الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهل يستوي عند الله وملائكته ورسله
(1)
والصادقين من عباده سماعُ هذا وذوقُه وذوق صاحب سماع الغناء، من سماعٍ أهلُه عبيدُ نفوسٍ
(2)
شهوانية، كان عقد
(3)
مجلس اجتماعهم طلبًا للذة النفوس ونيلًا لحظِّها؟ فمن لم يُميِّز بين هذين السماعين والذوقين، فليسأل ربَّه بصدق رغبته إليه أن يُحيِيَ له قلبَه الميت، وأن يجعل له نورًا يمشي به في الناس، ويفرق به بين الحق والباطل، فإنه قريب مجيب.
فصل
في التنبيه على نكتة خفية
(4)
من نكت السماع
يعرفها أهله، وهي أنه قد علم الذائقون منهم أنه ما وَجَدَ صادقٌ في السماع الشعري وجدًا وتحرك به إلا وَجَدَ
(5)
عند انقضائه ومفارقةِ المجلس قبضًا على قلبه، ووجد نوعَ استيحاشٍ وأحسَّ ببعده
(6)
، ولا يتفطنُ لهذا إلا من في قلبه حياة وطلب، وإلا فـ
ما لجُرحٍ بميِّتٍ إيلامُ
(7)
(1)
في الأصل: "ورسوله". والمثبت من ع، ك.
(2)
ع: "نفوسهم".
(3)
ك: "عند".
(4)
ك: "حقيقية".
(5)
ك: "إلا ووجد به".
(6)
ك: "بعده".
(7)
صدره: من يَهُنْ يسهل الهوانُ عليه
والبيت للمتنبي في "ديوانه"(4/ 217).
ولو سئل عن سبب هذا لم يعرفه، لأن قلبه معمور بحب السماع وذوقه ووجده عن استخراج أسباب فساد القلب منه، ولو وزَنَه بالميزان العادل لعلم من أين أُتي، فاسمع
(1)
الآن السببَ الذي نشأ منه هذا القبضُ وهذه
(2)
الوحشة والبعد.
لما كان السماع الشعري أعلى أحواله أن يكون ممتزجًا من حق وباطل، ومركبًا كما تقدم من شهوة وشبهة، وأحسن أحوال صاحبه أن تأخذ الروح [45 ب] حظَّها المحمود منه ممتزجًا بحظ النفس والشيطان غيرَ صافٍ ولا خالصٍ، فامتزج نصيب الرحمن بنصيب الشيطان، واختلط حظ القلب بحظ النفس، هذا أحسن أحواله، فإنه مؤسَّسٌ على حظ النفس والشيطان، وهو فيه بالذات، وأما نصيب الرحمن فهو فيه بالعرض، ولم يُوضَع عليه ولا أُسِّس عليه، فاختلط في وادي القلب الماءانِ: الماء الصافي والكدر، وتجاورَ الخبيثُ والطيبُ، والتقتِ الوارداتُ الرحمانية والواردات الشيطانية.
والمستمع الصادق لغلبة صدقه وظهور أحكام القلب فيه يَخفَى عليه ذلك الوقتَ أثرُ الكدر، ولا يشعر به سيَّما مع
(3)
سُكْر الروح به
(1)
ع: "فاستمع".
(2)
ع: "وهذا".
(3)
ك: "الأسماع".
وغيبتها عن سوى
(1)
مطلوبه، فلما أفاق من سُكره وفارق لذة السماع وطيبه وجد اللوثَ والكدرَ الذي هو أثر حظّ
(2)
النفس والشيطان، وأثرُ
(3)
جُثوم الشيطان على قلبه، فأثَّر فيه ذلك الأثر قبضًا ووحشة، وأحسَّ به بعدًا، وكلما كان أصدق وأتمَّ طلبًا كان وجوده لهذا أظهر، فاستعداده وحياة قلبه يوجب له الإحساس بهذا، ولا يدري من أين أُتي.
وهذا له في الشاهد نظائر وأشباهٌ، منها: أن الرجل إذا اشتغل قلبه اشتغالًا تامًّا بمشاهدة محبوب، أو رؤية مخوف، أو لذة ملكتْ عليه حسّه وقلبه، إذا أصابه في تلك الحال ضربٌ أو لَسْعٌ أو سببٌ مؤلم لا يكاد يشعر به، فإذا فارقته تلك الحال وجد مسَّ الألم
(4)
حتى كأنه أصابه تلك الساعة، والألم لم يزل
(5)
فيه، لكن كان ثمَّ
(6)
مانع يمنع من الإحساس به، فلمّا زال المانع أحسَّ بالألم. ولهذه النكتة كان بعض الصادقين [46 أ] منهم إذا فارق السماع بادر إلى تجديد التوبة والاستغفار، وأخذ في أسباب التداوي التي يدفع بها موجب أسباب القبض والوحشة والبعد.
(1)
"سوى" ليست في ع.
(2)
"حظ" ليست في الأصل.
(3)
في الأصل: "وأتم" تحريف.
(4)
ك: "من الألم".
(5)
ع، ك:"وإلا لم يزل" خطأ.
(6)
ع: "ثمة".
وهذا القدر إنما يعرفه أولو الفقه في الطريق وأصحاب الفطن، المعتنون
(1)
بتكميل نفوسهم، ومعرفة أدوائها وأدويتها. والله المستعان.
ولا ريب أن الصادق قد يجد في سماع الأبيات ذوقًا صحيحًا إيمانيًّا، ولكن ذلك بمثابة من سُقِيَ عسلًا في إناء نجس، كإناء من جلد ميتة غير ذكيّ، والنفوس الصادقة التي عَلَتْ
(2)
هِممُها تنبو
(3)
عن الشرب
(4)
في ذلك الإناء وتتقذره
(5)
، وتأنف أن تشرب فيه، بل تطلب الشربَ من إناء يصلح لذلك الشراب ويناسبه، فإن لم تجده صانت الشراب عن وضعه في ذلك الإناء، وانتظرتْ به إناءً يليق به. وغيرها من النفوس تضع ذلك الشراب في أي إناء وجدتْه، من عظامِ ميتة أو جلدِ ميتة أو إناءِ خمرٍ طالما شُرِب به الخمرُ، وأُكِلت فيه الميتة.
أفلا يستحيي العارف أن يشرب أطهر الشراب وأطيبه في آنية المسكر والميتة والدم
(6)
ولحم الخنزير؟ ولوجود الصادق في حال سماعه ذلك الذوقَ وحلاوتَه يغيب عن قذارة الإناء ونجاسته ووَضَارته،
(1)
ك: "المعنيون".
(2)
ع: "غلب" تصحيف.
(3)
"تنبو" ساقطة من ك.
(4)
ع: "الشراب".
(5)
الأصل: "وتقذره".
(6)
"والدم" ليست في ع، ك.
فإذا فرغ من شربه وجد
(1)
زُهُومةَ ذلك الإناء
(2)
وآثارَ
(3)
قذارته على قلبه، فيوجب له ذلك قبضًا ووحشة. وبالله التوفيق.
هذا إذا كان صاحب السماع صادقًا في حاله مع الله وذوقه، وكان سماعه بالله ولله، وأمَّا إن كان سماعه للذة وحظ النفس [46 ب] فهو يشرب الماء النجس في الإناء القذر.
وأمَّا صاحب السماع القرآني الذي ذوقه وشربه منه، فهو يشرب الشراب الطهور في أنظف إناء وأطيبه.
فالآنية ثلاثة: نظيف ونجس ومختلط. والشراب ثلاثة: طاهر ونجس وممزوج. والقلوب ثلاثة: صحيح سليم فشربه الشراب الطهور في الإناء النظيف، وسقيم مريض فشربه الشراب النجس في الإناء القذر، وقلب فيه مادتان فشرابه وإناؤه بحسب المادتين، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا.
فصل
في الموازنة بين ذوق السماع وذوق الصلاة وبيان أن
(4)
أحد الذوقين مباين للآخر، فإنه كلّما قوي ذوق أحدهما وسلطانه ضعف ذوق الآخر وسلطانه.
(1)
ع: "ووجد" خطأ.
(2)
"ونجاسته
…
الإناء" ساقطة من ك.
(3)
ع، ك:"وأثر".
(4)
"أن" ليست في ع.
ولا ريب أن الصلاة قرة عيون
(1)
المحبين ولذة أرواح الموحدين، ومحكُّ أحوال الصادقين، وميزان أحوال السالكين، وهي رحمته المهداة إلى عبيده، هداهم إليها وعرَّفهم بها رحمةً بهم
(2)
وإكرامًا لهم، لينالوا بها شرف كرامته والفوز بقربه، لا حاجة منه إليهم، بل منَّةً وفضلًا منه عليهم، وتعبد بها القلب والجوارح جميعًا، وجعل حظ القلب منها أكمل الحظين وأعظمهما، وهو إقباله على ربه سبحانه وفرحه وتلذذه بقربه وتنعمه بحبه وابتهاجه بالقيام بين يديه، وانصرافه حال القيام بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده، وتكميل حقوق عبوديته حتى
(3)
تقع على الوجه الذي يرضاه
(4)
.
ولمّا امتحن سبحانه عبده
(5)
بالشهوات وأسبابها
(6)
[47 أ] من داخلٍ فيه وخارجٍ عنه، اقتضت تمام رحمته به وإحسانه إليه أن هيَّأ له مأدبةً قد جمعت من جميع الألوان والتحف والخِلَع والعطايا، ودعاه
(7)
إليه كل يوم خمس مرات، وجعل في كل لون
(8)
من ألوان تلك المأدبة
(1)
في الأصل: "عين".
(2)
ك: "لهم".
(3)
ع، ك:"حين".
(4)
ع: "يرضيه".
(5)
ع: "عبيده".
(6)
ع: "وأشباهها".
(7)
ع: "ودعا".
(8)
ع: "لون كل".
لذة ومنفعة ومصلحةً لهذا العبد الذي قد دعاه إلى المأدبة، ليست في اللون الآخر، لتكمل لذة عبده في كل
(1)
لون من ألوان العبودية، ويكرمه
(2)
بكل صنف من أصناف الكرامة، ويكون كل فعل من أفعال تلك العبودية مكفرًا لمذموم كان يكرهه بإزائه، ليُثيبه
(3)
عليه نورًا خاصًا وقوة في قلبه وجوارحه وثوابًا خاصًّا يوم لقائه.
فيصدر المدعو من هذه المأدبة وقد أشبعه وأرواه، وخلع عليه خِلَع
(4)
القبول وأغناه؛ لأن القلب كان قبلُ
(5)
قد ناله من القحط والجدب والجوع والظمأ والعُرْي والسقم ما ناله، فأصدره من عنده وقد أعطاه من
(6)
الطعام والشراب واللباس والتحف ما يغنيه.
ولمّا كانت الجدوب متتابعة، وقحط النفوس متواليًا
(7)
، جدد له الدعوة إلى هذه المأدبة وقتًا بعد وقت رحمة منه به، فلا يزال مستسقيًا من
(8)
بيده غيث القلوب وسَقْيها، مستمطرًا سحائبَ رحمته لئلا ييبَسَ
(1)
ع، ك:"بكل".
(2)
ك: "ويلزمه" تحريف.
(3)
ك: "ويثيبه".
(4)
الأصل: "بخلع".
(5)
ع: "قبلها".
(6)
في الأصل: "وقد أغناه عن". ك: "وقد أعتاه". والمثبت من ع.
(7)
ك: "متواليه".
(8)
ع، ك:"ممن".
ما أنبتته له
(1)
تلك
(2)
من كلأ الإيمان وعُشْبه وثمارِه، ولئلا تنقطع مادة النبات. والقلب في استسقاء واستمطار هكذا دائمًا، يشكو إلى ربه جَدْبه وقَحْطَه وضرورته إلى سقيا رحمته وغيثِ بِرِّه، فهذا دأب العبد أيام حياته.
فإن الغفلة التي تنزل بالقلب هي القحط والجدب، فما دام في ذكر الله [47 ب] والإقبال عليه فغيث الرحمة واقع عليه كالمطر المتدارك، فإذا غفلَ ناله من القحط بحسب غفلته قلة وكثرة، فإذا تمكنت الغفلةُ واستحكمتْ صارتْ أرضُه ميتةً، وسَنَتُه جرداءَ يابسةً، وحريقُ الشهوات فيها من كل جانبٍ كالسمائم.
وإذا تدارك عليه غيث الرحمة اهتزَّتْ أرضه ورَبَتْ وأنبتت من كل زوج بهيج، فإذا ناله القحط والجدب كان بمنزلة شجرة رطوبتها ولينها وثمارها من الماء، فإذا مُنِعتْ من الماء يَبِستْ عروقها
(3)
، وذَبلتْ أغصانها، وحُبِست ثمارها وربما يبست الأغصان والشجرة، فإذا مددتَ منها غصنًا إلى نفسك لم يمتد ولم ينقَدْ لك وانكسر، فحينئذٍ تقتضي حكمة قيّم
(4)
البستان قطعَ تلك الشجرة وجعلها وقودًا للنار، فكذلك القلب، إنما ييبس إذا خلا من توحيد الله وحبه ومعرفته وذكره ودعائه،
(1)
"له" ليست في ع، ك.
(2)
بعدها في ع: "الرحمة".
(3)
من هنا إلى قوله: "في العبودية"(في الصفحة الآتية) سقط كبير في ك.
(4)
ع: "قيمة" تحريف.