الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على محبة المليح والمليحة.
الثامن: ما يقارنه من حركات النفوس المختلفة، والأصوات المنكرة، والحركات العظيمة
التي لا يُمكن ردُّها ودفعها بعد قيام موجبها التام، كما لا يمكن دفعُ السُّكْر عن النفس بعد تعاطي أسبابه.
التاسع: أنه مُضادٌّ لمقصود الصلاة وذكر الله، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والسماع يأمر بالفحشاء والمنكر، ومَن أنكر ذلك بلسانه فقلبه أعلم. وأهل هذا السماع يعلمون من نفوسهم من الفحشاء والمنكر ما يعلمونه، ولهذا يتقاضى من كل أحد من الفواحش بحسب استعداده، فيتقاضى من بعض هؤلاء صحبةَ الأحداث الحِسان الصور ومشاهدتَهم ومعاشرتَهم، وتمتلئ قلوبهم من
(1)
عشقهم وتألُّههم، ويُبرطِلُهم إبليسُ بالعفة عن الفجور بهم، وقد ظَفِرَ منهم بما هو أحبُّ إليه من فجورهم بهم بكثير، فإنه قد جعلهم تماثيل بين القلب
(2)
وبين الله، فهم لها عاكفون بقلوبهم. وصاحب الفجور الذي قد قضى شهوته، وفرغ قلبه، ولم يجعل تلك الصورة تمثالًا بين قلبه وبين الله، أحسنُ حالًا منهم.
فليتدبر اللبيب هذه اللطيفة، وليتضرَّعْ
(3)
إلى مقلِّب القلوب
(1)
ع: "تميل قلوبهم إلى".
(2)
ع: "القلوب".
(3)
في الأصل: "وليصرخ".
ومصرِّفها أن يُثبِّت قلبَه على دينه، ويُصرِّفه على طاعته.
وقد ثبت في الصحيح
(1)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العينانِ تزنيان وزناهما النظر، واليد تزني وزناها البطش، والرِجْل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يُصدِّق ذلك أو يُكذِّبه". فجعل لكل [103 أ] عضو من هذه الأعضاء زِنًا يخصُّه، فكيف يتقرب إلى الله بزنا العين؟
وإن قال الناظر: أنا لا أنظر لشهوة بل لعبرة.
قيل له: فلِمَ نهاك الله عن النظر، وأمرك بغضِّ البصر؟
وقيل له: أمّا ما دامت النفس حيةً، والشيطان موجودًا، والطباع على حالها، فكلَّا.
وقيل له: صاحبُ الشرع أعلمُ بأحكام هذا النظر منك، حيث يقول:"لا تُتْبِع النظرةَ النظرةَ، فإنما لك الأولى، وليست لك الأخرى"
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (6243) ومسلم (2657) عن أبي هريرة.
(2)
أ خرجه أحمد (5/ 351 - 352، 357) وأبو داود (2149) والترمذي (2777) وقال: حسن غريب، والحاكم في "المستدرك"(2/ 194) وصححه على شرط مسلم والبيهقي في "السنن"(7/ 90) عن بريدة. وفي إسناده شريك النخعي وهو سيء الحفظ. والحديث حسن، لوروده من طريق آخر، أخرجه أحمد (1/ 159) والدارمي (2709) وابن حبان (5570) والحاكم (3/ 123) عن علي.
وقيل له
(1)
: الشيء متى كان في نفسه مفسدةً، أو داعيةً إلى المفسدة، فإن الشارع يُحرِّمه مطلقًا حكمةً منه و صيانةً وشفقةً وحِمْيةً.
وقيل له: كم قد هلك قبلك من هالكٍ بهذا الظن الفاسد، ظن أنه ينظر عبرة، فأوقعه نظره في أعظمِ الحسرة، كما قيل
(2)
:
وأنا الذي جَلَبَ المنيةَ طَرْفُه
…
فمَن المطالَبُ والقَتِيل القَاتلُ
وقال آخر
(3)
:
وكنتَ متى أرسلتَ طَرْفَك رائدًا
…
لقلبِك يومًا أَتعبتْك المناظرُ
رأيتَ الذي لا كلُّه أنتَ قادرٌ
…
عليه ولا عن بعضِه أنتَ صابرُ
قلت: ولي من قصيدة
(4)
:
يا مُرسِلًا لسهام اللَّحْظِ مجتهدًا
…
أنتَ القتيلُ بما تَرمِيْ فلا تُصِبِ
أرسلتَ طرفَك ترتادُ الشِّفاءَ فما
…
وافَى رسولُك إلا رائدَ العَطب
ولاسيما النفوسُ التي فيها رقةٌ ولطافة ورياضة، فإن الصوت
(1)
"له" ليست في ع.
(2)
البيت للمتنبي في ديوانه (3/ 367). وانظر "روضة المحبين"(ص 156).
(3)
"وقال آخر" ليست في ع. والبيتان في حماسة أبي تمام (2/ 15) و"عيون الأخبار"(4/ 22) بلا نسبة. وانظر روضة المحبين (ص 154، 328). وفي الأصل: "أبعتك المناظر" تحريف.
(4)
"قلت ولي من قصيدة" ليست في ع. وانظرها في "بدائع الفوائد"(2/ 818 - 819) والفوائد (ص 107 - 109)، والبيتان في روضة المحبين (ص 154).
والصورة أسرعُ تأثيراً فيها من النار في يابس الحطَب، حتى إنها لتتقوَّتُ بذلك أحيانًا. وبهذا رضيَ الشيطانُ من هذه الطائفة، فإنه
(1)
لم يُبالِ [103 ب] بعدَ أن
(2)
أوقعهم فيما يُفسِد قلوبَهم وأسماعَهم وأبصارهم، أن لا يَشْغَلَهم بجمع
(3)
الأموال وطلب الجاه والولايات، فإن فتنة أحدهم بذلك أعظمُ من فتنته بهذه الأمور، فإن جنس هذه الأمور مباح، وقد يُستعان بها على طاعة الله، وأمّا ما شَغَلَ به هؤلاءِ نفوسَهم، فإنه دينٌ فاسد منهيٌّ عنه، مضرته راجحة على منفعته.
ولو لم يكن في هذا السماع من المفسدة إلا تشبُّه الرجال بالنساء، فإن الغناء في الأصل إنما جُعِل للنساء، ولذلك ما شُرِع منه في الأعراس والأعياد إنما شرع للنساء والجواري والصغار والولدان الحديثي الأسنان، فإذا تشبَّه بهم
(4)
الرجل كان مخنَّثًا، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال
(5)
. وكذلك من يحضرون في السماع من الشاهد فيهم من التخنيث بقدر ما تشبَّهوا به من أمر النساء، وعليهم من اللعنة بقدر نصيبهم من ذلك التشبه. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج المخنثين
(1)
في الأصل: "فإن".
(2)
"أن" ليست في ع.
(3)
ع: "بجميع".
(4)
ع: "بهن" وتحتها "بهم".
(5)
أخرجه البخاري (5886، 6834) عن ابن عباس.
ونَفْيهم، وقال:"أخرِجُوهم من بيوتكم"
(1)
، فكيف بمَن يُقرِّبهم ويُعظِّمهم ويتعبد قلبه بهم
(2)
، ويجعلهم طواغيتَ يُعظَّمون بالباطل الذي حرَّمه الله ورسوله، وأمر بعقوبة أهله وإذلالهم؟ وهل هذا إلا مضادَّةٌ لله في أمره! وقد قال صلى الله عليه وسلم:"مَن حالتْ شفاعتُه دون حدّ من حدود الله، فقد ضَادَّ اللهَ في أمره"
(3)
.
فإذا كان هذا في الشفاعة بالكلام، فكيف بمَن يُعظِّم المعتدين لحدود
(4)
الله ويُعِينهم على
(5)
ذلك ويجعله دينًا؟
لاسيما إذا كان التعظيم بما هو من جنس الفواحش، فإن مَن يُعظِّم القيناتِ المغنيات والمغنّين ويجعل لهم نوعَ رئاسة وعزّ لأجل ما يستمتع [104 أ] به منهن من الغناء وغيره، فقد تعرض من غضب الله ومَقْتِه وسَلْبِ نِعَمِه عنه إلى أمر عظيم. وللّهِ كم زالت بهؤلاء نعمة عمَن أنعم الله عليه فما رعاها حقَّ رعايتها، وقد شاهد الناس من ذلك ما يطول وصفه، وما امتلأت دار من أصوات هؤلاء وألحانهم وأصوات معازفهم
(1)
ضمن الحديث السابق.
(2)
ع: "لهم".
(3)
أخرجه أحمد (2/ 70) وأبو داود (3597) والبيهقي في السنن (6/ 82 و 8/ 332) عن ابن عمر. وصححه الحاكم (2/ 27)، ووافقه الذهبي. وروي موقوفًا، وهو أصح. انظر: علل ابن أبي حاتم (2/ 183) وعلل الدارقطني (13/ 108).
(4)
ع: "بحدود".
(5)
في الأصل: "في".
ورَهَجِهم، إلا وأعقب ذلك من حزن أهلها ونكبتهم وحلولِ المصائب بساحتهم ما لا يفي بذلك السرور من غير إبطاء، وسَلِ الوجودَ يُنبِئْك عن حوادثه، والعاقل مَن اعتبر بغيره.
الوجه العاشر: أن رفع الأصوات بالذكر المشروع مكروه، إلا حيث جاءت به السنّة، كالأذان والتلبية، وفي الصحيح
(1)
عن أبي موسى قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنا إذا علونا ارتفعت أصواتنا بالتكبير، فقال:"يا أيها الناس ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تَدْعُون أصمَّ ولا غائباً، إنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقربُ إلى أحدكم من عُنُقِ راحلته". وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، وقال:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]، وقال تعالى:{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3].
وقال الحسن البصري: "رفع الصوت بالدعاء بدعة"
(2)
. ونص عليه الإمام أحمد وغيره. وقال قيس بن عُبَاد من كبار التابعين: "كانوا يستحبون خفض الصوت عند الذكر وعند الجنائز وعند القتال"
(3)
.
(1)
البخاري (2992، 6610) ومسلم (2704).
(2)
أخرجه عنه ابن المبارك في الزهد (140) والطبري في تفسيره (10/ 247، 248) بلفظ: "كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما سُمِع لهم صوتٌ".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(12/ 462).
وهذه المواطن الثلاثة تطلب فيها النفوسُ الحركةَ الشديدة: عند الذكر والدعاء لما فيه من الحلاوة [104 ب] ومحبة ذكر الله ودعائه، وعند الجنائز بالحزن والبكاء، وعند القتال بالغضب والحميَّة. ومضرةُ رفع الصوت بذلك أعظم من منفعته، بل قد يكون ضررًا محضًا، وإن كانت النفس تشتفي
(1)
به، وتبرَّأ النبي صلى الله عليه وسلم من الصالقة
(2)
، وهي التي ترفع صوتها بالمصيبة، فكيف بالمغنية التي ترفع صوتها بالغناء!
وأمّا القتال فالسنّة فيه أيضًا خفض الصوت، وأمّا هذه الدبادب
(3)
والأبواق والطُّبول فإنها لم تكن على عهد الخلفاء الراشدين ولا من بعدهم من أمْرِ المسلمين، وإنما حدثت من جهة بعض ملوك المشرق
(4)
من أهل فارس، وانتشرت في الأرض، وتداولها الملوك، حتى رَبَا فيها الصغيرُ وهرِمَ الكبيرُ، لا يعرفون غير ذلك، وينكرون على مَن ينكره. ويزعمُ بعض الجهال أن هذا من إحداث عثمان بن عفّان
(5)
، وليس الأمر كذلك
(6)
، بل ولا مِن فعْل مَن بعده من الخلفاء، وإنما ورثتْه الأمةُ من الأعاجم، ولم يكن منه بدٌّ تحقيقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لتأخذَنَّ
(1)
ع: "تشفى".
(2)
أخرجه البخاري (1296) ومسلم (104) عن أبي موسى الأشعري.
(3)
جمع دبداب، وهو الطبل. وفي الاستقامة (1/ 325):"الدقادق" تحريف.
(4)
ع: "الشرق".
(5)
"بن عفان" ليست في الأصل.
(6)
ع: "مثل ذلك".
أمتي ما أخذَ الأمم قبلَها شِبرًا بشِبْر وذراعًا بذراع"، قالوا: فارس والروم؟ قال: "ومَنِ الناسُ إلا هؤلاء؟ "
(1)
. وكما في الحديث الآخر: "لتركبُنَّ سَننَ من كان قبلَكم حذوَ القُذّةِ بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ لدخلتموه"، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: "فمَن؟ "
(2)
. والحديثان في الصحيح.
فأخبر أنه لا بدَّ من
(3)
أن يكون في الأمة من يتشبه باليهود والنصارى وبفارس والروم، وظهور هذا الشبه في الطوائف إنما يعرفه من عرف الحقَّ وضدَّه، وعرف الواجب والواقع، وطابقَ [105 أ] بين هذا وهذا، ووازن بين ما عليه الناس اليوم وبين ما كان عليه السلف الصالح. فإذا كان رفع الصوت في مواطن العبادات بالذكر والدعاء الذي يحبه الله
(4)
ويرضاه بدعةً مكروهة لا يتقرب بها إلى الله، فكيف يكون رفعُه بالغناء الذي هو قرآن الشيطان قربةً وطاعة؟ وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم صوتًا فاجرًا أحمق، ونهى عنه
(5)
.
الوجه الحادي عشر: أنه يأمر بعشق الصور الذي كرهه الله، وينهى عن العفة وغض البصر الذي أمر الله به، فإن الغناء يتضمن التحريضَ
(1)
أخرجه البخاري (7319) عن أبي هريرة.
(2)
أخرجه البخاري (3456، 7320)، ومسلم (2669) عن أبي سعيد الخدري.
(3)
"من" ليست في ع.
(4)
بعدها في ع: "ورسوله".
(5)
سبق تخريجه.
على الفسق، وذِكْرَ محاسنِ المعشوق ووصفها، وذِكْرَ طيبِ وصاله وعذاب هَجْره، ولو غنَّى المغَني بأشعار العفة والتخويف من عذاب الله والترغيب في العمل الصالح وذمِّ الفواحش، لاستسمجَه الحاضرون، واستثقلوه وتبرَّموا به، وقالوا: هذا مبتدع مخالف لسنّة الغناء، ونعم هو مخالف لسنّة الفساق.
الوجه الثاني عشر: أنه يتضمن من الصدِّ عن ذكر الله وعن الصلاة ما هو معلوم من شأنه، فإنَّ غالبَ زَبونه وفُرسانه لا يُصلُّون، ومَن صلَّى منهم فإنه من الذين:{إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142].
ومن صلى منهم لله، فإن صلاته صلاة خَرْجية
(1)
خالية عما ذكرناه من ذوق الصلاة ومواجيدها وحقائقها، لأن قواه انصرفتْ إلى ذوق السماع، وصار شربه منه
(2)
ووجده فيه، ولا يجتمع
(3)
الذوقانِ والوَجْدانِ والحالتانِ
(4)
في قلب واحد أبدًا، بل الأمر كما قيل:
سارتْ مُشرِّقةً وسِرْتُ مغرِّبًا
…
شتَّانَ بينَ مشرِّقٍ ومُغرِّبِ
(5)
(1)
نسبة إلى الخرج بمعنى الإتاوة أو الضريبة التي يؤديها الشخص وهو مكره.
(2)
"منه" ليست في الأصل.
(3)
ع: "يجمع".
(4)
في الأصل: "والحلاوتان".
(5)
البيت لأبي إسحاق الشيرازي في "طبقات الشافعية" للسبكي (4/ 228). وتقدم (ص 68).
والله يعلم أنَّا لم نتعدَّ وصفَهم، ويعلم أنهم كذلك.
وبالجملة، فمفاسد السماع من جنس مفاسد عشق الصور، وهي أكثر من أن يحصرها [105 ب] العدُّ، وإنما يشهدها القلب الحيُّ، وإلا فَـ
ما لجرحٍ بميِّتٍ إيلامُ
(1)
فصل
*قال صاحب الغناء
(2)
: حسن الصوت مما أنعم الله به على صاحبه من الناس، قال تعالى:{يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر: 1]، قيل في التفسير: إنه الصوت الحسن
(3)
. وذم الله تعالى الصوت الفظيع، فقال:{إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19].
*قال صاحب القرآن: كون الشيء نعمةً لا يقتضي إباحةَ استعماله فيما شاء المُنْعَم عليه، بل فيما أحب المُنْعِم به ورَضِيه فذلك شكر هذه النعمة التي يستوجب بها المزيدَ من شكرها، فيقيِّد بالشكرِ موجودَها، ويُحصِّل به مفقودها
(4)
، فهذه النعمة تقتضي استعمالَ الصوت الحسن في قراءة القرآن، كما كان أبو موسى الأشعري يفعل ذلك، حتى كان
(1)
سبق تخريجه.
(2)
انظر "الرسالة القشيرية"(ص 507).
(3)
انظر "تفسير القرطبي"(14/ 320) و"الدر المنثور"(12/ 251).
(4)
ع: "مقصودها".
النبي صلى الله عليه وسلم يستمع لقراءته وقال: "مررتُ بك البارحةَ وأنت تقرأ، فجعلتُ أستمع لقراءتك"، فقال: لو علمتُ أنك تسمع لحبَّرتُه لك تحبيرًا. وقال: "لقد أوتي هذا مِزمارًا من مزامير آل داود"
(1)
.
وأما استعمال النعم في المباح المحض فإنه لا يكون طاعةً، فكيف في المكروه أو المحرم
(2)
؟
وأيضًا فمن المعلوم أن المال نعمة، والجمال نعمة، والقوة نعمة، فهل يسوغ لأحد أن يقول: كون ذلك نعمةً يقتضي جوازَ استعمالها فيما لم يأذن له فيه ربُّ النعمة؟ وهل الاستدلال بهذا إلا بمنزلة الاستدلال بنعم الله من السلطان والمال والقوة، على ما تتقاضاه الطباع من الظلم والفواحش ونحوها؟ فاستعمال الصوت الحسن في الأغاني، بمنزلة استعمال الصورة الحسنة في الفواحش، واستعمال الجاه والمال في الظلم والعدوان.
وأيضًا فإن هذه النعمة يستعملها الكفار والفساق في أنواع [106 أ] من الكفر والفسوق أكثر مما
(3)
يستعملها المؤمنون في الإيمان، فإن استمتاع الكفار والفساق بالأصوات المطربة أكثر من استمتاع
(4)
(1)
سبق تخريجه (ص 242).
(2)
ع: "الحرام".
(3)
في الأصل: "وأكثر ما".
(4)
في الأصل: "استعمال استمتاع".
المسلمين، فإن عند المسلمين من وازعِ الإيمان والعوض بالقرآن ما ليس عندهم، فأي حمدٍ لهذه النعم بذلك إن لم يستعمل في طاعة الله؟
وقولك: إن الله ذمَّ الصوت الفظيع، فغلطٌ بيِّن، فإن الله سبحانه لا يذمُّ العبد على ما ليس من كسبه وفعله، كما لا يذمُّه على دَمامتِه وقُبْح
(1)
شكله، وإنما يذمُّ العبد
(2)
بأفعاله الاختيارية دون ما لا اختيار له فيه. وإنما ذمَّ سبحانه ما يكون باختيار العبد من رفع الصوت الرفيع المنكر، كما يوجد ذلك في أهل الغِلَظ والجفاء من الفدَّادين والصخَّابين بالأسواق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الجفاء والغِلَظُ وقسوةُ القلب في الفدَّادين من أهل الوبر"
(3)
. وهم الصياحون صياحًا منكرًا. وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس بفَظٍّ ولا غليظٍ ولا صخَّابٍ في الأسواق"
(4)
.
وقال تعالى عن لقمان في وصيته لابنه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19]، فأمره أن يَغُضَّ من صوته وأن يَقصِدَ في مشيه، كما أمر المؤمنين أن يغضُّوا من أبصارهم، وأصحابُ السماع لا هذا ولا هذا ولا هذا، بل إطلاق البصر ورفع الأصوات
(5)
والرقص.
(1)
تكررت "وقبح" في الأصل.
(2)
"العبد" ليست في ع.
(3)
أخرجه البخاري (3498) ومسلم (51) عن أبي مسعود.
(4)
أخرجه البخاري (4838) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: في التوراة
…
(5)
ع: "الصوت".
فصل
*قال صاحب الغناء
(1)
: استلذاذ القلوب بالأصواتِ الطيبة واسترواحُها إليها مما لا يمكن جحوده، فإن الطفل يسكن إلى الصوت الطيب، والجِمال تُقاسِي تعبَ السير ومشقةَ الحمولة
(2)
فيهونُ عليها بالحُدَاء قال تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17]، وحكى إسماعيل بن عُلَية قال: كنت أمشي مع الشافعي [106 ب] وقت الهاجرة، فجُزْنا بموضع يقول فيه قوّالٌ شيئًا، فقال: مِلْ بنا إليه، ثم قال لي: أيُطْرِبك هذا؟ فقلت: لا، فقال: ما لك حسٌّ.
* قال صاحب القرآن: لقد كنتَ أيها السماعي غنيًّا أن تستشهد على هذه المسألة بحكاية مكذوبة مختلَقةٍ على الشافعي، يَعلم كذِبَها من له معرفة بالناس وطبقاتهم. والشافعي أخذ عن إسماعيل بن عُلَية، وهو من أكبر شيوخه، وأما ابنه إبراهيم تلميذ عبد الرحمن بن كيسان الأصم فكان الشافعي يذمُّه، ويقول فيه: "أنا
(3)
مخالفٌ لابن عُلَية في كل شيء، حتى في قول لا إله إلا الله، فإني أقول: لا إله إلا الله الذي كلَّم موسى من وراء حجاب، وهو يقول: لا إله إلا الله الذي خَلق في الهواء كلامًا أسمعَه
(1)
انظر "الرسالة القشيرية"(ص 507).
(2)
ع: "الحمول له".
(3)
ع: "إنه".
موسى
(1)
. وهذا هو
(2)
الذي يُذكر له أقوال شاذة في الفقه وأصوله، ويظن من لا علم عنده أنه إسماعيل، وليس الأمر كذلك. فإن أباه إسماعيل من أجلِّ شيوخ الشافعي وأحمد وطبقتهما.
ثم لو صحَّت هذه الحكاية لم يكن فيها إلا ما هو مُدرَك بالإحساس، من أنّ الصوت الطيب لذيذ مُطرِب، وهذا أمر يشترك فيه جميع الناس، ليس مما يحتاج أن يستدل فيه بشهادة الشافعي، بل ذِكرُ الشافعي في مثل هذا غضٌّ من منصبه. كما ذكر ابن طاهر عن مالك تلك الحكاية المشهورة
(3)
، ولولا شهرة زهد أحمد وورعه لوضعوا عليه حكاية في إباحة السماع.
وأهل المواخير والفساق والمبطلون أعلم بهذه المسألة ولذةِ السماع وطِيبهِ من أئمة الدين الذين رفع الله في العالمين أقدارهم وأعلى منارَهم، فما لكم [107 أ] وللاستشهاد بهم في أمرٍ أنتم أعرف به منهم؟ وهلَّا استشهدتم بهم في حكم هذه المسألة ومحلِّها من الشرع كما استشهدنا بكلامهم؟
ثمّ
(4)
كون الصوت الحسن موجبًا للذة أمر حسي، لكن أي شيء
(1)
انظر "مناقب الشافعي" للبيهقي (1/ 409) و"لسان الميزان"(1/ 35).
(2)
"هو" ليست في ع.
(3)
انظر "كتاب السماع" لابن طاهر (ص 66).
(4)
في الأصل: "في".
في هذا مما يدل على الأحكام الشرعية من كونه مباحًا أو مكروهًا أو محرمًا أو كون الغناء طاعة وقربة؟ وهل هذا إلا نظير قول القائل: استلذاذُ النفوس للوطءِ أمر لا يمكن جحوده، ولذلك استلذاذها
(1)
بالنظر والمطاعم والمشارب والملابس، فأي دليل في هذا لمن هداه الله على
(2)
ما يحبه الله ويرضاه ويأمر به ويأذن فيه؟ وهل هذا إلا شبهة الإباحية الذين خَلَعُوا رِبْقةَ الشريعة من أعناقهم، القائلين: ما الذي حالَ بين الخليقة وبين رسوم الطبيعة؟ ومن المعلوم أن جميع هذه الأجناس فيها الحلال والحرام والمعروف والمنكر.
ثم المناسب لطريقة الزهد والفقر والتصوف الاستدلالُ بذلك
(3)
على كراهتها والبعد منها، وأن يستدل بكون الشيء لذيذًا مشتهًى على كونه مباينًا لطريق الإرادة والتصوف التي مبناها على الزهد في الحظوظ، وهذه الطريقة وإن لم تكن صحيحة في الشرع فهي أقرب إلى طريقتكم وأصولكم من الاستدلال بها على الإباحة والقربة، وكلا الاستدلالين باطل، فكون الشيء لذيذًا أو مشتهًى أو مما تستروح إليه النفوس لا يدل على كونه حلالًا ولا حرامًا، ولهذا ذمَّ الله من اتبع الشهوات وذمَّ من تقرب إليه بترك ما أباحه منها، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا
(1)
في الأصل: "استلذوها".
(2)
في الأصل: "إلى".
(3)
"بذلك" ليست في ع.