الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والذي يصح حمل كلام [123 أ] هذا القائل عليه أن السماع الذي قَصَدَه أولًا هو السماع الذي يَقصِده أهل الإرادة لله، فهو يُحرِّك قلوبَهم إلى الله الذي يريدون وجهه، وهو معبودهم ومحبوبهم ونهاية مطلوبهم، فهم
(1)
يسمعون بالله ولله، فسماعهم يُزعِجُ قلوبهم إلى الله لما فيها من محبته وإراداته، والسماع يُحرِّك نارَ الإرادة ويُضرِمُها. ثم قال: من أصغى إليه بنفسٍ تزندق، فإن أصغى إليه بإرادة العلو في الأرض والرئاسة، وجعل محبة الخالق من جنس محبة المخلوق، وجعل ما يطلب من قرب الرب تعالى والوصول إليه من جنس ما يطلب من قرب المخلوق والوصول إليه، أوجبَ له ذلك تزندقًا في الاعتقاد، فيصير صاحبه منافقًا زنديقًا.
ولهذا
تزندقَ بالسماع طوائفُ لا يُحصِيهم إلا الله، كما تزندق بالكلام
، ولم يكن أضرّ على الأمة من هاتين الطائفتين: أهل السماع وأهل الكلام، وقد ذمَّ الشافعي رحمه الله الطائفتين وبالغ في ذمّهم، وشهد على إحداهما بأن طريقتهم من إحداث الزنادقة، وحكم على الأخرى بأن تُضرَب بالجريد والنعال ويُطافَ بها في القبائل والعشائر، لعلمه رضي الله عنه بالضرر الداخل على الأمة والدين من الطائفتين.
ويكفي شهادةُ هذا الذائق للسماع بأن من أصغى إليه بنفسٍ تزندق. والنفس إما أن يُراد بها ذاتُ الإنسان، أو روحُه المدبِّرة لبدنه، أو صفاتُها
(1)
في الأصل: "فهو" خطأ.
من الشهوة والغضب والهوى وغيرها، فإن البشر لا يخلو من ذلك، ولو فُرِضَ أن قلبه يخلو عن حركات هذه القوى فعدمُها شيء وسكونها شيء آخر، والعدم [123 ب] ممتنع عليها، وغايتها أن تسكن، ومن شأن السماع أن يحرِّك الساكنَ ولابدَّ، فكيف يُمكِن الإنسانَ أن يسكُنَ لشيء مع ملابسته لما يوجب حركته؟ هذا من المحال عادةً، وهو من التفريق بين الملزوم ولازمه، أو الجمع بين الشيء وضدِّه. وهو نظيرُ أن يقال: أَدِمِ
(1)
النظرَ إلى هذه المرأة الشابة الحسناء الجميلة، من غير أن تُحرِّك نفسَكَ لإرادتها وطلبها، وهل الآمر بهذا إلا من أحمق الناس؟ ولهذا قال بعض العارفين: إن أحوال السماع بعد مباشرته تبقى غير مقدورة للإنسان، بل خارجة عن حد التكليف، وهذا غير معذور فيه لمباشرته أسبابه، فهو كمن زال عقله بالسُّكْر اختيارًا.
وقوله: "ومن أصغَى إليه بحقٍّ تحقَّق"، عليه فيه أمران:
أحدهما: أن يقال: الإصغاء إليه بحق لا يخالطه باطل، أمرٌ غير مقدور عليه لبشرٍ
(2)
، وغاية ما في قوة صاحب الرياضة والصفاء التام أن يكون حالَ الإصغاء لا يجدُ في نفسه إلا طلبَ الحق وإراداته، ولكن من أين يَثِقُ بنفسه أنه يبقى على ذلك؟ والواقع أنه إذا سمع خالط
(3)
(1)
ع: "أذم" تصحيف شنيع.
(2)
ع: "للبشر".
(3)
في الأصل: "خالطا".
الإصغاءَ بالحق الإصغاءُ بالنفس، فإن تجرُّدَ الإنسان عن صفاته اللازمة لذاته ممتنع.
الأمر الثاني: أن يقال لك: ومن أين لك أن كل من أصغى إليه بحق تحققَ؟ بل المُصْغِي إليه بحق قد يحصل له من الزندقة والنفاق علمًا وحالًا ما لا شعورَ له به، كما قال عبد الله بن مسعود:"الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل"
(1)
. والنفاق هو الزندقة، وهذا
(2)
من كمال معرفة الصحابة واطِّلاعِهم
(3)
على الحقائق، فإن البقل ينبت في الأرض شيئًا فشيئًا، لا يُحِسُّ الإنسانُ بنباته، ولا يَفجأه
(4)
إلا وقد استحكم واستفحل. وهكذا الزندقة تبدو في القلب شيئًا فشيئًا حتى تستحكم وتَتِمَّ، وهكذا الإيمانُ، وهكذا الحبُّ والبغضُ وسائرُ صفات القلب، بل هكذا الفسوق والفجور والولاية والعداوة.
يُوضِّح هذا: أن دعوى التحقُّق والتحقيق والحقائق قد كثرتْ على ألسنة أقوامٍ هم من أعظم الناس زندقةً ونفاقًا قديمًا وحديثًا، من القرامطة
(1)
سبق تخريجه.
(2)
من هنا إلى (ص 395) ساقطة من الأصل، وقد كنت أشرت إلى هذا الخرم في الطبعة الأولى (ص 275).
(3)
ع: "ولطلاعهم".
(4)
ع: "ولا نفخاه". والفعل من باب فرح وفتح، أي: ولا يفاجئ الإنسانَ هذا النباتُ
…
والمحقق الجديد أبعد النجعة، فأثبت:"ولا تفحاه" بمعنى تبزره، ولا يوجد هذا الفعل بهذا المعنى في المعاجم.
والاتحادية والباطنية والفلاسفة والحلولية.
فالتحقُّق بالحقِّ الذي بعث الله به رسلَه ولا يَقبلُ من أحدٍ سواه لا يحصُلُ بالإصغاء إلى هذا السماع البتَّةَ، وإنما يحصل بالإصغاء إلى سماعِ الوحي الذي أنزله الله على رسوله.
فدَعْ عنك أيها السماعاتيُّ الأمانيَّ الباطلةَ والغرورَ، ولا تتشبَّعْ بما لم تُعطَ
(1)
، فالمتشبِّعُ بما لم يُعطَ كلابِس ثَوبَيْ زورٍ
(2)
.
ثم قوله في السماع إنه "واردُ حقٍّ يُزعِجُ القلوبَ إلى الحق".
يقال له: إن كان يُزعِجُ بعضَ القلوبَ أحيانًا فالأغلبُ عليه أن يُزعجها إلى الباطل، وقلَّ ما يُزعِجَها إلى الحقِّ محضًا.
بل قد يقال: إنه لا يفعل ذلك بحالٍ، بل لابدَّ أن يُضَمَّ إلى ذلك الحقِّ شيءٌ من الباطل، فيُزعِج إلى الشركِ الجليِّ أو الخفيِّ، فإنَّ ما يُزعِجُ إليه هذا السماعُ قدرٌ مشتركٌ بين الخالقِ والمخلوقِ، وذلك لا يُعطي توحيدًا ولا إيمانًا ولا معرفةً، بل إنما يُعطي شِركًا ونفاقًا، ولهذا لم يذكره الله في القرآن إلا عن المشركين
(3)
.
(1)
ع: "يعط".
(2)
كما في حديث أسماء رضي الله عنها الذي أخرجه البخاري (5219)، ومسلم (2130). وأخرجه مسلم (2129) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35].
فلا يكون مُزعِجًا للقلوب إلى إرادةِ الله تعالى وحدَه لا شريكَ له، بل يُزعِجها إلى الباطل تارةً، وإلى
(1)
الحق أخرى، ولو كان يُزعِجُ إلى الحقِّ الذي يحبُّه الله ويرضاه خالصًا أو راجحًا لكان من الجنس المشروع المأمور به، ولكان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم يشرعُهُ بقولِه أو فعلِه، ولكان من سنَّة خلفائِه الراشدين، ولكان المؤمنون في القرون الثلاثة يفعلونه ولا يتركونه، فإنه لو كان خيرًا لسبقونا إليه وكانوا أحقَّ به وأهلَه، فإنهم لا يُظَنُّ بهم أنهم يتركونَ ما يُحِبُّه الله ورسولُه وما يحرِّكُ القلوبَ إلى الله ويُزعِجها إليه.
وهذا الكلام كلُّه في قصده والاجتماع عليه، وطلبِ التقرُّب به، وعَدِّه من أفضل القُرَب، ومما تصلُحُ عليه القلوبُ. وأما من لم يقصده ولا هو من مطالبه، فاتفق أنه صادف شيئًا منه، فصادفه سماعُ ما يُناسِبُ حالَه بمنزلة سماع الفألِ لمن خرج في حاجةٍ= فهذا قد لا يستضِرُّ به، وقد ينتفع بما سمعه ويتأثر.
كما حكى لي بعضٌ أنه سمع مغنِّيًا يغنِّي:
تَعَلَّقَ قَلبِي حُبَّكُم زَمنَ الصِّبَا
…
فوالله لا عَن حُبِّكُم أتَحوَّلُ
(2)
قال: فأثَّرَ فيَّ هذا البيتُ، وجعلتُ أردِّدُهُ، وحصل لي به إقبالٌ بعد إعراضٍ. أو كما قال.
(1)
ع: "إلى" بدون الواو. وفي "الاستقامة"(1/ 394): "وإلى الحق والباطل تارة".
(2)
لم أجد البيت فيما رجعت إليه من مصادر.
ومن هذا ما يُحكى عن بعض المشايخ أنه سمع قوَّالًا يقول
(1)
:
كلَّ يومٍ تتلَوَّنْ
…
غَيرُ هذا بِك أجمَلْ
فنزَّلَه على حاله مع ربه تعالى، وجعل يبكي ويُردِّدُ البيتَ مرارًا.
وكذلك الذي سمع قوَّالًا يقول
(2)
:
وكنتُ أرى أن قد تَنَاهى بيَ الهوى
…
إلى غايةٍ ما بعدها لِيَ مذهبُ
فلمَّا تلاقَينَا وعَايَنتُ حُسْنَهَا
…
تَيَقَّنتُ أنِّي إنَّما كنتُ ألعبُ
فأثَّر ذلك فيه وجدًا وهمَّةً وإرادَةً.
وكذلك الذي سمع قوَّالًا يقولُ
(3)
:
وأخرجُ من بين البيوت لعَلَّنِي
…
أُحَدِّثُ عنك النَّفْسَ في السِّرِّ خاليَا
فحملَه على حاله وخروجه من بين بيوت إرادته وشهوته، ليُفْضِيَ قلبُهُ إلى محبوبه خاليًا، فخرج إلى الصحراء يُنشدُ هذا البيت ويُرَدِّده.
(1)
البيت مع الخبر في "الرسالة القشيرية"(2/ 515)، و"إحياء علوم الدين"(2/ 288)، و"مدارج السالكين"(3/ 567) وغيرها. وانظر التعليق على المدارج.
(2)
البيتان مع ثالث في "الزهرة" لمحمد بن داود الظاهري (ص 274) لبعض أهل هذا العصر. وأنشدهما المؤلف في "مفتاح دار السعادة"(1/ 299، 300)، و"طريق الهجرتين"(1/ 460).
(3)
البيت للمجنون في "ديوانه"(ص 294، 301، 314) من قصيدة طويلة.
وكذلك الذي سمع قوَّالًا يقول
(1)
:
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا
…
كَفى بالمطايا طِيبُ ذِكرَاك حَاديا
وإذْ نحن أضللنا
(2)
الطريقَ ولم نَجِد
…
دليلًا كَفَانا نُورُ وجهِك هادِيا
فأثَّرتْ فيه تأثيرًا عظيمًا.
وكذلك آخر سمع قوَّالًا يقول
(3)
:
وقفَ الهوى بي حيثُ أنتِ فليس لي
…
متأخَّرٌ عنه ولا مُتَقَدَّمُ
وأَهَنْتِنِي فأَهَنتُ نفسي جاهدًا
…
ما من يَهُونُ عليكِ ممن يُكرَمُ
أشبهتِ أعدائِي فصرتُ أُحبُّهُم
…
إذ كان حَظِّي منكِ حَظِّي منهمُ
أجدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً
…
حُبًّا لذِكرِكِ فلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ
فتأثَّرَ منها، وأخذ منها ما يُناسبُ حالَه.
وسمعتُ مرةً على رأس جبل أبي قُبَيس وأنا عند باب البيت منشدًا يُنشدُ بصوت شجيٍّ جدًّا أبياتًا، فحفظتُ منها:
(1)
تقدم تخريجهما.
(2)
ع: "اظللنا" خطأ
(3)
الأبيات لأبي الشيص الخزاعي في "حماسة" أبي تمام (2/ 119، 120)، و"الشعر والشعراء"(2/ 843)، و"العقد الفريد"(5/ 374، 375)، و"الأغاني"(16/ 402)، و"الأمالي" للقالي (1/ 218). وفي "الأغاني"(22/ 225)، و"اللآلي" للبكري (1/ 507) أنها لعلي بن عبد الله بن جعفر.
وها هو واقفٌ بالبابِ فَرْدا
…
كما يأتي العبيدُ غدًا فُرَادى
(1)
فأثَّر فيَّ تأثيرًا عجيبًا، فأضفتُ إليه أبياتًا، منها:
عُبيدك في الجهالة قد تمادى
…
وزادَ وما قضى للحشر زادَا
وفرَّط في الذي يُرضيكَ منه
…
وأفرطَ راجيًا لك لا عِنادَا
وها [هو] قد أتاك بغير شيءٍ
…
سوى التوحيدِ ينقادُ انقِيادَا
وها هو واقفٌ بالبابِ فردًا
…
كما يأتي العبيدُ غدًا فُرَادَى
وسمعتُ آخر بمكة يُنشدُ
(2)
:
يزورُ فتنجَلي عنِّي هُمُومي
…
لأنَّ جلاءَ هَمِّي في يَدَيْهِ
ويمضي بالمَسَرَّةِ حين يمضِي
…
لأنَّ حَوَالَتِي فيها عَلَيه
فأثَّرَتْ فيَّ تأثيرًا عجيبًا.
وسمع مرةً شيخُ الإسلام ابن تيمية ــ قدَّس الله روحه ــ منشدًا يُنشدُ أبيات يحيى الصَّرصريِّ، التي أوَّلُها:"ذكر العقيق فهاجَهُ تذكارُه"، فلما وصلَ إلى قوله
(3)
:
(1)
ع: "فروى". ولم أجد البيت وقائله في مصدر آخر.
(2)
البيتان لإبراهيم بن أحمد الرقي في "أعيان العصر"(1/ 52). وأنشدهما المؤلف في "روضة المحبين"(ص 383).
(3)
الأبيات له في "فوات الوفيات"(4/ 301). وأنشدها المؤلف في "روضة المحبين"(ص 35)، و"الرسالة التبوكية"(ص 93).
يا مَن ثَوى بين الجَوَانح والحشا
…
منِّي وإن بعُدَت عليَّ دِيَارُه
عطفًا على قلبٍ بِحُبِّك هائِمٍ
…
إن لم تَصِلْهُ تصَدَّعَتْ أعشارُه
وارحَم كئِيبًا فيك يقضِي نَحْبَه
…
أسفًا عليك وما انقضتْ أوطارُه
لا يستفِيقُ من الغَرامِ وكُلَّمَا
…
حَجَبُوك عنهُ تهتَّكتْ
(1)
أستارُه
اشتَّد بكاؤُه ونحيبُه، وتغيَّر حالُه.
وقال لي مرَّة وقد أنشد هذين البيتين
(2)
:
يا مَن ألوذُ به فيما أُؤَمِّلُهُ
…
ومَن أعوذُ به ممَّا
(3)
أُحاذِرُه
لا يَجبُرُ النَّاسُ عظمًا أنتَ كاسِرُه
…
ولا يَهِيضُون عظمًا أنت جابِرُهُ
لا ينبغي أن يُقال هذا إلا لله، ولا ينبغي أن يقال لمخلوقٍ. وكان يُنشدُهما ويُرَدِّدُهما مرارًا، وقال: ربَّما دعوتُ في السجود بهما دعاءً لا إنشادًا.
وأُنشِدَ مرَّةً عنده من شعر يحيى قولُه في نونيَّتِه
(4)
:
(1)
ع: "تهتك".
(2)
البيتان للمتنبي في "ديوانه"(2/ 225) بشرح البرقوقي.
(3)
ع: "بما" خطأ.
(4)
هي قصيدة طويلة للصرصري (ت 656) في 852 بيتا بعنوان "الروضة الناضرة في أخلاق مصطفى الباهرة"، نُشِرتْ ضمن "أربعة شعراء عباسيون"(ط. دار الغرب الإسلامي بيروت سنة 1994 م) ص 68 - 117. وقد شرحها محمد بن أيوب التادفي (ت 705) في "الدرر الفاخرة" (مخطوط في باريس برقم 1965)، والسفّاريني (ت 1188) في "معارج الأنوار في سيرة النبي المختار" كما في "سلك الدرر" (4/ 31) و"فهرس الفهارس" (2/ 1003).
رُوحُ المجالس ذكرُهُ وحديثُه
…
وهُدًى لكلِّ ملَدَّدٍ حيرانِ
وإذا أُخِلَّ
(1)
بذِكرِه في مجلسٍ
…
فأولئكَ الأمواتُ في الجَبَّانِ
(2)
إلى أن وصلَ المُنشدُ إلى قوله
(3)
:
والمُستهامُ على المحبَّةِ لم يَزَل
…
حَاشَا لذِكْرَاكم من النِّسيَانِ
لو قيلَ ما تهوى لقَالَ مُبادرًا
…
أهوَى زِيَارَتَكمُ على أجفَانِ
تالله إن سمحَ الزَّمانُ بقُربِكُم
…
وحَلَلتُ منكُم بالمَحَلِّ الدَّاني
لأُعَفِّرنَّ الخدَّ شُكرًا في الثَّرَى
…
ولأَكْحَلَنَّ بِتُربِكُم أجفاني
(4)
فغلبَهُ البكاءُ والنَّحِيبُ.
ولو تتبعنا ما في هذا عن المتقدِّمين والمتأخِّرين لبلَغ عدَّة أسفارٍ!
فهذا مما يَنتَفِعُ به السامعُ ولا يَتَضرَّرُ به إذا صادفَه مُصادفةً فاستَراحَ
(1)
ع: "أخذ" تحريف.
(2)
"الجبَّان" بمعنى المقبرة، وهو على الصواب في النسخة، فغيَّره المحقق الجديد إلى "الحيَّان"، ولا معنى له هنا.
(3)
هذه الأبيات من نونية أخرى للصرصري في ديوانه (نسخة تشستربيتي 3865، ونسخة جامعة أم القرى 1956). وهي في "فوات الوفيات"(4/ 304، 305)، وقد جمع فيه بينها وبين أبياتٍ من النونية السابقة وكلتاهما من بحر الكامل.
(4)
ع: "أجفان". وكذا في الطبعة الجديدة بدون ضمير المتكلم، وهو خطأ.
به، ولو تكلَّفَهُ لكان له فتنةً ومحنةً، وهذا معنى قولِ سيِّدِ الطائفةِ الجُنَيدِ: مَن صادفَهُ السماعُ استراح، ومن تكلَّفَهُ فُتِنَ به
(1)
.
وليس هذا مخصوصًا بالسماع، بل هذا حكمُ كثيرٍ من المُستلذَّاتِ التي تشترِكُ فيها الحواسُّ، فالصَّادِقُ المُقبِلُ على الله الذي قد امتلأَ قلبُهُ من إرادتِهِ ومحبَّتِه إذا صادَفَهُ بعضُ المناظرِ المُعْجِبَةِ المُبْهِجَةِ التي يُباحُ النظرُ إليها، أو بعض النَّغَم المباح
(2)
من غير تكلُّفٍ منه له= استراح به ووجدَ به قوَّةً ونشاطةً
(3)
وزيادةً في حالِهِ، وإن تكلَّف انقطعَ به وفُتِنَ وصار عبدَ شهوتِهِ.
ولهذا كثيرٌ من أكياسِ الناس وأولي الفقه في السلوك والفِطْنَة لا يختارون لنفوسِهم حالةً؛ لما يعلمون أن الفتنة والمحنةَ في ذلك الاختيار، بل ينظرون ما يُحدِث الله لهم ويفعلُه بهم، فيَجْرِي عليهم بحُكْم إرادتِه لهم واختياره، لا بحُكم إرادتِهم وشهوتهم. ومِثْلُ هذا لا يضُرُّهُ ما التذَّ به من الأصوات المباحةِ والصورة المباحة الجميلة، فقد كان ممَّا حُبِّبَ
(4)
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساءُ والطِّيبُ
(5)
، وكان يُعجِبُه
(1)
"الرسالة القشيرية"(2/ 509). ولفظه: "السماع فتنة لمن طلبه، ترويحٌ لمن صادفه".
(2)
في الطبعة الجديدة: "النِّعم المباحة" تحريف لما في النسخة والسياق.
(3)
كذا في النسخة، والمعروف في اللغة بدون الهاء.
(4)
ع: "أحب مما".
(5)
أخرجه أحمد (12294، 14037) والنسائي (7/ 61) وغيرهما من حديث أنس بن مالك، وإسناده حسن.
صوتُ أبي موسى ويستَمِعُ لحسن صوتِه
(1)
.
ولا ريبَ أن ذلك يُقوِّي هِمَّةَ المُرِيد لله المُحِبِّ للقائِهِ، ويُثيرُ عَزَماتِهِ، ويُحرِّكُ ساكنَهُ؛ فيَجِدُ من قوَّة الطلبِ والإرادة والحبِّ أمرًا آخرَ.
وسمع بعضهم مرَّة منشدًا يُنشِدُ
(2)
:
وحَبَّبَ
(3)
أوطَانَ الرِّجَالِ إليهمُ
…
مآرِبُ قَضَّاها الشَّبَابُ هُنَالِكَا
إذا ذَكَروا أوطانَهم ذَكَّرَتْهُمُ
…
عُهُودًا جَرَتْ فيها فَحَنُّوا لِذَالِكَا
فبكى واشتدَّ بكاؤُه، وقال: ذَكرتُ المنازلَ الأُولَى في الجنَّةِ وأنا في صُلبِ آدم، والعهدَ الأوَّلَ حين عُهِدَ إليه.
وسمع آخر منشدًا يُنشدُ
(4)
:
نَقِّلْ فُؤَادَك حيثُ شِئتَ من الهوى
…
مَا الحُبُّ إلَّا للحَبيبِ الأوَّلِ
كَمْ مَنزلٍ في الأرضِ يألَفُهُ الفَتى
…
وحَنِينُه أبَدًا لأوَّلِ مَنزِل
فأثَّرت فيه تأثيرًا عظيمًا، وعَلِمَ أنَّ كلَّ من أحبَّ سِوَى الحبيبِ
(1)
تقدم تخريجه (ص 282).
(2)
البيتان لابن الرومي في "ديوانه"(5/ 1826). وأنشدهما المؤلف في "مفتاح دار السعادة"(2/ 980).
(3)
ع: "وحُبّ" خطأ.
(4)
تقدم البيتان وتخريجهما (ص 47).