المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ التوسط في أمر السماع - الكلام على مسألة السماع - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌صورة الاستفتاء

- ‌الفصل الثاني: أن تَعاطِيَها على وجه اللعب واللهو والمجون

- ‌كل ما ليس بطاعة للرسول فهو هوى للأنفُس

- ‌ هذا من النفاق الذي أنبتَه الغناءُ في القلب

- ‌ السماع من الأسباب التي يُتوصَّل بها إلى ظهور الكوامن الباطنة

- ‌فصلفي التنبيه على نكتة خفية(4)من نكت السماع

- ‌لله في كل جارحة من جوارح العبد عبوديةٌ تخصُّه

- ‌ سرُّ الصلاة ولبُّها إقبال القلب فيها على الله وحضوره بكليته بين يديه

- ‌ التكبير

- ‌ الركوع

- ‌السجود

- ‌ من القول ما يَحرُمُ استماعه، ومنه ما يُكْرَه

- ‌ الألف واللام هنا لتعريف العهد

- ‌ ذم استماع القول الذي هو الغناء

- ‌ليس لأحد أن يبتدع دينًا لم يأذن به الله، ويقول: هذا(5)يحبه الله

- ‌الأعمال أربعة: فواحد منها مقبول، وثلاثة أرباعها مردودة

- ‌ السماع المحدَث من أعظم المحركات(4)للهوى

- ‌هذه الأصول الثلاثة هي الفرقان بين الناس

- ‌ الاستعانة على الحق بالشيء اليسير من الباطل

- ‌الصوت الذي يُفعَل(3)عند النعمة هو صوت الغناء

- ‌الثاني: أنَّ اللفظ الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على مورد النزاع

- ‌خلو العباداتُ من ملابسة الصور والتعلق بها

- ‌ الثالث: كثرة إيقاد النيران بالشموع وغيرها

- ‌ الخامس: ما يقارنه من الرقص والتكسُّر والتخنيث

- ‌ السادس: ما يُقارنه من آلات اللهو والمعازف

- ‌السابع: ما يُقارنه من عُشَراء السوء وخُلَطاء الشر(4)الذين يُضِيْعون الصلوات(5)، ويتبعون الشهوات

- ‌الثامن: ما يقارنه من حركات النفوس المختلفة، والأصوات المنكرة، والحركات العظيمة

- ‌العمل لا يُمدح أو يُذَمّ بمجرد اشتماله على اللذة وعدمها

- ‌ من أصول الشرك والضلال

- ‌ دلالته على الذم والمنع أقرب من دلالته على الجواز والاستحباب

- ‌ ميزان أهل العلم والاعتدال

- ‌ تزندقَ بالسماع طوائفُ لا يُحصِيهم إلا الله، كما تزندق بالكلام

- ‌ التوسُّطُ في أمرِ السماع

- ‌سلامة القلب نوعان:

- ‌ بالصبر واليقين تُنال الإمامةُ في الدين

- ‌ لم يلزم منه الرخصة للرجال ولا في عموم الأحوال

- ‌هو مجرد حظ النفس وغذاؤها

الفصل: ‌ التوسط في أمر السماع

الأوَّلِ ففؤادُهُ مُتنقلٌ في تلك المَحالِّ، وأنَّ الحبَّ الثابت الدائمَ لا يصلُحُ إلا للحبيبِ الأوَّلِ، الذي محبَّةُ ما سِواه باطلٌ وعذابٌ على المُحبِّ وشَقاءٌ، وكذلك تنقُّلُهُ في المنازِل وعدمُ سكونِهِ بقلبِهِ إلى شيءٍ منها؛ لأنَّه يَحِنُّ إلى منزلِهِ الأوَّلِ الذي كان فيه وسُبِيَ منه، فهو يَعْمَلُ على عَودِهِ إليه.

ولي من أبيات طويلةٍ

(1)

:

وحَيَّ على جَنَّاتِ عَدْنٍ فإنَّهَا

مَنازِلُك الأُولَى وفيها المُخَيَّمُ

وَلَكِنَّنَا سَبْيُ

(2)

العَدُوِّ فهل ترى

نَعودُ إلى أوطانِنَا ونُسَلّمُ

فهذه الطيباتُ من الأصواتِ المباحةِ، والصورِ الجميلةِ، والمطاعمِ والمشاربِ، والملابسِ والمناظرِ إذا كانت على وجهها وصادَفَت ذا هِمَّةٍ عاليةٍ ومحبَّةٍ ناصحةٍ وصدْقٍ وعزيمةٍ= انتَفَعَ بها غايةَ الانتفاع، وإلا انقَطَعَ بها غايةَ الانقطاع.

فهذا‌

‌ التوسُّطُ في أمرِ السماع

هو بينَ مرتبةِ المائِعِينَ المُنْحَلِّينَ، وبينَ مرتبةِ القاسِينَ اليابسِينَ، وهم مع قسوتهم ويُبْسِهم خيرٌ وأحَبُّ إلى الله وأقرَبُ إلى رِضاهُ من أولئك، وأحفظُ لحدوده وأقومُ بأمرِهِ ودينِهِ، وإن فاتَتْهم مراتبُ أهل المحبَّةِ الذَّائقينَ لحالِها، الذين رُفِعَ لهم عَلَمُها فشَمَّروا إليه، وهم درجاتٌ عند الله، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا.

(1)

تقدم البيتان والتخريج (ص 47).

(2)

ع: "بسبي".

ص: 345

فصل

* قال صاحب الغناء: كيف تُنكرون على قوم تَنْزِلُ عليهم الرحمة في سماعِهِم، ويأخُذُ كلٌّ منهم بنصيبِهِ منها، فذَكَرَ جعفرُ بن نُصير

(1)

عن الجُنَيد أنَّه قال: "تَنزِلُ الرحمةُ على الفقراء في ثلاثة مواضعَ: عندَ السماع؛ فإنهم لا يسمعون إلا عن حقٍّ، ولا يقومون إلا عن وَجدٍ. وعندَ أكلِ الطعام؛ فإنهم لا يأكلون إلا عن فاقَةٍ. وعندَ محاورة

(2)

العلمِ؛ فإنَّهم لا يذكرون إلا صفةَ الأولياء".

* قال صاحب القرآن: هذا الكلام لم يُسنِده عن الجُنيد، فلا يُعرفُ صحَّتُه عنه، ونحن نُوجِدُك بالإسنادِ ما هو حُجَّةٌ عليك: قال أبو القاسم القُشيريُّ

(3)

: سمعتُ محمد بن الحسين يقول: سمعتُ الحسين بن أحمد بن جعفر يقول: سمعت أبا بكر بن مَمْشاذ يقول: سمعت الجُنيدَ يقول: السماعُ فتنةٌ لمن طَلَبَهُ، وترويحٌ لمن صادَفَهُ. ثم قال

(4)

: سمعتُ محمد بن الحسين يقول: سمعتُ عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الرازيَّ يقول: سمعتُ الجُنيدَ يقول: إذا رأيتَ المُرِيدَ يُحِبُّ السماعَ فاعلم أنَّ فيه بقيَّةً من البطالة.

(1)

ع: "نصر" خطأ. وقول الجنيد هذا في "الرسالة القشيرية"(2/ 509) و"اللمع" للسرّاج (ص 343).

(2)

كذا في النسخة. وفي "الرسالة القشيرية": "مجاراة".

(3)

في "الرسالة القشيرية"(2/ 509). وتقدَّم قريبًا.

(4)

المصدر السابق (2/ 513).

ص: 346

فهذان القولان مُسندَان عن الجُنَيد، وما حَكَيتَهُ عنه فلم نَعْرِفُ إسنادَهُ، وهذانِ القولانِ أيضًا مُفَسَّرانِ، والقول الأوَّلُ مُجمل، فإن كان ما حَكَيتَهُ عنه محفوظًا فهو محتملٌ للسماع المشروع؛ فإنَّ الرحمة تنزلُ على أهلِهِ.

قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، فذكر سبحانه أنَّ استماعَ القرآنِ سببُ الرَّحمةِ، فالرَّحمةُ تنزلُ على أهل استماعِهِ.

وفي "الصحيح"

(1)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوتِ الله يتلونَ كتاب الله ويتدارسُونَه بينهم إلا غَشِيتْهم الرحمة، وتنزلت عليهم السكينة، وحَفَّتْهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده".

وقد ذكر سبحانه وتعالى في غير موضعٍ من كتابِه أن الرحمةَ تحصُلُ بالقرآنِ، كقوله تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]. وقال: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ

(2)

} [الجاثية: 20]. وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].

(1)

رواه مسلم (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

في النسخة: "يؤمنون".

ص: 347

ولا ريبَ أن من السماع ما تتنزَّلُ الرحمةُ على أهلِهِ فيه، ومنه ما تتنزَّلُ عليهم فيه اللعنةُ، ومنه ما لا يتنزَّلُ عليهم فيه رحمةٌ ولا لعنةٌ. وهذا بحسب المسموعِ في نفسه، ومرتبتِهِ في الخير والشرِّ والحمدِ والذمِّ.

وإذا تأمَّلَ العاقلُ الأثر الذي يحصل عند سماع الآيات، والأثرَ الذي يحصل عند سماع الأبيات تبيَّن له عند أيِّ الأثرين تنزلُ الرَّحمةُ.

قال أحمد بن مقاتل العَكِّيُّ: كنتُ مع الشِّبليِّ في مسجدٍ ليلةً في شهر رمضان، وهو يصلي خلف إمامٍ له، وأنا بجنبه، فقرأ الإمام:{وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86]، فزعق زعقةً، قلت: طارت روحُهُ، ثم أفاق وهو يرتَعِدُ وهو يقول: بمثلِ هذا يخاطب الأحباب

(1)

.

وحُكيَ عن الجُنيد أنه قال: دخلتُ على السَّريِّ يومًا فرأيتُ عنده رجلًا مَغشيًّا عليه، فقلت: ما له؟ فقال: سمع آية من كتاب الله. فقلت: تقرأ عليه ثانيًا. فقرأ فأفاق، فقال لي: من أين علمتَ هذا؟ فقلت: إنَّ قميص يوسف ذهبت بسببه عينُ يعقوبَ ثم به عادَ بصرُه. فاستحسَن ذلك مني

(2)

.

(1)

"الرسالة القشيرية"(2/ 514)، و"اللمع" للسراج (ص 355).

(2)

انظر المصدرين السابقين.

ص: 348

وسمع آخرُ قارئًا يقرأ: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 205 - 207]، فكانت سببَ توبته وإقباله

(1)

.

وسمع آخرُ قارئًا يقرأ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]، فارتاع لها وقال: أرى الله يحول بين قلبِ الرجل وبين إيمانه إذا لم يبادر إلى الاستجابة لله ولرسوله، فتكون عقوبته أن يحول بينه وبين قلبه.

وسمع آخرُ قارئًا يقرأ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]، فارتاع لها وقال: لمَّا نَسُوه أنساهم حظَّ أنفسهم ونعيمَها وما به سعادتُها وفوزُها، فتركوه واعتاضُوا عنه

(2)

بما فيه شقاء نفوسهم وعذابها وهلاكها. هكذا سمعت شيخ الإسلام يقول عند سماع هذه الآية، أو نحو هذا الكلام

(3)

.

وسمع آخر قارئًا يقرأ: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38]،

(1)

انظر "حلية الأولياء"(4/ 83).

(2)

ع: "به عنه".

(3)

انظر كلام شيخ الإسلام عليها في "مجموع الفتاوى"(16/ 348، 349، 351). وتكلم عليها المؤلف في مواضع من كتبه.

ص: 349

فابتهج بها ابتهاجًا عظيمًا، وكم تحت قوله {يُدَافِعُ} من آفةٍ يدفع عنهم: الشكوك والشبهات، والأهوية والبدع المضلَّة، والشهوات الفانية، والهموم والغموم والأحزان، والأعداء الظاهرة والباطنة التي يعلمونها والتي لا يعلمونها. فما يدفع الله عنهم من الشرِّ نظيرُ نِعَمه عليهم بالخير، فلا يطيقون عدَّ هذا ولا هذا، فلا يُحصون عدَّ ما يدفع عنهم، ولا عدَّ ما يُنعِمُ به عليهم.

وسمع آخرُ قارئًا يقرأ: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133]، فبكى وقال: لقد خاب وشَقِي من ضاقت عنه جنّةٌ عرضُها السماوات والأرض ولم يكن له فيها مقعدٌ!

(1)

.

وسمع بعض الأعراب قارئًا يقرأ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]، فسجد، فقيل له: ليس هذا موضع سجدةٍ! فقال: سجدتُ لجلالة هذا الكلام وفصاحته

(2)

.

وسمع أعرابيٌّ قارئًا يقرأ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]، وكان قد ذهب في طلب حاجةٍ عند بعض الناس، فرجع وقال: رزقي في السماء وأنا أطلُبُه من أهل الأرض

(3)

.

(1)

انظر "العاقبة" لعبد الحق (ص 84).

(2)

ذكره القاضي عياض في "الشفا"(1/ 262)، والنويري في "نهاية الأرب"(7/ 5) نقلًا عن أبي عبيد. وذكره المؤلف في "الصواعق المرسلة"(2/ 709).

(3)

انظر: "الأولياء" لابن أبي الدنيا (84)، و"طبقات المحدثين بأصبهان" لأبي الشيخ (3/ 108)، و"شعب الإيمان"(1276)، و"الرسالة القشيرية"(2/ 541)، و"إحياء علوم الدين"(4/ 272)، و"صفة الصفوة"(4/ 381، 382).

ص: 350

وسمع آخرُ قارئًا يقرأ هذه الآية وما بعدها من قوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23]، فقال: ومَن أحوَجَ أصدقَ الصادقين إلى أن يُقسم؟!

(1)

.

وسمع آخرُ قارئًا يقرأ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]، فعَجِبَ لها وقال: انظروا إلى كرمه كيف اشترى ملكَهُ بملكِهِ! فهو الذي منَّ عليهم وأعطاهم ثمنَه ورَضِيَ به على ما يعلم من عيبه، جودًا وكرمًا وبِرًّا وإحسانًا! وإنَّ سِلعةً الله عز وجل مشتريها وثمنُها جنَّةٌ، والذي جرى على يده عقدُ البيع عبدُه

(2)

ورسوله= لسِلعةٌ كريمةٌ عنده، عزيزة عليه، غاليةٌ لديه، فلا تُهِنْها بمعصيةٍ وتَبِعْها لعدوِّه بأبخس الثمن.

وسمع رجلٌ محدِّثًا يحدِّث فقال في حديثه: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرِمْ ضَيفَه"

(3)

، فقال لي: إذا كان إكرامُ الضيف من

(1)

انظر: "شعب الإيمان"(1276)، و"التوابين" لابن قدامة (ص 163).

(2)

في النسخة: "عنده" مصحفًا. وأثبتها كذلك محقق الطبعة الجديدة، وحذف الواو بعدها، فاختلَّ السياق بالجمع بين "على يده" و"عنده".

(3)

أخرجه البخاري (6018) ومسلم (47) من حديث أبي هريرة، وأخرجه البخاري (6019) ومسلم (48) من حديث أبي شريح العدوي.

ص: 351

الإيمان بالله واليوم الآخر فكيف بإكرامِ العبدِ نفسَه!

وسمع آخرُ قارئًا يقرأ: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 7 - 8]، فقال: زيَّنها لهم لِيمتحنَهم ويبتليهم

(1)

، فيميزُ بين من يريده ويُؤثِره ويُؤثِر مرضاتَه، أو يُؤثرُ عليه تلك الزينة الفانية، وليثيبهم على صبرٍ عنها، وليدُلَّهم بها على ما ادَّخر لهم عنده إذا قدِموا عليه، ثم زهَّدهم فيها بأن عرَّفهم آخِرَ أمرها وعاقبتَها، لئلا يبيعوا حظَّهم منه بها، ثم جعلها حظَّ من لا حظَّ له عنده، فمتَّعهم بها قليلًا، ثم حال بينهم وبينها أشدَّ ما كانوا شهوةً إليها.

وسمع آخرُ قارئًا يقرأ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245]، فقال: انظروا إلى كرمِهِ! أعطى عبيدَه مالَه، ثم استقرضَه منهم لهم، ثم ردَّه عليهم مضاعفًا أضعافًا كثيرةً، وزادهم عليه أجرًا كريمًا!

(2)

.

وسمع آخرُ قارئًا يقرأ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]، فقال: عمَّهم بالدعوة حجَّةً منه عليهم وعدلًا،

(1)

في الطبعة الجديدة: "ليُمتِّعنَّهم ويُبليهم" خلاف ما في النسخة والسياق. واللام على الفعل لام كَيْ [وليس لام التأكيد التي تقتضي نون التأكيد] تعليلًا للزينة كما في الآية {لِنَبْلُوَهُمْ} .

(2)

انظر كلام المؤلف على هذه الآية في "طريق الهجرتين"(2/ 790 وما بعدها).

ص: 352

وخصَّ من يشاء بالهداية نعمةً منه وفضلًا، فأقام على أهل عدله حجَّته البالغة، وأتمَّ على أهل فضله نعمته السَّابغة، ومدح أهلَ فضله وأثابَهم بما أحسن به إليهم، وذمَّ الآخرين وعاقبَهم بأن أقام حجَّته عليهم، فجمعهم في صلب أبيهم آدم قبل أن يُخرِجهم إلى هذه الدار، ثم ميَّز بينهم يوم القبضتين، فقال: هؤلاء إلى الجنَّة، وهؤلاء إلى النار

(1)

. ثم جمعهم في هذه الدار ابتلاءً منه وامتحانًا، ثم فرَّق بينهم يومَ القُدُوم عليه، فجعل دار هؤلاء نعيمًا وجنانًا، ودار هؤلاء عذابًا ونيرانًا، فتعرَّف إلى عباده بأنَّ له الأمرَ كلَّه، وله الملك كلَّه، وله الحمد كلَّه، وبيده الخيرُ كلُّه، وإليه يُرجع الأمر كلُّه.

وسمع آخرُ قارئًا يقرأ: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 5]، فقال: سبحانَ من سكَّن قلوب المشتاقين إلى لقائه بأن ضرب لهم أجلًا للِّقاء، وأعلمهم بأن ذلك الأجل آتٍ لا محالةَ؛ فسكنتْ إليه نفوسهم، واطمأنَّت به قلوبهم، ولو لم يضرب للقائه أجلًا لذابتْ قلوبهم شوقًا إليه.

هذا ــ والله ــ هو السماع الذي تتنزَّل السكينة على أهله، وتَحُفُّ بهم الملائكة، وتغشاهم الرحمة، ويذكُرُهم الله فيمن عنده. ونحن نُقسِم بالله

(1)

أخرج أحمد (17593) من حديث أبي عبد الله مرفوعًا: "إن الله قبض بيمينه قبضةً وأخرى باليد الأخرى، وقال: هذه لهذه، وهذه لهذه، ولا أبالي". وإسناده صحيح. وفي الباب عن غيره من الصحابة، انظر هامش "المسند".

ص: 353

قسمًا بارًّا أنَّ سماع الأبيات عن هذا بمعزلٍ، وإذا أخذ الناسُ منازلهم كان منزلهم من هذا الذوقِ والوَجْدِ أبعدَ منزلٍ:

نزلُوا بمكَّة في قبائلِ هاشمٍ

ونزلتُ بالبيداءِ أبعدَ منزلِ

(1)

وسمع آخرُ قارئًا يقرأ: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، فقال: أمرهم بأخذ زينتهم الظاهرة في مواطن عبوديته؛ لأنه جميل يحبُّ الجمال

(2)

، ثم أخبرهم أنه أنزل عليهم من اللباس والرِّياش ما يتجمَّلون به، ثم أخبرهم أن تجمُّلهم بلباس التقوى خيرٌ من ذلك كله، فجمَّلهم بأنواع الجمال ثم أقامهم في عبوديته على أجمل الأحوال. وإذا أنعم الله على عبده بنعمة أحبَّ أن يظهر عليه أثرُ نعمته

(3)

، فإن ذلك من شكرها والتحدُّث بها بلسان الحال. وأعطاهم من جمال الصور ما فضَّلهم به [على] مَن

(4)

سواهم من خلقه، فحقيقٌ بمن أُعطي من هذا

(1)

البيت لعمر بن أبي ربيعة في "ديوانه"(ص 320). وهو بلا نسبة في "أمالي القالي"(1/ 202)، و"طبقات الفقهاء" للشيرازي (ص 103)، و"العاقبة" لعبد الحق الإشبيلي (ص 177).

(2)

كما في الحديث الذي أخرجه مسلم (91) عن عبد الله بن مسعود.

(3)

كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي أخرجه أحمد (19934) والبيهقي (3/ 271) وغيرهما. وإسناده صحيح. وفي الباب عن غيره من الصحابة.

(4)

بين المعكوفتين زيادة يستقيم بها السياق. و"من" غيَّرها في الطبعة الجديدة إلى "عن". ولا يقال: "فضَّلَه عن"، بل يُعدَّى بـ"على". وفي القرآن:{وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} ، {فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} .

ص: 354

الجمال ما لم يُعطَ سواه أن يسعى في تكميله ولا يقلِبَه قُبحًا بمعاصيه وشِركِه؛ فإن الله لا يُجاوَرُ بقُبحٍ ولا يدنو منه قبيحٌ.

وسمع آخرُ قارئًا يقرأ: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، فقال: مِن كمال رحمته أنه مكَّنهم من الضَّرب في الأرض بالسفر، وأعلمهم أنهم لا يَصِلون إلى مقصدهم الذي يأتونه إلا بالزَّاد، فمكَّنهم منه، وهيَّأ لهم أسبابَه، ونبَّهَهُم بذلك على السفر الأكبر إلى جنَّته، وأخبرهم أنهم لا يصلون إليها إلا بزادٍ يُبلِّغُهم إياها، وأنَّ المسافر بغير زادٍ ينقطع في الطريق. ثم نبَّههم على زاد هذا السفر، وأنه لا يتزوَّدُ فيه إلا بالتقوى، فلكلِّ سفرٍ زادٌ، والتقوى زاد سفرِ الآخرة، والخَلْقُ كلهم على ظهرِ سيرٍ، وكلُّهم عابرُ سبيل، فمُفَرِّطٌ في الزاد، ومتزوِّدٌ على قدر بُعْدِ سفره، ومقتصدٌ في زاده، ولكلٍّ همَّةٌ هو عاملٌ عليها وغايةٌ هو مُشمِّرٌ إليها، وهم درجاتٌ عند الله، فمتزوِّدٌ إلى الجحيم، ومتزوِّدٌ إلى جنات النعيم.

وسمع آخرُ قارئًا يقرأ: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30]، فقال: من رأفته بهم أن يحذِّرهم نفسه لئلا يغترُّوا، وليكونوا على حذرٍ من بأسه ونقمته؛ فإنه شديد المِحال، سريع العقاب، كيده متين، وأخذُه أليم شديد، يُملي للظالم حتَّى إذا أخذه لم يُفْلِته، ويُمهِلُ من يبارزُه بالعظائم ولا يهملُه، يأخذ العبدَ من مأمنه، ويأتيه من حيث لا يحتسب، لا يروج عليه الزيف، ولا يَنفُق عنده الزَّغَلُ

(1)

، ولا

(1)

كذا في النسخة بالزاي. والمعروف في اللغة بالدال بمعنى الزيف.

ص: 355

يخفى عليه خواطر القلوب ولا خائنةُ الأعين، فاحذروا مَن هذا شأنه.

ولا تغترَّ بستره عليك، فإنَّ تحته كشفَ الغطاء، ولا إمهالِه

(1)

لك، فإنه لا يخاف الفوت، ولا بحلمه عنك، فإنَّ أَخَذاتِه تأتي بغتةً، أين تفرُّ منه وإنما تُطوى المراحلُ في يديه؟! وأين تتوارى منه وسريرتُك باديةٌ له وأعمالك معروضة عليه؟!

أينَ يَفِرُّ المرء عنه بذنبه

إذا كان يطوِي في يديه المراحلَا

(2)

وسمع آخرُ قارئًا يقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 27 - 28]، فقال: مَنَّ عليهم بالإشفاق من عذابه آمَنَ

(3)

ما كانوا وهم في أهليهم، ثم منَّ عليهم بأن وقاهم عذاب السَّمُومِ وأدخلهم دار النَّعيم، ومنَّ عليهم بأن جعلهم داعين له عابدين له، ومنَّ عليهم بأن عرَّفهم أنه برٌّ بهم رحيم بهم، ومنَّ عليهم بأن أشهدهم منتَّه عليهم، فخلَّصهم من دعاوي الملائكة لنفوسهم، ومنَّ عليهم بأن هداهم للإيمان، ومنَّ عليهم بامتنانه عليهم

(1)

في النسخة: "ولا مهالة". والسياق يقتضي ما أثبته عطفًا على "سترِه"، وكأن الألف ساقطة. وجعله في الطبعة الجديدة:"ولا مهلة" وهو بعيد عن السياق.

(2)

البيت لأبي العرب الصقلي في "تاريخ الإسلام"(11/ 83) و"فوات الوفيات"(4/ 145). وفيهما: "فأين" فلا خرم. وفي الطبعة الجديدة: "المراحل" خلاف النسخة والرواية، فالقصيدة من قافية اللام المفتوحة.

(3)

قرأها محقق الطبعة الجديدة: "أمَنَّ" فأبعد النجعة.

ص: 356

بذلك، فآذَنَ

(1)

بامتنانه عليهم من أجْلِ

(2)

نعمِه، فسبحانَ من له المنَّةُ الوافرة والنعمُ الظاهرة والباطنةُ!

وقالت الرسل لقومهم: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11]، ومنَّ الأعرابُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، فقال الله سبحانه لرسوله:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17]، وقال تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، ولمَّا قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:"ألم أجدكم ضُلَّالًا فهداكم الله بي، وأعداءً فألَّفكم الله بي، وعالةً فأغناكم الله بي؟ " لم يكن لهم جوابٌ إلا أن قالوا: الله ورسولُهُ أَمَنُّ

(3)

.

فمنَّةُ المخلوقِ تُكدِّرُ النعمة، ونعمة الله إنما طابَتْ بمنَّتِه وازدادت بها موقعًا من قلوب عباده، وحلاوةً في قلوبهم، وعظمةً في صدورهم، وكانوا بامتنانِهِ عليهم أشدَّ فرحًا وابتهاجًا وسرورًا منهم بأصل النعمة، فلله المنةُ والفضلُ والثناءُ الحسنُ الجميلُ.

(1)

أي فأخبر. وفي الطبعة الجديدة: "فإذنُه" وهو بعيد، فما معنى "إذنه بامتنانه" ومرجع الضمير فيهما الله؟ وإذا كان غيره فأين المذكور؟

(2)

ضبطها محقق الطبعة الجديدة: "أجلِّ" وهو خطأ.

(3)

أخرجه البخاري (4330) ومسلم (1061) من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم.

ص: 357

وسمع آخرُ قارئًا يقرأ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 4]، فقال: أيَّد عباده ونصرهم بأنواعِ جُنده، وأعلمهم أن السكينة من جُنده الذي ينصرُ به المؤمنين، فنصرهم على عدوِّهم بجندٍ من السكينةِ، وجُندٍ من الملائكةِ، وجُندٍ من المؤمنين، وجُندٍ من الرِّيح، وجُندٍ من الرُّعب الذي يُلقِيه في قلوب أعدائه، وجندٍ من الإيمان والتوكُّل الذي يجعله في قلوبهم فلا يخافون معه أحدًا.

فلما صاروا من جُنده أيَّدهم بسائر جنوده، وسبقت كلمته لهم بأنهم هم الغالبون والمفلحون، فقال:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173].

فالسكينة جند من جنود الله يُثبِّت بها قلوبَ المؤمنين في مواطن القلق والاضطراب والخوف، كما أنزلها على رسوله وصاحِبه يومَ الغار والمشركون فوق رؤوسهما، وكما أنزلها على المؤمنين يوم صلح الحديبية أشدَّ ما كانوا قلقًا واضطرابًا، والمشركون يتحكَّمون عليهم في شروطهم، وقد صدُّوهم عن البيت، وكما أنزلها على رسوله وعلى المؤمنين يومَ حُنين، بعد أن ولَّى المسلمون وكادت النُّصرة تكون لأعدائهم عليهم، وكان من حَدْوِهم مع نبيهم صلى الله عليه وسلم:

والله لولا الله ما اهتدينا

ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا

ص: 358

فأنزِلَنْ سكينةً علينا

وثبِّتِ الأقدامَ إن لاقينا

(1)

ولا يزالُ القلب واللسان والسمع والبصر والجوارح في طَيشها حتى تُحمَلَ السكينةُ في القلب، فإذا نزلت به زال الطيش وحصل الوقار والثباتُ والصبر واليقين والطمأنينةُ. فإذا رأيتَه طائشَ اللسان، طائشَ البصر، طائشَ الأذن، طائشَ المشي= فقد أعلمك طيشُهُ أنه لا حظَّ له من السكينة. فمن أفضل ما أُوتِيَ العبد بعد نعمة الإيمان وقارُ السكينة، فإذا استقرَّت في قلبه ظهر أثرُها في جوارحه، حتى في صوته وهيئته ومشيه ولباسه.

فالطيش جندٌ من جنود الشيطان، والسكينةُ جندٌ من جنود الرحمن، فإذا خلت المحبَّةُ عن المعرفة كانت طيشًا كلّها، وإذا كانت معها المعرفة سكَّنتها عن طيشِها.

وسمع آخرُ قارئًا يقرأ: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87 - 88]، فقال: إنما نجا بهذه الكلمة لأنها تضمنت أربعة أشياء: التوحيد والتسبيح، وهما لله. والاعترافَ والاستغفار، وهما للعبد.

(1)

تقدم الرجز وتخريجه.

ص: 359

فبالتوحيد يدخل على الله، وهو وسيلتُهُ إليه، وبالتسبيح يُنزِّهُهُ عما لا يليق به من أن يأخذه أو يعاقبه بغير جرم، أو يكون في ملكه ما لم يسبقْ به قضاؤه وقدَرُه، ويتعلَّقْ بمشيئته وخلقه.

والاعتراف والاستغفار يُطفئ غضبَ الرب عنه ويُسكِّنه، ويُقيمه في مقام العبوديَّة، ويُخرِج من نفسه مزاحمةَ الربوبيَّة.

وأعظم الناس اعترافًا واستغفارًا أعرفُهم بربه وبنفسه، ولهذا كان أعظمُ الأمة استغفارًا نبيَّها، فكانت الصحابة يَعُدُّون له في المجلس الواحد مائة مرةٍ يقول:"ربِّ اغفِرْ لي وتُبْ عليَّ، إنك أنت التوَّاب الغفور"

(1)

، وقال:"يا أيها الناس، توبوا إلى ربِّكم، فإني لأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرَّة"

(2)

.

والتوبة والاعتراف هي الغاية المطلوبة من العباد، ولابدَّ لكل عبدٍ منها، وتوبةُ كلِّ عبدٍ بحسبِهِ، فحسنات الأبرار سيئات المقربين، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين، والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية، فكيف

(3)

بين حال آدم بعد التوبة وحاله قبل الخطيئة!

(1)

أخرجه أحمد (4726) والبخاري في "الأدب المفرد"(618) وأبو داود (1516) والترمذي (3434) وابن ماجه (3814) وغيرهم من حديث عبد الله بن عمر، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، وصححه ابن حبان (927).

(2)

أخرجه البخاري (6307) من حديث أبي هريرة، ومسلم (2702) من حديث الأغرّ.

(3)

كذا في النسخة، والسياق يقتضي "فكم".

ص: 360

وأكثرُ توبة الخواصِّ: من السيئات القلبية والإرادات المزاحمة لمراد الربِّ منهم، ومن تركِ الحسنات، ومن الاشتغال بحسنة عمَّا هو أكبرُ منها، ومن غفلتهم عن شهود المنَّة في الحسنات.

وغالبُ توبة العوامِّ: من السيئات البدنية والشُّبهات المتعلقة بها.

فأعلى الناس مرتبةً من لم تُضِلَّه الشبهات، ولم تُغْوِه الشهوات، كما قال تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم:{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 2 - 3].

فالناس ثلاثة أقسام:

السابقون المقرَّبون، يتوبون من ترك الحسنات، والاشتغالِ عن الحسنة الكبيرة بأصغرَ منها.

والمقتصدون، توبتهم من مواقعة السيئات.

والظالمون: يُذنبون ولا يتوبون.

وسمع آخرُ قارئًا يقرأ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 24 - 25]، فقال: غرسَ الله أطيبَ الكلمات ــ وهي كلمة التوحيد ــ في أطيب المحالِّ وهي قلوبُ الموحدين من عباده، فأثمرتْ أطيبَ الثمرات وهي العمل الصالح والكَلِمُ الطيب، فنقل هذا الغِراس إلى دار الطيبينَ أطيبِ الدُّور، فأثمر لهم هناك أطيبَ الثمرات وأجلَّها.

ص: 361

فتلك الثمار هي ثمار كلماتهم وأعمالهم، وتلك الأشجار هي غِراسُ إيمانهم وتوحيدهم، فأعمالهم وُفُّوها بعينها، أنشأ الله لهم منها من النِّعَم وأصنافه ما هو مُشاكلٌ لها، كما أنشأ لأهل الخبيث من أعمالهم من العذاب وأصنافه ما هو مشاكلٌ لها.

فغِراس المؤمن طيبٌ، في قلبٍ طيبٍ، يُسقى بماء طيب، وثمرتُه طيبةٌ، فإن عَمِلَ عَمِلَ طيبًا، وإن قال قال طيبًّا، وإن تقلَّب تقلَّب طيبًّا، فهذا من {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]، ومن الذين يقال لهم:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73].

فالرب تعالى طيبٌ، وكلُّ ما يُنسَبُ إليه طيبٌ، وكلُّ طيبٍ منسوبٌ إليه، ودارُه دارُ الطيبينَ.

والشيطان خبيثٌ، وكلُّ خبيثٍ منسوبٌ إليه، وكلُّ ما يُنسَب إليه خبيثٌ، والدارُ التي أُعِدَّت له ولحزبه دارُ الخبيث، {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37].

وسمِع قارئًا يقرأ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3]، فقال: المقتُ: أشدُّ البغض، وقد أخبر عن مقتِه لمن نكح امرأة أبيه، فقال: {إِنَّهُ

ص: 362

كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء: 22]، وأخبر رسوله عنه بمقْتِه للجالس على الخلاء كاشفًا عورتَه يناجي مَن هو كذلك

(1)

.

ولم يقتصر على مقْتِ مَن قال ما لا يفعل، بل جعله مقتًا كبيرًا؛ ليدلَّ عبادَه على أنه يمقُتُ منهم أشدَّ المقت مخالفةَ أقوالهم لأفعالهم، وظواهرهم لبواطنهم، وسرائرهم لعلانياتهم، وأنَّ بُغضَه لهذا منهم وكراهتَه لهم أشدُّ من بُغضه للمعاصي والذنوب الظاهرة.

ولهذا اشتدَّ نكيرُ السلف الصالح للحِيَل التي يُتوصَّلُ بها إلى استحلال ما حرَّم الله تعالى وإسقاط ما أوجبَه، وجعلوها من جنس الخداع والنفاق

(2)

، وقالوا: إنَّ ارتكاب الحرامِ على وجهه أسهلُ منها؛ فإنَّ صاحبَها يقول ما لا يفعلُ، ويُظهرُ خلافَ ما يُبطِنُ، ويُعلِنُ شيئًا ويُسِرُّ خلافَه، فمقتُهُ عند الله أكبر من مقْتِ مرتكب الحرام على وجهه صريحًا.

(1)

أخرجه أحمد (11310) وأبو داود (15) والنسائي في "الكبرى"(33) والبيهقي (1/ 99، 100) من حديث أبي سعيد الخدري. وفي إسناده ضعف واضطراب، انظر تعليق المحققين على "المسند". ومع ذلك صححه الحاكم في "المستدرك" (1/ 157). ويشهد للنهي عن كشف العورات قوله صلى الله عليه وسلم:"لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة" أخرجه مسلم (338) من حديث أبي سعيد الخدري.

(2)

انظر كلام المؤلف في هذا الموضوع في "أعلام الموقعين"(4/ 44 وما بعدها)، وكلام شيخه في "بيان الدليل على إبطال التحليل"(ص 26 وما بعدها).

ص: 363

ولهذا كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار، لأنهم قالوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فخالفتْ ظواهرُهم بواطنَهم، وبايَنتْ سَرائِرُهُم علانياتِهم، فكان مقتُ الله لهم أشدَّ المقتِ، وبُعدُهُم عنه أعظمَ البُعد.

فكلُّ من قال ما لم يفعل، وأظهر خلافَ ما يُبطنُ، وأعلن خلاف ما يُسِرُّ، فأظهرَ الوفاء وأبطنَ الغدرَ، وأظهر الصِّدق وأبطن الكذبَ، وأظهر الأمانة وأبطن الخيانةَ، وأظهر عقد التبايعِ وأبطنَ عقد الرِّبا، وأظهر عقد النكاحِ وأبطن عقْدَ التحليل، وأظهر صورة الشرط وأبطن عدمَ الوفاء به، أو أظهر أنه مظلومٌ ففجَرَ في الخصام وهو يعلم أنه ظالمٌ، أو أظهر العملَ لله وهو يُبطِنُ الرياءَ والسُّمعة به، أو أظهر النصيحةَ وهو يُبطِن الغشَّ= فأحسنُ أحوالِه أن يكون من الذين يقولون ما لا يفعلون، وجزاءُ ذلك كِبَرُ المقتِ من الله، فإن صادَفَ ذلك أصلَ الإيمان فهو النفاقُ الأكبر الموجِبُ للدَّرك الأسفل من النَّار، وإلا فنفاقُ العمل.

وسَمِعَ قارئًا يقرأ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16]، فقال: إن الله سبحانه ندَبَ قلوبَ عباده إليه، وكان أسرعُهم إليه إجابةً قلوبَ المرسلين؛ فاختصَّهم بكرامته وجعلهم محلَّ رسالتِهِ ووسائطَ في التبليغ بينَه وبينَ عباده. ثم ندب قلوبَ العباد بعدَهم إلى طاعته، فكان خيرُهُم أسرعَهم إجابةً، ولهذا كان السَّابقون الأوَّلُون من كلِّ أمةٍ خيرًا ممن بعدهم، وكان خيرُ هذه الأمة الأسبقَ فالأسبق. فالأسبقُ إجابةً العشرةُ لسَبْقِهِم، وخيارُ العشرةِ الخلفاءُ

ص: 364

الراشدون، وخيارُهم الشَّيخان، وخيرُهُما الصدِّيقُ أولُ الناس إجابةً.

ثم استبطأ قلوبَ الناس ولامَهُم في الإبطاء في محلِّ الإسراع، وعلى المهلة في محلِّ الاستعجال والمبادرة، وكيف أبطأت قلوبهم عن الخشوع لكلامه الذي لو نزل على الجبال لخشعتْ له وتصدَّعتْ عن أماكنها مع قسوتها وشدَّتها، فقلوبُ عبادِه أولى بالخشوع لكلامِه من الجبال.

ثم حذَّرهم سبيلَ مَن قبلَهم من أهل القسوة، وأنهم لمَّا طال عليهم الأمدُ ولم تخشع قلوبهم قَسَت وعتَتْ

(1)

، وهكذا مَن طال عليه الأمد ولم يُنِب إلى ذكرِ الله ولم يخشع قلبُه لكلامِه قَسَا وعزَّ عليه الخشوعُ والانقيادُ، كالخشبة الكبيرة إذا تطاولت عليها السِّنون وهي على عِوَجِها لم يكن إلى تقويمها سبيلٌ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اقتلُوا شيوخَ المشركين واستَبْقُوا شَرْخَهُم"

(2)

، الشرخُ: الشبابُ، فأمر باستبقائهم لأنَّ في لِينِهم مطمع

(3)

.

(1)

في ع والمطبوعة: "عنتْ"، وهو بمعنى خضعتْ وذلَّتْ، ولا يناسب السياق. و"عَتَتْ" بمعنى استكبرتْ، وفي القرآن:{عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} [الطلاق: 8].

(2)

أخرجه أحمد (20230) وأبو داود (2670) والبيهقي (9/ 92) من حديث الحسن عن سمرة بن جندب. وإسناده ضعيف بسبب عدم تصريح الحسن البصري بالتحديث، وهو مدلس.

(3)

كذا في النسخة مرفوعًا والسياق يقتضي النصب، ومثل هذا ورد عند المؤلف في مواضع من كتبه فلم نغيِّره.

ص: 365

وأخبر سبحانه أن القلوبَ القاسية أبعدُ القلوب منه، وأنه لما لَعَنها جعلها قاسيةً، وأخبرَ أنَّ فتنةَ الشيطان إنما تُصِيب القلبَ المريضَ والقلبَ القاسيَ، ويَسْلَم منها القلبُ المُخْبِتُ إليه، فقال:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13]، وقال:{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 53 - 54].

فجعل القلوبَ ثلاثةً: قلبَين شقيَّينِ، وهما المريض والقاسي. وقلبًا سعيدًا، وهو المخبت. والإخباتُ: اللِّينُ والتواضع والانخفاضُ للحقِّ، والخَبْتُ: المكانُ المنخفضُ.

وهذا لأنَّ القلبَ إمَّا أن يكونَ يابسًا لا يقبلُ الحقَّ، فهو القاسي. أو ضعيفًا لا يثبت فيه الحقُّ، فهو المريض. أو صافيًا ليِّنًا صُلْبًا، يرى الحقَّ بصفائِه، ويقبلُه بلينِه، ويحفظُهُ بصلابِتِه.

فالأول: القلب الحجريُّ، لا يقبلُ صورةَ الحقِّ، ولا ينطبعُ فيه.

والثاني: المريض المعلولُ، إن قبِلَها زالت بسرعةٍ، كالماء يقبلُ صورةَ ما ينطبعُ ثم يزولُ أسرعَ شيءٍ.

والثالث: القلب الزجاجيُّ، المشتمل على الصَّفاء والرِّقَّةِ والقوَّة؛ ولهذا ضرب الله به المثلَ لنوره، وجعله محلًّا له، فقال:{مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور: 35].

ص: 366

فقسوة القلب تُورِثُ الفسقَ، فإن اشتدَّت أورثَتِ البدعةَ والظُلْمَةَ واتِّباعَ الهوى، فإن اشتدَّت أورثتِ الكفرَ والنِّفاق، وكثيرًا ما تُورِثُ هذا وهذا، وبالله التوفيق.

وسَمِع قارئًا يقرأ: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54]، فقال: لمَّا آثروا الشهوات حِيلَ بينهم وبينها أشدَّ ما كانوا شهوةً لها، ولو آثروا الطاعاتِ لانقادتْ إليهم الشهوات انقيادًا أكملَ ما كانت وأتمَّه وأطيبَهُ، بلا تنغيصٍ ولا تكديرٍ ولا مُزاحمٍ، فلو أعرضوا عنها لاشتاقت إليهم أعظمَ من شوقِهم إليها، ولكن آثرُوها فهجرَتْهم أحرصَ ما كانوا على الوصال.

إذا اشتاقتِ الخيلُ المناهِلَ أعرضَتْ

عن الماء فاشتاقتْ إليها المناهِلُ

(1)

فخلقَت الشهوةُ في العبد آلةً تَسُوقه، وحاديًا يحدوه إلى محلِّ الشهوات كلِّها، وهي الدارُ التي فيها ما تشتهيه الأنفسُ وتلذُّ الأعينُ، وقيل لأربابها: لا تَقِفُوا عند هذه الشهوات الخسيسة الفانية، التي هي خيالُ طَيْفٍ أو سحابةُ صَيْفٍ؛ فإنَّ أمامَكم من الشَّهوات ما لا عينٌ رأت ولا أذُنٌ سمعت ولا خطَرَ على قلب بشر، فنظر أصحابُ البصائر الحادَّة إلى تلك الشهوات من وراء سُتورِ الإيمان بالغيب فقالوا: نحن المشَمِّرُون، فقال لهم الدليلُ: قولوا: إن شاء الله وسِيْروا

(2)

، سبَقَ

(1)

البيت لأبي العلاء المعري من لاميته المشهورة في "سقط الزند"(ص 195).

(2)

نظر المؤلف إلى حديث أسامة بن زيد الذي أخرجه ابن ماجه (4332) والبزار (2591) وغيرهما، وصححه ابن حبان (7381)، وفي إسناده سليمان بن موسى متكلَّم فيه، والضحاك المعافري تفرد بالرواية عنه محمد بن مهاجر. وضعَّف الحديث المنذري في "الترغيب والترهيب"(4/ 284) والألباني في "الضعيفة"(3358).

ص: 367

المفرِّدون

(1)

.

ووقف أصحابُ العيون الرَّمِدَة والأبصار التي عليها غِشاوةٌ عندَ ما عاينوه من هذه الشهوات وباشروه منها، وقالوا: لا نبيعُ نقدًا بنسيئةٍ، ولا عاجلًا محقَّقًا بآجل مظنونٍ. فهؤلاء الذين حِيلَ بينهم وبين ما يشتهون، وتنقلب مآرِبُهم العَذْبة في الشباب عذابًا في المشيب.

مآرِبُ كانت في الشَّباب لأهلها

عِذابًا فصارتْ في المشيبِ عَذابَا

(2)

وسمع قارئًا يقرأ: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]، فقال: نصبَ لهم ميدان السِّباق، وأعطى كلًّا منهم مركوبًا يليق به، وجعل الجنَّة غايةَ السِّباق، ثم سابَقَ بينهم وبذلَ الجُعْلَ من عندِه، وأقامَ ملائكتهُ على جنبتَيِ الميدان يُثَبِّتُونَ السَّابق ويُحَرِّضون المسبوق على اللَّحاق. فثارت الغَبرةُ في الميدان،

(1)

كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم (2676).

(2)

البيت بلا نسبة في "طريق الهجرتين"(1/ 119) و"الفوائد"(ص 61) و"روضة المحبين"(ص 646) و"الداء والدواء"(ص 404، 548).

ص: 368

وخَفِيَ على أهل الجمع السَّابقُ من المسبوق، حتَّى إذا انجلى الغُبارُ، ووقفَت خيلُ السِّباق، ومَدَّتِ الخلائقُ أعناقَها ينظرون مَن سبقَ ومَن صلَّى

(1)

بعده، نادى المنادي: لَيعلَمنَّ أهلُ الجمع اليوم مَن السَّابقُون.

فإذا هم رجالٌ كانوا في الدنيا {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37]، {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 134 - 135].

قيل لهم: اقتحِمُوا حلبةَ السباق، فإنما هي أنفاسٌ معدودةٌ آخرُها يوم التَّلاق، ويُسْعِد

(2)

الله بسَبْقِه مَن شاء من خلقِهِ.

وقيل لهم: لا جَلَبَ ولا جَنَبَ إلا في هذا الرِّهانِ، فمن استطاع منكم الجَلَبَ والجَنَبَ فليفعلْ، ولْيستعِنْ على السَّبقِ بما أمكَنَهُ.

وجُعِل جزاؤهم بالسَّبق إلى الطَّاعات سَبْقَهم عند القدوم عليه إلى الجنَّات، فقال:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10]، فالسَّابقون في الدنيا إلى الخيرات هم السَّابقون في الآخرة إلى الدرجات.

(1)

غيَّرها في الطبعة الجديدة إلى "وَصل"، وهو تحريف يدلُّ على أن المحقق لا يعرف معنى المصلِّي في ميدان السباق.

(2)

تحرف في الطبعة الجديدة إلى "ويعد"، وهو على الصواب في النسخة.

ص: 369

وأخبرهم أن من بطَّأ به فرسُه وعملُه لم يُسرِعْ به نسبُه وماله وولده

(1)

، فقال:{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37].

وسمع قارئًا يقرأ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، فقال: كما تَفسُدُ السموات والأرض لو كان فيهما إلهانِ، فكذلك يَفسدُ القلب إذا كان له معبودان يَأْلَهُهُما

(2)

ويعبدهما، فكيف بقلبٍ فيه من كل هوًى إلهٌ معبودٌ! {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43].

كيف يكون حال هذا العبد إذا سمع النداء يوم الحشر: لِيتْبَعْ كلُّ أحدٍ ما كان يعبده. فرأى آلهته ومَن كان يعبده مع الله سائرةً مع جملة الآلهة إلى الجحيم

(3)

، وهو لا يستطيع التخلُّف عنها!

وكما أنه لا صلاحَ للعالم العُلويِّ والسُّفليِّ ولا بقاءَ إلا بكون إلهه

(1)

كما أخرج مسلم (2699) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ومن بَطَّأ به عملُه لم يُسرِعْ به نسبُه".

(2)

غيّرها في الطبعة الجديدة إلى "يؤلّهما". والمثبت كما في النسخة، و"يأله" بمعنى يعبد، ومنه "المألوه" الآتي بعد أسطر.

(3)

أخرج مسلم (183) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "إذا كان يوم القيامة أذَّن مؤذِّن ليتبعْ كلُّ أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحدٌ كان يعبد غير الله سبحانه من الأصنام والأنصاب إلَّا يتساقطون في النار".

ص: 370