الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال أبو عمرو بن نُجَيد
(1)
: كلُّ حالٍ لا يكون عن نتيجة علم فإنَّ ضرره أكثر على صاحبه من نفعه.
وقال
(2)
: التصوف الصبر تحت الأمر والنهي.
وقال أبو يعقوب النَّهْرَجُوري
(3)
: أفضل الأحوال ما قارن العلم.
وهذا كثير في كلام المشايخ، وإنما وَصَّوا بذلك لما يعلمونه من حال كثير من السالكين أنه يجري مع ذوقه ووجده وما يراه ويهواه، غير متبعٍ لسبيل الله التي بعث بها رسوله، وهذا هو اتباع الهوى بغير هدًى من الله.
ولا ريب أنَّ
السماع المحدَث من أعظم المحركات
(4)
للهوى
، ولهذا سمى بعض الأئمة المصنفين كتابه في إبطاله وذمه بـ"الدليل الواضح في النهي عن ارتكاب الهوى الفاضح"
(5)
.
ولهذا يأمر المشايخ المستقيمون [78 أ] منهم باتباع العلم، ويَعْنُون
(1)
المصدر نفسه (ص 138).
(2)
المصدر نفسه (ص 138).
(3)
المصدر نفسه (ص 124).
(4)
ع: "المحرمات" تحريف.
(5)
لعبد المغيث بن زهير الحربي (ت 583)، كما ذكره وأشار إلى بعض مباحثه ابن رجب في "ذيل طبقات الحنابلة"(1/ 357، 358). أفادني بذلك أخي المحقق عبد الرحمن قائد.
به الشريعة، كقول أبي يزيد البسطامي
(1)
: عملتُ في المجاهدة ثلاثين سنة، فما وجدت شيئًا أشدَّ عليَّ من العلم ومتابعته.
وقال أبو الحسين النوري
(2)
: من رأيتَه يدعي مع الله حالةً تُخرِجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربنَّ منه.
وقال أبو عثمان النيسابوري
(3)
: الصحبة مع الله بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة، والصحبة مع الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع سنته ولزوم ظاهر العلم، والصحبة مع أولياء الله بالاحترام والخدمة، والصحبة مع الأهل بحسن الخلق، والصحبة مع الإخوان بدوام البِشْرِ ما لم يكن إثمًا، والصحبة مع الجهال بالدعاء لهم والرحمة والشفقة عليهم.
وذلك لأنه لما كان أصل الطريق هو الإرادة والقصد والعمل، وذلك يتضمن الحب، فكثيرًا ما يعمل السالك بمقتضى ما يجده في قلبه من المحبة، وما يدركه بذوقه من طعم العبادة، وهذا إذا لم يكن موافقًا لأمر الله ورسوله فصاحبه في ضلال، وهو ممن اتبع هواه. قال تعالى:{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43]، وقال:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]،
(1)
انظر "الرسالة القشيرية"(ص 57).
(2)
انظر "الرسالة القشيرية"(ص 83).
(3)
المصدر نفسه (ص 82).
فجعل كلما خالف الأمر فصاحبه متبعٌ هواه، فما ثَمَّ واسطةٌ، بل إما الأمر وإما الهوى.
وقال تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120]، وقال:{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145].
واعلم أنَّ بدعة السماع تتضمن الغلوَّ في الدين واتباعَ الهوى [78 ب] والعَشْوَ عن ذكر الله، فإنهم حسبوا أنَّ هذه البدعة دين وقُربةٌ تُقرِّبهم إلى الله، وهذا من أقبح الغلو، وهو يوجب الانحراف عن الصراط المستقيم، واتباعُ الهوى يوجب الضلالَ عن سبيل الله، قال تعالى:{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].
والعَشْو عن ذكر الله يوجب مقارنة الشيطان له. قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]، وذكر الله هنا هو كتابه، ومن العشو عنه: التعوُّضُ عنه بالسماع الشيطاني
(1)
المحدَث.
وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ
(1)
في الأصل: "بسماع الشيطان".
أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18 - 19].
فالشريعة التي جعله ربه عليها تتضمن ما أمره به ورضيه له، وكل عمل وحب وذوق ووجد وحال لا تشهد له هذه الشريعة التي جعله عليها فباطل وضلال، وهو من أهواء الذين لا يعلمون، فليس لأحد أن يتبع ما يحبه فيأمر به ويتخذه دينًا، وينهى عما يُبغِضه ويذمّه إلا بهُدًى من الله، وهو شريعته التي جعل عليها رسوله، وأمره والمؤمنين باتباعها. ولهذا كان السلف يسمون كل من خرج عن الشريعة في شيء من الدين من أهل الأهواء، ويجعلون أهل البدع هم أهل الأهواء، فيذمُّونهم بذلك ويحذّرون عنهم، ولو ظهر عنهم ما ظهر من العلم والعبادة والزهد والفقر والأحوال والخوارق.
قال يونس بن عبد الأعلى
(1)
: قلت للشافعي: تدري ما قال صاحبنا؟ يريد الليث بن سعد، كان يقول:[79 أ] لو رأيته ــ يريد صاحب البدعة ــ يمشي على الماء، لا تَثِقْ به ولا تعبَأْ به ولا تكلِّمْه، قال: قصَّر واللهِ. يريد أنَّ حاله أقبحُ من ذلك.
وقال أبو العالية
(2)
: تعلَّموا الإسلام والسنةَ، فإذا تعلّمتموه فلا
(1)
انظر "آداب الشافعي ومناقبه"(ص 184) و"مناقب الشافعي" للبيهقي (1/ 453).
(2)
أخرجه الآجري في "الشريعة"(1/ 300) واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة"(1/ 56) وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 218) وغيرهم.
ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام
(1)
، فلا ترغبوا عنه
(2)
يمينًا وشمالًا، وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تُلقِي بين الناس العداوةَ والبغضاء. قال عاصم: فحدثتُ به الحسن، فقال: صدق ونصح، قال: فحدثتُ به
(3)
حفصة بنت سيرين فقالت: يا أبا علي! أنتَ حدَّثتَ محمدًا بهذا؟ قلت: لا، قالت: فحدِّثْه إذًا.
وقال أُبيُّ بن كعب
(4)
رضي الله عنه: عليكم بالسبيل والسنة، فإنَّه ما على الأرض عبدٌ على السبيل والسنة ذكرَ الله ففاضتْ عيناه من خشية الله
(5)
، فيعذِّبه، وما على الأرض عبدٌ على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه فاقشعرَّ جلدُه من خشية الله إلا كانَ مثلُه كمثلِ شجرة قد يَبِسَ ورقُها، فهي كذلك إذ أصابتْها ريحٌ شديدة فتَحاتَّ عنها وَرقُها، إلا حُطَّ عنه خطاياه، كما تَحاتَّ عن تلك الشجرة ورقُها، وإنَّ اقتصادًا في سبيلٍ وسنة خيرٌ من اجتهادٍ في خلاف سبيل وسنة، فانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادًا أو اقتصادًا، أن يكون ذلك على منهاج الأنبياء
(1)
"فإنه الإسلام" ليست في الأصل.
(2)
"عنه" ليست في ع.
(3)
"به" ليست في ع.
(4)
أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(2/ 21 - 22) واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد"(1/ 54) وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 252 - 253).
(5)
لفظ الجلالة ليس في ع.
وسنتهم
(1)
.
وقال عبد الله بن مسعود
(2)
: الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة.
وقيل لأبي بكر بن عياش
(3)
: يا أبا بكر! من السُّنِّيّ؟ قال: الذي إذا ذُكِرت الأهواء لم يغضب لشيء منها.
وهذا أصل عظيم من أصول سبيل الله، والطريق الموصل إليه، [79 ب] يجب الاعتناء به، فإنَّ كثيرًا من الأفعال قد يكون مباحًا أو مكروهًا أو محرمًا، إما بالاتفاق، أو فيه نزاع بين العلماء، فيستحسنه طائفة من الناس ويفعلونه على أنَّه قربة وطاعة ودين يتقربون به إلى الله، حتى يعدُّون من يفعل ذلك أفضل ممن لا يفعله، وربما جعلوا ذلك من لوازم طريقهم
(4)
إلى الله، أو جعلوه
(5)
شعارَ الصالحين وأولياء الله، ويكون ذلك خطأ وضلالًا ودينًا مبتدعًا لم يأذن به الله.
(1)
ع: "وسننهم".
(2)
أخرجه الدارمي في "سننه"(223) وابن نصر المروزي في "السنة"(ص 25) واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد"(1/ 55) والحاكم في "المستدرك"(1/ 103).
(3)
أخرجه الآجري في "الشريعة"(2058). وفيها: "لم يتعصَّب". وهو أولى بالصواب.
(4)
ع: "طريقتهم".
(5)
في الأصل: "جعلوا".
مثال ذلك: حلق الرأس في غير الحج والعمرة من غير عذر، اختلف الناس في إباحته وكراهته على قولين، وهما روايتان عن أحمد، ولا خلاف بينهم أنه لا يُشرَع ولا يُستحَبّ، ولا هو قربة إلى الله، ومع هذا فقد اتخذه طوائف من النسَّاك والفقراء
(1)
دينًا، حتى جعلوه شعارًا وعلامة على الدين والنسك والخير، وجعلوه من تمام التوبة، حتى إنَّ من لم يفعل ذلك يكون منقوصًا خارجًا عن الطريق المفضلة المحمودة عندهم، ومن فعل ذلك دخل في هَدْيهم وطريقهم
(2)
. وهذا خروجٌ عن طريق الله وسبيله باتفاق المسلمين، واتخاذ ذلك دينًا وشعارًا لأهل الدين من أسباب تبديل الدين، فكما أنَّه لا حرامَ إلا ما حرَّمه الله، ولا واجبَ
(3)
إلا ما أوجبه، فلا دينَ إلَّا
(4)
ما شرعه، ولا مستحبَّ إلا ما أحبه.
فصل
الوجه الثاني: أنَّ قولهم: إنَّ هذا
(5)
السماع يحصِّل محبوبَ الله، وما حصَّلَ محبوبَ الله فهو محبوب له= قول باطل، وهو منشأ الضلال في هذه المسألة، وأكثر المنحرفين في هذه المسألة حصل لهم الضلال
(1)
ع: "الفقراء والنساك".
(2)
ع: "وطريقتهم".
(3)
ع: "واجبا".
(4)
"إلا" ليست في الأصل.
(5)
"هذا" ليست في ع.
والغيُّ [80 أ] من هذه الجهة
(1)
، فظنوا أنَّ السماع يُثير محبة الله، ومحبة الله هي أصل الإيمان الذي هو عمل القلب، وبكمالها يكون كمال الإيمان. وأبو طالب المكي جعلها نهاية المقامات
(2)
، وأبو إسماعيل الأنصاري يقول
(3)
: هي المقام الذي تلتقي فيه مقدمة العامة وساقة الخاصة. وهؤلاء جعلوا السماع من توابع المحبة ووسائلها.
ومنشأ الغلط أن ما يُثيره هذا السماع المبتدع ونحوه من الحب وحركة القلب ليس هو الذي يحبه الله ورسوله، بل اشتماله على ما لا يحبه الله بل على ما يُبغضه أكثرُ من اشتماله على ما يحبه الله
(4)
، وصَدُّه عما يحبه الله ويرضاه أعظمُ من تحريكه لمحابِّه ومراضيه، ونهيُه عما يُقرِّب منه أكثرُ من أمره به. ولا ريبَ أنَّه يُثير حبًّا وحركةً، لكن منشأ الغلط ظنُّ أنَّ ذلك مما يحبه الله، وإنما ذلك من اتباع الظن {وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23].
فصل
ومما يوضح ذلك ويبينه: أنَّ الله سبحانه بيَّن في كتابه محبتَه، وذكر مُوجباتِها وعلاماتها، وهذا السماع يوجد مضادًّا لذلك منافيًا له، قال
(1)
ع: "الحومة" تحريف.
(2)
انظر "قوت القلوب"(2/ 50).
(3)
انظر "منازل السائرين"(ص 71).
(4)
لفظ الجلالة ليس في ع.