الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا سبيلَ إلى السلامة الأُولى إلا بعد السلامة الأخرى، فليصبر على المعارضات ولا يَقْلَق، ولا يظنّ أن امتحانه بها لشرٍّ يُرادُ به، بل قد هُيِّئ بها لأمرٍ عظيم وخَطْبٍ جسيم، وليعلَمْ أنها وإن غَطَّتِ الوادي فهي كالزَّبد يذهب جُفاءً، ويبقى ما فيه حياتُه ونعيمُه
(1)
ــ الإيمان واليقين ــ مستقرًّا في القلب، يُسقى به زرعُه ويَروَى به الناس ويَسقُون به زروعَهم.
وسمع قارئًا يقرأ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، فقال:
بالصبر واليقين تُنال الإمامةُ في الدين
(2)
، فبالصبر تُنفى الشهوات، وباليقين تُدفع الشبهات، فيصيرُ قدوةً للمؤمنين وإمامًا للمتقين، يَقتدي أهل الإرادة بصبره، وأهل العلم بيقينه. فلِواءُ الإمامة بيده، فإذا قصدَه جيشُ الشهوات ليدُقُّوا
(3)
اللواء اتَّقاه بالصبر، وإذا قصده جيشُ الشبهات دفعه باليقين.
فهذا هو الصدِّيق الذي يستغفرُ له مَن في السموات ومَن في الأرض، حتى الحيتان في البحر ودوابُّ البرِّ والأنعامُ، ويُصلِّي الله
(1)
فوقها كلمة غير واضحة، ولعلها "أعني".
(2)
هذا كلام شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى"(3/ 358)، ونقل عنه المؤلف في "مدارج السالكين"(2/ 449)، وتكلم عليه في مواضع من كتبه، انظر:"أعلام الموقعين"(4/ 601)، و"إغاثة اللهفان"(2/ 903)، و"عدة الصابرين"(ص 130)، و"مفتاح دار السعادة"(1/ 225) وغيرها.
(3)
دَقَّ الشيءَ: كسَرَه أو ضربه بشيء. هذا إذا صحَّ ما في النسخة. ويمكن أن يكون "لِيدُفُّوا" بالفاء من دَفَّ الشيءَ: نَسَفَه واستأصله.
وملائكته عليه، ووفودُ الخيراتِ العاجلة والآجلة تُساقُ إليه، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4].
وسمع قارئًا يقرأ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14]، قال له قائلٌ: انظر كيف أقام عذْرَهم في تناولها، حيث أخبرهم أنه زيَّنها لهم، وأنهم لا يستطيعون الصبر عنها!
فقال: كلَّا، وحاشا لله أن يكون هذا مرادَ الله من كلامه. وفهْمُ هذا من كلامه يدلُّ على ظلمة قلبِ مَن فهِمَه وبُعدِه عن حقائق الإيمان والقرآن. وإنما معنى الآية: تزهيدُهم في هذه الشهوات المذكورة في الآية، وتقليلُها في أعينهم، وتحقيرُها في نفوسهم، وتصغيرُ شأنها، وأنها لولا
(1)
ما أُلبِسَتْهُ من هذه الزينة التي لا حقيقةَ لها، وإنما هي متاعٌ قليلٌ مفارقٌ عن قريبٍ، ثم تزول زينتُها وتذهبُ بهجتُها؛ فتصيرُ أقبحَ شيء، وتنقلبُ لذَّاتها آلامًا، وشهواتُها كراهةً وبغضةً. ثم يُنْهِضُهم على ما هو خيرٌ منها وأفضلُ وأعلى؛ لئلَّا يقطعَهم الرغبةُ في هذا الذي زُيِّنَ لهم عنه
(2)
، وليُؤثِرُوه عليه.
(1)
لم يأتِ جواب "لولا"، وهو مفهوم من السياق، أي: لكان أقبحَ شيء.
(2)
علَّق عليها محقق الطبعة الجديدة: "عنه جار ومجرور، ومتعلقه مشكل". قلت: لا غبار عليه، فـ"الرغبةُ"[وليس منصوبًا كما ضبطه المحقق] فاعلُ "يقطع"، و"عنه" متعلق بهذا الفعل، والضمير لما هو خير وأفضل. والمعنى: لئلّا يقطعهم الرغبةُ (في هذا الذي زُيِّن لهم) عن (ما هو خير وأفضل).
وأيضًا فإنه حذف فاعل التزيين ولم يذكر مَن هو الذي زيَّن، فيجوز أن يكون الذي زيَّنها لهم هو الشيطانُ، لقوله تعالى:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43]، وهو القائل:{رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39]، وفي أثرٍ مرويٍّ:"بُعِثتُ داعيًا ومُبيِّنًا، وليس إليَّ من الهداية شيء، وبُعِث إبليسُ مُغوِيًا ومزيِّنًا، وليس إليه من الضلالةِ شيءٌ"
(1)
. ولا ينافي نسبةُ التزيين إلى الشيطان نسبتَه إلى ربِّ كل شيء ومليكه، فإنه منسوبٌ إليه خَلقًا وقضاءً وقدرًا، كما قال:{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108]، وإلى الشيطان فعلًا ومباشرةً.
وسمع قارئًا يقرأ: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34 - 36]، فقال: ابتلى الله عبدَه المؤمن في هذه الدار بعدوَّينِ، وهما شياطينُ الإنس والجنِّ، فلابُدَّ لكلِّ نبيٍّ ولكلِّ
(1)
أخرجه العقيلي في "الضعفاء الكبير"(2/ 8)، وابن حبان في "المجروحين"(1/ 281)، وابن عدي في "الكامل"(3/ 471، 472) من حديث عمر بن الخطاب. وهو حديث ضعيف جدًّا بل موضوع، انظر "تنزيه الشريعة"(1/ 315)، و"الضعيفة" للألباني (2249).
وارثِ نبيٍّ من هذين العدوَّين، فأرشد عبادَه إلى ما يدفعون به شرَّ هذين العدوَّين عنهم:
فأمر بدفع شرِّ عدوِّ الإنسِ بأن يدفع سيِّئتَهُ بالتي هي أحسن، فلا يُقابِلُه على سيِّئتِهِ بمثلها، بل يُقابلُها بالإحسان، فإذا قابَلَ شرَّ عداوته بالإحسان انقلبتْ عداوتُه صداقةً، فصار كأنَّه وليٌّ حميمٌ؛ لأنَّه كلَّما أساء إليك ورآك تُقابلُ إساءَته بالإحسان إليه طَفَّأَ إحسانُك نارَ عداوتِه، والقلوبُ مجبولةٌ على حُبِّ من أحسنَ إليها، فكيف من قابَلَ الإساءةَ بالإحسان وسعى في مصلحتِك وأنت في مضَرَّتِه؟! فما مُلِكَت القلوبُ بمثلِ ذلك.
وهذا الخُلُقُ مَلِكُ الأخلاقِ الفاضلةِ، لا تصبرُ عليه إلا النفوسُ الكِبارُ والهِمَمُ العاليةُ، والناسُ أسرعُ انقيادًا إلى صاحبِهِ من السَّيلِ في منحدرِه، والقلوبُ تُعظِّمُه وتُحِبُّه وتُجِلّه وتَهابُه، والنَّاسُ أعداءُ من عاداهُ، وإن ازدادَ إحسانُه إليه اشتدَّ انتصارُ الناس له، فما قُهِرَ العدوُّ قطُّ بمثل الإحسان إليه، ولكن هذه الخُلَّة هي
(1)
كما قال الله تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} . وبين العبد وبينها أن يُجرِّبَها ويذوقَ حلاوتها، وتصبرَ نفسُهُ على مرارتها قليلًا، وبعدَ تلك المرارة تجدُ أشدَّ الحلاوة.
(1)
في النسخة: "امهى".
وفي هذه الخُلَّةِ من المصالح والفوائد ما لا يُعَدُّ:
ولو لم يكن فيها إلا سلامة قلبه من الغِلِّ والحقدِ، وعمارةِ بيت أفكاره بإيصال الشرِّ والأذى إلى عدوِّه
(1)
، فعيشُهُ أنكَدُ عيشٍ وأتعبُهُ، وقلبُهُ يَتَلَظَّى بجَمْرِ الغضب والتحسُّرِ على الانتقام، وقد فاتَهُ حلاوةُ سلامة القلب ولذَّتُها ونعيمها.
ولو لم يكن فيها أيضًا إلا أن الجزاء من جنس العمل
(2)
، فكما جازى إساءةَ مَن أساءَ إليه بإحسانِهِ مع تضرُّرِه بالإساءةِ، فالله عز وجل الذي لا يتضرَّرُ بإساءةِ العبدِ أولى أن يجازيَه بإساءتِهِ إحسانًا.
ومنها: حلاوة الظفر بنفسه وشيطانه، فإنَّه لما فاته ظفرُه بعدوِّه ظفَّرَه الله بنفسه وشيطانه، فلم يُطِعْهما في الانتقام، ولا نسبةَ بين حلاوة الظفرَينِ البتَّةَ، ومن لم يُصدِّق فليُجرِّب.
وأما شيطانُ الجنِّ فلا يمكن الإحسان إليه، فأمر بدفع شرِّه بالاستعاذة بالله منه.
ونظيرُ هذا ما ذكره في سورة الأعراف
(3)
من دفع الشرَّين:
(1)
لم يأتِ جواب "لو" وهو مفهوم، أي: لكان كافيًا.
(2)
الأمر هنا في جواب "لو" كما سبق.
(3)
في الآيتين [199 - 200]: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
أحدهما: بالاستعاذة.
والثاني: بأخذ العفو والإعراض عن الجاهلين؛ فإنه إذا أخذ منهم ما سهُلَ عليهم ولم يَشُقَّ، وأعرض عن جاهلهم= اكتفى شرَّهم.
فأرشَدَه إلى ما يدفع عنه شرَّ الجنِّ والإنسِ.
ولما كان الشيطان مُجِدًّا في محاربة العبدِ لا يَفْتُرُ، ويأتيه من حيث لا يدري ولا يراه، فيأخذ حِذْرَه منه إذا حاربه، ولا يمكن دفعُهُ بإحسانٍ إليه= أمرَ بدفعه بالاستعاذة، وهي: اللَّجَأُ إلى مَن ناصيتُه بيده والاعتصام به واللِّياذُ به، ليكفيه شرَّه.
وسمع قارئًا يقرأ: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73]، فقال: وصفهم الله سبحانه في هذه الآية بضدِّ حال أهل السماع الشعريِّ، وأنهم إذا ذُكِّروا بآيات ربِّهم لم يَخِرَّ قلوبُهم عليها صُمًّا عن سماعِ حقائقها ومرادِ المتكلِّم منها، عُميانًا عن رؤية معانيها وأسرارها، عكس حالِ أهل السماع الشعريِّ، فإن قلوبهم في غطاءٍ عن حقائقِ هذا السماع، لم تنفتح آذانُ قلوبهم ولا أعينهم لأسرارِه ومقاصدِهِ، ولم يُكامِعْ
(1)
قلوبَهم مرادُ المتكلم منه، ولم تباشرها روحُه وبهجته، ولم تُخالط معانيه بشاشةَ القلوبِ، فإذا قُرئ عليهم خرَّت
(1)
في النسخة: "ولم يكامح" تحريف. والمكامعة: المجامعة. وهو المناسب للسياق والمعنى وكلمةِ "لم تباشرها" الآتية. وأثبت محقق الطبعة الجديدة ما في النسخة، وشرحَه بما لا طائل تحته.
قلوبهم على آياته صُمًّا عن معانيه عُميانًا عن حقائقه، فإذا جاء السماعُ الذي هو مشروبهم انفتحت آذانُ قلوبهم وزال الغطاء عن أعيُنِهم، فقاموا له إجلالًا وهيبةً، أبصرَ شيءٍ لمعانيه، وأسمعَ شيءٍ لحقائقه، وأفهمَ لمرادِ المغنِّي، قد حملهم استجلاءُ معانيه واستِلذاذُها واستطابتُها ومباشرتُها لقلوبهم على القَنَعِ بوجدهم وذوقهم، إذ طفحَ بهم وامتلأت به بواطنُهُم، ففاض على ظواهرِهِم.
وبالله إنهم ليشهدون على أنفسهم بما ذكرناه، ويشهد الله به عليهم وملائكته والمؤمنونَ من عبادِه، وكفى بالله شهيدًا.
وسمع قارئًا يقرأ: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]، فقال: أصول النِّعَمِ ثلاثةٌ: نعمة الإيجاد، ونعمة الإعداد، ونعمةُ الإمداد. فالنِّعَمُ والخيراتُ كلُّها تابعةٌ لهذه الثلاثة ودائرةٌ عليها.
فشَمِلَهم بنعمة الإيجاد التي تناولت البرَّ والفاجرَ، والمؤمنَ والكافرَ، ودَلَّهم بها على توحيد ربوبيته، وأنه لا خالقَ غيره، ولا ربَّ سواه.
ثم خصَّ بنعمة الإعداد منهم محالَّ
(1)
أعدَّها لقلوب كمالاتها التي هي غايةُ سعادتها وفلاحها، ولم يساوِ بينَهم في هذه النعمة، بل فاوتَ بينهم فيها غايةَ التفاوتِ:
(1)
في النسخة: "محالًّا"، وهو ممنوع من الصرف.
والاستعداد الذي خصَّ به رسلَه لم يُعطِه غيرَهم.
والذي خصَّ به أولي العزم منهم لم يكن لغيرهم.
والذي خصَّ به الخليلين منهم لم يُعطِه لغيرِهما.
والذي خَصَّ به محمدًا صلى الله عليه وسلم من بينهم لم يُشْرِكه فيه غيرَه.
وسائرَ عباده يُعِدُّ على مراتبهم من هذا الاستعداد على حسب ما أعطاهم منه.
ثم أهل الاستعداد أيضًا قسمان:
قسمٌ أعدَّهم ثم أمدَّهم، فحصل لهم من الكمال بحسب إعداده وإمداده.
وقسم أعدَّهم ثم لم يُمِدَّهم، ففاتهم الكمالُ لتخلُّفِ إمداده عنهم.
فلله كم من أرضٍ بُورٍ قابلةٍ لأنواعِ الزرع والثمر ولا زرعَ فيها ولا ثمرَ، لانقطاع إمداد الغيث عنها، فإذا شئتَ رأيته ذكيًّا فهِمًا شَهْمًا قويًّا صبورًا وليس عنده شيء من العلم والإيمان، لأنه تعالى أعدَّه وما أمدَّه.
وإذا تأملتَ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه رأيتَ ما فيهم من كمال الاستعداد والقبول، كالأرض الزَّكيَّة القابلة لأنواع النبات ولكن لا نباتَ فيها، لأنها لم تُمَدُّ بالغيث، فأمدَّها الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من الكتاب والحكمة، فشرِبتْه
(1)
قلوبُهُم أعطشَ ما كانت إليه، فاهتزَّت ورَبَتْ وأنبتتْ من كل زوجٍ بهيج.
(1)
في النسخة: "فشرفته".
وهذه الثلاثة ترجع إلى الإيجاد: فإن الإعدادَ تخصيصٌ بصفةٍ وقبولٍ أوجَدَه في المحلِّ. والإمداد كذلك، فإنه إيجادٌ لمادة كماله، فرجع الكلُّ إلى نعمة الإيجاد. لكن لمَّا كانت تلك أصلًا وهما فرعان عليها، ونعمةُ الإيجاد عامَّةٌ، وأخصُّ منها نعمة الإعداد، وأخصُّ منها نعمة الإمدادِ= صارت ثلاثةً، وعُرِفتْ حكمتُه
(1)
ورحمتُهُ ومحبَّتُه وكراهتُهُ بالنعمتين الأخريَينِ، كما عُرفت ربوبيتُه العامَّةُ الشاملةُ بالنعمةِ الأولَى.
فنعمة الإيجاد لا تُنالُ بشيء من الكسب.
وأما نعمة الإعداد فأصلُها غيرُ مكتسب، وأما كمالُها فقد يحصل بالكسب، فإنَّ العبد إذا بذل قوَّتَه فيما سُئِلَه أعدَّه
(2)
ذلك لقوَّةٍ أخرى، وكذلك إذا بذل علمَه أعدَّه بذلُهُ لقبولِ علمٍ آخر، وكذلك إذا بذل همَّتَه وعزيمته وقوَّةَ إرادتِه فيما يُحِبُّه الله أعدَّه ذلك لقبولِ هِمَّةٍ وعزيمةٍ وإرادةٍ أخرى، وهكذا كلُّ شيءٍ يبذلُهُ لله، فإنه يستعدُّ ببذلِه لقبولِ نظيرِه وما هو خيرٌ منه.
وأما نعمةُ الإمداد فنوعان: نوعٌ منها مَوهبيٌّ، ونوع كسبيٌّ. فالكسبيُّ: ما حصل عن بذله لِمَا سُئِلَ منه، وفعْلِه لما أريد منه. والموهبيُّ: ما كان من العطاء بغير سبب.
(1)
في الطبعة الجديدة: "وعرف حلمه" خلاف ما في النسخة، ولا داعي للتغيير.
(2)
في النسخة: "أعدّ" دون ضمير المفعول.
هذا كلُّه إذا نُظِر إلى الأسباب والحِكَم، فإذا أضربتَ عنها صفحًا ونظرتَ إلى المُسبِّبِ الأولِ، وصدورِ الأشياء عنه، وإيجابِ مشيئته وإرادته التامة لها= فهناك يُطوى التقسيمُ والتفصيلُ، ويصيرُ الأمرُّ كلُّه من الله تعالى، كما أنَّه كلَّه لله، فمنه ابتداءُ الخَلقِ، وإليه تُرجعُ الأمورُ.
وسمع قارئًا يقرأ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35]، فقال: جمعت هذه الآية منازلَ الدين ومقاماتِ الإسلامِ كلَّها بأوجز عبارة وأعذب لفظٍ، فإنه لابُدَّ للعبد من أمرٍ يمتثِلُهُ، ومرادٍ محبوبٍ يتألَّهُه ويعبُدُه، وعدوٍّ يُحاربُهُ.
وإن شئتَ قلت: لا بُدَّ لكلِّ نفسٍ من حركةِ حُبٍّ، وحركةِ بُغضٍ، ينشأ عنهما فعلٌ وتركٌ، وموالاةٌ ومعاداة.
فأمَرَ سبحانه وتعالى أن تكون حركةُ القلب كلُّها له، وهي ابتغاء الوسيلة إليه، فإنَّ ابتغاء الوسيلةِ هو طلبُ القُربة
(1)
منه محَبَّةً وعبوديَّةً.
وأمر أن يكون ما يتبعها من الفعل والترك هو تقواهُ: بفعلِ ما أمرَ به، وترك ما حرَّمه.
وأمر أن يكون الجهادُ ــ الذي أصلُهُ الموالاةُ والمعاداةُ ــ في سبيله.
(1)
غيَّرها محقق الطبعة الجديدة إلى "القرب". والقربة والقرب كلاهما مصدر الفعل "قَرُبَ".
وبهذه الثلاث يكون الدينُ كلُّه لله: فيكون وحدَه هو المعبود الذي يُبتغَى إليه الوسيلةُ، ويكون الفعلُ والترك موافقًا لأمرِهِ ونهيِهِ، وتكون الموالاةُ والمعاداةُ له وفيه.
فبتقواه تحصلُ النجاةُ من النار، وبابتغاء الوسيلةِ تُنالُ كرامتُهُ والقُربُ منه، وبالجهاد في سبيله يُرفَعُ إلى الدرجات العُلَى، والله المستعانُ.
وسمع قارئًا يقرأ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]، فقال: الدينُ كلُّه أمانةٌ، وعدم الدين كلُّه خيانةٌ، فالدين تحت لفظة الأمانة وحقيقتها، وعدمُ الدين تحتَ لفظةِ الخيانةِ وحقيقتها.
والخيانةُ ثلاثةُ أقسامٍ: خيانةُ الله، ورسوله وكتابه، وخيانة خَلقِهِ. فمن لم يؤدِّ الأمانة التي بينه وبين الله فقد خانَه، ومن لم يُطع رسولَه فيما أمرَ ويُصَدِّقْه فيما أخبر فقد خانه، ومن لم يأتِ إلى النَّاس ما يُحِبُّ أن يأتُوه إليه فقد خانَهم.
وأعظم الخيانة: خيانةُ الله تعالى في توحيده، وهذه الخيانةُ نوعانِ: خيانةٌ في توحيد المعرفة والاعتقاد، وخيانةٌ في توحيد الإرادة والمحبَّة.
والخيانةُ في توحيد المعرفة أيضًا نوعانِ:
أحدهما: أن ينفي عنه ما وصف به نفسه من كماله الذي يختصُّ به، فيجحَد ما وصف به نفسَه ووصَفَهُ به رسولُهُ، ويجعلَ ذلك تجسيمًا
وتشبيهًا يجبُ نفيُهُ عنه، فما أعظمها من خيانةٍ! عَمَدَ
(1)
إلى صفاتِ جلالِهِ ونعوتِ كماله فجعلها تشبيهًا، ثم عطَّلَهُ منها!
والثاني: أن يُشبِّهها بصفات خلقه، فهذا خائنٌ أيضًا.
وكلاهما قد خان الله، فعزَلَه الله عن منصب الأمانةِ، فإنَّ عهْدَه بالأمانةِ لا ينال خائنًا، فإنه ظالمٌ، وقد قال الله تعالى لإبراهيم خليله لما سأله أن يجعل من ذريَّتِه أئمَّةً:{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، أي: لا ينالُ عهدي بالأمانة ظالمًا، فإن مرتبة الإمامة
(2)
لا تُدرَكُ إلا بالأمانة، فكيف يكون الخائنُ إمامًا!
وأما الخيانة في توحيد الإرادة والمحبَّة: فأن يجعل بينه وبينه نِدًّا يُحِبُّهُ كما يحبُّ اللهَ، ويَرجوه ويخافه ويطيعُهُ ويَقْصِدُ مرضاتَه ويبعُد من سخطه كما يطيع الله ويخافُه ويرجُوه ويقصدُ مرضاتَه ويبعُدُ من سخطه، فكيف إذا كان المخلوقُ في ذلك آثَرَ عندَه من الله كما هو حال أكثر الخَلْقِ! وكفى بالإنسان حسيبًا على نفسه!
بل إذا كان من خيانةِ التوحيد أن يقولَ لمخلوقٍ: ما شاء الله وشئتَ، أو يقول له: واللهِ، وحياتِك، أو يقولَ: أنَا
(3)
بالله وبك، أو مُتَّكِلٌ
(1)
ضبطها محقق الطبعة الجديدة: "عمدٍ" واعتبرها مصدرًا، والصواب أنها فعل ماض بمعنى قصد، وهو المناسب لما سيأتي: "فجعلها
…
ثم عطَّله
…
".
(2)
في الطبعة الجديدة: "الأمانة"، تحريف ومخالف للنسخة والسياق.
(3)
ضبطها في الطبعة الجديدة: "إنّا"، وهو مخالف للسياق وكلمةِ "متكل" بصيغة الإفراد.
على الله وعليك، أو هذا من الله ومنك= فكيف بخيانةِ مَن قُوى قلبِهِ كلُّها مُستَغرِقةٌ في رضاءِ
(1)
المخلوقِ والبُعدِ من سخطِهِ، وليست منزلةُ الله من قلبِهِ بهذه المنزلةِ!
فأيُّ خيانةٍ أكبرُ من هذه! وأيَّ كيدٍ يَهْدِي الله لهذا الخائنِ! وأيَّ عملٍ يُصلِحُ له! والله لا يهدي كيدَ الخائنينَ، ولا يُصلِحُ عملَ المفسدينَ.
ثم بعدَ هذه الخيانة خيانتُهُ في أمرِهِ ونهيِهِ، وكثيرًا ما تجتَمِعُ الخيانتانِ في الرجل.
وأما خيانةُ الرسول فأصلها تكذيبُ خبرِه وعصيانُ أمرِهِ:
فمن ردَّ شيئًا ممَّا أخبَرَ به لزعمه أنَّ العقلَ عارضَهُ أو الذوقَ أو الوَجْدَ، أو وَزَنَ أخبارَهُ بآراءِ الرِّجالِ وبخَيالات المُنْتَسِبِينَ إلى التصوُّفِ، فقد خانَهُ أعظمَ خيانةٍ.
ومن ردَّ أمرَه لمُعارضِ شَهوةٍ، أو طَلَبِ رياسةٍ، أو تحصيلِ مالٍ ودنيا، فقد خانَه.
(1)
كذا في النسخة، والأولى "إرضاء".
ومن لم يُحَكِّمهُ في كلِّ دقيقٍ وجليلٍ، ويَرضى وينقاد
(1)
له انقيادًا، ويُسَلِّم له تسليمًا، فقد خانَهُ.
ومن قدَّمَ أمرَ غيره على أمرِه عندَ التَّعارضِ فقد خانَهُ.
وبهذا يُعلَمُ كثرةُ الخائنينَ وقلَّة الأمناء!
وأما خيانة الأمانات التي بين الناس فنوعان:
أحدهما: أن يكتمَ عنه نصيحةً.
والثاني: أن يعاملَه بالغِشِّ، فتكذِبُهُ إذا حدَّثتَهُ، وتُكذِّبُهُ إذا صَدَقَك، وتغدِرُ به إذا عاهَدْتَهُ، وتخُونُهُ إذا ائتَمَنَك، وتَمْنَعُهُ من حقِّه الذي قِبَلك، وتطالبُهُ بما ليس لك عندَه من الحقِّ.
ومن خيانةِ الله وخَلْقِهِ: أن يُظهِرَ من الدين والخشوع والزهد والعفاف والورع خلافَ ما يُبطِنُ؛ فيُظهِرُ ذلك ويُبطِنُ خلافَه، فهذا يتضمنُ الخيانةَ لله ولرسوله ولخَلْقِهِ ولنفسِهِ:
وأما خيانة الله: فإنه أظهر إخلاصَ العبوديَّة له، وأبطَنَ خلافَ ذلك.
وأما خيانة الرسول: فإنه أظهر طاعتَهُ ومتابعتَه، وأبطَن خلافَها.
وأما خيانتُه للنَّاس: فإنه أظهر لهم ما يحبُّونه ويحمدونَه عليه ويُكرِمونه لأجله ويقرِّبونَه عليه، وأبطن خلافَه، ولو علموا منه ما أبطنه لعامَلُوه بما ينبغي أن يُعامَلَ به، فهذا خيانتُهُ لهم.
وأما خيانتُه لنفسه: فبَخْسُها حظَّها وظلمُها ووضعُها في أردى المواضع وأخسِّها، وهي أخسُّ مراتبِ بني آدم؛ ولهذا كان منزلة هؤلاء عند الله تعالى أسفلَ سافلِينَ في الدَّرك الأسفلِ من النَّار.
(1)
كذا في النسخة، وهما مجزومان عطفًا على "يحكِّمْه"، فينبغي أن يكون "ويرضَ ويَنقَدْ".
والمقصودُ: أنَّ الشرك والكُفرَ والنِّفاقَ والفُسوقَ والعصيانَ كلَّهُ خيانةٌ، والتوحيدَ والإسلامَ والإيمانَ والبِرَّ والتَّقوى كلَّه أمانةٌ، قال الله تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 72 - 73]، فقَسَّمَهُم في حَمْلِ الأمانةِ قسمَينِ: أهلَ الخيانةِ الذين يستحقُّون العذابَ، وأهلَ الأمانةِ الذين لهم الثوابُ. وغايةُ أهل الأمانةِ: التوبةُ. وغايةُ أهل الخيانة: النفاقُ والشِّركُ.
وسمع قارئًا يقرأ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء: 105 - 107]، فقال: هاتان الآيتانِ أعظمُ ميزانٍ يُوزَنُ به أهلُ الحقِّ من أهلِ الباطل، وأعوانُ هؤلاء وأعوانُ هؤلاء. وصلاحُ الأمة بل صلاح الوجود في العمل بموجِبِهما
(1)
، وفسادُ الوجود من مخالفتهما وتعطيلهما، فلو تأمَّلتَ كلَّ صلاح في العالم لرأيتَه من إقامة حُكم هاتين الآيتين، ولو تأملت كل شرٍّ في العالمِ لرأيتَه من تعطيل حكمهما.
(1)
في النسخة: "بموجبها".
ولم يُطلِق الله تعالى لرسوله أن يحكُمَ بين عباده بما رآه هو، ولكن بما أراه الله، هذا وهو بالمحلِّ الذي أحلَّه الله إياه من النبوَّة والرسالة ورُجحان عقلِهِ على عقولِ العالمينَ كلِّهم ومعرفته على معارفهم، فكيف بمَن حكم بين عباد الله بما رآه هو أو مَن قلَّدَه وقدَّمه على رأي مَن هو فوقَه وأعلَمُ منه، فكيف بمن قدَّمَه على نصوصِ الوحي! فكيف [بمن] حكمَ على الله تعالى بما رآه أو رآه الرجالُ، وقدَّم ذلك على الواجبين
(1)
: على كتاب الله وسنَّةِ رسوله!
وماذا يكون جوابُ هذا غدًا بين يدي الله إذا قيل: هل حكمتَ على الله وبين عباده بما أرى اللهُ ورسولُه أو بما رآه فلانٌ وفلانٌ؟ فوالله ليُسألَنَّ عن هذه المسألة، وليُطالَبَنَّ بالجواب، وسيَرِد ويعلم!
وما ظنُّ من توكَّلَ للخائنين، وخاصَمَ لهم، ودافع عنهم على اختلافِ طبقاتهم في الخيانة؟! فكلُّ من قرَّر باطلًا ونصرَه، ودافعَ عنه، وذَبَّ عن أهلِهِ في دقيقٍ وجليل= فهو خصيمٌ للخائنينَ، يُجادلُ عن الذين يختانون أنفسهم، سواءٌ كان ذلك في علمٍ أو ولايةٍ أو مالٍ، فمن أعان خائنًا كائنًا من كان فهو خصيمٌ للخائنينَ.
وإذا تأمَّلْتَ أحوالَ العالم رأيتَ أهلَه خائنينَ ووكلاءَ للخائنينَ، ومجادلِينَ عن الخائنين مخاصمينَ عنهم، ومن لم يكن فيهم كذلك فهو
(1)
كذا في النسخة، ولعل الصواب:"الوحيين".
مقهورٌ بينهم مُبْعَدٌ عنهم، لا يقربُونَه ولا يُعاونونه
(1)
، وكلَّما كان أشدَّ خيانةً لله ولرسوله ولدينه ولنفسه كان أقربَ إليهم وأحظى عندهم، فلا يَنْفُق
(2)
عندهم إلا خائنٌ أو وكيلٌ للخائنِ أو مجادلٌ عن الخائنِ مخاصمٌ عنه.
وأقرَبُ الوسائل إليهم وسيلةُ الخيانةِ، وأبعدُها عنهم وسيلةُ الأمانة؛ لأن الخيانة بينهم قد صارت هي الأمانة، والأمانةُ بدعةً ومخالفةً لما عليه الناسُ! ولو جرَّدَ رجلٌ لهم الأمانةَ لعادَوهُ ونابَذُوه، ولا يُمكِنُهُ أن يعيش بينهم إن لم يَشُبْ أمانتَه بنوعٍ من الخيانة، ويُحَسِّنْ لهم خياناتِهم، ويمدحِ الخونةَ عندَهم!
واعتبِرْ هذا بمثالٍ: وهو أن أعظم الأمانةِ توحيدُ الله تعالى ومتابعةُ رسولِهِ:
فلو جرَّدَ لهم رجلٌ التوحيدَ وأعطى الربوبيَّةَ حقَّها والعبوديَّة حقَّها، ولم يُعطِ المخلوقَ مرتبةَ الخالقِ، ولا العبدَ مرتبةَ الربِّ= لنَسَبُوه إلى تنقُّصِ الأنبياءِ والرسل والأولياء والصالحين، وهضْمِ منازلِهم، والتكلُّم فيهم بما لا يَلِيقُ. فلا يُمكِنُ الموحِّدَ أن يُجَرِّدَ التوحيدَ بين هؤلاء الخونةِ في التوحيد، وأحسنُ أحوالِه بينَهم أن يسكُتَ عن تجريدِه ولا يُوافِقَهُم في شَوْبِه بالشِّرْك. وإذا كان أعظمَ إشراكًا وأشدَّ غُلُوًّا في المخلوقِ كان
(1)
في النسخة والطبعة الجديدة: "ولا يعاون به". والمثبت يقتضيه السياق.
(2)
في الطبعة الجديدة: "يتّفق" تحريف، وهو على الصواب في النسخة.
أحسنَ حالًا بينهم، وأقربَ إلى قلوبهم!
ولو جَرَّدَ لهم رجلٌ متابعةَ الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يَشُبْها بغيرها، وردَّ كلَّ قولٍ خالفَ ما جاء به ولم يَلْتَفِت إليه، لنسَبُوه إلى البدعة ومخالفةٍ وإساءةِ الأدب على الأئمة، وتعدِّي طورِهم وطورِه هو أيضًا، ورأوا من الأمر بالمعروف إلزامَهُ بتركِ ما عَلِمَه من السنَّةِ لما جَهِلُوه منها، وأن يَتْرُكَ ما عَلِمَ أنَّ الرسول جاء به لِمَا قالَه فلانٌ وفلانٌ.
فتجريدُ التوحيد عندَهم تنقُّصٌ، وتجريدُ المتابعةِ عندهم بدعةٌ، والله المستعانُ وعليه التُكلان، ولا حولَ ولا قوَّة إلا بالله.
فما أجدَرَ هؤلاء بالخيانة وأن يكونوا خُصَماءَ للخائنينَ، ومجادلِينَ عن الخائِنينَ!
وكم بيَّتُوا ويُبَيِّتُون لأهل التوحيد والمتابعة ما لا يرضاه الله من القولِ، والله بما يعملون محيطٌ، ولله القائلُ:
نَحنُ وإيَّاكُمُ نموتُ ولا
…
أفلَحَ عِندَ الحساب مَن نَدِمَا
(1)
وسمع قارئًا يقرأ: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 20 - 21]، فقال: هاتان الآيتان من أعظمِ كنوز القرآن، فهما كَنزان
(1)
البيت بلا نسبة في "الصواعق المرسلة"(3/ 949) و"الرسالة التبوكية"(ص 22). وأنشده المأمون ونسبه إلى شاعر الشيعة في "المحاسن والمساوئ" للبيهقي (ص 68).
عظيمان قد أُودِعا هذه السورة وأكثرُ الخلق عنهما غافلون. وذلك أن العبد مضطرٌّ إلى من يجلبُ المنافعَ لروحِه وقلبِهِ وبدنِه وحواسِّهِ بالرِّزق الذي يتضمن إيصالَ ما به قِوامُها وصلاحُها إليها، ويدفع عنها المضارَّ المُفْسِدة لها المضادَّة لصلاحها وكمالها بالنصر. فهو مضطرٌّ أشدَّ ضرورة إلى مَن لا يزالُ يرزقه وينصره، فإن انقطع رزقه أو نصرُه عنه هلَكَ وفسَدَ. فحقيقٌ بالعبد أن يجعل توجُّهَه ورغبتَه وعبوديَّتَه وخوفَه ورجاءَه وإنابتَهُ وتعلُّقَ قلبِه بمن بيده نصرُه ورزقُه، فإن علَّق ذلك بمن لا يملك له رزقًا ولا نصرًا فهو {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت: 41].
فمن جعل معبوده مَن لا يملكُ له رزقًا ولا نصرًا خذَلَه أحوجَ ما يكون إليه، وقطع عنه رزْقَه أفقَرَ ما يكونُ إليه. ومن كان الرازقُ الذي بيده النصرُ وحدَه معبودَه ومحبوبَه ومَخُوفَه ومَرْجُوَّه ونهايةَ مطلبِهِ= لم يزل مرزوقًا وإن مسَّه الفقرُ العارضُ أحيانًا، منصورًا ولو لم يكن له من الناس أنصارٌ وأعوانٌ، لا يضُرُّه من استأثر عليه بالدنيا، كما لا يضُرُّه مَن خذَلَه ولا من خالفَه، فكمالُ الرزق والنصرِ بحسب كمالِ التوحيد.
وكلُّ أهل الغرور بالله ليس عندَهم الرزقُ إلا سعةَ المأكْلِ والمشرب والمَلْبسِ والمَنكحِ وأسبابَ ذلك، وليس عندَهم النصرُ إلا الجاهَ الظالمَ الجاهلَ، والدخولَ تحت ظلِّهِ، والعيشَ تحت كَنَفِه، وهيهاتَ! إن لله رزقًا غيرُ هؤلاء عليه، وإنَّ زرقَ صاحبِ التوحيد والمتابعة ونصرَه غيرُ ما يخطُرُ ببالِ هؤلاء أو يدور في خيالهم.
فرزقُ التوحيد والعلم والسنَّةِ والفهم عن الله ورسوله، ورزقُ الإقبال على الله تعالى والإنابةِ إليه والثقةِ به والتوكُّلِ عليه هو الرزق النافعُ ولو مصَّ صاحبُه النَّوى.
ونصرتُهُ على الجهلِ والبدع، وعلى نفسِهِ وشيطانه، وما يَدْعُونَ إليه، هو النصرُ الحقيقيُّ وإن كانت الحربُ بينَه وبينهما سِجالًا، فما دام مُهاجرًا إلى الله ورسوله فهو منصورٌ وإن أُدِيلَ عليه عدوُّهُ، فحزبُ الله هم المفلحون، وجندُه هم الغالبون.
وسمع قارئًا يقرأ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]، فقال: أرشد حزبَه عندَ لقاء العدو إلى شيئين، بهما يحصُلُ لهم كمالُ النُّصرة، وإن فاتا فاتَتِ النُّصرة، وإن فاتَ أحدهُما فات من النُّصرة بقدر ما فاتَ منهما.
فما أُدِيلَ العدوُّ على من ثبتَ وأكثَرَ من ذكر الله أبدًا، ولا انتصرَ من غَفَلَ عن ذكر الله ولم يثبُت لعدوِّه أبدًا، فالثَّباتُ يُلقِي الرُّعبَ في قلوب أعدائهم، وبكثرة ذكره يكونُ معهم، فإنَّ الله مع مَن ذَكرَهُ، ومَن كان الله معه لم يُغلَبْ غلَبَةً مُستَقِرَّةً.
وأرشدهم إلى الثبات بذِكْرِه، فإنَّ ذكرَه يطرُدُ الشيطانَ الذي يخوِّفُهم ويُخنسهم
(1)
ويحملُهم على الفرار. وأيضًا فالشيطانُ يَفِرُّ ممن
(1)
في النسخة: "ويحسنهم"، ولا يناسب السياق. ويخنسهم أي يُخلِّفهم ويمضي عنهم ويؤخِّرهم.
له صبرٌ وثباتٌ ويعلمُ أنه لا يُقاوِمُه، فإذا ذَكَرَ الله واستعانَ عليه بذكرِه فَرِق الشيطانُ من ظِلِّه، وهذا لا يقومُ له عدوُّهُ. وإذا رآه جبانًا غافلًا عن الله صَفَعَه ورَكِبَهُ:
فإذا رأى الشيطانُ طَلْعَةَ وَجهِهِ
…
حَيَّا وقال: فَدَيْتُ مَن لا يفلحُ
(1)
فالجبانُ الغافلُ فريسةُ الشيطان، والشيطان فريسةُ الثَّابِت الذَّاكرِ، وله فيمن هو بينَ بينَ مُنازلاتٌ ومُصاوَلاتٌ، وهنالك الزَّلازلُ والبَلابِلُ والمِحَنُ!
وأيضًا فالمُحِبُّون يَفْتَخِرُون بذكر من يُحِبُّونَهُ في شدَّة المخاوفِ والتقاءِ الصفوفِ، كما قال الحماسيُّ:
ذَكَرْتُكِ وَالخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا
…
وقد نَهِلَتْ مِنَّا المُثَقَّفَةُ السُّمْرُ
(2)
قال غيرُهُ
(3)
:
ولقد ذَكَرْتُكِ والرِّمَاحُ كأنَّها
…
أشْطَانُ بِئرٍ في لَبَانِ الأَدْهَم
(1)
البيت للبحتري في "ديوانه"(1/ 482) و"تاريخ دمشق"(63/ 202)، وفيهما:"لم يفلح" مكسورة القافية مع بيتين آخرين. والبيت كما هنا في "العقد الفريد"(3/ 185) و"التمثيل والمحاضرة"(326) و"المدهش"(ص 344).
(2)
البيت لأبي عطاء السندي في "الحماسة"(1/ 66)، و"الزهرة"(1/ 200)، و"شرح شواهد المغني"(2/ 840) وغيرها.
(3)
هو عنترة، والبيت من معلقته، انظر "ديوانه" (ص 216). وأوله:"يدعون عنترَ".
وقال الآخر
(1)
:
ولقد ذَكَرْتُكِ والرِّمَاحُ شَوَاجِرٌ
…
نحوي وَبِيْضُ الهِنْدِ تَقْطُرُ من دَمِي
وهذا أقوى ما يكون من الحبِّ: أن يَذْكُرَ المُحِبُّ محبوبَهُ أخوَفَ ما يكونُ، عندما يَذْهَلُ الخليلُ عن خليلِهِ وولدِهِ، ولا يكونُ هذا إلا للشُّجعانِ الأبطالِ؛ لكمالِ بَسالتِهِم وزوالِ الخوفِ عن قلوبِهِم، فلا يُفارِقُهم ذِكْرٌ من محبوبِهِ. وأمَّا الجبانُ فالخوفُ قد خَلَعَ قلبَهُ، فلم يَبْقَ له قلبٌ يَذْكُرُ به مَن يُحِبُّهُ.
فالمجاهدون أربعةُ أصنافٍ: شجاعٌ ذاكرٌ، فهذا في الجيش يُعَدُّ بفئةٍ. وجبانٌ غافلٌ، فهذا يَكْسرُ جيشًا. وشجاعٌ غافلٌ. وجبانٌ ذاكرٌ. فالفلاحُ التامُّ للأول، وهو فضلُ الله يؤتيه من يشاء.
وسمع قارئًا يقرأ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20]، فقال: امتَحَنَ عبادَهُ بعضَهُم ببعضٍ، وامتَحَنَ صبرَهُم، وأخبَرَ أنَّه بصيرٌ بأهلِ الصبرِ منهم وغيرِ أهلِ الصبر، فإن لم يَصْبِرُوا على ما امتُحِنُوا به في هذه الدار امتَحَنَهم يومَ لقائِهِ بما لا صَبْرَ لهم عليه.
(1)
هو عنترة نفسه. والبيت من معلقته باختلاف في الرواية في "جمهرة أشعار العرب"(ص 168)، وليس في "ديوانه".
فامتَحَنَ الذين أُرسِلَ إليهم بالرُّسل، وآجَرَهُم بصبرِهِم على ما أَمَرُوهم به ونَهَوهم عنه، وبالصبر معهم على جهادِ مَن خالفَهم.
وامتَحَنَ الرُّسلَ بأُمَمِهِم، وأمَرَهُم بالصبرِ على ما يَنالُهم من أنواع الأذَى منهم، مِن تكذيبِ خبرِهِم، ومعصيةِ أمرِهِم، وعداوتهم.
وامتحن أتباعَهم مِن بعدِهِم بمَن خالفَهم، وأمَرَهم أن يَصبِرُوا منهم على مثلِ ما صَبَر عليه الرُّسلُ من أسلافِ هؤلاء المخالفِينَ.
وامتحن الرَّعِيَّةَ بالملوكِ والولاةِ، وأمَرَهم أن يَصْبِرُوا على جَوْرِهم وظُلْمِهِم، ولا يَخْلَعُوا رِبْقَة طاعتِهِم من أعناقِهِم، ولا يَشُقُّوا عصاهُم.
وامتحن الملوكَ والولاةَ بالرَّعِيَّةِ، وأمَرَهم أن يَصبِرُوا على طعنِهم عليهم، وعَيْبِهِم لهم، وأن يَكُفُّوا غضبَهَم عنهم، وأن يَصْبِرُوا على حوائِجِهِم، ولا يُغْلِقُوا أبوابَهم دونَهم، ولا يَحْتَجِبُوا دونَ خَلْقهم
(1)
وحاجتِهم، وأن يُصَبِّرُوا أنفسَهم بحوائِجِهِم غايةَ طاقتِهم.
وامتحن العلماءَ بالجهَّالِ، وأمَرَهُم أن يَصْبِرُوا على لَجاجِهِم ومسألتِهِم، ولا يَتَبَرَّمُوا بهم، ولا يَدْفَعُوهم بالعنفِ والغِلْظَةِ.
وامتحنَ الفقراءَ بالأغنياء، وأمَرَهم أن يَصْبِرُوا على استئثارِهم عليهم بالطيِّباتِ وأنواعِ النَّعِيمِ، ولا يَتَسَخَّطُوا على الله إذ لم يعطِهِم ما أَعْطاهم.
(1)
كذا في النسخة. والمقصود: رعيتهم والمخلوقين والمحكومين لهم.
وامتحَنَ الرجالَ بالنساء، وأمَرَهم أن يَصْبِرُوا عنهنَّ بغضِّ أبصارهم وحفظِ فروجِهم، إلا ما أباحَ لهم منهنَّ.
وامتحن النساءَ بالرجال، وأمَرَهُنَّ أن يَصْبِرنَ عنهم، بغضِّ أبصارِهنَّ وحفظِ فروجهِنَّ.
وامتحن كُلًّا من الزوجَينِ بالآخر، وأمَرَه أن يَصْبِرَ منه على ما يَكْرَهُ. فامتحن كلًّا من النوعين بالآخر أعظمَ محنةٍ، وفَتَنَهُ به أشَدَّ فتنةٍ، ثم نَظَرَ إلى صبرِ الصابرِ فأعطاه فوقَ أُمنيَّتِه.
وامتحنَ المماليكَ بساداتِهم، وأمَرَهم بالصبر على أحكامِ الرِّقِّ.
وامتحن السَّاداتِ بمَمالِيكِهِم، وأمَرَهم بالصبرِ عليهم، والإحسانِ إليهم، وأن لا يُكلِّفُوهم مِن العمل فوقَ طاقتِهِم.
وامتحن البَرَّ بالفاجِرِ، وأمَرَه بالصبرِ على أذاهُ.
وامتحن الفاجِرَ بالبَرِّ، وأمَرَه بالصبرِ على نصيحتِهِ
(1)
.
وامتحَن أهلَ الغناء بأهل القرآن، وأهلَ القرآن بأهل الغناء، وابتلَى كل واحد من الفريقين بالآخر. فلا يصطلحان إلا إذا ترك أحدهما ما عنده لما عند الآخر.
وامتحن كلًّا من الإنسان والشيطان بالآخر، وسلَّط كلًّا منهما على الآخر وأعانه عليه، فأعان الإنسانَ على الشيطان بطاعته وذكره وتقواه
(1)
إلى هنا انتهى الخرم في الأصل، الذي بدأ (ص 335).
وصبره واستعاذته بربه منه، وأعان الشيطانَ على الإنسان بفجوره ونسيانه
(1)
لربه ومعصيته لأمره.
وامتحن بدنَ الإنسان وجوارحه بنفسه، ونفسَه ببدنه وجوارحه.
ولا تزال الخصومة بين يدي الرب تعالى بين هؤلاء الممتحن بعضهم ببعض، حتى تختصم الروح والبدن بسبب ذلك الامتحان والفتنة، فيحكم بينهما بأعدل الحكم.
وجعل سبحانه حكمة هذه الفتنة والمحنة استخراجَ صبرهم وصدقهم، فمن صبر وصدق كانت الفتنة في حقه عين كماله وسعادته، ومن لم يصبر ولم يصدق كانت هذه المحنة سببَ هلاكه، فهذه المحنة عينُ حكمته، فهي كالكِيْر الذي ميَّز بين الطيب والخبيث، ولولا هذا الامتحان لما تميز هذا من هذا. وإذا عرف العبد هذا فما أولاه بالصبر والتأنّي
(2)
إذا علم أن العالم كله في محنة! وبالله التوفيق.
وسمع قارئًا يقرأ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الانشراح: 1 - 4]، فقال: شرح الله صدرَ رسوله أتمَّ الشرح، ووضع عنه وِزره كل الوضع، ورفع له ذكره كل الرفع، وجعل لأتباعه حظًّا من ذلك، إذ كل متبوع فلأتباعه
(3)
حظ ونصيب من
(1)
ع: "بسيئاته" تحريف.
(2)
في الأصل: "والتأسي".
(3)
ع: "فلا يتابعه" تحريف.
حظ متبوعهم في الخير والشر على حسب اتباعهم [124 ب] له.
فأتبعُ الناس لرسوله صلى الله عليه وسلم أشرحُهم صدرًا، وأوضعهم وزرًا، وأرفعهم ذكرًا، وكلما قويتْ متابعتُه علمًا وعملًا وحالًا وجهادًا، قويت هذه الثلاثة حتى يصير صاحبُها أشرحَ الناس صدرًا، وأرفعهم في العالمين ذكرًا. وأما وضعُ وِزرِه فكيف لا يوضع عنه ومن في السماوات والأرض ودوابُّ البر و
(1)
البحر يستغفرون له؟
وهذه الأمور الثلاثة متلازمة، كما أضدادها متلازمة، فالأوزار والخطايا تَقبِضُ الصدر وتُضيِّقه، وتُخمِلُ الذكرَ وتَضَعُه، وكذلك ضيق
(2)
الصدر يضع الذكر ويَجلِبُ الوِزرَ، فما وقع أحد في الذنوب والأوزار إلا من ضيق صدره و عدم انشراحه، وكلما ازداد الصدر ضيقًا كان أدعى إلى الذنوب والأوزار، لأن مرتكبها إنما يقصد بها شرْحَ
(3)
صدره، ودَفْعَ ما هو فيه من الضيق والحرج، وإلا فلو اتسع بالتوحيد والإيمان ومحبة الله ومعرفته وانشرحَ بذلك لاستغنى عن شرحه بالأوزار، ولهذا أكثرُ من يُواقِع المحظورَ إنما يدفع به
(4)
عن نفسه ما فيها من الهمّ و
(5)
الغمّ والضيق، وكثيرًا ما تَبرُد شهوته وإرادته، ومع هذا
(1)
"البر و" ساقطة من ع.
(2)
ع: "ضيقة".
(3)
ع: "انشراح".
(4)
"به" ليست في ع.
(5)
"الهم و" ليست في ع.
يَحرِصُ على المعاودة تداويًا منه بزعمه، كما أفصح عن هذا شيخُ الفسوق أبو نواس بقوله
(1)
:
وكأسٍ شربتُ على لذةٍ
…
وأخرى تداويتُ منها بها
فإذا حمل العبد الأوزار أوجب له ذلك ضيقَ الصدر وخمولَ الذكر، ثم خمولُ الذكر يوجب
(2)
له ضيقَ الصدر، [125 أ] فلا يزال المعرض عن طاعة الله ورسوله مترددًا بين هذه المنازل الثلاث، كما لا يزال المطيع لله ورسوله الذي باشر قلبه روحَ التوحيد وتجريدَه ومحبةَ الله ورسوله وامتثالَ أمره دائرًا بين تلك المنازل الثلاث.
وإذا أُثْقِل
(3)
الظهر بالأوزار منع القلبَ من السير إلى الله، والجوارحَ من النهوض في طاعته، وكيف يقطع مسافةَ السفر مُثْقَلٌ بالحمل
(4)
على ظهره؟ وكيف ينهض إلى الله قلب قد أثقلته الأوزار؟ فلو وُضِعت عنه أوزاره لنهض وطار شوقًا إلى ربه، ولانْقلبَ عسرُه يسرًا، فإن ضيق الصدر وحمل الوزر وخمول الذكر من أعظم العسر، ومعه يسرٌ
(5)
يقلبه إليه، وهو تجريد التوحيد وتجريد الطاعة بمتابعة
(1)
البيت ليس لأبي نواس، بل للأعشى في ديوانه (ص 173) من قصيدة مشهورة له.
(2)
ع: "لا يوجب" خطأ.
(3)
في الأصل: "ثقل".
(4)
ع: "بالكل".
(5)
ع: "ومع ذلك فإن مع هذا العسر يسر" بدل "ومعه يسر".
الرسول، وهما الأصلان اللذان ختم بهما السورة، فقال:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الانشراح: 7 - 8]، فالنصب: التفرغ للعبادة والطاعة. والرغبة إلى الله وحده: تجريد توحيده. فمتى قام بهذين الأصلين حصل له من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر بحسب ما قام به، وبُدِّل عُسْرُه يسرًا.
وسمع قارئًا يقرأ: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3]، فقال: لو أن الناس أخذوا كلهم
(1)
بهذه السورة لوَسِعتْهم أو كفتْهم، كما قال الشافعي رضي الله عنه:"لو فكَّر الناس في سورة والعصر لكفتْهم"
(2)
. فإنه سبحانه قسَّم نوع الإنسان فيها قسمين: خاسرًا ورابحًا، فالرابح من نصح نفسه بالإيمان والعمل الصالح، ونصح الخلق بالوصية بالحق المتضمنة [125 ب] لتعليمه وإرشاده، والوصية بالصبر المتضمنة لصبره هو أيضًا، فتضمنت السورة النصيحتين والتكميلين وغاية كمال القوتين، بأخصر لفظ وأوجزه وأعذبه
(3)
وأحسنه ديباجةً وألطفه موقعًا.
أما النصيحتان فنصيحة العبد نفسه، ونصيحته أخاه بالوصية بالحق والصبر عليه.
(1)
ع: "كلهم أخذوا".
(2)
انظر "تفسير ابن كثير"(8/ 3852).
(3)
في الأصل: "وأهذبه".
وأما التكميلان فهو تكميله نفسه وتكميله أخاه.
وأما كمال القوتين فإن النفس لها قوتان: قوة العلم والنظر، وكمالها بالإيمان، وقوة الإرادة والحب والعمل، وكمالها بالعمل الصالح، ولا يتم ذلك لها إلا بالصبر.
فصار ههنا ستة أمور: ثلاثة يفعلها في نفسه
(1)
ويأمر بها غيره، تكميل قوته العلمية بالإيمان، والعملية بالأعمال الصالحة، والدوام على ذلك بالصبر عليه، وأمره لغيره بهذه الثلاثة، فيكون مؤتمرًا بها آمرًا بها
(2)
متصفًا بها معلِّمًا لها داعيًا إليها، فهذا هو الرابح كل الربح
(3)
، وما فاته من الربح بحسبه وحصل له نوع من الخسران، والله المستعان وعليه التكلان.
فصل
*قال صاحب الغناء: لا ندري ما غرضك بهذه الشواهد وتكثيرها؟ ولا ندري ما تعلقها بمسألة السماع وارتباطها بها نفيًا وإثباتًا؟
*قال صاحب القرآن: الغرض بهذه الشواهد التنبيه على فتح سماع القرآن وما يثيره من كنوز العلم والإيمان، والاستغناء به عن فتح سماع الشعر وما يثيره من النفاق والشهوات، والموازنة بين هذا الذوق في
(1)
ع: "بنفسه".
(2)
"آمرًا بها" ليست في ع.
(3)
"كل الربح" ليست في ع.
القرآن الذي ذكر منه دون سَمِّ الخياط بالنسبة إلى ما وراءه وبين ذوق سماع الشعر
(1)
، فهل يجد صاحب الغناء في سماعه لطيفةً [126 أ] من هذه اللطائف التي نبَّهنا عليها أدنى تنبيه؟ وهل يمكنه أن يستثمر من الغناء فائدة من هذه الفوائد التي تُنبِت الإيمان في القلب كما يُنبِت الماء البقل؟ فإن وجد شيئًا من هذا الذوق في الغناء
(2)
فليُفِدنا إيّاه وليضع فيه كتابًا أو أوراقًا، أفلا يستحيي العاقل من نفسه إن لم يَستَحْيِ من الله ورسوله وعباده المؤمنين أن يعرض عن مثل هذا الذوق والمعرفة إلى ذوق الغناء الذي هو قرآن الشيطان؟ ثم لا يقنع بذلك حتى يراه قربةً وطاعة وزيادة في حاله وإيمانه، ثم لا يقنع بذلك حتى يرجحه على
(3)
سماع القرآن من وجوه متعددة، فوالله لو كان الأمر كما تزعمون لما سبقتم
(4)
صاحبَ القرآن إليه، ولزاحمكم
(5)
عليه أشدَّ مزاحمة، ولكن كلام الله عنده أجلُّ وأوقر وأعظم أن يزاحمه بقرآن الشيطان أو يجمع بينه وبينه، فإنه لا تجتمع بنتُ رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحدٍ أبدًا
(6)
.
(1)
ع: "السماع الشعري".
(2)
"في الغناء" ليست في الأصل.
(3)
في الأصل: "عن".
(4)
ع: "لسبقهم".
(5)
ع: "لزاحمهم".
(6)
يشير إلى حديث سبق تخريجه.
*قال صاحب الغناء: فأَوجِدُونا في السنّة كراهيةَ
(1)
رسول الله صلى الله عليه وسلم للغناء ومَنْعَه منه أصرحَ مما ذكرتم، لنزداد بصيرة.
*قال صاحب القرآن: في بعض ما ذكرنا كفاية لمَن بصَّره الله، وقد روى أبو يعلى الموصلي في "مسنده"
(2)
من حديث أبي برزة
(3)
قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فسمع رجلين يتغنيان، فقال: من هذان؟ فقيل له: فلان و فلان، فقال:"اللهم ارْكُسْهما في الفتنة رَكْسًا، ودُعَّهما إلى النار دَعًّا". فلو كان الغناء مباحًا أو قربة لم يَدْعُ عليهما.
وقد روى الطبراني [126 ب] في معجمه
(4)
من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال إبليس لربه: يا ربِّ قد أُهبِط آدم، وقد علمتُ أنه سيكون كتابٌ ورسلٌ، فما كتابهم ورسلهم؟ قال: رسلهم الملائكة والنبيون منهم، وكتبهم التوراة والزبور والإنجيل والفرقان.
(1)
ع: "كراهة".
(2)
رقم (7437). وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في "المصنف"(15/ 232 - 233) وأحمد في "المسند"(4/ 421)، والبزار في مسنده (3859). وإسناده ضعيف جدًّا، مسلسل بالضعفاء والمجاهيل: يزيد بن أبي زياد ضعيف، وسليمان بن عمرو ابن الأحوص مجهول، وأبو هلال لا يعرف.
(3)
ع: "أبي هريرة" تحريف.
(4)
رقم (11181). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 114): فيه يحيى بن صالح الأيلي، ضعفه العقيلي. وأخرجه أيضاً أبو نعيم في "الحلية"(3/ 278، 279) عن الطبراني وقال: هذا حديث غريب من حديث عبيد الله بن عمير وإسماعيل بن أمية، تفرد به عنه يحيى بن صالح الأيلي.
قال: فما كتابي؟ قال: كتابك الوشم، وقرآنك الشعر، ورسلك الكهنة، وطعامك ما لا
(1)
يذكر اسم الله عليه، وشرابك كل مسكر، وصدقك الكذب، وبيتك الحمام، ومصايدك النساء، ومؤذِّنك المزمار، ومسجدك الأسواق".
وقال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود عن هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] فقال عبد الله: هو والذي لا إله غيره: الغناء.
وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الغناء. صح ذلك عنهما
(2)
.
قال أبو عبد الله الحاكم: تفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع
(3)
.
وقال ابن مسعود: إذا ركب الرجل الدابةَ فلم يذكر اسم الله عليها رَدِفَه الشيطان، فقال له: تغنَّ، فإن لم يُحسِنْ قال له: تمنَّ
(4)
.
(1)
ع: "لم".
(2)
سبق تخريج الأثرين.
(3)
قال في "المستدرك"(2/ 258): ليعلم طالب العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين حديث مسند. وانظر: "معرفة علوم الحديث"(ص 59).
(4)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(10/ 397) والطبراني في "المعجم الكبير"(8781) عنه موقوفًا. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 131): رجاله رجال الصحيح.
وفي سنن ابن ماجه
(1)
أن رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتأذنُ لي في الغناء من غير فاحشة؟ فإني لا أُرزَق إلا من دفِّي بكفِّي، فقال: "لا آذنُ لك ولا كرامةَ، كذبتَ عدوَّ الله، لقد رزقَك حلالًا طيبًا، فاخترتَ ما حرّم الله من رزقه مكانَ ما أحلَّ الله، أمَا إنك إن نلتَ بعد التقدمة منه
(2)
شيئًا ضربتُك ضربًا وجيعًا، وحلقتُ رأسك مُثلة، ونفيتُك من أهلك، وأحللتُ سَلَبَك نُهْبةً لفتيان [127 أ] المدينة". فقام وبه من الشر
(3)
والخزي ما لا يعلمه إلا الله، فلما ولَّى قال النبي صلى الله عليه وسلم:"هؤلاء العصاة مَن مات منهم بغير توبة حشره الله يوم القيامة كما كان، مخنثًا عريانًا لا يستتر من الناس بهُدْبةٍ، كلّما قام صُرِعَ".
وفي الغيلانيات
(4)
عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بُعِثتُ بكسر المزامير، وأقسم ربي لا يشرب عبد في الدنيا خمرًا إلا سقاه الله يوم القيامة حميمًا بعدُ معذبًا أو مغفورًا له". ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كَسْب المغنية والمغني حرام، وكسب الزانية سُحْت، وحقٌّ على الله أن لا يُدخِل
(1)
رقم (2613). قال البوصيري في الزوائد: في إسناده بشر بن نمير البصري، قال فيه يحيى القطان: كان ركنًا من أركان الكذب. وقال أحمد: ترك الناس حديثه، وكذا قال غيره. ويحيى بن العلاء، قال أحمد: يضع الحديث، وقريب منه ما قال غيره.
(2)
"منه" ليست في ع.
(3)
ع: "السوء".
(4)
برقم (84). وأخرجه أيضًا الآجري في تحريم النرد والشطرنج (ص 191). وفي إسناده موسى بن عمير، كذَّبه أبو حاتم وضعَّفه ابن عدي. انظر "ميزان الاعتدال"(4/ 215).
الجنةَ بدنًا نَبَتَ من سُحْتٍ".
فلو كان الغناء حلالًا لم يكن كسبُه
(1)
حرامًا، ولم يقرن بينه وبين كسب الزانية، وبين عمله وعمل الزانية.
وفي مسند مسدد بن مسرهد
(2)
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُمسَخ قوم من أمتي في آخر الزمان قردةً وخنازيرَ"، قالوا: يا رسول الله! أمسلمون هم؟ قال: "نعم، يشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويصَّدَّقون ويصلُّون"، قالوا: فما بالهم يا رسول الله؟ قال: "اتخذوا المعازفَ والقيناتِ والدفوف، وشربوا هذه
(3)
الأشربة، فباتوا على شرابهم ولهوهم فأصبحوا قد مُسِخوا".
وفي مسند الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه
(4)
عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل شراء
(5)
المغنيات ولا بيعهن ولا تعليمهن ولا تجارة فيهن وثمنهن حرام"، وتلا هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي
(1)
"كسبه" ليست في الأصل. وفي ع: "في كسبه حرامًا".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(15/ 164) وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"(89) وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 119). وإسناده حسن.
(3)
في الأصل: "على هذه".
(4)
أخرجه أحمد (5/ 264) والترمذي (1282، 3195) وابن ماجه (2168). وقال الترمذي: هذا حديث غريب، إنما يروى من حديث القاسم بن أبي أمامة، والقاسم ثقة، وعلي بن يزيد يضعف في الحديث. قلت: وفي إسناده عبيد الله بن زحر، وهو أيضًا ضعيف.
(5)
ع: "شرى".
لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان: 6]، [127 ب].
وفي صحيح البخاري
(1)
عن عبد الرحمن بن غنم قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري والله ما كَذَبني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكوننَّ في أمتي أقوام يستحلُّون الحرير والخمر والمعازف، ولينزلنَّ أقوام إلى جَنْب عَلَمٍ يروحُ عليهم بسارحةٍ لهم، فيأتيهم رجل لحاجةٍ فيقولون له: ارجعْ إلينا غدًا، فيبيِّتُهم الله عز وجل، ويضع العَلَمَ عليهم، ويَمْسَخ آخرين قِردةً وخنازيرَ إلى يوم القيامة".
وهذا حديث صحيح
(2)
لا مطعنَ فيه، وأخطأ مَن طعن فيه بأن البخاري علَّقه ولم يسنده، فإن البخاري أدخله في "صحيحه" واحتج به، وجزمَ بروايته عمن علَّقه عنه، فقال:"وقال هشام بن عمار". وقد لقي البخاري هشام بن عمار وروى عنه، وقد رواه عن هشام ثقتان ثبتان لا مطعن فيهما فهو صحيح متصل عند أهل الحديث
(3)
.
فصل
*قال صاحب الغناء: قد روى الإمام أحمد
(4)
عن نافع قال: كنا
(1)
برقم (5590).
(2)
"صحيح" ليست في ع.
(3)
انظر "فتح الباري"(10/ 52 وما بعدها).
(4)
في "المسند"(2/ 8، 38). وأخرجه أيضًا أبو داود (4924) وابن ماجه (693)، وقال أبو داود: هذا حديث منكر. قال العظيم آبادي في "عون المعبود"(4/ 434): هكذا قاله أبو داود، ولا يُعلَم وجه النكارة، فإن هذا الحديث رواته كلهم ثقات، وليس بمخالف لرواية أوثق الناس.
مع ابن عمر في سفر، فسمع صوتَ زامرٍ فوضع إصبعيه في أذنيه وعَدَلَ عن الطريق، ثم قال: يا نافع أتسمع؟ قلت: لا، فراجع الطريق، ثم قال: هكذا رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل". فلو كان صوت الزمر حرامًا لما أقرَّ عبد الله نافعًا على أن يسمعه، وإنما سدَّ ابن عمر أذنيه تورُّعًا وكراهةً، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا ثبت حِلُّ الزمر فالشبابات والمواصيل والدفوف المصلصلة مثله [128 أ].
* قال صاحب القرآن: عجبًا لكم أيها السماعاتية! كيف تَدَعون المحكم وتتمسكون بالمتشابه؟ وهذا شأن كل مبطل، وهذا الحديث هو إلى أن يكون حجةً عليكم أقربُ من أن يكون حجةً لكم على ما تقررونه من سماع ما حرمه الله ورسوله. فإنَّ سد النبي صلى الله عليه وسلم لأذنيه من أبين الأدلة على أنَّ هذا الصوت منكر، وهو من الأصوات التي ينبغي سدُّ الآذان عند سماعها، لأنها مما يُبغِضه الله ورسوله. وسَدُّ الأذنين عند هذا الصوت نظيرُ غضِّ البصر عند رؤية المحرمات.
وأما كونه لم يأمر نافعًا بسدِّ أذنيه عنده، فلأن المحرم إنما هو الاستماع والإصغاء، لا السماع من غير إصغاء واستماع، فلا يجب على الإنسان سدُّ أذنيه عند سماع الأصوات المحرمة، وإنما الذي يحرم عليه
(1)
قصد استماعها والإصغاء إليها.
(1)
"عليه" ليست في الأصل.
ونظير هذا احتجاجكم بغناء الجويريتين في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأنَّه سمعه ولم ينكره، فأخطأتم في النظر، ولم تفرقوا بين فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعلكم، ولا بين فعل نافع وفعلكم، فأنتم تقصدون الاستماعَ، والسماع غير الاستماع، وكذلك
(1)
فرق الفقهاء في سجود التلاوة بين السامع والمستمع
(2)
، فاستحبوه للمستمع، ومنهم من أوجبه عليه، بخلاف السامع. والسامع هو الذي يصل الصوت إلى مسامعه من دون قصدٍ إليه، والمستمع المصُغِي بسمعه إليه، والأول غير مذموم فيما يذم استماعه، ولا ممدوح فيما يمدح استماعه، وقد قال تعالى:{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55]، فمدحهم على الإعراض [128 ب] عنه، ولم يذمَّهم على سماعه إذا كان عن غير قصد منهم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، صُبَّ في أذنيه الآنُكُ يومَ القيامة"
(3)
. أو كما قال.
وكذلك ما رواه الحافظ أبو بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي في الجزء الثاني
(4)
من حديثه
(5)
: حدثنا أبو نعيم ــ هو عبيد بن
(1)
ع: "ولذلك".
(2)
"بين السامع والمستمع" ليست في ع.
(3)
أخرجه البخاري (7042) عن ابن عباس. وفي الأصل: "من حديث".
(4)
ع: "الثامن".
(5)
هذا الحديث أخرجه بهذا الطريق ابن حزم في "المحلى"(9/ 57)، وقال: هذا حديث موضوع مركب فضيحة، ما عُرِفَ قطُّ من طريق أنس، ولا من رواية ابن المنكدر، ولا من حديث مالك، ولا من جهة ابن المبارك. وكل من دونَ ابن المبارك إلى ابن شعبان مجهولون. قال الحافظ ابن حجر في "اللسان" (5/ 349) معقِّبًا عليه: لم يُصب في دعواه أنهم مجهولون، فإن أبا نعيم ويزيد بن عبد الصمد مشهوران. وقد أخرج الدارقطني الحديث المذكور في غرائب مالك من طريقين آخرين عن أبي نعيم، وقال: تفرد به أبو نعيم عن ابن المبارك، ولا يثبت هذا عن مالك ولا عن ابن المنكدر. وقال الإمام أحمد: هذا حديث باطل. انظر "العلل" رواية المروذي (ص 255) و"المنتخب من العلل" للخلال (ص 43).
هشام الحلبي، وقال فيه أبو حاتم: صدوق
(1)
ــ حدثنا ابن المبارك عن مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قعد إلى قَينةٍ يسمع منها صُبَّ يومَ القيامة في أذنيه
(2)
الآنك". فالقعود مع قصد السماع هو الاستماع
(3)
. وفي بعض ألفاظه: "من قَعدَ إلى قَينةٍ يستمع منها".
وكذلك ما مدح
(4)
من المستمع إنما هو الاستماع والإصغاء، كقوله تعالى:{فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17 - 18]، وقال:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف: 29]. وقال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204].
(1)
انظر"الجرح والتعديل"(6/ 5).
(2)
ع: "أذنه".
(3)
"فالقعود مع قصد السماع هو الاستماع" ليست في الأصل.
(4)
ع: "يذم".
ولا يختص بحاسة السمع، بل ما يتعلق بحاسة الشمّ والنظر واللمس كذلك، فإنَّ المُحْرِم لا يحرم عليه شيء من
(1)
الطيب إذا حَمَلتْه الريح وألقَتْه في خياشيمِه، ولا يجب عليه سدُّ أنفِه لذلك، وإنما الذي مُنِعَ منه القصد لشمِّه واستنشاقِه وتروُّحه، وهذا شيء، ومجردُ شمِّه من غير قصدٍ شيء آخر.
وكذلك النظر، إنما المحرَّم منه قصد النظر
(2)
وإتباعُ النظرةِ النظرةَ، لا نظر الفُجاءةِ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تُتبِع النظرةَ النظرةَ، فإنما لك الأولى وليست لك الأخرى"
(3)
. [129 أ]، وقال علي: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري
(4)
.
وكذلك اللمس إنما المحرَّم منه قصد مسِّ بَشَرتِه بشرةَ المحرَّم، فلو وقعت بَشَرتُه على بَشَرةِ المحرَّم من غير قصد لزحمةٍ أو غيرها لم يكن ذلك حرامًا.
ولكن هل سمعتم معاشرَ أصحاب الغناء أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحدًا من أصحابه استحضر مغنيًا أو مغنية، وجلس إليها قصدًا، أو كان جالسًا
(1)
ع: "شم الطيب".
(2)
"إنما المحرم منه قصد النظر" ساقطة من ع.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
هذا الحديث أخرجه مسلم (2159) بهذا اللفظ عن جرير بن عبد الله، لا عن علي. وحديث علي هو الحديث السابق.
ناحيةً أو مارًّا في طريق
(1)
، فسمع صوتَ جويرياتٍ أو زمَّارةٍ، ولم يقصد استماعه؟ فطفرتم القنطرةَ، وجعلتم هذا حجةً على
(2)
استحضار القينات والمغنين والرقاصين والشبابات والمواصيل، وجعلتم لهم الأجرة
(3)
والحِبَاء والكرامة والخِلَع، ومزَّقتم عليهم القلوب قبل الثياب، وجُدْتُم لهم بما بخلتم به على الأرملة والمسكين واليتيم
(4)
بالحبة منه، وزعمتم أنَّ ذلك قربة وطاعة، وصدقتم هو قربةٌ إلى الجحيم وطاعة للشيطان الرجيم
(5)
، ثمّ جلستم منه منصتين، وقمتم له على الأقدام متواضعين معظمين.
والمصيبة العظمى والداهية الكبرى نسبتكم ذلك إلى شريعة خاتم الرسل، التي هي أكمل شريعة طرقت العالم إباحة واستحبابًا، ومعاذ الله وحاشا شريعتَه من نسبة ذلك إليها، وليس العجب من جاهلٍ قلبُه في غِطاءٍ عن العلم لا يفرق بين ما فعله الرسول وبين
(6)
ما يفعله
(7)
هؤلاء، ولكن العجب ممن نَصبَ نفسه للعلم والتأليف، ويَعُدُّ نفسَه من
(1)
ع: "الطريق".
(2)
في الأصل: "في".
(3)
ع: "الأجر".
(4)
"واليتيم" ليست في ع.
(5)
"الرجيم" ليست في ع.
(6)
"بين" ليست في الأصل.
(7)
ع: "فعله".
الأئمة [129 ب] الهداة المرشدين، لا يفرق بين هذا وهذا، ويحتجُّ على جواز الاستماع على الوجه المذكور بسماع صوت الزمارة، وسماع غناء الجويريتين، فهلَّا فعلتم مثل فعل
(1)
الجويريات؟ وأخذتم الدفوف، وضربتم بها في الطرقات، وغنيتم بغنائهن، واقتصرتم على ذلك، ولم تضمُّوا إليه سائرَ المحرمات والقبائح؟ فلو فعلتم ذلك مع قبحه لكان أسهلَ وأقلَّ إثمًا وأدنى إلى الخلاص.
فصل
* قال صاحب الغناء: فقد روى الإمام أحمد في مسنده
(2)
عن عائشة أنَّ جارية من جواري الأنصار
(3)
أُهدِيتْ إلى زوجها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما الذي قالوا؟ " قالوا: لم نقل شيئًا، فقال: "الأنصار قوم فيهم غزلٌ، ألا قلتم:
أَتَيناكم أَتَيناكم
…
فحَيُّونا نُحيِّيْكم
فهذا ندبٌ منه إلى الغناء، وتعليلٌ بأنَّ القوم الذين فيهم غزل لا يصبرون عن الغناء.
(1)
ع: "ما فعل".
(2)
(3/ 391) من طريق أجلح عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة .. ، وأخرجه أيضًا النسائي في "السنن الكبرى"(5566)، والبزار كما في "كشف الأستار"(1432) بهذا الطريق. وأجلح ضعيف يعتبر به. وأصل الحديث ثابت في الصحيح، فقد أخرجه البخاري (5162) من طريق عروة عن عائشة.
(3)
ع: "الأنصاري".