الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصواتهما، فكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"نهيتُ عن صوتين أحمقين فاجرين"، ثمّ فسرهما بالغناء والنَّوح اللذين يُثِيرهما الطربُ والحزن
(1)
.
وقولك: "إنَّ مفهوم الخطاب يقتضي إباحةَ غير هذا"، فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنَّ مثل هذا اللفظ لا مفهومَ له عند أكثر أهل العلم، فإنَّ التخصيص في مثل هذا بالعدد لا يقتضي اختصاص الحكم به، كقوله صلى الله عليه وسلم:"ثلاث في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن"
(2)
، لا يقتضي أنَّه ليس فيهم من أمر الجاهلية غير هذه الثلاث، ومن قال من الفقهاء بمفهوم العدد، فإنما يكون عنده حجة إذا لم يكن للتخصيص سبب آخر، وهنا التخصيص لكون هذين الصوتين كانا معتادين في زمنه وعلى
(3)
عهده صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] فإنَّ القتل
(4)
على هذه الصفة هو الذي كان معتادًا على عهده في العرب.
الثاني: أنَّ اللفظ الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على مورد النزاع
، فإنَّه إذا نُهِي عن هذا الصوت عند النعمة التي يُعذَر الإنسان عندها، إذ
(1)
في الأصل: "الحرب" تصحيف.
(2)
الحديث بلفظ "أربع في أمتي
…
"، أخرجه مسلم (934) عن أبي مالك الأشعري.
(3)
"على" ليست في ع.
(4)
ع: "قتلهم".
هي محل فرح وسرور، كما رخّص في غناء النساء في الأعراس والأعياد ونحو ذلك، فلأن يُنهَى عنه في غير هذه الحال أولى وأحرى.
فصل
*قال صاحب الغناء: قد روى ابن طاهر المقدسي
(1)
أن رجلًا أنشد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم:
أقبلتْ فلاحَ لها
…
عارضانِ كالسَّبَجِ [92 ب]
أدبرَتْ
(2)
فقلتُ لها
…
والفؤادُ في وَهَجِ
هلْ عليَّ ويحَكما
…
إن عَشِقْتُ من حَرجِ
(3)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا إن شاء الله"
(4)
. وذكره أبو القاسم القشيري في رسالته
(5)
، وهو نص في إباحة الغناء.
(1)
لم أجد النص في كتاب "السماع" المطبوع، ولعله رواه في كتاب آخر.
(2)
في النسختين: "ثم أدبرت". وبه يختل الوزن.
(3)
البيت الأول بلا نسبة في "لسان العرب"(قضب) بقافية "كالبرد". والثالث لسيرين أخت مارية القبطية في "شرح شواهد المغني" للسيوطي (ص 335)، وبلا نسبة في "تهذيب اللغة"(8/ 348).
(4)
أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات"(3/ 115، 116) عن ابن عباس. وفي إسناده حسين بن عبد الله، وهو متروك. وانظر "اللآلئ المصنوعة"(2/ 207)، و"الفوائد المجموعة"(ص 255).
(5)
"الرسالة القشيرية"(ص 507).
*قال صاحب القرآن: هذا الحديث مكذوب موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يشك فيه مَن له أدنى علم بسنّة
(1)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمييز صحيحها من سقيمها، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدّس الله روحه يقول:"هذا الحديث موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، لا أصل له، وليس هو في شيء من دواوين الإسلام، وليس له إسناد"
(2)
. ومَن له أدنى ذوق في الشعر يعرف أن هذا من شعر المتأخرين، وليس من فحله بل من ثُنيانِه
(3)
، وشعر العرب أفحلُ من هذا وأحمس
(4)
. وكيف يُظَنُّ بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول: لا حرج؟ من غير أن يسأله عن معشوقته أهي ممن يحل له أم لا؟ فقبَّح الله واضعَه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أجرأَه على النار!
فصل
*قال صاحب الغناء: فقد روي أن أعرابيًا أتى النبي
(5)
صلى الله عليه وسلم وأنشده:
قد لَسَعَتْ حيَّةُ الهوى كَبِدِي
…
فلا طبيبٌ لها ولا رَاقِي
إلّا الحبيب الذي شُغِفْتُ به
…
فعنده رُقْيتي وتِرْيَاقِي
(1)
ع: "في سنة".
(2)
انظر "الاستقامة"(1/ 296).
(3)
الثُّنْيان: الذي يكون دون السيّد في المرتبة.
(4)
الأحمس: القوي الشديد. وفي ع: "أحسن" تحريف، فلا مناسبة بينه وبين "أفحل".
(5)
ع: "إلى النبي".
فتواجد النبي صلى الله عليه وسلم عند سماعه
(1)
.
*قال صاحب القرآن: وهذا الحديث أيضًا من الطراز الأول، فليتبوأ واضعُه على رسول الله صلى الله عليه وسلم[93 أ] مقعدَه من النار. سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول:"هذا كذبٌ مفترًى موضوع باتفاق أهل العلم"
(2)
.
قلت: وركاكة شعره وسماجته وما تجد عليه من الثقالة، من أبين الشواهد على أنه من شعر المتأخرين البارد السَّمج، فقبَّح الله الكاذبين
(3)
على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد اختلف الناس في كفر من كذب عليه وقتله على قولين مشهورين، وهما وجهان لأصحاب الشافعي وغيرهم، والذين ذهبوا إلى كفره وقتله احتجوا بالأثر المشهور أن رجلًا جاء إلى قوم من العرب، فقال: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم أن تزوِّجوني، فزوَّجوه وأكرموه،
(1)
أخرجه ابن طاهر في "صفوة التصوف"، وأورده السهروردي في "عوارف المعارف" (ص 121) وقال:"يخالج سرّي أنه غير صحيح، ويأبى القلب قبوله". وذكر أبو موسى المديني والنووي وابن تيمية وغيرهم أنه حديث باطل لا أصل له. انظر "تذكرة الموضوعات للفتني"(ص 197 - 198) و"المقاصد الحسنة"(ص 333) و"تنزيه الشريعة"(2/ 233) و"ميزان الاعتدال"(3/ 164) و"مجموع الفتاوى"(11/ 563).
(2)
انظر "الاستقامة"(1/ 297).
(3)
ع: "الكذابين".
ثمّ
(1)
أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّا قد
(2)
فعلنا ما أمرتَنا به، فأمر بقتله
(3)
.
قالوا: وقد توعده
(4)
بأنه يتبوأ مقعدَه من النار
(5)
، والمباءة المكان اللازم له الذي لا يفارقه.
قالوا: وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ليس كذبٌ عليَّ ككذبٍ على غيري"
(6)
، فلو كان الكذب عليه إنما يوجب التعزير، والكذب على غيره يوجبه، لكانا سواءً أو متقاربين.
قالوا: ولأن الكذب عليه يرجع إلى الكذب على الله، وأن هذا دينه
(1)
ع: "و".
(2)
ع: "فقد" بدل "أنا قد".
(3)
أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار"(1/ 352، 353) وابن عدي في "الكامل"(4/ 1371) وابن الجوزي في "مقدمة الموضوعات"(1/ 55، 56) عن بريدة. وفي إسناده صالح بن حيان القرشي، وهو ضعيف. قال ابن عدي: هذه القصة لا أعرفها إلا من هذا الوجه. وانظر "مجمع الزوائد"(1/ 145) و"البدر المنير"(9/ 206).
(4)
ع: "توعد".
(5)
حديث "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" حديث صحيح متواتر عن جماعة من الصحابة، وقد جمع طرقه الطحاوي في "مشكل الآثار"(1/ 352 - 372) وابن الجوزي في "مقدمة الموضوعات"(1/ 55 - 92) والسيوطي في "تحذير الخواص"(ص 8 - 57).
(6)
أخرجه البخاري (1291) ومسلم (4) عن المغيرة بن شعبة.
وشرعه ووضعه
(1)
، والكذب على الله أقبح من القول عليه بلا علم، والقول عليه بلا علم من أعظم المحرمات
(2)
، بل هو في الدرجة الرابعة من المحرمات. قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ [93 ب] مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، فذكر سبحانه المحرمات الأربع مبتدئًا بالأسهل منها، ثم ما هو أصعب منه، ثم كذلك، حتى ختمها بأعظمها وأشدِّها، وهو ا لقول عليه بلا علم، فكيف بالكذب عليه؟
قالوا: ولأن الكذب عليه بأنه قال كذا ولم يقلْه، نسبةٌ للقول المكذوب إليه بأنه قاله
(3)
، فالكاذب يعلم أن ما اختلقَه كذِبٌ، فإذا نسبه إلى رسول الله فقد نسب إليه الكذب. وهذا المذهب كما ترى قوةً وظهورًا.
فصل
*قال صاحب الغناء: وقد رُوي أن أصحاب الصُّفَّةِ سمعوا يومًا فتواجدوا، ومزَّقوا ثيابهم. ولنا الأسوة فيهم.
(1)
ع: "وصفه". والوضع بمعنى الجعل والشرع والإنزال والإثبات، وهو المناسب للدين والشرع.
(2)
بعده في الأصل: "الأربع، مبتدئًا بالأسهل منها، ثم ما هو أصعب منه، ثم كذلك". وقد شُطب عليها، وستأتي.
(3)
في الأصل: "بأنه وأنه قاله". ع: "وأنه قال".
*قال صاحب القرآن: هذا أيضًا من جِراب الكذب الذي فتحه البهَّاتون الكذابون
(1)
الدجّالون، ولم يكن في القرون الثلاثة لا بالمدينة ولا بمكة ولا بالشام ولا باليمن ولا بمصر ولا خراسان ولا العراق، مَن يجتمع على هذا السماع المحدَث، فضلًا عن
(2)
أن يكون نظيره كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا كان أحد يُمزِّق ثيابه من السلف الصالح، وهم كانوا أعلمَ بالله وأفقهَ في دينه من أن يُقدِموا على محرَّم في الشريعة باتفاق الأمة، وهو إتلاف المال وإضاعته، ويعدُّونه قربةً إلى الله تعالى، ولا كان فيهم رقَّاصٌ، بل لمَّا حدثَ التغبيرُ في أواخر المائة الثانية، وكان أهله من خيار طائفتهم، وكان مبدأ حدوثه من جهة المشرق التي منها يطلع قرن الشيطان، وبها الفِتَن
(3)
، [94 أ] قال الشافعي:"خلّفتُ ببغداد شيئًا أحدثتْه الزنادقة يسمّونه التغبير، يصدُّون به الناس عن القرآن".
فصل
*قال صاحب الغناء: قال أبو طالب المكي في كتابه "القوت"
(4)
: "مَن أنكر السماعَ مطلقًا غيرَ مقيَّد فقد أنكر على سبعين صدّيقًا". هذا في
(1)
"الكذابون" ليست في الأصل.
(2)
"عن" ليست في ع.
(3)
كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (3511، 7093) ومسلم (2905) عن ابن عمر.
(4)
"قوت القلوب"(2/ 61) وفيه: "تسعين صادقًا". والمؤلف تبع شيخه في "الاستقامة"(1/ 299).
زمانه، ولا ريبَ أن المنكر بعده يكون إنكاره على أضعاف هؤلاء.
*قال صاحب القرآن: إن كان قد حضره وفعله سبعون صدّيقًا، فقد أنكر
(1)
عليهم سبعون وسبعون وسبعون
(2)
وأكثر، والمنكرون عليهم أعظم علمًا وإيمانًا وأرفعُ درجة، فليس الانتصار لطائفةٍ من الصديقين على نظائرهم، لاسيما على مَن هو أكبر منهم وأجلُّ وأكثر عددًا، بأَوْلَى من العكس، وحينئذ فيُعارَض قولك بما هو أولى منه.
ويقال: من أقرَّ على هذا السماع أو استحبه وأنكر
(3)
على مَن أنكره، فقد أنكر على سبعين وسبعين وسبعين وأكثر من الصديقين والعلماء.
وأيضًا فالذين حضروا هذا اللهو متأولين من أهل الصلاح والزهد والخير، غَمَرتْ حسناتُهم ما كان فيهم من السيئات والخطأ من هذا ومن غيره، وهذا سبيل كل
(4)
صالح في هذه الأمة في خطئه وزَلَلِه، قال الله تعالى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 33 - 35].
(1)
ع: "أنكره".
(2)
"وسبعون" الثالثة ليست في الأصل.
(3)
ع: "واستحبه أو أنكر".
(4)
"كل" ليست في ع.
وهذا كالمتأولين من صالحي الكوفيين في النبيذ المُسْكِر وإن كان خمرًا، وكذلك المتأولين من صالحي أهل مكة [94 ب] في المتعة والصرف، وإن كان سبيلهما سبيل الزنا والربا، وهم من
(1)
أبعد الناس عن ذلك، وكذلك المتأولون في حِلِّ ما
(2)
حرَّمه الشارع من الأطعمة من أهل المدينة وغيرهم، وكذلك المتأولون في مسألة حشوش النساء، وكذلك المتأولون في القتال في الفتنة، إلى أمثال ذلك مما تأول فيه قوم من أهل العلم والدين، من مطعوم أو مشروب أو منكوح أو مسموع أو عقد ونحو ذلك، مما قد عُلِم أن الله ورسوله حرَّمه، لم يَجُز اتّباعُهم في ذلك، وإن كان مغفورًا لهم، ومن السعي الذي يُؤجَرون عليه لاجتهادهم أجرًا واحدًا، فالرب سبحانه يمحو السيئات بالحسنات، ويقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات.
فصل
وها هنا أصل يجب اعتماده، وهو أن الله سبحانه عَصَم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، ولم يَعْصِم آحادها من الخطأ لا صدِّيقًا
(3)
ولا غيره، لكن إذا وقع في بعضها خطأ فلا بدَّ أن يقيم الله فيها مَن يكون
(4)
(1)
"من" ليست في ع.
(2)
ع: "حل بعض ما".
(3)
ع: "صديق".
(4)
"الله فيها من يكون" ساقطة من ع.
على الصواب، لأن هذه الأمة شهداء الله في الأرض، وهم شهداء على الناس يوم القيامة، وهم خير أمةٍ أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فلا بد أن تأمر بكل معروف وتنهى
(1)
عن كل منكر، فإذا كان فيها مَن يأمر بمنكر متأولًا، فلابد أن يقيم الله فيها
(2)
مَن يأمر بذلك المعروف.
فأمّا الاحتجاج بفعل طائفة من الصديقين في مسألة نازعهم فيها مثلُهم أو أكثرُ منهم فباطل، بل لو كان المنازع لهم أقلَّ منهم عددًا وأدنى منزلةً، لم تكن الحجة مع أحدهما إلا بكتاب الله وسنّة [95 أ] رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الأمة أُمِرَتْ بذلك، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]. فإذا تنازع الأمراء والعلماء والزهّاد والعبّاد في شيء، فعليهم جميعهم أن يردُّوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله.
ومن المعلوم أن الصديقين الذين أباحوا بعض المسكرات، والصديقين الذين استحلُّوا نكاحَ المتعة، واستحلُّوا الصَّرفَ، و استحلُّوا نكاح التحليل، واستحلُّوا بعض المطاعم التي حرَّمها الشارع، واستحلُّوا قتالَ أهل القبلة، هم أسبقُ من هؤلاء وأكبر
(3)
وخير منهم وأعلم بالله
(1)
ع: "يأمر
…
ينهى". وضمير المؤنث للأمة.
(2)
"فيها" ليست في ع.
(3)
ع: "وأكثر".
ورسوله، فإذا نهى مَن خالفهم عما نهى الله ورسوله عنه من ذلك لم يكن لأحد أن يقول: هذا إنكارٌ على كذا وكذا من الصديقين وأئمة المسلمين، فإن هذا الإنكار من نظرائهم أو من هو أعلم بذلك منهم، وإن كانوا أعلمَ منه بشيء آخر، فالصديقون أنكر بعضهم على بعض، وردَّ بعضهم على بعض، وخطَّأ بعضهم بعضًا، بل قاتل بعضهم بعضًا
(1)
، وكل ذلك لله وفي الله وفي مرضاته.
فصل
وهاهنا نكتة ينبغي التفطُّن لها، وهي أنَّ الله سبحانه لما سبق في قضائه وقدره وعلمه السابق أنَّ الأمة لابدّ أن تختلف، ويكون فيها من يستحلُّ بعضَ ما حرَّمه بالتأويل، جعل للمختلفين
(2)
سلفًا صالحًا خفي عليهم بعضُ ما جاء به رسوله فخالفوه متأولين، وهم مطيعون [95 ب] لله ورسوله، وإن أخطأوا حكمَه في بعض ما اختلفوا فيه للاشتباه والخفاء، كما يكون من خفيت عليه القبلة فصلى بالاجتهاد إلى غير جهتها مطيعًا لله ورسوله، فلولا اختلاف المتقدمين لهلك المتأخرون.
ومن كمالِ نعمته وتمامِ رحمته أن جعل في الأمة من يعرف ما خفي على الآخر من الصواب، وكذلك هذا أيضًا قد يخفى عليه الصواب في شيء آخر، ويعرفه ذلك. فمجموع الحق عند مجموع الأمة.
(1)
"بل قاتل بعضهم بعضًا" ساقطة من ع.
(2)
في الأصل: "المختلفين".
ووقوعُ مثل هذا التأويل ممن وقع منه
(1)
من الأئمة المتبوعين أهلِ العلم والإيمان، صار من أسباب المحنة التي امتحن الله بها عباده، وفتنَهم بها، وصار فتنةً لطائفتين:
طائفة اتبعتْهم على ذلك وقلَّدوهم فيه، معرضين عما أمرهم الله ورسوله من اتباع الحق، وحملَ التعصبُ لكثيرٍ من أتباعهم على أنهم لم يقفوا عند الحد الذي وقف أولئك عنده وانتهوا إليه، بل اعتدَوا في ذلك، وزادوا زياداتٍ لم تصدُرْ من تلك الأئمة، ولو رأوا من يفعلُها ويستحلُّها لأنكروا عليه غاية الإنكار.
وطائفة أخرى علموا تحريمَ ما أحلَّه أولئك الأئمة بالتأويل، ووضحتْ
(2)
لهم فيه السنةُ، فاعتدَوا على المتأولين بنوع من الذم فيما هو مغفور لهم، و تبعهم مقلِّدون لهم، فزادوا في الذمّ واعتدَوا، ولم يقفوا عند الحد الذي انتهى إليه من قلدوه.
والقول الوسط والصراط
(3)
المستقيم بين هذا وهذا: معرفةُ المراتب وإعطاء كل ذي حق حقه، واتباع القول الموافق لما جاء به رسول الله [96 أ]صلى الله عليه وسلم، وعُذْرُ من خالفه مجتهدًا متأولًا.
(1)
ع: "فيه".
(2)
ع: "وصحت" تصحيف.
(3)
ع: "السراط".
واعتبرْ ذلك بمسألة السماع التي وقع فيها النزاع، فإنَّ الله سبحانه شرع للأمة من السماع ما أغناهم به عما لم يَشرعْه، حيث أكملَ لهم دينَهم وأتمَّ عليهم نعمتَه ورضيَ لهم الإسلام دينًا، وهو سماع القرآن الذي شرعه لهم في الصلاة وخارجها مجتمعين ومنفردين، حتى كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدًا يقرأ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى:"يا أبا موسى ذكِّرنا ربَّنا"
(1)
.
فلما انقرضت القرون الفاضلة حصلَتْ فترةٌ في هذا السماع المشروع الذي به صلاح القلوب وسعادة الدارين، وصار أهل الفتور فيه أحدَ رجلين:
رجل أعرض عن السماع المشروع وغير المشروع، فأورثه ذلك قسوةً، وفواتَ حظِّه من حقائق الإيمان وأذواقه ومواجيده.
ورجل أقبل على سماع الأبيات والقصائد، و جعل شربه وذوقه منها.
والرجلان منحرفان، وخير منهما وأصحُّ سماعًا من جعل سماعه وذوقه ووَجْدَه من الآيات.
وأقام الله سبحانه من أنكر على أهل السماع المحدَث المبتدَع، وكان في المنكِرين المقتصدُ والجافي والغالي، وصار على تمادي الأيام
(1)
سبق تخريجه (ص 102).
يزداد المحدَثُ من هذا السماع، ويكثر الحدَثُ فيه، ويزداد التغليظُ من أهل الإنكار، حتى آل الأمر إلى أنواع من التفرق والاختلاف والمعاداة. ومن ثبَّته
(1)
الله بالقول الثابت أعطى كلَّ ذي حق حقَّه، وحفظَ حدودَ الله فلم يَعتدِها
(2)
، ومن يتعدَّ
(3)
حدودَ الله فقد ظلم نفسه.
وحصلت الزيادةُ في جميع [96 ب] أنواع البدع، وازدادت على الأيام تغليظًا، فإنَّ أصل سماع القصائد كان تلحينًا بإنشاد قصائد مُرقِّقة للقلوب، تتضمن تحريكَ المحبة والشوق، والخوف
(4)
والخشية، والحزن والأسف وغير ذلك، وكانوا يشترطون له المكان والإمكان والخلَّان، ويشترطون أن يكون المجتمعون لهذا السماع من أهل الطريق المريدين لوجه الله والدار الآخرة، وأن يكون الشعر المسموع خاليًا عما تَحظُر الشريعةُ سماعَه وتكرهه، وبعضهم كان يشترط أن يكون القوَّال منهم، وبعضهم يشترط كون الذي أنشأ القصيدة من أهل الطريق، إلى غير ذلك من الشروط والأوضاع التي احترزوا بها من مُفسِدات السماع.
ولكن لما كان الأصل غيرَ مشروعٍ آل الأمرُ إلى ما آل إليه من الفساد الذي لا يعلمه إلا الله، لأنَّه من عند غير الله، فليس عليه حارسٌ
(1)
ع: "يثبته".
(2)
"فلم يعتدها" ليست في ع.
(3)
في الأصل: "ولم يتعد".
(4)
"والخوف" ليست في الأصل.
وحافظ من الله، بل هو بمدرجة كل سالكٍ في الباطل، وهو مَجْمَعُ المنخنقة
(1)
والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السَّبُع وما ذُبِح على النُّصُب. ثمّ إنَّهم أضافوا إلى هذا الصوت ما يُنفِّذه ويُوصِله إلى شَغَاف القلب، من الآلات التي أخفُّها التغبير، وهو ضربٌ بقضيب على جلد أو مخدَّةٍ على توقيع خاص، فعظُمَ إنكارُ الأئمة لذلك كالشافعي وأحمد، فقال الشافعي:"هو من إحداث الزنادقة"، وقال أحمد:"بدعة".
ثمّ لم يقتصروا على هذه الحركة، فتعدَّوها إلى حركة الدُّفوف، وهي أقبح من حركة التغبير، وفيها ما فيها، وزيادة التشبه بالنساء، فإنَّ الدفّ في الأصل إنما هو للنساء عادة ورخصة، وقد لعن رسول الله [97 أ]صلى الله عليه وسلم المتشبّهين من الرجال بالنساء
(2)
.
ثمّ لم يقتصروا على هذه الحركة حتى تعدَّوها إلى حركات الأوتار والعِيْدان، التي هي في الأصل من إحداث الفلاسفة أعداء الرسل، ثمّ ضمُّوا إلى ذلك حركة الرقص، التي سببها استخفاف الشيطان لأحدهم، وركوبه على كتفه، ودقُّه برجليه في صدره، وكلما دقَّه برجليه ورقَص على صدره رقصَ هو كرقص الشيطان
(3)
عليه، وقد شاهد ذلك بعض أهل البصائر عيانًا، ثمّ ضمُّوا إلى صوت الغناء صوتَ اليَراع والشبابة وغيرها.
(1)
ع: "للمنخنقة".
(2)
كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (5885) عن ابن عباس.
(3)
ع: "كرقصة".
فاقتضت هذه الهيئة الاجتماعية حركةً باطنة، فإنَّ استماعَ الأصوات المطربة يُثير حركةَ النفس بحسب تلك الأصوات، وللأصوات طبائع متنوعة يتنوع آثارها في النفس، وكذلك للكلام المسموع نظمه ونثره، فيجمعون بين الصوت المناسب والحرف المناسب، فيتولد من بينهما حركاتٌ نفسية تُثِير كامنَها وتُزعِج قاطنَها، وهذا أمر يشترك فيه بنو آدم من المؤمنين والكفار والأبرار والفجار، ويُثِير من قلب كل أحدٍ ما فيه. ومعلومٌ أنَّ النفوس فيها الشهوات كامنة، ولكنها مقهورة مقيَّدةٌ بقيود الأوامر، فإذا صادفها السماع أحياها وأطلقها من قيودها، وافْتكَّها من أَسْرها، وأجلب عليها بكل مُعِين ومُمِدّ. وهذا أمر لا ينكره إلا أحد رجلين: إما غليظ الطِّباع
(1)
كثيف الحجاب، وإما مكابر. فمضرة هذا
(2)
السماع على النفوس أعظم من مضرَّة حُمَيّا الكُؤوس.
ولما كانت المفسدة فيه ظاهرة معلومة، أخرجه أهلُه في قالَبٍ يُلطِّف ما فيه من المنكر، فجمعوا عليه أخلاطًا من الناس، وقالوا: إنَّ هذا [97 ب] الاجتماع شبكةٌ نصطاد بها النفوسَ إلى التوبة، و نسوقُها بها إلى الله والدار الآخرة. ونعم واللهِ هو شبكة وأيُّ شبكة! يصطاد بها الشيطانُ النفوسَ المُبطِلة إلى ما هو أعظم من المعاصي الظاهرة،
(1)
"الطباع" ليست في الأصل.
(2)
"هذا" ليست في ع.
ويقودها بها
(1)
إلى الغيّ والهوى، فلهذا نصَبه
(2)
هؤلاء الفسَّاق من المخانيث والزُّناة وعُشّاق الصور، فجعلوه شبكةً لهم لصيدِ
(3)
الأَغْيَد والغَيْداء والغَزَالِ والغزالة، ووضعوه على ما يليق بمقاصدهم من الأوضاع، فشرطوا أن يكون المغنِّي أمردَ جميلًا، تدعو صورتُه وصوته وشكله ودَلُّه وحركاتُه إلى تعلق القلوب به وعشقه، فإن فاتَ فامرأةٌ كذلك، وإذا جمعَ السماعُ العاشقَ والمعشوقَ، وتقابلَا وتعانَقَا في الرقص:
فظُنَّ شرًّا ولا تسألْ عن الخبرِ
(4)
وإذا حضر المُردان الحِسان هذا السماعَ فهو عندهم الغاية
(5)
، ولاسيما إذا ألبسوهم المُصبغاتِ
(6)
، وزيَّنوهم كما تُزيَّن العرائسُ، وأخلَوا لهم طابق
(7)
الرقص، ودار حولهم العشّاق والفسَّاق كالهالة
(1)
"بها" ليست في ع. والضمير للشبكة.
(2)
في النسختين: "نسبة". وضمير المفعول للاجتماع المذكور سابقًا.
(3)
ع: "ليصيدوا".
(4)
ع: "الخير" تصحيف. وتمام البيت لابن المعتز في ديوانه (3/ 49):
فكان ما كان مما لستُ أذكره
…
فظُنَّ خيرًا .....................
(5)
في الأصل: "الثايغة".
(6)
ع: "المصنعات" تصحيف.
(7)
في الأصل "طايق". والمثبت كما في ع و"الاستقامة"(1/ 307) و"مجموع الفتاوى"(11/ 599).
حول القمر، وأداروا عليهم من الأعين النِّطاق. فللشيطان لا للهِ كم من
(1)
زَعْقةٍ وصَرْخةٍ وزَفْرةٍ وأنَّةٍ وحَسْرة ووَجْدٍ وأسفٍ وحزنٍ، وكم من قلوبٍ تُشقَّق قبل الجيوب، وعبراتٍ تُسكَب في غير رضا علام الغيوب، فيا لها حضرةً ما أحبَّها إلى الشيطان! وما أبغضَها إلى الرحمن!
ويتزايد الأمر حتى يُغنُّوا بأشعارٍ طالما عُصِيَ الله بها في الأرض، من أشعار الفسّاق و الفجّار، المتضمنة لتهييجِ النفوس على ما يُبغِضه الله
(2)
ويَمقُت عليه، ومدْح ما حرَّمه ولعنَ فاعله، والابتهاجِ به، والافتخارِ [98 أ] بنيله، والتَبجُّح
(3)
بالوصول إليه. وربما تعدَّوا ذلك إلى الغناء بالأشعار الكفرية التي تُحادُّ ما أنزل الله، كأشعار أهل الإلحاد من الاتحادية والحلولية، والأشعار المتضمنة لكثير من ألفاظ القرآن، كقوله:
قمتُ ليلَ الصُّدودِ إلا قليلا
…
ثمّ رتَّلتُ ذِكرَكم ترتيلَا
إلى أن يقول
(4)
:
قل لِرَاقِي الجفونِ إنَّ لجَفْنِي
…
في بحارِ الدُّموع سَبْحًا طَوِيلا
(5)
(1)
"من" ساقطة من ع.
(2)
لفظ الجلالة ليس في ع.
(3)
ع: "والتبهج" تحريف.
(4)
"إلى أن يقول" ليست في ع.
(5)
الأبيات لابن النبيه في "ديوانه"(ص 68)، و"معاهد التنصيص"(4/ 145)، و"خزانة الأدب" لابن حجة (2/ 455).
ومرَّ في السورة يستعرضها هكذا
(1)
إلى آخرها. وهذا فِعلُ من لا يرجو لله تعالى ولا لكتابه وقارًا، بل قد سقطتْ حرمة القرآن والدين من قلبه، وكثيرًا ما يُغنُّون بأبيات تتضمن اعتقادَ الكفار، وقد لا يدري المغني ولا السامعون، بل قد يُغنُّون بما لا يستجيزه الكفار من أهل الكتاب، ولولا الإطالة لذكرنا من أشعارهم هذه كثيرًا.
وزادوا أيضًا في آلات اللهو، حتى تعدَّوا إلى آلات اليهود والنصارى والمجوس والصابئة على اختلاف أنواعها، وعظُمت البليةُ، واشتدّت بذلك الفتنة، حتى ربا فيها الصغيرُ وهَرِمَ فيها الكبير، واتخذوا ذلك دَيْدَنًا ودينًا، وجعلوه من الوظائف الراتبة بالغدو والآصال، وفي الأماكن والأوقات الفاضلات، واعتاضوا به عن سماع الآيات وعن إقامة الصلوات، وقعدوا تحت قوله تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: 59]، وتحت قوله:{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]، فإنَّ "المكاء" هو الصفير وتوابعه من الغناء، و"التصدية" التصفيق بالأيدي [98 ب] وتوابعه. فإذا كان هذا سماعَ المشركين الذي ذمه الله في كتابه، فكيف إذا اقترن بالمكاء المواصيلُ والشباباتُ، وبالتصديةِ الدفوفُ المصلصلاتُ، والرقصُ والتكسُّر والتثنِّي بالحركات الموزونات؟ فكأنَّ القوم إنما حلَّ لهم المكاء والتصدية لما انضمَّت إليه هذه المؤكدات، فهناك ذهب
(1)
"هكذا" ليست في ع.
حرامه وبقي حلاله، وزال نقصُه وخلَفَه كمالُه.
ثمّ يتفاقم أمره إلى أن يشتمل على ما يتضمن الكفر بالرحمن، والاستهزاء بالقرآن، والطعن في أهل الإيمان، والاستخفاف بالأنبياء والمرسلين، والتحضيض على جهاد المؤمنين
(1)
، ومعاونة الكفار والمنافقين، واتخاذ المخلوق إلهًا من دون رب العالمين، وجعل ذلك من أفضل أحوال العارفين. ويفعلون في هذا السماع ما لا يفعله اليهود ولا النصارى ولا الصابئة ولا المجوس.
فصار السماع المحدث دائرًا بين الكفر والفسوق والعصيان، ولا حول ولا قوة إلّا بالله، وكفره من أعظم الكفر وأشدِّه، وفسوقه من أعظم الفسوق وأبلغه، فإنَّ تأثيره في النفوس من أعظم التأثير يُغذّيها ويُغنيها، ولذلك سُمِّي غناءً، ويُوجب للنفوس أحوالًا عجيبة يظن أصحابها أنها من جنس كرامات الأولياء، وإنما هي من الأمور الطبيعية
(2)
المُبعِدة عن الله، والشيطان يَمُدُّ أصحابَها في هذا السماع بأنواع الأمداد، كما قال تعالى:{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202]، وقال للشيطان:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64].
وصار في أهل هذا السماع المحدَث الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا، ضدَّ ما أحبه الله وشرعه من دينه الحق، الذي بعثَ به رسله وأنزل
(1)
ع: "المرسلين".
(2)
ع: "الطبعية".
به كتبه، من عامة الوجوه. [99 أ] إذ صار مشتملًا على أكثر ما حرَّمه الله ورسوله، فإنَّ الله تعالى قال:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، فاشتمل هذا السماع على هذه الأمور الأربعة التي هي قواعد المحرمات، فإنَّ فيه من الفواحشِ الظاهرة والباطنة والإعانة على أسبابها، والإثمِ والبغي بغير الحق، والشركِ بالله ما لم يُنزِّلْ به سلطانًا، والقولِ على الله بغير علمٍ= ما الله به عليم، فإنَّه تنوعَ
(1)
وتعددَتْ طرقه، وتفرق أهله فيه وصاروا شِيعًا، لكل قوم ذوقٌ ومشربٌ وطريق يُفارِقون به غيرهم، حتى في الأشعار والألحان والحركات والأذواق، وصار من فيه من العلم والإيمان ما ينهاه عما فيه من أنواع الكفر والفسوق والعصيان، يريد أن يَحُدَّ له حدًّا يَفصِل فيه بين ما يَسُوغ منه وما لا يسوغ، فلا يكاد ينضبط له
(2)
، حتى إنَّ منهم مَن شرطَ شروطًا تتعذرُ ويندُر وجودها، حتى إنَّه اجتمع مرة ببغداد في حال عمارتها ووجود الخلافة بها أعيانُ الشيوخ الذين يحضرون السماع المصُونَ، فلم يجدوا من يصلح له إلا ثلاثةُ نفرٍ أو أربعة.
وسبب هذا أنَّه ليس من عند الله، فوقع فيه الاضطراب والاختلاف، وصار أهله من الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شِيَعًا، كل حزبٍ
(1)
ع: "تتنوع".
(2)
"له" ليست في الأصل.
بما لديهم فرحون.
ثمّ المصيبة العظمى والداهية الكبرى أنَّه ــ مع اشتماله على المحرمات كلها أو أكثرها أو بعضها ــ يَرون أنَّه من أعظم [99 ب] القُرُبات وأجلِّها قدرًا، وأنَّ أهله هم صفوة أولياء الله وخِيَرته من خلقه، ولا يَرضَون بمساواة السابقين الأولين من سلف الأمة وأئمتها حتى يتفضَّلوا عليهم، وفي غُلاتِهم وزنادقتهم من يُساوون أنفسَهم بالأنبياء والمرسلين، وفيهم من يُفضِّل نفسَه عليهم، إلى غير ذلك من أنواع الكفر.
وجماع الأمر أنه صار فيه وفيما يَتْبَعه في وسائله ومقاصده وصفته ونتيجته، شَبَهٌ مما في السماع الشرعي وما يَتْبَعه في ذلك، فاشتبه الأمر والتبس الحق بالباطل، ونفوسُ أهله غالبًا لا تمييزَ لها ولذا أكثر أهله أهل الجهل وضعفاء العقول، ممن قلَّ نصيبه من العلم والإيمان، وأجدبَ قلبُه من حقائق القرآن، كالنساء والصبيان وأهل البوادي وجَهَلة الأعراب، ولهذا كان أهله إذا عَقَدُوه يَنزِل عليهم المقْتُ، وحَفَّتْ بهم الشياطين، وغَشِيَتْهم السخطةُ، وذكرهم إبليسُ فيمن عنده. وأهل السماع الإيماني القرآني، إذا حضروه تنزلتْ عليهم السكينةُ، وغشيتْهم الرحمةُ، وحفَّتْ بهم الملائكةُ، وذكرهم الله فيمن عنده
(1)
، فتَقْذِفُ الملائكة في قلوب أهل هذا السماع ما يزدادون به علمًا وإيمانًا، وتقذف
(1)
كما في الحديث الذي أخرجه مسلم (2700) عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري.
الشياطين في قلوب أهل
(1)
ذلك السماع ما يزدادون به نفاقًا وعصيانًا، حتى إن آثارَ الشياطين لتُوجَد على أهل هذا السماع، يراها كل صاحب بصيرةٍ في صفحات وجوههم، وفَلتاتِ ألسنتهم وحركاتهم وأحوالهم، حتى إن كثيرًا منهم ليَصْعَق كما يَصعَق المصروع، ويُزبِد كما يُزبِد المصروع، ويجري [100 أ] على لسانه من الكلام ما لا يُفهَم معناه ولا هو بلُغَته كما يجري للمصروعين، كما وُجِد ذلك في أقوام كانوا يتكلمون في سماعهم بلغات التتار الكفار
(2)
، وذلك لتنزُّلِ شياطينِهم عليهم، وتَكلُّمِهم على ألسنتهم، وهم يظنون أنهم بذلك من أولياء الله، وإنما هم أولياء الشيطان وحزبُه، ولهذا يفعلونه على الوجه الذي يحبه الشيطان ويكرهه الرحمن. وذلك من وجوه:
أحدها: أن العبادات الشرعية مثل الصلاة والصيام والاعتكاف والحج، قد شُرِع فيها من مجانبة مباشرة النساء المباحة في غيرها ما هو من كمالها وتمامها، وأعظم ذلك الحج، فليس من محرمٍ يباشر فيه النساء
(3)
، ولا
(4)
ينظر إليهن لشهوة، والمعتكف قريب منه، والصائم دونه، والمصلي لا يُصَافُّ المرأة بل تتأخر عنه، بل مرورها بين يديه
(1)
"أهل" ليست في ع.
(2)
ع: "والكفار".
(3)
"المباحة
…
النساء" ساقطة من ع.
(4)
ع: "وأن لا".
داخلَ السترة يَقطَع صلاتَه بالنص
(1)
، ومسُّ المرأة لشهوةٍ ينقض الطهارة عند الجمهور، ومطلقًا عند الشافعي.
فإذا كان هذا في النظر والمباشرة المباح في غير حال العبادة، نهى الله عنه حالَ العبادة لمنافاته لها، فكيف بالنظر إلى الصور المحرمة من الرجال والنساء؟ والاستمتاع بأصواتهن
(2)
إذا كانوا هم المغنين؟ ولا يتم واجب السماع عند القوم إلا بذلك، وإلا كان سَمِجًا باردًا، فحضور الشاهد في السماع من باب ما لا يتمُّ الواجب إلا به عندهم.
وقد كان بعضهم يصلي بالليل وقد أوقد شمعةً على وجهِ أمردَ مليحٍ
(3)
جميلِ الصورة، يَسْتَجلي محاسنَه في الصلاة، ويجد في قلبه من الباعثِ على الصلاة [100 ب] والسَّهَرِ في العبادة
(4)
أمرًا عجيبًا، ويَعُدُّ
(5)
ذلك من عباداته وقُرُباتِه. ولا ريب أن النفس تتحرك عند رؤية الصورة الحسنة وسماع الصوت الحسن ما لا تتحرك لغيرهما، فالأحوال والهمة التي يُثيرها سماعُ الألحان بمنزلة الأحوال والهمة التي يُثيرها استجلاءُ محاسن الصور سواء، وللشيطان بَراطيلُ ومَداخلُ، فيُلقِي في قلب
(1)
أخرجه مسلم (511) عن أبي هريرة، وفي الباب أحاديث أخرى.
(2)
ع: "بأصواتهم".
(3)
"مليح" ليست في ع.
(4)
"في العبادة" ليست في ع.
(5)
ع: "يعدد".
الرجل أنك لا تَنظُر للفسق، ولا تسمع لِلَّهو، وإنما تنظر للعبرة، وتتذكر ما أعدَّ الله لعباده وأوليائه عند لقائه من الصور المستحسنات. فاستدل بالشاهد على الغائب، وعلى الباقي بالفاني، ألا ترى إلى قول القائل فيمن يحبه:
فإذا رآك العابِدونَ تيقَّنُوا
…
حُورَ الجِنانِ لدى النعيمِ الخالدِ
(1)
ويقول له
(2)
: إنما تسمع
(3)
أيضًا للفكرة والعبرة، وتأخذ من السماع ما لا يأخذ غيرك.
وأخبرني غير واحد ممن يجد من حاله وقلبه وهمَّته عند هذا
(4)
السماع وعند رؤية الصور الجميلة ما لا يجده في غيره، فحركة القلب عند السماع كحركته عند رؤية الصور التي أمر
(5)
الله أن يغضَّ بصره عنها، فهل يقول عارفٌ باللهِ وأَمْرِه أن هذه الحركة بالله ولله؟ كلّا والله، إن هي إلا بالنفس وللشيطان، وغايتُها أن تكون حركةً ممزوجةً مركبةً مما لله وللنفس والشيطان، هذا أعلى مراتبها.
والذي يَكشِفُ لك قِناعَ هذه المخبَّأَة ويُسْفِرُ لك عن وجهها: أنك
(1)
البيت لأبي إسحاق الصابي في يتيمة الدهر (2/ 259). وسبق مع بيت آخر.
(2)
"له" ليست في ع.
(3)
ع: "أسمع".
(4)
"هذا" ليست في ع.
(5)
ع: "أمره".
تجد [101 أ] كثيرًا ممن يُعاني الأعمالَ الشاقَّة، إذا تعلق قلبه بصورة جميلة، أو سمع صوتًا حسنًا ازداد حرصُه وقوته وهمته على ما يُعانيه من الأعمال، وحَمل منه ما لا يَحمِله الخليُّ، واستلذَّ سَهَرَ الليالي وركوبَ الأهوال، فإن الحب يُطيِّر، والرجاء يُسيِّر، فتُصادف تلك الصورة والصوت من قلبه حبًّا كامنًا لما هو بصدده، فيُزْعِجه ويُثِيره حتى تَطُوعَ له نفسُه ببذل ما لا تَطُوع من غيره، فيُصادف سماعُ الأصوات المطربة ورؤيةُ الصور الجميلة من قلب المريد نوعَ محبةٍ لله والدار الآخرة، فيُثيرها ويُزعِجها، لكن يَقْلِبها نفسانيةً، ويَدخُل نصيبُ الشيطان وحظُّ النفسِ فيزاحمها، وتَشتبِكُ إحدى المحبتين بالأخرى وتلتبس بها. وأكثر المريدين حظُّهم ناقص من العلم والتمييز، ويجد أحدهم للمحبة وجدًا وذوقًا، وليس له تمييز
(1)
بين صحيحها وسقيمها
(2)
، ولا يجد
(3)
عند من يلومه ويَعذِله شيئًا من المحبة والذوق والأنس الذي وجده، فيشتد نِفارُه منه، ولا يُصغِي إليه، ولا يُعرِّجُ عليه.
فصل
وأنت إذا تأملتَ العباداتِ من الصلاة والحج والاعتكاف والصيام والوضوء، رأيتَ شأنَ الصور المباحة منافيًا لها غايةَ المنافاة. فالحج مُنِعَ
(1)
ع: "يميز" بدل "له تميز".
(2)
ع: "صحيحهما وسقيمهما".
(3)
في النسختين: "ولا يجد له".