الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحدهما: أن يقال: هل هو غذاء للنفس أو غذاء للروح؟ وهذا كلامٌ معك على
(1)
أصلك، فإن ادَّعيتَ أنَّه غذاء للروح كانت دعوى مجردة، لا يمكنك تصحيحُها البتةَ، فإنَّ ما يجده صاحبه فيه
(2)
من التغذية أمر معلوم، ولكن من أين له أنَّه
(3)
غذاء لقلبه وروحه وليس غذاءً لنفسه؟
ثمَّ نتبرع لك بالدليل على أنَّه من أعظم أغذية النفس، فإنَّه محض حقها وحظها وشهوتها، وليس من الحق الواجب عليها المراد منها، وما هذا شأنه ف
هو مجرد حظ النفس وغذاؤها
. وهذا بيِّن لمن له فُرقانٌ بين قُوتِ قلبه وروحه وقُوتِ نفسه. وقبيح بالسالك الصادق أن يُؤثِر حظَّ نفسه وإرادتها على حق ربه ومراده منه، حتى يفنى بحظه عن الحق الذي عليه، بل يبلغُ به تلبيسُ النفس والشيطان إلى أن يُصيِّر محضَ حظِّه [130 ب] وقُوتَ نفسه هو الطريق إلى الله، ويجعله طريقَ
(4)
الخواص، وطريقةَ الأمر واتباع الرسول عنده طريقةَ العوام.
ولهذا جعل الجنيدُ الزاعمين أنهم يَصِلُون إلى الله بهذه الطريق واصلين إلى سَقَر
(5)
. وصدق فإنَّ الله لا يُوصَل
(6)
إليه إلا من الطريق
(1)
في الأصل: "إلى على".
(2)
في الأصل: "به".
(3)
"أنه" ليست في ع.
(4)
في الأصل: "الطريق".
(5)
سبق نحوه عن أبي علي الروذباري.
(6)
في الأصل: "يصل".
التي
(1)
فَتحَها ونَهَجَها على ألسُن رسله
(2)
، ونصبَها لعباده، وسدَّ جميع الطرق إليه دونها، فلم يفتح لأَحد قط إلا من تلك الطريق، فالسالك من غيرها لا يصل إليه أبدًا، وكل من لم يصل إليه فهو واصل إلى سقر. قال أبو القاسم الجنيد:"الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم "
(3)
. وقال: "يقول الله عزوجل: "وعزَّتي وجلالي، لو أتَوني من كل طريق واستفتحوا من كل باب لما
(4)
فتحتُ لهم حتى يدخلوا خلفك"
(5)
.
المقام الثاني: أن أغذية النفوس تنقسم إلى طيب وخبيث، وحلال وحرام، كما تنقسم أغذية الأبدان، وليس كل ما يُغذى
(6)
به الإنسان في بدنه أو نفسه يكون طيبًا. ولا ريبَ أن سماع الألحان والمعازف المحرمة يتغذى به أهله تغذيةً قوية، وكلما كان السامع أجهل كان غذاؤه به أقوى، كما يُغذى
(7)
به الأطفال وضعفاء العقول، ولهذا يشتدُّ تأثيره في النساء وأهل البوادي والأعراب وكل من ضعف عقله ومعرفته.
(1)
ع: "الذي".
(2)
في الأصل: "رسوله".
(3)
انظر "الرسالة القشيرية"(ص 79) و"حلية الأولياء"(10/ 257).
(4)
في الأصل: "ما".
(5)
ذكره المؤلف في "طريق الهجرتين"(ص 9) و"جلاء الأفهام"(ص 359).
(6)
ع: "تغذى".
(7)
ع: "تغذى".
فأما السماع الشرعي فهو أصلح الأغذية وأطيبها وأنفعها للعارفين، وهو غذاء قلوبهم الذي لا يُشبَع منه، كما قال إمام أهل هذا السماع [131 أ] عثمان بن عفان رضي الله عنه:"لو طَهُرتْ قلوبنا لما شبِعتْ من كلام الله"
(1)
. وفي صفة القرآن: "لا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء"
(2)
. فهو قوتُ القلوب وغذاؤها، ودواؤها من أسقامه وشفاؤها
(3)
، وأما السماع الشعري الشيطاني فهو سُحْتٌ، وقلب تَغذَّى بالسُّحت بعيدٌ من الله، غير الله أولى به.
فصل
*قال صاحب الغناء
(4)
: شأن القوم الذين أنكرتم عليهم السماع شأن آخر، وإشاراتهم التي يتلقَّونها من السماع غير إشارات أهل اللهو واللعب
(5)
(1)
سبق تخريجه.
(2)
كما في الحديث الذي أخرجه الدارمي (3331) والترمذي (2906) والبزار في "مسنده"(836) من طريق أبي المختار الطائي عن ابن أخي الحارث عن الحارث الأعور عن علي مرفوعًا. وأبو المختار وابن أخي الحارث مجهولان. وقال الترمذي: هذا حديث غريب
…
وإسناده مجهول، وفي حديث الحارث مقال. وأخرجه أحمد (1/ 91) والبزار (834) وأبو يعلى (367) من طريق ابن إسحاق قال: وذكر محمد بن كعب القرظي عن الحارث الأعور به. والحارث ضعيف كما ذكرنا، ثم هو منقطع بين ابن إسحاق ومحمد بن كعب.
(3)
في الأصل: "غذاؤه ودواؤه
…
وشفاؤه".
(4)
انظر "الرسالة القشيرية"(ص 510). والنصوص المنقولة عن الصوفية كلها فيها.
(5)
"واللعب" ليست في الأصل.
والبطالة، وإن كان ظاهره محذورًا
(1)
أو مكروهًا. ولهذا سئل الشبلي عن السماع فقال: ظاهره فتنة وباطنه عبرة، فمن عرف الإشاراة
(2)
حلَّ له السماع بالعبرة، وإلا فقد استدعى الفتنةَ وتعرض للبلية.
ولهذا قال بعض العارفين: لا يصلح السماع إلا لمن كانت له نفس ميتة وقلب حيٌّ، فنفسُه ذُبِحَتْ بسيوف المجاهدة، وقلبُه حيَّ بنور المشاهدة.
وسئل أبو يعقوب النهرجوري عن السماع، فقال: حال تُبدِي الرجوع إلى الأسرار من حيث الإحراق.
وقالوا: السماع على قسمين:
سماع بشرط العلم والصحو، فمن شرطِ صاحبه معرفة الأسماء والصفات، وإلا وقع في الكفر المحض.
وسماع بشرط الحال، فمن شرطِ صاحبه الفناء عن أحوال البشرية والتنقي من آثار الحظوظ بظهور أحكام الحقيقة.
وسئل رُوَيم عن وجود
(3)
الصوفية عند السماع، فقال:[131 ب] يشهدون المعاني التي تَعزُب عن غيرهم، فتشير إليهم إليَّ إليَّ، فيتنعمون
(1)
ع: "محظورًا".
(2)
في الأصل: "الإشارات".
(3)
جمع وَجْد. أو مصدر بمعنى التواجد. وفي ع: "وَجْد".
بذلك من الفرح، ثم يقع الحجاب فيعود ذلك الفرح بكاء، فمنهم من يَخرِق
(1)
ثيابه، ومنهم من يصيح، ومنهم من يبكي، كل إنسان على قدره.
وقال الحصري: أيشٍ أعملُ بسماع ينقطع إذا انقطع من يسمع منه؟ ينبغي أن يكون سماعك سماعًا متصلًا غير منقطع، وينبغي أن يكون ظَمَأ دائم وشربٌ دائم
(2)
، فكلما ازداد شربه ازداد ظمؤُه
(3)
.
وقالوا: السماع نداء
(4)
، والوجدُ قصْد.
وقال أبو عثمان المغربي: قلوب أهل الحق حاضرة وأسماعهم مفتوحة.
وقال أبو سهل الصعلوكي: المستمع بين استتارٍ وتجلٍّ، فالاستتار يوجب التلهُّب، والتجلِّي يوجب الترويح، والاستتار يتولد منه حركات المريدين، وهو محل العجز والضعف، والتجلي يتولد منه سكونُ الواصلين، وهو محل الاستقامة والتمكين، وذلك صفة الحضرة، ليس فيها إلا الذبول تحت موارد الهيبة. قال تعالى:{فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف: 29].
(1)
ع: "يحرق".
(2)
"وشرب دائم" ليست في الأصل.
(3)
في الأصل: "ازدادوه". خطأ.
(4)
ع: "بدأ" تحريف.
وقال أبو عثمان
(1)
الحِيري: السماع على ثلاثة أوجه:
فوجه منها للمريدين والمبتدئين، يستدعون بذلك الأحوالَ
(2)
الشريفة، ويُخشَى
(3)
عليهم في ذلك الفتنةُ والمراآةُ.
والثاني: للصادقين، فيطلبون الزيادة في أحوالهم، ويستمعون من ذلك ما يوافق أوقاتهم.
والثالث: لأهل الاستقامة [132 أ] من العارفين، فهؤلاء لا يختارون على الله فيما يرد على قلوبهم من الحركة والسكون.
وقد حكي عن أحمد بن أبي الحواري أنه قال: سألت أبا سليمان عن السماع، فقال: من اثنينِ أحبُّ إليَّ من واحد. وأبو سليمان ممن لا يُدفَع
(4)
محلُّه عن الإمامة والمعرفة.
وسئل أبو الحسين النوري عن الصوفي، فقال: من سمع السماع وآثر الأسباب.
وقال أبو عثمان المغربي: من ادَّعى السماع ولم يسمع صوت الطيور
(5)
وصرير الباب وصفير الرياح، فهو مفترٍ مدَّعٍ.
(1)
ع: "أبو عمر" تحريف.
(2)
في الأصل: "أحوال".
(3)
ع: "ونخشى".
(4)
ع: "ندفع".
(5)
ع: "الطنبور" تحريف.
وكان بعض المشايخ ممن صحب الجنيد يحضر موضعَ السماع، فإن استطابه فرشَ إزاره وجلس، وقال: الصوفي مع قلبه، وإن لم يستطبه قال: السماع لأرباب ا لقلوب، وأخذ نعله ومرَّ.
* قال صاحب القرآن: الكلام على ما ذكرتَه من هذه الكلمات من وجهين: مجمل ومفصل.
أما المجمل: فإنه ليس فيها من أدلة الشرع التي تَثبُت بها الأحكام الخمسة شيء
(1)
، فليس فيها ما يقتضي إباحةً ولا استحبابًا ولا مدحًا ولا ذمًّا، وغايتها حكايات عن أقوام، أخبر كل منهم عن حاله ووجده في السماع، فأيُّ برهانٍ في هذا؟ وأي دليل لمن نصح نفسه وألهم رشده ووقاه الله شرَّ نفسه، حتى يجعل هذه الحكايات قدوة، ويدعو الناس بها إلى قرآن الشيطان وسماعه والتقرب به إلى الله؟
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ
…
وإن كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظم
(2)
وأما الوجه المفصل [132 ب] فنذكر ما في كل جملة من هذا الكلام من الحق والباطل، وما يحتمل الأمرين، ونعطي كل ذي حق حقَّه، قضاءً لحق
(3)
النصيحة، واتباعًا لمرضاة الرب تعالى، وبراءةً من العصبية، وإيثارًا للعلم والعدل، ولا قوةَ إلا بالله.
(1)
"شيء" ليست في الأصل.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
في الأصل: "بحق".
أما قولك: "إن القوم لهم في السماع شأن آخر غير شأن أهل اللهو والبطالة"، فصدقتَ، ولكن لهم فيه خطر آخر غير خطر أهل اللهو والبطالة، فهم فيه على خطر عظيم، زلَّت فيه أقدام، وتعثَّرتْ فيه بأذيالها عقول وأحلام، ونصبَ لهم به إبليسُ شبكتَه
(1)
، وأحكمَها بأنواع الحبائل والمصايد، فلو رأيت القوم فيها يَخبِطون لم يتخلص منهم إلا الواحد بعد الواحد، فسَلْ ناجيَهم عما لاقى مع القوم في شبكةِ السماع يُخْبِرك خبرًا مسندًا لا إرسال فيه ولا انقطاع.
أما ما حكيتَ عن الشبلي فهو نقلٌ مجمل، غير معلوم الصحة، عن غير ثابت العصمة، فليبيِّن المتمسك
(2)
به نصيبه من العلم والهدى. والشبلي ومن هو أكبر من الشبلي من الشيوخ، لابدَّ من عرضِ أحواله وأقواله على ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق، فيُقبل منها ما وافق الحق، ويُردّ منها ما خالفه، وما احتمل الأمرين جُعِل من المحتملات التي لا تُقبَل مطلقًا ولا تُردُّ مطلقًا، وبهذا الميزان يوزن كلام مَن دونَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله كائنًا من كان.
والشبلي كان يَعرِض له أحيانًا [133 أ] ما يُزِيل عقلَه، ويختلط حتى يُذهبَ به إلى المارستان. ومن كان بهذه الحال لا تكون أقواله
(3)
وأفعاله
(1)
ع: "شبكة".
(2)
ع: "المتنسك" تحريف.
(3)
في الأصل: "أحواله".
حجة في طريق الحق والسلوك إلى الله، وله مع ذلك أقوال وأفعال حسنة جدًّا ومتوسطةٌ وبينَ بينَ، فلا تُهدَرُ بما
(1)
غلط فيه، ولا يُلحَق ما غلط فيه بها، فيجعل محجة
(2)
وطريقًا، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا.
وشيخه أبو القاسم الجنيد بن محمد شيخ القوم غير مدافع، أعرف بهذا الشأن منه
(3)
، وأصحُّ طريقًا وأقرب إلى الاتباع، قد أخبر أن السماع فتنة لمن طلبه. فإذا كان لابد من التقليد فتقليد
(4)
الجنيد أولى من تقليد الشبلي، وقد أطلق القول بأنه فتنة لطالبه، وليس مراده أنه فتنة في الظاهر فقط، فإنه إنما يتكلم على صلاح القلوب وفسادها، وإنما أراد أنه يَفتِنُ القلبَ لمن طلبه، وهذا نهي وذم لا إطلاق وإباحة.
وقوله: "من عرفَ الإشارة حلَّ له السماع بالعبرة"، يُضاهِي قولَ من قال: هو حرام على العامة مباح للخاصة مستحب لخاصة الخاصة، مما لا يأتي به شريعةٌ، و تأبى حكمة الله أن تشرعه، فيكون الحل والحرمة تبعًا للعموم والخصوص.
وكان شيخنا قدَّس الله روحه يقول: ما أعلم أحدًا من المشايخ المقبولين يُؤثَر عنه في السماع نوعُ رخصةٍ وحَمْدٍ إلا ويُؤثرَ عنه الذم
(1)
ع: "لما".
(2)
في الأصل: "محبة" تحريف.
(3)
"منه" ليست في ع.
(4)
في الأصل: "فليقلد".
والمنع
(1)
. وهذا من رحمة الله بعباده الصالحين، حيث يردُّهم في آخر أمرهم إلى الحق [133 ب] الذي بعث الله به رسوله، ولا يجعلهم مُصرِّين على ما يخالف الحق، وقد قال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].
فإن قيل: ما
(2)
معنى قوله: "مَن عرف الإشارة حلَّ له السماع بالعبرة".
قيل: الإشارة هي الاعتبار والقياس، بأن يجعل المعنى الذي في القول مثلًا مضروبًا لمعنى حقٍّ يناسب حال المستمع، ولهذا قال:"باطنه عبرة" أي يعتبر به، ولكن من أين لهذا القائل أن كل ما أمكن أن يعتبر به الإنسان يكون حلالًا؟ فإن الاعتبار قد يكون بما يسمع ويرى من المحرمات، فهل يحلُّ لأحدٍ أن يعتبر بقصد
(3)
النظر إلى الصور المبتدعة
(4)
بالجمال التي حرم الله النظر إليها؟ ويقول: نظري إليها عبرةٌ أعبرُ
(5)
منها إلى ما أعدّ الله لعباده في جنته! كما قال القائل:
(1)
انظر الاستقامة (1/ 405).
(2)
"ما" ليست في ع.
(3)
في الأصل: "أن يقصد".
(4)
ع: "المبدعة".
(5)
ع: "أعتبر".
وإذا رآك العابدونَ تيقَّنُوا
…
حُورَ الجِنانِ لدى النعيمِ الخالدِ
(1)
ويسمع الأصوات اللذيذة المحرمة، ويقول: هي عبرة! إلى أمثال
(2)
ذلك.
فصل
وأمّا قول القائل: "لا يصلح السماع إلا لمن كانت له نفس ميتة وقلب حي"، فيقال له: أيَّ السماعين تعني؟ سماع الآيات أو سماع الغناء والأبيات؟ فإن أردتَ السماع الأول فهو سماعُ
(3)
أحياءِ القلوب، وأمّا أموات القلوب [134 أ] فلا نصيبَ لهم من هذا السماع، قال:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [النمل: 80]، وقال تعالى:{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36]. فجعل الناس في هذا السماع قسمين: أهل استجابة وهم الأحياء، وأموات وهم المعرضون عنه سماعًا وإجابة.
وإن أردتَ السماع الثاني فلا ريب أنه يُحيِي النفس، ويُميت القلب، ولكن أصحابه يَغلَطون، فيظنون أن الذي حيَّ منهم قلوبهم وإنما هو نفوسهم، وآية ذلك أنه لو أُحيي منهم قلوبهم لملأها من حب كلامه وسماعه والإصغاء إليه والاشتغال به وتدبر معانيه، فإن زمن الحياة
(1)
البيت لأبي إسحاق الصابي في "يتيمة الدهر"(2/ 259). وسبق ذكره.
(2)
ع: "مثال".
(3)
في الأصل: "السماع".
يَضِيقُ عن استغراقه بل عن استغراق بعضه، فلا يبقى في القلب الحيِّ متَّسعٌ لغيره أبدًا، وهذا أمر معلوم بالذوق كما قال:
لو كان في قلبي كقَدْر قُلامةٍ
…
فضلًا لغيرك ما أتَتْك رسائلِي
(1)
فصل
وأما قول القائل: "إن السماع حالٌ يُبدِي الرجوع إلى الأسرار من حيث الإحراق"، فهذا وصف منه لما
(2)
يتعقَّبه
(3)
السماع من الأحوال الباطنة، وقوة الحرارة والإحراق، وهذا أمر يُحِسُّه المرء ويجده في السماع، ولكن ليس في ذلك ما يقتضي مدحًا ولا ذمًّا ولا إباحة ولا تحريمًا، إذ مثل هذا قدر مشترك بين السماع الكفري والفسقي والإيماني، فعُبَّاد الصلبان والأوثان والنيران والشيطان يجدون في سماعهم مثل هذا، وعُشَّاق المردان والنسوان والأهل والأوطان يجدون مثل هذا وأقوى منه، نعم السماع الذي يختص بالأحوال المختصة بأهل الله وخاصته هو سماع القرآن، فإنه إذا أعقبَ حالًا كانت
(4)
مختصةً بالمؤمنين العارفين [134 ب] بالله لا يَشْرَكهم فيها من سواهم، فلا نجعل
(5)
المشترك خاصًّا ولا الخاص مشتركًا.
(1)
البيت لجميل بثينة في الأغاني (8/ 100، 115) وديوانه (ص 180).
(2)
"لما" ليست في ع.
(3)
ع: "يعقبه".
(4)
"كانت" ليست في ع.
(5)
ع: "يجعل".
فصل
وأمَّا قول القائل: "السماع على قسمين: سماع بشرط العلم والصحو، فشرط صاحبه معرفة الأسماء والصفات، وإلا وقع في الكفر" إلى آخره، فمراده بالأسماء والصفات أسماء الرب تعالى وصفاته، فإذا كان المسموع هو الأبيات الشعرية التي يذكر فيها أسماء المخلوقين وصفاتهم ومحاسنهم، وأنتم تأخذون مقصودكم منها بطريق الإشارة والاعتبار، فهذا مع ما فيه من الخطر العظيم المُوقِف لصاحبه على شفا جُرُفٍ هارٍ، يحتاج أن يفرِّق بين ما
(1)
يوصف به الرب تعالى وبين ما لا يوصف به، لئلا يُنزِّل ما يسمعه من صفات المخلوقين ونعوتهم على صفاته تعالى، فيقع في الفتنة والكفر.
هذا إذا كان صاحبه صاحيًا يعلم ما يقول المغنّي، فإذا كان غيرَ راسخ في معرفة ما يوصف الله به وما لا يوصف به، وأسكره السماع، ونزَّل ما يسمعه من المغنّي على أسماء ربّه
(2)
وصفاتِه، فقد تعرّض من ربه تبارك وتعالى لغاية المقْتِ والطرد والبعد عنه، ولا يَسلَم من فتنة وكفر، وأحسن أحواله أن يكون صادقًا جاهلًا، فينجو بصدقه ويُرحَم لجهله
(3)
، وأمّا أن يكون من خواص أولياء الله وسادات العارفين به
(1)
ع: "بينهما" خطأ.
(2)
ع: "أسمائه".
(3)
ع: "بجهله".
ممن يُقتدى به في هذا الشأن، فمعاذ الله!
وكيف يليق
(1)
بمَن يَدَّعي محبةَ الله والسلوكَ إليه أن يعتبر أسماءه وصفاته من أبيات الغناء، التي أحسنُ أحوالها أن تكونَ قيلتْ في امرأةٍ أو جاريةٍ حلال؟ وغالب أحوالها قِيلتْ في الحرام [135 أ] وشُبِّبَ بها فيه، ويَدَعُ تلقيَ ذلك من كلامه الذي تعرَّفَ به إلى عباده، وتجلَّى فيه بأسمائه وصفاته وأفعاله لقلوبهم، لولا مرضٌ مُزمِن في القلوب وشهوة يريد صاحبها تنفيذها تجاه
(2)
الأسماء والصفات، هيهات هيهات! بل هي فتنة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ونحن لا ننكر وجود ذلك، فالمحبُّ يعتبر بكل ما يراه ويسمعه، ويكاد يخاطبه عن حبيبه
(3)
ويخبره عنه، وإنما نُنكر رِضَى الحبيب بذلك ومحبته له وتقريبه لصاحبه، فهذا لون ووجود الاعتبار لون.
فصل
وأمّا قوله: "وسماع بشرط الحال، فمن شرط صاحبه الفناء عن أحوال
(4)
البشرية، والتنقي من آثار الحظوظ بظهور أحكام الحقيقة"، فعند القوم أن أحكام العلم شيء، وأحكام الحال شيء آخر، أي وواجبُ
(1)
ع: "يحسن".
(2)
ع: "بجاه" تصحيف.
(3)
"عن حبيبه" ليست في ع.
(4)
ع: "أحواله".
هذا غير واجبه، ولهذا جعلوا سماع صاحب العلم غير سماع صاحب الحال، وشرطوا في أحدهما غير ما شرطوه في الآخر، فشرطوا في سماع صاحب العلم معرفتَه بالأسماء والصفات، وشرطوا في سماع صاحب الحال الفناءَ عن أحوال البشرية، والتنقيَ من آثار الحظوظ بظهور أحكام الحقيقة، ومرادهم بهذا فناؤه عن نفسه، وشعوره بأوصافها وأحكامها، ثم فناؤه عن حظوظه وإرادتِه التي لها، وذلك إنما يكون عند توليةِ سلطانِ الحقيقة على سِرِّه، وظهور أحكامها التي تنسخ أحكامَ البشرية. والحقيقة التي يشيرون
(1)
إليها هي حقيقة التوحيد التي يفنَى صاحبها عن شهود السِّوى وعن إرادة السوى، فلا يبقى لقلبه شهودُ غير الله، [135 ب] ولا مرادٌ سواه. فهذا شرح كلامهم.
فيقال أولًا: لا يمكن الاستغناء عن أحوال البشرية ما دامت البشرية موجودةً، فإن الفقر إلى لوازم البشرية أمر ذاتي، وما بالذات لا يَستغني عنه البتّةَ، نعم قد يستغني بشهود الفقر المطلق إلى الغني بذاته الذي كل شيء مفتقر إليه، ويفنى بشهود فقره إليه عن فقره إلى ما سواه، فيكون في غناه فقيرًا إليه
(2)
، وفي فقره غنيًّا به.
ويقال ثانيًا: إذا كان في هذه
(3)
الحال التي قد فني بها عن أحوال البشرية، فكيف يصح له العبور في هذا السماع الذي كله أحوال البشرية
(1)
ع: "يسيرون".
(2)
"إليه" ليست في ع.
(3)
ع: "هذا في".
إلى شهود الحقيقة وأحكامها؟ وهي إنما نالها من طريق هذا السماع، ودخل إليها من بابه، فلا يحصل له ذلك حتى يفنى عن الكائنات، ولا يبقى له شهودٌ
(1)
بالأحوال البشرية، ويفنَى عن الحظوظ البشرية كلها.
ويقال ثالثًا: لا يصل إلى هذا الحدّ إلا إذا ظهر سلطان التوحيد على قلبه، وهو المشار إليه بقوله:"بظهور أحكام الحقيقة"، ومعلوم قطعًا أن مع ظهور سلطان التوحيد لا يبقى له سعةٌ إلى الغناء وسماع الأبيات، فإن سلطان التوحيد قد قهر حواسَّه، وملك عليه مشاعره، وصار التصرف له وحده، فهو في هذه الحال في شُغلٍ عن كثير من أوراده بواردِه، فضلًا عن فراغه لصفاتِ ليلى وسُعدى ومَيّ، والعبور من هذا السماع إلى الأسماء والصفات. فما هذا التناقض واللعب؟ وهل يُبقيْ سلطانُ التوحيد وظهور أحكام الحقيقة في القلب والسمع موضعًا لسماع غير كلام المحبوب وذكر أسمائه وصفاته؟
[136 أ] ويقال رابعًا: لو كان هذا الذوق والاعتبار صحيحًا، لكان حصوله وتناوله
(2)
من كلام المحبوب الذي لهذا القصد تكلّم الله به، وأنزله إلى عباده، وتعرَّف به إليهم، ودلَّهم به عليه، وهداهم به إليه. وأمَّا سماع الغناء فإنما وُضِعَ لأمر آخر
(3)
، فلا تُلبِّسوا على أهله وعلى أهل
(1)
ع: "شعور".
(2)
ع: "وتناله".
(3)
بعدها في ع: "وشأن آخر".
القرآن، فإنه إنما وُضِع للفتنة لا للعبودية، وللنفاق لا للإيمان، وللفسوق والزنا لا للرشد والصلاح، وما جاء منه غير ذلك فبالعرض لا بالقصد.
والفتنة فيه من وجهين: من جهة البدعة في الدين، ومن جهة الفجور.
أمَّا البدعة فلِما
(1)
يحصل به من الاعتقادات الفاسدة التي لا تَصلُح لله
(2)
، هذا مع ما يصدُّ عنه من الاعتقادات الصالحة والعبادات النافعة، إمّا بطريق المضادَّة، وإمّا بطريق الاشتغال، فإن النفس تشتغل وتستغني بهذا عن هذا.
وأمّا الفجور في الدنيا فلِما يحصل به من دواعي الزنا والفواحش والإثم والبغي
(3)
، فأصول المحرمات الأربعة
(4)
قد تحصل فيه، وهي المذكورة في قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
فصل
وأمّا قول رُوَيم: وقد سئل عن وجود الصوفية عند السماع فقال:
(1)
في الأصل: "فما".
(2)
في الأصل: "إلَّا الله" تحرف المعنى.
(3)
"والبغي" ليست في الأصل.
(4)
ع: "أربعة".
"يشهدون المعاني التي تَعزُب عن غيرهم، فتشير إليهم إليَّ إليَّ"، فهذا وصف لما يعتريهم من الحال، وليس في ذلك [136 ب] ما يقتضي مدحًا ولا ذمًّا. وغايته
(1)
أنهم يشهدون بقلوبهم معاني يفرحون بها، والفرح يتبع المحبة، فمَن أحبَّ شيئًا فرحَ بوجوده وتألم بفقده، والمحبوب المفروح به قد يكون نافعًا وقد يكون ضارًّا، فإن
(2)
كان نافعًا كانت محبته حقًّا، وإن كان ضارًّا كانت محبته باطلًا. قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]. وقال تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93].
وقد يكون العبد محبًّا لله صادقًا في ذلك، لكن يكون ما يشهده من المعاني المفرحة خيالاتٍ لا حقيقةَ لها، فيفرح بها، ويكون فرحُه بغير الحق، وذلك مذموم، فيكون له نصيب من قوله:{ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75]. وما أوفرَ نصيبَ السماعاتية من هذا الفرح والمرح! وما أشدَّ الخوفَ عليهم مما ذكر بعده! وإلى الله الرغبة في التوفيق.
(1)
في الأصل: "وغايتهم".
(2)
في الأصل: "فإذا".
وقد عُلِمَ أن سماعَ المكاءِ والتصدية مما ذكر الله في القرآن عن
(1)
المشركين، ولا يخلو من نوع شرك جلي أو خفي، ولهذا تَضِلُّ عنهم تلك الأمور الباطلة أحوجَ ما كانوا إليها، حتى يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، حتى يرونها:{كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39].
ومع هذا فقد يكون في تلك المعاني التي تُشهَد وتحتجب من حقائق الإيمان ما يفرح به المؤمنون [137 أ] أيضًا، ولولا ما فيه من ذلك
(2)
لما التبس أمره على فريقٍ من المؤمنين، ولكن لُبِّسَ فيه الحق بالباطل، وبالحق الذي فيه نفَقَ على من نفَقَ عليه من المريدين، لكن لضعف إيمانهم نفَقَ عليهم، ولو تحققوا بكمال الإيمان لتبين لهم ما فيه من موادِّ الشرك والنفاق والفسوق ولَبْسِ الحق بالباطل، وقد يبيّن الله سبحانه ذلك لمن أراد أن يُكمِل إيمانه منهم، فتابوا منه كما يتاب من الفواحش والمعاصي الظاهرة، كما تاب مَن تاب من أكابر العلماء مما دخلوا فيه من البدع الكلامية، وأبى غيرهم إلا إصرارًا وإقامة على ما هو ميسَّرٌ لهم
(3)
، تظهر بهم وفيهم حكمةُ الله وحكمه، وهو أحكم الحاكمين.
(1)
في الأصل: "من".
(2)
"من ذلك" ليست في الأصل.
(3)
ع: "له".
فصل
وأما قول الحصري: "أيشٍ أعملُ بسماعٍ ينقطع إذا انقطع من يسمع منه؟ " إلى آخره، فهذا الكلام من أبين العيب والذم لأهل هذا السماع، فإنه منقطع، ومن يسمع منه منقطع
(1)
، والمؤمن عمله دِيْمَةٌ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أحبُّ العمل إلى الله ما داومَ عليه صاحبُه"
(2)
. وهذا إنما هو في السماع القرآني لا في السماع الشعري، فإنَّه دائم بدوام المتكلم به، تزول الدنيا بأهلها وهو دائم لا يزول، وإذا سمعه المؤمنون في الجنة من الرحمن عز وجل فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك، وتُنسِيهم لذةُ سماعه ما هم فيه من النعيم حتى يستفرغ جميع ما هم فيه من النعيم، كما يُنسِيهم [137 ب] ذلك لذةُ نظرِهم إلى وجهه، وما أقلَّ نصيبَ أصحابِ الصور والأصوات من هذا النظر والسماع!
(3)
نَزِّهْ لِحاظَكَ عن سِواه إن تُرِدْ
…
نظرًا إليهِ في محلِّ ثوابِهِ
وكذاك سَمْعَك صُنْه عن سَمْعِ الغِنا
…
لِيَلَذَّ
(4)
يومَ لقائِهِ بخِطابِهِ
أتَرُومُ رؤيتَه بمُقْلةِ خائنٍ
…
هيهاتَ إنَّ مُطيعَه أولى بِهِ
ويَرُوم سَمْعٌ قد تَمَلَّى بالغِنا
…
أن يَستلِذَّ خِطابَه بكتابه
(1)
"منقطع" ليست في ع.
(2)
أخرجه البخاري (5861) ومسلم (782) عن عائشة.
(3)
بعدها في ع: "للمصنف رحمة الله عليه".
(4)
ع: "لتلذ".
هيهاتَ ما أ دنَى المحالَ من الأُلَى
…
طلبوا الوصولَ وما أَتَوا من بابِهِ
(1)
وقوله: "ينبغي أن يكون لصاحب السماع ظمأٌ دائم وشرب دائم، كلما ازداد شربه ازداد ظمؤه" حق، ولكن ظمأٌ إلى ماذا؟ وشربٌ من ماذا؟ فمحبُّ الرحمن وكلامه، الذي قد فَنيَ بكلام محبوبه عن كلام غيره، وبسماعه عن سماع غيره، وبمراده عن مراد نفسه، له ظمأٌ دائم إلى كلام محبوبه، لا يزال عطشان، كلما ازداد شربًا ازداد ظمأً، وكلما ازداد له سماعًا وتلاوةً ازداد فيه ذوقًا وحلاوة، وكلما قطع عَلَمًا من أعلامه بَدَا له عَلَمٌ آخر إلى غير
(2)
نهاية.
فيَسمعُه والقلبُ قد زادَ شوقُه
…
يقول أَهَلْ بعد السماع تَدَاني
…
فيشرب منه القلبُ معناه ظَامِئًا
…
فيا عُظْمَ ما يَلْقَى
(3)
من الهَيَمان
فيذكر شيئًا قاله بعضُ من خلا
…
تَمالَا عليه القلبُ والأذُنانِ
كأن رقيبًا منك يَرعَى خواطرِي
…
وآخرَ يَرعَى مقلتي ولساني
فما نظرتْ عينايَ بعدَكَ منظرًا
…
من الحسن إلا قلتُ قد رَمَقَانِي
ولا سمعتْ أُذْنايَ
(4)
بعدك مسمعًا
…
من القولِ إلا أمسكا بعِنانِي
(5)
(1)
الأبيات للمؤلف كما في نسخة ع.
(2)
ع: "غاية".
(3)
ع: "يلقاه".
(4)
ع: "أذني".
(5)
يبدو أن الأبيات للمؤلف. ضمَّنها البيتين الرابع والخامس لغيره، وهما للبحتري في "مصارع العشاق"(2/ 195)، وفي "الزهرة"(1/ 213) لبعض أهل العصر. ونظر في البيتين الأولين إلى بيتي ابن الرومي في "روضة المحبين"(ص 52، 131). والأبيات أوردها محقق ديوان البحتري في ذيل الديوان (ص 2682).
فصل
وأما قوله: "السماع نداء والوجد قصد" فهذا الكلام
(1)
مطلق مجمل، فإنَّ المستمع يناديه ما يسمعه بحقٍّ تارةً وبباطلٍ أخرى، والواجد قاصدٌ مجيبٌ للمنادي الذي قد يدعو إلى حق، وقد يدعو إلى باطل، فإنَّ الواجد يجد في نفسه إرادةً وقصدًا للإجابة لمن ناداه، إلى
(2)
ما تدعوه نفسه إليه، فأهل الوجد والقصد الصحيح قالوا:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 193 - 194]. أجابوا مناديَ الإيمان إذ نادى بهم: حيَّ على الفلاح، وواصلوا السيرَ إليه مع الدليل بالغُدوِّ والرَّواح، وفَنُوا بمراده عن مرادهم، فبذلوا أنفسَهم في مرضاته بَذْلَ المحبِّ بالرضا والسماح، وسيَحْمدون عند اللقاء مَسْرَاهم، فإنما يَحمَدُ القومُ السُّرَى عند الصباح
(3)
.
(1)
ع: "كلام".
(2)
في الأصل: "إلا".
(3)
سبقت الإشارة إلى أنه مثل في أول الكتاب.
وأهل الغناء ناداهم
(1)
منادي الشيطان: حيَّ على رُقيةِ الزنا ورائدِ الفسوق والعصيان، فأجابوه بلبَّيكَ داعيَ الشهوات وسَمْسَارَ اللذات! ها نحن لدعوتك مستجيبون، وفي مرضاتك مسارعون، نحن قوم ندورُ حولَ قُطبِ رَحَا الطيبات، ونقطع هذه الأوقات بما يناسب الأوقات، إذا أبدَتْ [138 ب] لنا الطيباتُ ناجذَها طِرْنا إليها زَرافاتٍ ووُحدانًا
(2)
،
فإذا لاح لنا وجهُ الشاهد انقادت له قلوبنا محبةً وإذعانًا، فما لنا ولثقيل الدم كثيف الطباع؟ يأمر بالاشتغال بالتلاوة والتسبيح وأوراد العبادة، وينهانا عن السماع، كأنه ما سمع قول شاعرنا:
يا عاذلي أنتَ تنهاني وتأمرُني
…
والوجدُ أصدقُ نَهَّاءٍ وأَمَّارِ
وإن
(3)
أُطِعْكَ وأَعْصِ الوجدَ رُحْتُ عَمًى
…
عن اليقينِ إلى أوهامِ أخبارِ
(4)
ولا قول من تقدمه:
خُذْ ما تراه ودَعْ شيئًا سمعتَ به
…
في طلعةِ البدر ما يُغْنيكَ عن زُحَلِ
(5)
(1)
ع: "نادى".
(2)
نظر المؤلف إلى البيت المشهور لقُريط بن أُنَيف:
قومٌ إذا الشرُّ أبدَى ناجذَيْه لهم
…
طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانَا
انظر حماسة أبي تمام (1/ 58).
(3)
ع: "فإن".
(4)
البيتان للعفيف التلمساني كما في "مجموع الفتاوى"(2/ 259، 473) و"الجواب الصحيح"(4/ 398) و"نقض التأسيس"(2/ 539).
(5)
البيت للمتنبي في ديوانه (3/ 205). وقد سبق الشطر الأول منه.
والله يشهد وكفى بالله شهيدًا أنَّ هذا حال كثير من السماعاتية لا كلهم، ويحتجُّون على حِلّ هذا السماع بحضور من حضره من الصادقين، الذين برَّأَهم الله من هؤلاء الأراذل براءةَ المسيح من عُبَّادِ الصليب، ولكن سماع الغناء اسم جنسٍ هذا فردٌ من أفراده، وهو سماعُ كثيرٍ ممن يتقرب بالسماع ويراه صلاحًا لقلبه، أو أكثرِهم في هذا الزمان.
ولا أعني بذلك أصغرِيهم
…
ولكنِّي أريدُ به الذَّوينا
(1)
فصل
وأما قول أبي عثمان المغربي: "قلوب أهل الحق حاضرة وأسماعهم مفتوحة"، فكلام صحيح، قال الله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، قالوا: معناه: حاضر القلب ليس بغائبه. وتأملْ قوله عز وجل: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} ، فجعله ذِكرى لمن جمع بين القلب [139 أ] الحيّ وأصغى بسمعه وحضر بقلبه، كما يفعله كثير من السماعاتية عند السماع الشيطاني، كيف تَنفتِحُ له صدورهم، وتُصغي إليهم أسماعُهم، وتَشهدُهُ قلوبهم، فإذا جاء السماع الإيماني فهم صُمٌّ بكمٌ عميٌ {فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]. والظاهر
(1)
البيت للكميت بن زيد الأسدي في ديوانه (2/ 109) و"خزانة الأدب"(1/ 139)، وبلا نسبة في "مدارج السالكين"(3/ 131).
ــ والله أعلم ــ أنَّ أبا عثمان إنما أراد أهلَ
(1)
السماع الإيماني القرآني، فإنهم
(2)
أهل الحق، ولم يُرِدْ أهلَ السماع الشعري الشيطاني، فإنَّهم لا قلوبٌ لهم
(3)
حاضرة ولا أسماعٌ مفتوحة.
فصل
وأما قول أبي سهل الصعلوكي
(4)
: "المستمع بين استتارٍ وتجلٍّ" إلى آخر كلامه، فهو كلام دال على أحوال أهل السماع، وهو مطلق يتناول السماع الشرعي والبدعي، لكن هو إلى وصف حال أهل السماع
(5)
المحدث أقربُ، وهو وصف لبعض أحوالهم، فإنَّ أحوالهم أضعافُ ذلك.
وأما استدلاله بالآية فما أبعَدها مما استدل بها
(6)
عليه! فإنَّ الآية إنما سِيْقَتْ للإخبار
(7)
عن الجن الذين صرفهم الله إلى رسوله يستمعون القرآن، ليقيم عليهم حجةً وليبلِّغوا مَنْ وراءهم، فأنصتوا لاستماعه، ليعلموا حقيقته ويفهموه ويحفظوه، ولهذا قال: {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ
(1)
"أهل" ليست في ع.
(2)
ع: "فإنه سماع".
(3)
"لهم" ليست في الأصل.
(4)
في الأصل: "الصعوكي" تحريف.
(5)
"السماع" ليست في ع.
(6)
في الأصل: "به".
(7)
ع: "إخبارًا".
مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29]. فصاروا باستماعه مؤمنين، وبتبليغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منذرين، وهذا شأن كل مَنْ سمع مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلَّغ عنه.
[139 ب] فصل
وأما قول أبي عثمان: "السماع على ثلاثة أوجه" إلى آخره، فهو كلام مطلق، يحتمل سماع الآيات، و يحتمل سماع الأبيات
(1)
، ويحتمل ما هو أعمُّ من ذلك، ولكن هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها لا تحصل إلَّا بالسماع الذي يحبه الله ويرضاه، فإنَّ الأحوال الشريفة إنما تُستثمَر من شجرته ويُؤتَى إليها من بابه، ولا يُخشَى على أهله فيه فتنةٌ ولا مُراآة إلَّا كما يُخشَى عليهم في سائر الطاعات، ودواؤهم باستعمال الصدق والإخلاص. وكذلك السماع للطائفة الثانية الذين يطلبون به الزيادة في أحوالهم، فإنَّ أحوالهم
(2)
إن كانت مستقيمة محبوبة لله مرضية له، لم يحصل فيها الزيادة إلا بالسماع الذي يحبه ويرضاه
(3)
، وإن كانت غير مستقيمة أمكن حصول المزيد فيها بالسماع الشعري.
وأما سماع أهل الاستقامة من العارفين فلا يمكن أن يكون غير السماع الذي تكمل به استقامتهم ومعارفهم، وإلا لم يكونوا مستقيمين ولا عارفين، وهو السماع الذي قال الله تعالى فيه: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى
(1)
"ويحتمل سماع الأبيات" ساقطة من ع.
(2)
"فإن أحوالهم" ساقطة من ع.
(3)
"ويرضاه" ليست في ع.
الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83].
فصل
وأما ما حُكي عن أبي سليمان أنه قال: "السماع من اثنين أحبُّ إليَّ من واحد"، فنقل مجمل منقطع لا نعلم
(1)
صحته، عن غير معصوم، فلا يفيد إلا تسويدَ [140 أ] الورق والوجوه، ثمّ لو صحَّ فليس فيه ذكر المسموع. والظاهر أنَّه أراد سماع القرآن، لا السماع الشيطاني سماع الغناء. فإنَّ أبا سليمان قدس الله روحه لم يكن من رجال سماع الغناء ولا معروفًا بحضوره، كما أنَّ الفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم ومعروفًا الكرخي وأمثالهم لم يكونوا من أهل هذا السماع، بل هم من أعظم الناس براءةً منه.
وهذه
(2)
مسألة اختلف فيها أهل العلم، و هي قراءةُ الجماعة بصوت واحدٍ، فكرهها طائفة، واستحبُّوا
(3)
قراءة الإدارة وهي: أن يَقرأ هذا ثمّ يسكت، فيقرأ الآخر، حتى ينتهوا. واستحبتها طائفة، وقالوا: تعاونُ الأصواتِ يكسو القراءة طيبًا وجلالةً وتأثيرًا في القلوب. وتأملْ هذا في تعاون الحركات بالآلات المطربة كيف يُحدِثُ لها كيفيةً أخرى؟
(1)
ع: "يعلم".
(2)
في الأصل: "وهذا".
(3)
ع: "واستحسنوا".
فإنَّ الهيئة الاجتماعية لها من الحكم ما ليس لأَفرادها. وفصَّلتْ طائفة ثالثة
(1)
، وقالوا: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم يقرأ والباقون يستمعون، فلم يكونوا يقرأون جملةً، ولم يكونوا يُدِيرون القراءة، بل القارئ واحد، والباقون مستمعون
(2)
، ولا ريب أنَّ هذا أكمل الأمور الثلاثة، والله أعلم
(3)
.
فصل
وأما قول أبي الحسين النوري: "الصوفي من سمع السماعَ وآثر الأسباب"، فهذا أيضًا من جنس ما قبله، فلا يُعتمد عليه. ولعل النوري إنما أراد به
(4)
الصوفي [140 ب] المذموم لابسَ ثوبَي الزور
(5)
، فإنه جمع بين إيثار السماع الذي يدل على البطالة وضعف الإرادة والعبادة، وآثر
(6)
الأسباب التي تُضعِف توكُّلَه واعتماده على المسبب، فضعف من قلبه سلطانُ "إياك نعبد" بإيثار السماع والبطالة، وسلطانُ "إياك نستعين" بإيثار الأسباب وضعفِ التوكل. وإلا فالنوري أجلُّ من أن يجعل هذا شرطًا في الصوفي المحقق.
(1)
"ثالثة" ليست في الأصل.
(2)
ع: "يستمعون".
(3)
في ع بعدها: "وأحكم".
(4)
"الصوفي
…
أراد به" ساقطة من ع.
(5)
بعدها في ع: "إلى آخر كلامه".
(6)
كذا في النسختين، والأولى:"وإيثار" عطفًا على ما سبق.
فصل
وأما قول أبي عثمان المغربي: "من ادعى السماعَ ولم يسمع صوتَ الطيور
(1)
وصريرَ الباب وصفيرَ الرياح فهو مفترٍ مُدَّعٍ"، فظاهره مُنكَر مستبشَع، ومراده به أن اعتباره بالسماع لا يختص بنوع واحد، بل أي نوع سمعه من الأصوات المجردة أو الأصوات التي معها الحروف حرَّك ساكنَه وأزعجَ قاطِنَه، فإن في قلبه من الحب ولهيب الشوق ما لا يَقْصُر
(2)
تحريكه على نوع واحد من المسموع، بل كل مسموع يُحرِّكه، بخلاف المفتون، فإنه يقتصر على السماع الذي يحبه أهل الفتنة
(3)
، ولا يُحرِّكه سواه، ولا يتأثر بغيره، فهذا يدل على أنه مُدَّعٍ مفترٍ. فهذا مَحمل
(4)
كلامه، وليس فيه بيانُ مرتبة المسموع، والفرق بين ممدوحه ومذمومه وحلاله وحرامه، وإنما فيه تحريكه باختلاف أنواعه لصاحب [141 أ] المحبة واعتباره به. وقد تقدم إشباع الكلام في ذلك.
فصل
وأما كون ذلك الصوفي "كان يحضر مواضعَ السماع فإن استطابه فرشَ إزارَه وجلس، وقال: الصوفي مع قلبه، وإن لم يَستطِبْه مرَّ وأخذ
(1)
في النسختين: "الطنبور". والمثبت هو الملائم للسياق.
(2)
ع: "يقتصر".
(3)
ع: "الفتن".
(4)
ع: "مجمل".
نعليه
(1)
"، فيا عجبًا! أيشٍ في هذه الحكاية ما يدل على حكم
(2)
السماع؟ وإن كان صاحبها صادقًا صالحًا فليس بمضمون العصمة، وله أسوةُ أمثاله من السماعاتية. على أن هذا الفعل وأمثاله عليه
(3)
بينة في طريق القوم، فإن وقوف المريد مع ما يَستطِيبه قلبُه عينُ حظِّه وإرادته، وهذه الطريق كثير من القوم يسلكها، وهي المشي مع طِيْبِ
(4)
القلب وذوقه ووَجْده من غير اعتبارِ ذلك بالكتاب والسنة، وهذا ضلال بعيد في الطريق، وهو مبدأ ضلالِ من ضلَّ من العبَّاد والنسَّاك والمنتسبين إلى طريق الفقر والتصوف.
وحقيقة هذه الطريق اتباع الهوى بغير هدى من الله، وهذا هو الذي ذمَّه العارفون بالله وبأمره من مشايخ الطريق، ومجردُ طِيْب القلب ليس دليلًا على أنه إنما طاب بما يحبه الله ويرضاه، بل قد يطيب بما لا يحبه الله ويرضاه بل بما يكرهه ويسخطه، لا سيما القلوب التي أُشرِبَتْ حبَّ الأصوات الملحنة، فإنها طُيِّبتْ بما يُنبِتُ النفاقَ في القلب.
وإطلاق [141 ب] القول بأن الصوفي مع قلبه هو من جنس ما ذُمّ به هؤلاء، حتى جُعلوا من أهل البدع، لأنهم أحدثوا في طريق الله أشياءَ
(1)
ع: "نعله".
(2)
ع: "إباحة".
(3)
ع: "علة".
(4)
ع: "طلب".
لم يشرعها الله ولا رسوله.
وقد ذكر الخلال
(1)
بإسناده عن عبد الرحمن بن مهدي وذكر هؤلاء، فقال:"لا تُجالِسوهم ولا أصحابَ الكلام، وعليكم بأصحاب القَماطِر، فإنهم بمنزلة المعادِن والغواصين، هذا يُخرِج دُرَّةً، وهذا يُخرِج قطعة ذهب".
وكان الشافعي سيءَ الظن بالطائفتين شديدَ الطعن فيهم: طائفة المتكلمين وأهل البدع من الصوفية، وكلامه فيهما مشهور، حتى قال: لو تصوَّفَ رجلٌ
(2)
في أول النهار لم يأتِ نصفُ النهار إلا وهو أحمق
(3)
.
وأما أئمة الصوفية أهل العلم والاتباع والتعبد بالكتاب والسنة فهم من ورثة الأنبياء وأئمة المتقين، وكلماتهم دواءٌ للقلوب، وهم حجة على هؤلاء، وكلامهم في الوصية باتباع الكتاب والسنة كثير، مثل قول شيخهم على الإطلاق أبي القاسم الجنيد: من لم يقرأ القرآنَ ويكتب الحديثَ فلا يُقتدَى به في هذا الشأن
(4)
. وقوله: الطرق كلها مسدودةٌ على الخلق إلا من اقتفَى أثرَ الرسول. وقول أحمد بن أبي الحواري: كل من عَمِلَ
(1)
أخرجه من طريقه ابن بطة في "الإبانة"(483 - الإيمان).
(2)
"رجل" ليست في الأصل.
(3)
انظر "تلبيس إبليس"(ص 371)، و"صفة الصفوة"(1/ 15).
(4)
هذا القول والأقوال التّالية سبق ذكرها وتخريجها في الكتاب.
عملًا بلا اتباعِ سنةٍ فباطل عمله. وقول سهل بن عبد الله: كلُّ فعلٍ يفعله العبد بغير اقتداء فهو عيشُ النفس، وكل فعل يفعله بالاقتداء فهو عذابٌ على النفس. ومثل هذا كثير، فالمهتدون من مشايخ الصوفية
(1)
[142 أ] دائمًا يَحرِصون على العلم، ويُوصُون باتباعه، لما علموا في الخروج عن العلَم من المهالك والمتالف. والله أعلم.
وقد سئل أبو علي الرُّوذْباري عن السماع فقال: ليتنا تخلَّصنا منه رأسًا برأسٍ
(2)
. وهذا الكلام من مثل هذا الشيخ الذي هو من أجلّ مشايخ القوم الذين صحبوا الجنيد وطبقته، يدل على أن حضورَ الرجل منهم
(3)
للسماع لا يدل على مذهبه واعتقاده، وهذا مما غَلِطَ فيه كثير منهم، فإن كثيرًا من المشايخ الذين نُقِل عنهم إنما نُقِل عنهم حضوره، وذلك لا يدل على أن مذهبهم إباحته فضلًا عن استحبابه، فإن أحدهم قد يكون حضره معتقدًا إباحته، وقد يحضره معتقدًا كراهته، وقد يعتقد تحريمه ويحضره، فإنه ليس بمعصوم من المعصية. وقد يتأول وقد يُقلِّد من يراه جائزًا، وقد يعتقد التوبة منه بعد حضوره، وقد يأتي بحسناتٍ ماحية لذنبه، فمن أين لكم أن مجرد حضور الشيخ
(4)
له يدلُّ على مذهبه واعتقاده وإباحته فضلًا عن استحبابه؟
(1)
ع: "التصوف".
(2)
انظر "الرسالة القشيرية"(ص 510).
(3)
"منهم" ليست في ع.
(4)
ع: "السماع".
فهذا أبو علي الروذباري ممن
(1)
كان يحضره، وقد قال فيه هذه المقالة، وتمنَّى أن يكون لا له ولا عليه، ولو كان عنده من جنس القُرُبات
(2)
والمستحبات لم يقل ذلك فيه، كما لا يقول قائم الليل وصائم النهار وتالي القرآن:[142 ب] ليتني تخلَّصتُ من ذلك رأسًا برأس، ولكن
(3)
يتمنَّى الخلاصَ رأسًا برأسٍ لتقصيره وتفريطه فيما أُمِر به ونُهي عنه، ويرى أن هذه الطاعات لا تُنجِيه، فيودُّ أنها قابلتْ تفريطَه وسَيئاتِه، وراح رأسًا برأسٍ، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وَدِدتُ أني نجوتُ من هذا الأمر كفافًا لا لي ولا عليَّ
(4)
، يريد الخلافة، خشية أن لا يكون قد قام بحقوقها، فخوفُه كان يَحمِله على ذلك القول، ولم يقل ذلك في أبي بكر، بل ما زال يشهد له بالقيام
(5)
في الخلافة بالحق.
وبالجملة، فحضور من حضرَ السماعَ من القوم لا يدلُّ على مذهبه. وقد اختلف الفقهاء هل يؤخذ مذهبُ الإمام من فعله؟ ولأصحاب أحمد في ذلك وجهان، والذين قالوا: لا يؤخذ من فعله
(1)
"ممن" ليست في الأصل.
(2)
في الأصل: "قربات".
(3)
ع: "ولكم".
(4)
أخرجه البخاري (3700) ضمن قصة مقتل عمر بن الخطاب وبيعة عثمان، وأخرجه أيضًا برقم (7218) مختصرًا.
(5)
في الأصل: "في القيام".
مذهبُه، قالوا: قد يفعله تقليدًا أو يكون متأولًا أو ناسيًا أو مخطئًا. ومع هذه الاحتمالات لا يجوز أن يضاف إليه فعلُه مذهبًا. والله أعلم.
آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا.
* * *