المذموم قطعاً، وإلا؛ فقد قال

عليه الصلاة والسلام:

" إن من الشعر حكمة ".

أخرجه البخاري (10/242) وغيره عن أبي بن كعب. وقال الطيبي:

" إن كان هذا التفسير من متن الحديث؛ فلا معدل عنه، وإن كان من بعض الرواة؛

ص: 270

..............................................................................

فالأنسب أن يراد بالنفث: السحر؛ لقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ} ، وأن يراد

بالهمز: الوسوسة؛ لقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِيْنِ} ؛ وهي:

خطراته؛ فإنهم يُغرون الناس على المعاصي، كما تهمز الركضة والدواب بالمهماز ". اهـ.

من " المرقاة ".

وأقول: إن هذا التفسير ليس من متن هذا الحديث؛ بل من تفسير بعض الرواة

- كما ذكرنا -، ولكن جاء في حديث آخر مرفوعاً؛ وهو ما أخرجه أحمد في " المسند "

(6/156) من طريق عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن

عبد الرحمن قال:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل؛ يقول:

" اللهم! إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم؛ من همزه، ونفثه، ونفخه ". قال:

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

" تعوذوا بالله من الشيطان الرجيم؛ من همزه، ونفخه، ونفثه ".

قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! وما همزه، ونفخه، ونفثه؟ قال:

" أما همزه: فهذه الموتة التي تأخذ بني آدم. وأما نفخه: فالكبر. وأما نفثه:

فالشِّعر".

ورجال إسناده ثقات رجال " الصحيح "؛ لكنه مرسل.

وفيه رد على من أنكر ورود هذا التفسير مرفوعاً من المعاصرين، وظاهره يفيد

وجوب التعوذ قبل القراءة في الصلاة، ويؤيده عموم قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ

فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} . وقد ذهب إلى ذلك ابن حزم في " المحلى "(3/247) . قال النووي

(3/326) :

ص: 271

وكان - أحياناً - يزيد فيه فيقول:

" أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان

" (1) .

" ونقل العبدري عن عطاء والثوري أنهما أوجباه. قال: وعن داود روايتان. وذهب

الجمهور إلى الاستحباب، واستدلوا بحديث المسيء صلاته. والله أعلم ". وتمامه فيما

يأتي في (الركعة الثانية) .

(1)

جاء ذلك من حديث أبي سعيد الخدري، وجبير بن مُطْعِم، وعبد الله بن مسعود،

وعمر بن الخطاب، وأبي أمامة. {وهو مخرج في " إرواء الغليل " (342) } .

1-

أما حديث أبي سعيد: فأخرجه أبو داود، والترمذي، والدارمي، والدارقطني،

والطحاوي، والبيهقي، وأحمد بلفظ:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل؛ كبَّر، ثم يقول:

" سبحانك اللهم!

" الحديث. وفيه: ثم يقول:

" الله أكبر كبيراً - ثلاثاً -، أعوذ بالله السميع

" الحديث.

وقد سبق ذكره في (الاستفتاح) في النوع الخامس، وإسناده حسن - كما بينا هناك -؛

فراجعه.

وبعضهم يقدم لفظة: " نفثه " على: " نفخه ". وهي رواية الدارمي، والدارقطني،

والبيهقي. ويؤيد رواية الأكثرين:

2-

حديث جبير بن مطعم: قال:

رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل في الصلاة قال:

" الله أكبر كبيراً، الله أكبر كبيراً، الحمد لله كثيراً، الحمد لله كثيراً، سبحان الله بكرة

وأصيلاً - ثلاث مرات -، إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم؛ من همزه، ونفخه، ونفثه ".

ص: 272

..............................................................................

أخرجه أبو داود (1/122) ، وابن ماجه (1/269) ، والحاكم (1/235) ، والبيهقي

(2/35) ، والطيالسي (128) ، وأحمد (4/85) ، والطبراني في " الكبير "، وابن حزم في

" المحلى "(3/248) من طرق عن شعبة عن عمرو بن مُرَّة عن عاصم العَنَزي عن نافع بن

جبير بن مطعم عن أبيه به. واللفظ لابن ماجه والحاكم وأحمد وابن حزم.

وقال أبو داود والطيالسي والبيهقي: " بالله "

بدل: " بك ". وأخَّروا لفظة: " همزه "؛

فجعلوها بعد: " ونفثه ".

وزادوا كلهم - غير الحاكم والطيالسي وابن حزم -:

قال عمرو: " همزه: الموتة، ونفخه: الكبر، ونفثه: الشعر ".

ثم أخرجه أبو داود، وكذا الطبراني، {وأبو نعيم في " أخبار أصبهان " (1/210) }

من طريق مِسْعَر عن عمرو بن مرة عن رجل من عَنَزَةَ عن نافع بن جُبير به بلفظ:

سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في التطوع:

فذكره نحوه. ثم قال الحاكم:

" صحيح ". ووافقه الذهبي. وكذا صححه ابن حبان؛ فأخرجه في " صحيحه ".

قلت: ورجاله رجال الشيخين؛ غير عاصم العَنَزي هذا، ولم يوثقه غير ابن حبان،

ولم يَرْوِ عنه إلا اثنان؛ أحدهما: عمرو هذا، والآخر: محمد بن أبي إسماعيل. وقد قال

البخاري:

" لا يصح ".

قلت: فمثله في الشواهد لا بأس به إن شاء الله تعالى.

3-

وأما حديث عبد الله بن مسعود: فأخرجه ابن ماجه (1/270) ، والحاكم

(1/207) ، والبيهقي (2/36) ، وأحمد (1/404) ، وابنه عبد الله عن محمد بن فُضَيل

- شيخ أحمد فيه - عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود قال:

ص: 273

..............................................................................

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل في الصلاة؛ يقول:

" اللهم! إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، وهمزه، ونفخه، ونفثه ". وأَخَّر أحمد:

" ونفخه " عن: " نفثه ".

ثم أخرجه أحمد (1/403) ، والبيهقي من طريقين آخرين عن عمار بن رُزَيْق وعن

ورقاء؛ كلاهما عن عطاء به نحوه. ولفظ الأخير منهما:

كان يعلّمنا أن نقول:

فذكره. وقال الحاكم:

" صحيح. وقد استشهد البخاري بعطاء بن السائب ". ووافقه الذهبي! كذا قالا!

وفي " الزوائد ":

" وفي إسناده مقال؛ فإن عطاء بن السائب اختلط آخر عمره، وسمع منه محمد بن

فُضَيل بعد الاختلاط، وفي سماع أبي عبد الرحمن السلمي من ابن مسعود كلام؛ قال

شعبة: لم يسمع. وقال أحمد: أرى قول شعبة وهماً ". اهـ.

قلت: وأثبت سماعَه منه البخاري في " تاريخه الكبير "، والمُثْبِتُ مقدَّمٌ على النافي.

والله أعلم.

وقد رواه ابن خزيمة أيضاً - كما في " التلخيص " -.

4-

وأما حديث عمر: فأخرجه الدارقطني (112) مرفوعاً.

وفي سنده من لم أعرفه بشيء. وقال الحافظ في " التلخيص "(3/304 - 305)

- بعد أن ساق حديث ابن مسعود -:

" وعن أنس نحوه. رواه الدارقطني، وفيه الحسين بن علي بن الأسود: فيه مقال.

وله طريق أخرى ذكرها ابن أبي حاتم في " العلل " عن أبيه، وضعفها ". اهـ.

ص: 274

..............................................................................

قلت: وهذا وهم، أو سبق قلم منه رحمه الله؛ فإن حديث أنس الذي رواه

الدارقطني إنما هو في الاستفتاح بـ: " سبحانك

"؛ ليس فيه الاستعاذة مطلقاً، رواه

من طريق الحسين هذا؛ قال: ثنا محمد بن الصلت

بإسناده عن أنس، وقد ذكره في

الاستفتاح. وذكرنا هناك تضعيف أبي حاتم له. لكن ليس من طريق أخرى؛ كما قال

الحافظ. والمعصوم من عصمه الله.

5-

وأما حديث أبي أمامة: فأخرجه الإمام أحمد (5/253) من طريق حماد بن

سلمة وشريك عن يعلى بن عطاء: أنه سمع شيخاً من أهل دمشق: أنه سمع أبا أمامة

الباهلي يقول:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل في الصلاة من الليل؛ كبَّر ثلاثاً، وسبح ثلاثاً، وهلل

ثلاثاً، ثم يقول:

" اللهم! إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم؛ من همزه ونفخه وشِرْكه ". وقال

شريك: " ونفثه ".. بدل: " وشركه ".

وهذا إسناد صحيح. لولا الشيخ الدمشقي؛ فإنه مجهول لم يُسَمَّ.

وبالجملة؛ فالاستعاذة من هذه الأشياء الثلاثة الشيطانية صحيح ثابت بمجموع هذه

الطرق، وزيادة:" السميع العليم " ثابتة أيضاً في حديث أبي سعيد بإسناد حسن - كما

سبق -؛ فينبغي أن يؤتى بها أحياناً. {وبه قال أحمد في " مسائل ابن هانئ " (1/51) } .

وأما الاقتصار على (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ؛ فلم نجد في ذلك حديثاً.

اللهم! إلا ما في " مراسيل أبي داود " عن الحسن:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ:

" أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ".

ص: 275

..............................................................................

ذكره في " التلخيص "(3/306) .

وهذا مع كونه ليس فيه التصريح بأنه كان في الصلاة؛ فهو مرسل، ولا يحتج به

عند جمهور المحدثين؛ لا سيما إذا كان من مراسيل الحسن البصري.

ومع هذا كله؛ فقد ذهب الشافعية - إلا القليل منهم - إلى أن الأفضل الاقتصار على

هذا القدر من الاستعاذة! واحتجوا بقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ

الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} .

ولا يخفى أن الآية مجملة؛ ليس فيها بيان صفة الاستعاذة؛ فوجب الرجوع في

ذلك إلى السنة. وقد علمت ما ثبت فيها من الزيادة؛ فالأخذ بها أولى؛ لا سيما وأن

فيها زيادة معنى.

وقد ذهب إلى شيء من هذا بعض الشافعية؛ فقال الرافعي في " شرح الوجيز "

(3/305) :

" وحكى القاضي الروياني عن بعض أصحابنا: إن الأحسن أن يقول: أعوذ بالله

السميع العليم من الشيطان الرجيم ". اهـ.

وأحسن من هذا أن يضاف إليه: " من همزه، ونفخه، ونفثه ".

ومما ذكرنا تَعْلَمُ أن قول ابن القيم في " زاد المعاد "(1/73) :

" وكان يقول بعد ذلك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ثم يقرأ {الفَاتِحَة} .

فيه قصور؛ لأن كتابه ليس كتاب تأييد لمذهب معين؛ بل هو بيان لهديه صلى الله عليه وسلم في

عباداته وغيرها.

واختلف العلماء في حكم الاستعاذة، ويأتي بعض الكلام في ذلك قريباً.

ص: 276

(1) رواه أنس بن مالك. وقد جاء عنه من طرق بألفاظ مختلفة، ولكن الذي

يتحصل منها هو إسراره صلى الله عليه وسلم بها، وها نحن نسوقها؛ لتتبين منها ذلك:

الطريق الأول: عن شعبة عن قتادة عن أنس:

أن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر رضي الله عنهما كانوا يفتتحون الصلاة بـ: {الحَمْدُ

لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} .

أخرجه البخاري (2/180) من " صحيحه " وفي " جزء القراءة "(12) ، ومسلم

(2/12) ، {وأبو عوانة [2/122] } ، والطحاوي (1/119) ، والدارقطني (119) ، والبيهقي

(2/51) ، والطيالسي (266) ، وأحمد (3/179 و 273 و 275) من طرق عنه به، واللفظ

للبخاري، وزاد في رواية:

" وعثمان ". وزاد الطيالسي - وعنه مسلم -:

" قال - يعني: شعبة -: قلت له: أنت سمعته منه؟ قال: نعم؛ نحن سألناه عن

ذلك ". وهو رواية لأحمد بلفظ:

سألت أنس بن مالك: بأي شيء كان يستفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم القراءة؟ قال:

إنك لتسألني عن شيء ما سألني عنه أحد.

وسنده صحيح على شرط الستة.

ولفظ مسلم، {وأبي عوانة} ، والدارقطني، والبيهقي، وأحمد في رواية:

صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يقرأ:

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .

وكذلك لفظ الطحاوي، إلا أنه قال:

ص: 277

..............................................................................

يجهر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وهو رواية للدارقطني له. وفي لفظ لأحمد:

فكانوا لا يجهرون بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .

وكذلك رواه ابن حبان في " صحيحه "، وزاد:

ويجهرون بـ: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} - كما في " نصب الراية "(1/327) -.

ولشعبة فيه إسناد آخر يأتي.

وأخرجه البخاري في " جزء القراءة "، ومسلم، وأبو داود (1/125) ، والشافعي في

" الأم "(1/93) ، والنسائي (1/143) ، والترمذي (2/15) وصححه، والدارمي

(1/283) ، وابن ماجه (1/271) ، {وأبو عوانة [2/122] } ، والطحاوي، والدارقطني،

والبيهقي، وأحمد (3/223 و 273) من طرق أخرى عن قتادة بنحو اللفظ الأول. وزاد

مسلم، {وأبو عوانة} ، وأحمد في آخره:

لا يذكرون: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول القراءة، ولا في آخرها.

ورواه النسائي (1/144) من طريق عُقبة بن خالد قال: ثنا شعبة وابن أبي عروبة

عن قتادة عن أنس به، بلفظ:

فلم أسمع أحداً منهم يجهر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .

الطريق الثاني: عن الأوزاعي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عنه مثل الأول.

أخرجه مسلم، والبخاري في " الجزء " المذكور، والطحاوي، والدارقطني (120) ،

والسراج، وأبو عوانة في " صحيحه " - كما في " الفتح "(2/181) -، ورواه الطبراني في

" الأوسط " - باللفظ الثاني للجهر - من طريقين عنه.

الطريق الثالث: عن منصور بن زاذان عنه قال:

صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم يُسمعنا قراءة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وصلى

ص: 278

..............................................................................

بنا أبو بكر، وعمر؛ فلم نسمعها منهما.

أخرجه النسائي (1/144) بإسناد صحيح.

الرابع: أخرجه أحمد (3/264) : ثنا الأحوص بن جوّاب: ثنا عمار بن رُزيق عن

الأعمش عن شعبة عن ثابت عنه قال:

صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع أبي بكر، ومع عمر؛ فلم يجهروا بـ: {بِسْمِ اللَّهِ

الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .

وأخرجه الطحاوي (1/119) بهذا الإسناد.

وهو صحيح على شرط مسلم.

الخامس: عن سُويد بن عبد العزيز عن عِمران القصير عن الحسن عنه، بلفظ:

كانوا يُسِرُّون

.

أخرجه الطحاوي.

وسويد: ليِّن الحديث - كما في " التقريب " -.

وبهذا اللفظ أخرجه الطبراني، وأبو نعيم في " الحلية "، وابن خزيمة في " مختصر

المختصر " - كما في " نصب الراية " -، وقال:

" ورجاله ثقات ". فلعله من غير طريق سويد هذا. ثم تحقق ما ظننته - كما سيأتي -.

السادس: عن أبي نَعَامَةَ الحنفي - قيس بن عَبَايَةَ - عنه، بلفظ:

لا يجهرون.

أخرجه الطبراني - كما في " الفتح "(2/181) -.

قلت: والبيهقي في " السنن "(2/52) .

وسنده جيد.

ص: 279

..............................................................................

السابع: عن حميد عنه باللفظ الأول.

أخرجه البخاري في " الجزء "، والطحاوي، والبيهقي من طرق عنه.

الثامن: عن أبي إسحاق بن حسين عن مالك بن دينار عنه مثله.

أخرجه البخاري.

وأبو إسحاق هذا: ضعيف، واسمه: خازم؛ بالزاي.

التاسع: عن سليمان بن عبيد الله الرَّقِّي قال: ثنا مخلد بن الحسين عن هشام بن

حسان عن ابن سيرين والحسن عن أنس مثله.

أخرجه الطحاوي.

وسنده قابل للتحسين.

العاشر: عن ابن لَهِيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن محمد بن نوح - أخا بني سعد

ابن بكر - حدثه عن أنس مثله.

أخرجه الطحاوي أيضاً.

وابن نوح هذا: لم أجد من ذكره؟ .

الحادي عشر: عن ثابت البُناني عنه مثله.

رواه السَّرَّاج، ورواه ابن خزيمة باللفظ الثاني للجهر.

وللحديث شاهد من حديث ابن عبد الله بن مُغَفَّل - يزيد بن عبد الله - قال:

سمعني أبي وأنا أقول: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، فقال:

أي بني! إياك. قال - ولم أرَ أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبغض إليه حدثاً

في الإسلام منه -: فإني قد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع أبي بكر، ومع عمر، ومع عثمان؛

ص: 280

..............................................................................

فلم أسمع أحداً منهم يقولها؛ فلا تقلها. إذا أنت قرأت؛ فقل: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} .

أخرجه هكذا الإمام أحمد، قال (4/85) : ثنا إسماعيل قال: ثنا سعيد بن إياس

الجُرَيْري عن قيس بن عَبَاية عن ابن عبد الله بن مغفل - يزيد بن عبد الله - قال:

فذكره.

وأخرجه الترمذي (2/12 - 13) ، وابن ماجه (1/271) ، والطحاوي (1/119) ؛

كلهم عن إسماعيل - وهو: ابن إبراهيم؛ المعروف بـ: ابن عُلَيّة - بدون تسمية ابن عبد الله.

وكذلك أخرجه النسائي (1/144) ، والبيهقي (2/52) من طريق عثمان بن غِيَاث

قال: أخبرني أبو نعامة الحنفي به. وأبو نعامة هو: قيس بن عباية.

ومن هذا الوجه أخرجه أحمد (5/54) - مختصراً - بلفظ:

كان أبونا إذا سمع أحداً منا يقول: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؛ يقول:

إِهِي إِهِي! صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر؛ فلم أسمع أحداً منهم

يقول: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .

ثم أخرجه (5/55) عن وهيب عن سعيد بن إياس به بلفظ:

فكانوا لا يستفتحون القراءة بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .

ورواه البخاري في " جزء القراءة "(12) عن يزيد بن هارون عن الجريري مختصراً بلفظ:

وكانوا يقرؤون: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} . ثم قال الترمذي:

" حديث حسن ". وقال المعلق عليه:

" إسناد أحمد صحيح؛ فيه التصريح باسم يزيد بن عبد الله ".

قلت: فماذا كان؟! أيكفي ذلك في تعديله، وهو لم يوثقه أحد؟!

نعم؛ قد روى عنه هذا الحديث اثنان غير أبي نعامة؛ وهما: عبد الله بن يزيد - ولم

يسمه -، وأبو سفيان طَرِيف بن شهاب - وسماه -.

ص: 281

..............................................................................

أخرجه عنهما الطبراني في " معجمه " - كما في " نصب الراية "(1/232) -.

قلت: ورواه عن أبي سفيان أبو حنيفة - كما في " الآثار " لمحمد وأبي يوسف -؛

فارتفعت عنه بروايتهم الجهالة العينية.

وأما حاله؛ فلا يزال مجهولاً، وإن كان الزيلعي حاول بذلك تقوية الحديث، ولكنه

- على كل حال - شاهد لا بأس به لحديث أنس، وهو - أعني: حديث أنس - وإن كانت

ألفاظه مختلفة - كما سبق - لكنها ليست متعارضة؛ بل يمكن التوفيق بينها بمثل ما قال

الحافظ في " الفتح "(2/181) :

" فطريق الجمع بين هذه الألفاظ حملُ نفي القراءة على نفي السماع، ونفي السماع

على نفي الجهر، وتؤيده رواية منصور بن زاذان: فلم يسمعنا قراءة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ

الرَّحِيمِ} . وأصرح من ذلك رواية الحسن عن أنس: كانوا يسرُّون بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ

الرَّحِيمِ} . فاندفع بهذا تعليل من أعله بالاضطراب - كابن عبد البر -؛ لأن الجمع إذا

أمكن؛ تعين المصير إليه ".

وبذلك يتبين أن حديث أنس حجة في كونه صلى الله عليه وسلم كان يسر بالبسملة، وكذلك

أصحابه الثلاثة، ومثله حديث عبد الله بن مغفل. وقد قال الترمذي:

" والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ منهم: أبو بكر وعمر

وعثمان، وغيرهم، ومن بعدهم من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك،

وأحمد، وإسحاق؛ لا يرون أن يجهر بـ:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؛ قالوا: ويقولها

في نفسه ".

قلت: وهو مذهب أبي حنيفة، وصاحبيه - كما حكاه الطحاوي وغيره -، ونص

عليه الإمام محمد في " الآثار "(15 - 16) ، وبه قال أكثر أصحاب الحديث - كما قال

ص: 282

..............................................................................

الحازمي (56) -، وخالفهم الإمام الشافعي، وأصحابه، وبعض من سبقه من الصحابة،

والتابعين؛ فقالوا بالجهر بها، وأنه السنة.

وقد أطال النووي رحمه الله في " المجموع "(3/334 - 356) في الاستدلال لذلك

بأحاديث كثيرة ساقها! والناظر فيها بإنصاف؛ لا يخرج منها بحديث واحد صحيح

صريح يدل على ما ذهبوا إليه.

ولذلك سأسوق في هذا التعليق منها ما يرد في الجهر بها صريحاً؛ مما قد صححه بعضهم،

وأدع الكلام على سائرها المطولات كـ " نصب الراية "، و " نيل الأوطار "، أو غيرهما.

الحديث الأول: عن أنس بن مالك رضي الله عنه. وله عنه طرق:

الأولى: ما أخرجه الشافعي في " الأم "(1/93) ، ومن طريقه الدارقطني (117) ،

والحاكم (1/233)، والبيهقي (2/49) ؛ ثلاثتهم عن الشافعي قال: أخبرنا عبد المجيد بن

عبد العزيز عن ابن جُرَيج قال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خُثَيم: أن أبا بكر بن

حفص بن عمر أخبره: أن أنس بن مالك أخبره قال:

صلى معاوية بالمدينة صلاة، فجهر فيها بالقراءة؛ فقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ

الرَّحِيمِ} لِ {أم القرآن} ، ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها، حتى قضى تلك القراءة،

ولم يكبر حين يهوي، حتى قضى تلك الصلاة، فلما سلَّم؛ ناداه من سمع ذلك من

المهاجرين من كل مكان: يا معاوية! أسرقت الصلاة أم نسيت؟! فلما صلَّى بعد ذلك؛

قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} للسورة التي بعد {أم القرآن} ، وكبَّر حين يهوي

ساجداً. قال الدارقطني:

" رجاله كلهم ثقات ". وقال الحاكم:

" صحيح على شرط مسلم " - ووافقه الذهبي -، ثم قال:

ص: 283

..............................................................................

" وقد احتج مسلم بعبد المجيد بن عبد العزيز، وسائر الرواة متفقٌ على عدالتهم، وهو

علة لحديث شعبة عن قتادة؛ فإن قتادة - على علو قدره - يدلس، ويأخذ من كل أحد ".

كذا قال! وهو يشير بذلك إلى حديث أنس السابق في إسراره بالبسملة. وهذه

العلة ليست بشيء؛ لأن قتادة صرح بسماعه من أنس، فبطل ما أعله الحاكم به.

ثم إن في كلامه مؤاخذاتٍ أخرى:

الأولى: أن مسلماً لم يحتج بعبد المجيد هذا؛ وإنما روى له مقروناً بغيره - كما في

" التهذيب " -. وقال الحافظ في " التقريب ":

" صدوق يخطئ ".

إلا أنه قد تابعه عبد الرزاق عند الدارقطني، والبيهقي.

الثانية: أن عبد الله بن عثمان هذا؛ ليس متفقاً على الاحتجاج به - كما يفيده

كلام الحاكم -، والبخاري إنما أخرج له تعليقاً، ثم هو مختلف فيه - وإن كان مسلم قد

احتج به -؛ فوثقه ابن معين، وغيره، والنسائي في رواية، وقال في أخرى:

" ليس بالقوي ".

ورُوي نحوُه عن ابن معين. وقال ابن عدي:

" أحاديثه حسان ".

قلت: والحق أنه ثقة حجة، وحديثه أقل أحواله أنه حسن يحتج به؛ إلا إذا خالف

من هو أقوى منه في الحديث، والواقع هنا كذلك؛ فقد سبق بيان أن الحديث رواه جمعٌ

عن جمعٍ عن أنس: أنه صلى الله عليه وسلم كان يُسِرُّ بالبسملة.

فكيف يروي أنس مثل حديث معاوية هذا محتجاً به، وهو مخالف لما رواه عن

النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الخلفاء الراشدين؟! ولم يُعرف عن أحد من أصحاب أنس المعروفين

ص: 284

..............................................................................

بصحبته أنه نقل عنه مثل ذلك.

وهذا أحد الوجوه التي ضعف المحققون حديث ابن خثيم هذا عن أنس.

والوجه الثاني: أنه اضطرب في روايته إسناداً ومتناً:

أما الأول: فتارة يرويه عن أبي بكر بن حفص عن أنس - كما سبق -.

وتارة يرويه عن إسماعيل بن عُبيد بن رِفاعة عن أبيه عن معاوية.

أخرجه الشافعي (1/93 - 94) ، ومن طريقه البيهقي (2/49 - 50) عن إبراهيم بن

محمد الأسلمي ويحيى بن سُليم؛ كلاهما عن ابن خثيم عن إسماعيل به.

وتارة يقول: عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده عن معاوية.

أخرجه الدارقطني (117) عن إسماعيل بن عياش عن ابن خثيم بهذا.

فاختلفوا في الترجيح، فرجح الأولى البيهقي في " المعرفة "؛ لجلالة راويها - وهو ابن

جريج -، وقال في " السنن ":

" يحتمل أن يكون ابن خثيم سمعه منهما. والله أعلم ".

ومال الشافعي إلى ترجيح الرواية الثانية؛ لاتفاق اثنين عليها.

ولكنهما متكلم فيهما. فأما الأسلمي؛ فمكشوف الحال، وأما يحيى بن سليم؛

فقال البيهقي:

" كثير الوهم، سيئ الحفظ ". قال ابن التركماني:

" فظهر بهذا أن حديث ابن جريج إسناده أحفظ؛ لأنه أَجلُّ منهما، وأحفظ بلا شك ".

قلت: وأما الرواية الثالثة؛ فتفرد بها ابن عياش، وهو ضعيف في الحجازيين، وهذه منها.

وأما الاضطراب في المتن: فتارة يقول: صلى، فبدأ بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ

ص: 285

..............................................................................

الرَّحِيمِ} لِ {أم القرآن} ، ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها - كما في رواية ابن جريج

عند الشافعي -.

وتارة يقول: فلم يقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حين افتتح القرآن - كما في

رواية ابن عياش -.

وتارة يقول: فلم يقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لِ {أم القرآن} ، ولم يقرأها

للسورة التي بعدها - كما في رواية الدارقطني عن ابن جريج -. قال الزيلعي (1/354) :

" ومثل هذا الاضطراب في السند والمتن، مما يوجب ضعف الحديث؛ لأنه مشعر

بعدم ضبطه ".

والوجه الثالث: أن معاوية لما قدم المدينة؛ كان أنس مقيماً بالبصرة، ولم يذكر أحد

علمناه أنه كان مع معاوية حينئذٍ؛ بل الظاهر أنه لم يكن معه.

والوجه الرابع: أن مذهب أهل المدينة - قديماً وحديثاً - ترك الجهر بها، ومنهم من لا

يرى قراءتها أصلاً؛ قال عروة بن الزبير - أحد الفقهاء السبعة -:

أدركت الأئمة وما يستفتحون القراءة إلا بـ: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} .

وقال عبد الرحمن الأعرج:

أدركت الأئمة وما يستفتحون القراءة إلا بـ: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} .

ولا يُحفظ عن أحد من أهل المدينة بإسناد صحيح أنه كان يجهر بها، إلا شيء

يسير، وله محمل. وهذا عملهم يتوارثه آخرهم عن أولهم، فكيف ينكرون على معاوية

ما هو شبههم؟! هذا باطل.

والوجه الخامس: أن معاوية لو رجع إلى الجهر بالبسملة - كما نقلوه -؛ لكان هذا

أيضاً معروفاً من أَمْره عند أهل الشام الذين صحبوه، ولم يُنقل هذا أحد عن معاوية؛ بل

ص: 286

..............................................................................

الشاميون - كلهم: خلفاؤهم، وعلماؤهم - كان مذهبهم ترك الجهر بها. وما روي عن عمر

ابن عبد العزيز من الجهر بها باطل؛ لا أصل له. والأوزاعي - إمام الشام - مذهبه في ذلك

مذهب مالك: لا يقرؤها سراً، ولا جهراً. قال شيخ الإسلام في " الفتاوى " (1/85) :

" فهذه الوجوه وأمثالها إذا تدبرها العالم؛ قطع بأن حديث معاوية إما باطل لا حقيقة

له، وإما مُغَيَّرٌ عن وجهه ". اهـ.

فإذا كان هذا حالَ هذا الحديث - وهو أجود ما يعتمد عليه في هذه المسألة، كما قال

الخطيب البغدادي فيما نقله عنه نصر المقدسي -؛ علمت حال الأحاديث الأخرى،

وسيأتي الكلام عليها مفصلاً.

الطريق الثانية: عن محمد بن المتوكل بن أبي السَّرِيِّ قال:

صليت خلف المعتمر بن سليمان من الصلوات ما لا أحصيها؛ الصبح والمغرب، فكان

يجهر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قبل {فاتحة الكتاب} وبعدها، وسمعت المعتمر يقول:

ما آلو أن أقتدي بصلاة أبي. وقال أبي:

ما آلو أن اقتدي بصلاة أنس بن مالك. وقال أنس:

ما آلو أن أقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أخرجه الدارقطني (116) ، والحاكم (1/233 - 234)، وقال:

" رواته عن آخرهم ثقات ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا، لكن لا يلزم منه أنه

صحيح ثابت؛ لأن الصحة لا تثبت حتى ينتفي الشذوذ والعلة، ويثبت حفظ الراوي

وضبطه، وكل هذا غير متحقق هنا؛ فإن ابن أبي السَّرِيِّ هذا متكلَّم فيه من جهة

حفظه، وفي " التقريب ":

" صدوق، له أوهام كثيرة ". اهـ.

ص: 287

..............................................................................

وهذا الحديث من أوهامه؛ بدليل ما رواه ابن خزيمة في " مختصره "، والطبراني في

" معجمه " عن معتمر بن سليمان عن أبيه عن الحسن عن أنس.

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في الصلاة، وأبو

بكر، وعمر.

وكذلك رواه الثقات الأثبات عن أنس - كما سبق -، فمخالف حديثهم مخطئ

- ولا شك -. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه سقط من الحديث: " لا ". فإن صح

ذلك؛ فهو حينئذٍ موافق لرواية الثقات.

وللحديث طرق أخرى عن أنس ضعيفة، لم يصححها أحد، فلا نطيل بذكرها؛

اللهم! إلا ما رواه الحاكم (1/233) من طريق أَصْبَغ بن الفرج: ثنا حاتم بن إسماعيل

عن شَرِيك بن عبد الله بن أبي نَمِر عن أنس قال:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وقال:

" رواته عن آخرهم ثقات ". ووافقه الذهبي.

قلت: ولكن هذا ليس فيه قوله: " في الصلاة ". فلا حجة فيه؛ على أن بعض

الرواة قد أعله:

فأخرجه الدارقطني (116) من طريق عمر بن محمد بن علي بن الحسين عن حاتم

ابن إسماعيل عن شريك بن عبد الله عن إسماعيل المكي عن قتادة عن أنس به.

وإسماعيل هذا: ضعيف. والله أعلم.

وبهذا اللفظ أخرجه الدارقطني من طريق إبراهيم بن محمد القاضي التيمي: ثنا

معتمر بن سليمان عن أبيه عن أنس قال:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .

ص: 288

..............................................................................

وهذا سند صحيح على شرطهما. فلعل هذا هو أصل حديث ابن أبي السري عن

المعتمر؛ فوهم فيه ابن أبي السري، وزاد فيه ما زاد. والله أعلم.

الحديث الثاني: عن ابن عباس قال:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .

أخرجه الحاكم (1/208) من طريق عبد الله بن عمرو بن حسان: ثنا شريك عن

سالم عن سعيد بن جبير عنه. وقال:

" صحيح، وليس له علة ". قال الذهبي:

" كذا قال المصنف! وابن حسان: كذبه غير واحد، ومثل هذا لا يخفى على

المصنف ". وقال الحافظ في " التلخيص " (3/323) :

" وصححه الحاكم! وأخطأ في ذلك؛ فإن عبد الله نسبه ابن المديني إلى وضع الحديث،

وقد سرقه أبو الصلت الهروي - وهو متروك -؛ فرواه عن عباد بن العوام عن شريك ".

أخرجه الدارقطني (114) . وقال في " الدراية "(73) :

" وأصله مرسل بإسناد رجاله ثقات.

أخرجه إسحاق عن يحيى بن آدم عن شريك عن سالم الأفطس عن سعيد بن

جبير قال:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؛ يمد بها صوته، وكان

المشركون يهزؤون منه؛ فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} .

وقد أخرجه الدارقطني، والطبراني في " الأوسط " من طريق يحيى بن طلحة

اليربوعي عن عباد بن العوام عن شريك موصولاً بلفظ:

ص: 289

..............................................................................

كان إذا قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؛ هَزَأَ منه المشركون، ويقولون: محمد

يذكر إله اليمامة.

فهذا هو أصل الحديث، وتبين أنه إنما وقع فيه اختصار.

وقد أخرجه البخاري من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:

نزلت هذه الآية: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختفٍ

بمكة، كان إذا صلى بأصحابه؛ رفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون؛ سبّوا

القرآن

الحديث. فهذا أصل الحديث ". اهـ.

وله طرق أخرى، ذكرها الزيلعي (1/345 - 347) ، وضعفها، وبين عللها.

ومما يدل على ضعف الحديث عن ابن عباس؛ أنه ثبت عنه أنه قال:

الجهر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فعل الأعراب.

أخرجه الطحاوي (1/120) عن عاصم وعبد الملك بن أبي بشير عن عكرمة عنه.

وأخرجه أحمد - كما في " نصب الراية "(1/347) - عن سفيان عن عبد الملك وحده.

وهذا إسناد صحيح. قال:

" ويقوي هذه الرواية: ما رواه الأثرم بإسناد ثابت عن عكرمة - تلميذ ابن عباس - أنه

قال: أنا أعرابي إنْ جهرت بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وكأنه أخذه عن شيخه

ابن عباس ".

الحديث الثالث: عن علي وعمار:

أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر في المكتوبات بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

الحديث.

أخرجه الحاكم (1/299) من طريق سعيد بن عثمان الخَرَّاز: ثنا عبد الرحمن بن

ص: 290

..............................................................................

سعيد المؤذن: ثنا فِطْر بن خليفة عن أبي الطُّفَيل عنهما. وقال:

" صحيح الإسناد، ولا أعلم في رواته منسوباً إلى الجرح ". وتعقبه الذهبي؛ فقال:

" قلت: بل خبر واهٍ، كأنه موضوع؛ لأن عبد الرحمن صاحب مناكير، وسعيد: إن

كان الكُرَيزي؛ فهو ضعيف، وإلا؛ فهو مجهول ". اهـ.

ولذلك قال الحافظ في " الدراية "(71) :

" وإسناده ضعيف ". وعن الحاكم رواه البيهقي في " المعرفة " - بسنده ومتنه - وقال:

" إسناده ضعيف ".

قلت: فهذه الأحاديث الثلاثة؛ هي أصح ما ورد في الجهر بالبسملة وأصرحها، وقد

ظهر لك أنها ضعيفة كلها، إلا حديث أنس في بعض طرقه، لكن ليس فيه أنه كان

يجهر بها في الصلاة؛ ولذلك قال ابن القيم في " الزاد "(1/73) :

" وكان صلى الله عليه وسلم يجهر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} تارة، ويخفيها أكثر مما يجهر

بها، ولا ريب أنه لم يكن يجهر بها دائماً في كل يوم وليلة؛ خمس مرات أبداً، حضراً

وسفراً، ويخفى ذلك على خلفائه الراشدين، وعلى جمهور أصحابه، وأهل بلده في

الأعصار الفاضلة؛ هذا من أمحل المحال حتى يحتاج إلى التشبُّث فيه بألفاظ مجملة،

وأحاديث واهية؛ فصحيح تلك الأحاديث غير صريح، وصريحها غير صحيح ".

قلت: وآخر كلامه يناقض أوله؛ لأنه إذا كان يرى - وهو الحق - أنه لا يصح حديث

صريح في الجهر بها؛ فكيف يجزم بأنه صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها تارة؟!

وقد كان شيخه ابن تيمية أدق منه في التعبير في هذا الموضع؛ حيث قال في

" الفتاوى "(1/79) في صدد هذا البحث:

" ولكن يمكن أنه كان يجهر بها أحياناً، أو أنه كان يجهر بها قديماً ثم ترك ذلك؛

ص: 291

..............................................................................

- قال -: فهذا محتمل ".

فلم يجزم بذلك؛ بل ذكره احتمالاً، وهو أمر واسع، فالحق ما ذهب إليه الجمهور

من أن السنة الإسرار بها.

ومع هذا؛ فالصواب أن ما لا يجهر به، قد يشرع الجهر به لمصلحة راجحة؛ فيشرع

للإمام أحياناً لمثل تعليم المأمومين، ويسوغ للمصلين أن يجهروا بالكلمات اليسيرة أحياناً؛

كما في حديث ابن عمرو، وأنس بن مالك المتقدمين في (الاستفتاح) رقم (7 و 8) ؛

فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الرجلين جهرهما بما استفتحا به. وكذلك جهر به عمر؛ تعليماً

للناس - كما مضى هناك -. قال شيخ الإسلام (1/87) :

" ويسوغ أيضاً أن يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب، واجتماع الكلمة؛ خوفاً من

التنفير عما يصلح، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم؛ لكون قومه كانوا

حديثي عهد بالجاهلية، وخشي تنفيرهم بذلك، ورأى أن مصلحة الاجتماع والائتلاف

مقدمة على مصلحة البناء على قواعد إبراهيم، وقال ابن مسعود - لما أكمل الصلاة خلف

عثمان، وأنكر عليه التربيع، فقيل له في ذلك؟ فقال -: الخلاف شر. ولهذا نَصَّ

الأئمةُ؛ كأحمد وغيره في البسملة، وفي وصل الوتر، وغير ذلك مما فيه العدول عن

الأفضل إلى الجائز المفضول؛ مراعاة ائتلافِ المأمومين، أو لتعريفهم السنة، وأمثال ذلك.

والله أعلم ".

* * *

ص: 292