الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الظاهرة العاصمة للدم والمال، والإيمان: الحقائق الباطنة المُنجِية من النار، والإحسان: المقامات العالية التي ينال
(1)
بها الدرجاتِ العلى، والقربَ من الله سبحانه، والدخولَ في زمرة المقربين من عباده.
ولا ريب أن المحبين رُفِع لهم لواءٌ فشمَّروا إليه، وخفي ذلك اللواء عمن أعرض عن هذا الشأن واشتغل بغيره، ولكن سلك كثير منهم إليه على غير دَرْبِ
(2)
الإيمان والإحسان، فبعُدوا من مطلوبهم على قدر انحرافهم، فالصادقون من أرباب السماع شمَّروا إلى علم المحبة، ورأوا أن
السماع من الأسباب التي يُتوصَّل بها إلى ظهور الكوامن الباطنة
من محبة الله، والشوق إليه، والارتياح إلى قربه ولقائه، وتوابع ذلك من الحزن على التقصير والتفريط في طاعته في
(3)
الأيام الخالية، والندمِ والأسفِ على ما فَرَطَ من العبد من أسباب عَتْبِ الله عليه، وإبعادِه إيَّاه، والخوف [34 ب] من طرده عن بابه، ووقوع الحجاب بينه وبين ربه، ورأوا
(4)
حاديًا يحدو بالأرواح إلى بلاد الأفراح، فيطيب لها السيرُ، فإذا حدا لها الحادي جدَّتْ في السير على ظهور عَزَمَاتها، لا تَلْوِي على أهل ولا مال، كما قيل
(5)
:
(1)
ك: "نال".
(2)
ك: "ذوق".
(3)
ع: "والتفريط في إضاعة".
(4)
ع: "ورأوه".
(5)
الأبيات لإدريس بن أبي حفصة، كما في "ديوان المعاني"(1/ 63). وتخريجها في "روضة المحبين"(ص 113).
لها أحاديثُ من ذِكراك تَشْغَلها
…
عن الشرابِ وتُلْهِيها عن الزادِ
لها بوجهكَ نورٌ تَستضيءُ به
…
ومن حديثك في أعقابها حَادِي
إذا شَكَتْ
(1)
من كَلالِ السير أوعدَها
…
روحَ القدومِ فتَحْيا عند ميعاد
وكما قيل
(2)
:
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامُنا
…
كفَى بالمطايا طِيبُ ذكراك حاديَا
وإن نحن أضللنا الطريقَ ولم نجدْ
…
دليلًا كفانا نورُ وجهك هاديَا
وإذا كان حُداء الإبل يطيب لها السير، ويهون عليها حمل المشاقّ على غلظ أكبادها وكثافة طباعها، فما الظن بمَن أذابت نارُ المحبة قسوةَ قلبه، ولطفت طباعه إذا حدا له الحادي بما يناسب حاله.
ولا ريب أن السماع لا يُورِد على القلب حالًا ليست فيه، ولا يُحدث فيه إرادة ومحبة لم تكن، وإنما يثير ما كَمَن فيه، فهو بمنزلة الصَّوَّانِ
(3)
يَقدح من
(4)
الزناد ما هو كامنٌ فيه من النار، لا أن
(5)
الصَّوّان
(1)
ك: "اشتكت".
(2)
لعمرو بن شأس الأسدي في "معجم الشعراء"(ص 212) و"ديوان المعاني"(1/ 224). وانظر "شعر عمرو بن شأس"(ص 84 ــ 85).
(3)
ضرب من الحجارة شديد.
(4)
في الأصل: "في". والمثبت من ك، ع.
(5)
ع: "لأن" خطأ.
أحدثَ النارَ في الزناد.
فإذا سمعه مَن في قلبه حب كامن
(1)
، أو خوف أو رجاء أو اشتياق إلى أي مطلوب كان، هاج من قلبه ذلك الكامنُ، فأثَّر فيه السماع بحسب استعداده.
وسرُّ ذلك أن النغمات اللذيذة، ولطافة الألحان وحلاوتها وطيبها، يناسب لطافةَ ما كَمَن واستتر في قلب المحب من شواهد محبوبه، فيذكّره إيّاها، فيَهِيج لذلك وجدُه، ويتحرك حبه، وتلتهب [35 أ] نار الشوق في قلبه، وذلك كان مستورًا قبل السماع، ومتواريًا محجوبًا بالأمور الشاغلة عنه، فلمّا ورد عليه السماع أخلى باطنه عن تلك الشواغل، فخَمَدتْ وتوارتْ، فتحرك القلب بمقتضى ما سكن فيه من المحبة والشوق والوجد، وتوابع ذلك من الأنس والقرب أو الحزن والأسف على فوت حظه من محبوبه وبعده عنه، إلى غير ذلك من الأحوال التي يثيرها السماع، بالألحان المطربة والنغمات اللذيذة، [و] بالأشعار الرقيقة المناسبة للحال، المشتملة على وصف الملاحة والحسن، وطيب الوصال وعذوبته، وألم الهجران وعذابه، فتتفق مناسبة
(2)
أوزان الشعر، ولطافة المعاني، وحسن الصوت، وتناسب
(1)
في الأصل: "كامل".
(2)
في الأصل: "ممارسة". والمثبت من ع، ك.
حركات التصفيق، والإيقاعات، وخصوصية ذلك اللحن
(1)
، لما في قلب هذا المحب المشتاق، فحيث وجد المناسبة اضطرب وتحرك، وهاجت من قلبه لواعجُه، فتنضاف قوة المناسبة
(2)
واعتدالها وتلك الهيئة الاجتماعية إلى ما عنده من القبول والاستعداد، فتسير الروح، ويطير القلب، وتنبعث الجوارح.
فهذه النكتة التي أوجبتْ للقوم حضورَ السماع، ولم يأخذهم فيه لومة لائم، ولم يصادفوا من حَلَّها ولا مَن
(3)
شَفَى بكلامه
(4)
فيها، بل صادفوا: هذا بدعة، وهذا حرام، وهذا لا يجوز، ومَن فعل ذلك فهو سفيه، ونحو هذا من القول الذي لم يصلْ به قائله إلى باطن الداء
(5)
، ولم يضع فيه الدواء على ما يناسبه من الداء، بل داوى الداء بغير دوائه، فلم يزد المرض إلَّا قوة.
فنقول: وبالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إنما تنحلُّ
(6)
هذه الشبهة بذكر قواعد أربعة
(7)
، إذا تبيّنت انحلَّتْ شبهة السماع
(8)
.
(1)
ك: "المحن".
(2)
"اضطرب
…
قوة المناسبة" ساقطة من ك.
(3)
"من" ليست في الأصل.
(4)
ك: "بكلام".
(5)
ع: "الدواء" تحريف.
(6)
ك: "إنما نبين الكلام على".
(7)
كذا في الأصل، وهو جائز في العربية.
(8)
ذكر المؤلف ثلاث قواعد في "مدارج السالكين"(2/ 152 - 157)، واقتصر هنا على واحدة منها. وسبقه إلى بيان ذلك شيخ الإسلام في "مجموعة الرسائل الكبرى"(2/ 308، 309).
القاعدة الأولى
(1)
: أن ينظر إلى ما في هذا السماع من المصلحة والمفسدة، فإن كانت [35 ب] مصلحته أرجح من مفسدته لم يكن حرامًا، وإن كانت مفسدته أرجح من مصلحته كان حرامًا، ولا تقتضي الشريعة غير هذا. ومعلوم قطعًا أن السماع المصطلح عليه المتعارف اليوم بين الناس
(2)
مصلحته في مفسدته كتَفْلَةٍ في بحر، فإن كان فيه جزء
(3)
من المصالح ففيه ثلاثة وعشرون جزءًا من المفاسد، فهو أشبه الأشياء بالخمر والميسر اللذين قال الله تعالى فيهما:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].
ونحن لا ننكر أن في
(4)
السماع لذةً وراحة ومنفعة، بل وفي الخمر والزنا وعامة المحرمات، لكن الشأن في تلك المنفعة هل هي راجحة على المضرة، أو المضرة راجحة عليها؟ فمَن احتج على حل السماع بما فيه من اللذة والراحة، فهو في غاية البعد عن الشرع، وعن معرفة أحوال القلوب وصلاحها وما يفسدها، ولولا سطوة الشرع ومظهره لكان هذا القائل ربما يحتج على حل الخمر والزنا بما فيهما من اللذة والمنفعة والراحة، ولكن
(1)
ع: "بذكر قاعدة نافعة، وهي" مكان "بذكر قواعد
…
الأولى".
(2)
"الناس" ساقطة من ك.
(3)
ع: "جزء ما".
(4)
"في" ليست في ك.
القوم ليسوا بأصحاب حجج، وغالبهم واقف مع ذوقه.
فاعلم أن السماع يُهيِّج من القلب الحبَّ المشترك، فيشترك فيه محب الرحمن، ومحب الأوثان، ومحب الصلبان
(1)
، ومحب الأوطان، ومحب النسوان، ومحب المردان، كل له نصيب وشِرْبٌ وذوق على حسب محبته، فإذا سمعه من هو مفتون بمحبة وثنه أو صليبه أو وطنه أو امرأة أو صبي، أثار من قلبه كامنَه، وأزعجَ منه قاطنَه، وهيَّجه
(2)
وهيَّج
(3)
منه ما يناسب حاله مع محبوبه. وتهييجُ السماع لهذا الحب الفاسد القاطع عن الله المبعد عنه، أعظم من تهييجه للحب الصحيح الموصل إليه، من وجوه عديدة.
أحدها: أن وضع الأشعار المسموعة المطربة فيه، إنَّما قيلت في الصور [36 أ] المعشوقة، من ذكر أو أنثى، فصورتها ومعناها ومضمونها إنما يناسب مَن قيلت فيه ومَن هو مثله، وكلّما كانت المناسبة أقوى كان التأثير والتأثر أتمَّ. وقد علم أرباب الخبرة من السماعاتية أن سماعًا
(4)
لا يكاد يخلو من عشق صورة البتة، إمّا حلالًا وإمّا حرامًا، وغالب عشاق الصور إنما يتعلق
(5)
عشقُهم الصورَ المحرمة، وهم أركان السماع وأهل الذوق فيه.
(1)
"ومحب الصلبان" ساقطة من ك.
(2)
"وهيجه" ليست في ع، ك.
(3)
ع: "ويهيج".
(4)
في الأصل وك: "سماعنا". والمثبت من ع.
(5)
ع: "متعلق".
وقد ركب الله سبحانه الطباع على شهوة الصور المستحسنة، وامتحن العباد بمجاهدة أنفسهم على الصبر وإيثار ما عنده، وشرع لهم من أوراد العبادات في ليلهم ونهارهم ما يستعينون به على محاربة داعي النفس والشيطان، من الصلوات الخمس وتوابعها من الصيام والحج والجهاد الظاهر والباطن، ومع هذا فغلبات الطباع ودواعي الهوى تأبى أن تترك
(1)
العبد سليمًا.
وأعظم محرِّكات
(2)
الهوى ودواعيه ثلاثة أشياء تُسْكِر
(3)
الروح: النظر واستماع الغناء وشرب الخمر، فهذه الثلاثة هي أقوى أسباب العشق والفجور، والنفس الأمَّارة محبة لها مؤثرة لها، فجاء الشيطان إلى النفوس ودعاها من هذه الأبواب الثلاثة.
فلما جاء إلى نفوس أهل الإرادة والسالكين إلى الله، لم يمكنه أن يدعوهم من باب النظر والخمر، فدعاهم من باب السماع، فلما دخلوا منه بَرْطَلَ نفوسهم، بأن خلَّى بينها وبين حركة الحب، وقطع عنها الوساوس وخطرات المعاصي والفجور، وجمعها على السماع أتمَّ جمع، ولم يشوّش عليها بوسواس ولا خطرات. فوجدت بذلك النفوس راحةً من وساوسها وخطراتها، وقوةً عظيمة بجمعيتها، حتى إنَّ أحدهم
(1)
في الأصل: "لن تترك". والمثبت من ك، ع
(2)
في الأصل: "محرمات" تحريف.
(3)
ك: "يسلو" تحريف.
يجد من الحال في السماع ما لا يجده في الصلاة ولا عند قراءة
(1)
القرآن، وكل هذا من براطيل النفس [36 ب] والشيطان ليتم لهما مرادهما
(2)
، فلما ذاقت النفوس في السماع هذا الذوق، ووجدت فيه هذا الوجد، تمكن حبُّه منها، وبلغ كلَّ مبلغ، فأسرَها وملكَها.
فشيطان السماع كامنٌ لها، يجمع قوته للوثوب، فلما عرف أنَّ السماع قد تمكن منها، وتغلغل في أجزائها، وثب عليها وثبةَ الأسد على فريسته، واصطادها فيه أتم صيد، فوالله لو كُشِف الغطاء لبصيرة عبدٍ منورةٍ بنور الإيمان، لرأى أهله بين قتيل وصريع، وجريح وأسير، وهذه أحوالهم وشطحاتهم وكلماتهم تُنبِئك عما حلَّ بهم، فصادقُهم يبكي
(3)
على صوت الشبابة والدفّ والشعر الذي لعله
(4)
قيل
(5)
في محرم، يُسخِط الله طول ليله، ويَرِقّ ويتواجد ويهيم، وتُقرأ عليه الختمة من أولها إلى آخرها، والقلب من هذه الأحوال مُجدِب، والعين من البكاء قحطة. فيا للعقول! أي دليلٍ أبين من هذا؟ أو أي برهان أظهر منه على أن اكتساب القلب للنفاق من هذا السماع أقرب من اكتسابه لحقائق
(6)
(1)
"قراءة" ليست في ك.
(2)
ع: "لها مرادها".
(3)
ك: "فصادفهم بكا".
(4)
"لعله" ليست في ع.
(5)
"قيل" ليست في ك.
(6)
ع، ك:"بحقائق".
الإيمان؟
ومن ههنا يُعرف مقادير السلف، وفضل معرفتهم، وأنهم في أوج الحقائق الإيمانية، وهؤلاء في حضيضها، إذ يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"الغناء يُنبِت النفاقَ في القلب كما يُنبِت الماء البقلَ"
(1)
. صح ذلك عنه. فأين هذا الكلام من كلام من يقول: سماع الغناء أنفع للمريد من سماع القرآن من ستة أوجه أو سبعة؟ ولا ريب أنَّ هذا القائل أخبر عن ذوقه وذوق هذا المريد، وأنَّه من سماع الغناء لا من سماع القرآن.
فإذا كانت هذه مفسدة هذا السماع الخاص الذي يحضره الخواص، فما الظن بسماع العوام؟ نعم سماعهم خير من هذا، وأسلمُ عاقبةً، وأخفُّ ذنبًا، فإنَّهم يَعدُّون
(2)
[37 أ] أنفسهم فيه عصاة لاعبين، ويعترفون بأنَّه ذنب تنبغي التوبة منه، كما قيل:
ويَشربها ويَزعُمها حلالًا
…
وأشربُها وأزعمُها حرامَا
(3)
(1)
سبق تخريجه.
(2)
ك: "يعبدون".
(3)
هذا مركب من بيتين:
وأشربها وأزعمها حرامًا
…
وأرجو عفوَ ربٍّ ذي امتنانِ
ويشربها ويزعمها حلالاً
…
وتلك على المسيئ خطيئتانِ
وهما للمأمون في "المحب والمحبوب"(4/ 316) و"قطب السرور"(ص 494)، ولبعض شعراء المئة الثالثة في "فتح الباري"(10/ 66).
فيا عجبًا أي إيمان يثمر من سماع أبيات طالما عُصي الله بها في الأرض؟ والأغلب من حال قائلها أنَّه قالها وتغزل بها في محرم، كما هو حال أكثر الشعراء الذين يتغنى بأشعارهم، لا سيَّما
(1)
وقد غلب على سماع الناس التغزلُ بالذكور، وذكر محاسنهم، وما يدعو إلى ما لعن الله عليه فاعله وغضب عليه، وكان غناء الناس قديمًا كله في الإناث، ثمّ خسفَ الله بعقول المتأخرين وقلوبهم، فصار غناؤهم في الذكور، ووصف محاسنهم وقدودهم وشعورهم وخصورهم. فيا عجبًا! أي إيمان وأي حال صحيح يحدث عند سماع قول المغني المليح الصورة أو المليحة بين تلك المواصيل والدفوف والألحان؟
(2)
.
تبَّت يَدَا عاذلي فيه ووَجنتُه
…
حَمَّالة الوردِ لا حَمَّالة الحطَبِ
(3)
وقوله
(4)
:
ذهبيُّ اللونِ تحسبُ من
…
وجنتيهِ النارُ تقتدحُ
(5)
خوَّفوني من فضيحتهِ
…
ليتَه وافَى وأَفتضِحُ
(1)
في الأصل: "سيما". والمثبت من ك.
(2)
بعدها في ع: "وقوله" زيادة لا حاجة إليها.
(3)
البيت لابن سهل في "ديوانه"(1/ 16) ولابن الوردي في "خزانة الأدب" لابن حجة (2/ 105).
(4)
"وقوله" ليست في ع. والبيتان لكشاجم في ديوانه (ص 69)، وبلا نسبة في "تفسير القرطبي"(13/ 80) و"تلبيس إبليس"(ص 226، 246).
(5)
في الأصل: "تنقدح". والمثبت من ع، ك.
وقوله
(1)
:
يا ذا الذي زارَ وما زارَا
…
كأنه مقتبِسٌ نارَا
مرَّ بباب الدار مستعجلًا
…
ما ضرَّه لو دخل الدارَا
فيتواجد عليها المريد، ويبكي وينوح، ويزعم أنَّه أخذ منها إشارة. نعم أخذ إشارةً
(2)
من أبيات يُغضِب الله ما قيلت فيه وما أريد بها، ولم يأخذ الإشارة من كلامه، [37 ب] فلولا داء كامن في القلب أثاره السماع، لكان الأمر بالعكس. وكذلك قول الآخر
(3)
:
ألا ما للمليحةِ لم تَزُرْني
…
أبخلٌ بالمليحة أم صُدودُ
مرِضتُ فعادني عُوَّادُ قومي
…
فمالكِ لم تُرَيْ
(4)
فيمن يعود
وقول الآخر
(5)
:
ذي طَلْعةٍ سبحانَ فالقِ صُبْحِه
…
ومعاطفٍ جَلَّت يمينُ الغارسِ
مرّتْ بأرجاءِ الخيال طيوفه
…
فبكت على رسم السلو الدارس
(1)
البيتان لأبي الشيص في "ديوانه"(ص 53) و"معاهد التنصيص"(4/ 55)، وبلا نسبة في "المحب والمحبوب"(2/ 36) و"الإمتاع والمؤانسة"(2/ 173) و"ذم الهوى"(ص 550).
(2)
في الأصل: "شارة"، وهي بمعنى الحسن والجمال، ولايناسب السياق.
(3)
البيتان بلا نسبة في "عيون الأخبار"(4/ 128) و"الموشى"(ص 148) و"اعتلال القلوب"(ص 185) و"ذم الهوى"(ص 505، 506، 507).
(4)
ع، ك:"لا ترى".
(5)
البيتان لابن الساعاتي في ديوانه، وبلا نسبة في "روضة المحبين"(ص 176، 338).
وقول الآخر
(1)
:
وماذا عسى الواشونَ أن يتحدثوا
…
سوى أن يقولوا إنني لك عاشقُ
نعم صدقَ الواشونَ أنتِ حبيبةٌ
…
إليَّ وإن لم تَصْفُ منك الخلائقُ
أفَترى الواشين
(2)
كانوا يَشُون بأنَّه يحب امرأته وجاريته؟ وإنما تلك الأغاني في حريم الناس وأبنائهم، ومدح ما حرَّم
(3)
الله من الخمر، وتحسين ما قبَّحه من الفجور ودواعيه
(4)
، فتنزيل هذا على محبة الله والشوق إليه، أعظم من تنزيله على من
(5)
قيل فيه أولًا، وأقرب إلى البعد
(6)
من سخط الله ومَقْته، ويا لله العجب! أي إيمان يحصل للقلب أو صلاح أو قرب من الله عند قول المغني؟
(7)
:
بكرتْ
(8)
تُذكِّرني لجاجَ العُذَّلِ
…
فيها وتَلحَظُني بطَرْفٍ مُخْجلِ
وتَمِيْسُ كالغصن الرطيب ودونها
…
كَفَلٌ كدِعْصِ الرمل ضخمٌ ممتلي
يا هذه حتَّامَ هجرُكِ والقِلَى
…
جُودي على دَنِفٍ بحبك قد بُلِي
(1)
البيتان لمجنون ليلى في ديوانه (ص 202)، وينسبان لغيره، انظر تخريجهما في "روضة المحبين"(ص 44).
(2)
ع، ك:"الواشون".
(3)
ع، ك:"حرمه".
(4)
ك: "دعاويه" تحريف.
(5)
ك: "ما".
(6)
كذا في النسخ، ولعل الصواب:"العبد".
(7)
بعدها في ك: "يقول". ولم أجد الأبيات فيما رجعت إليها من المصادر.
(8)
ك: "تذكرت".
وقال الآخر
(1)
:
أُعانقها والنفس بعدُ مشوقةٌ
…
إليها وهل بعد العِناقِ تَدانِ
[38 أ] وألْثِمُ فاها كي تزولَ صَبابتي
…
فيشتدُّ ما ألقَى من الهَيمان
فإن قال المغني "أعانقه" كان طربُ الحاضرين أكثر، فهل يحل لمن يرجو لله وقارًا، ويعلم أنَّ الله سائلهُ غدًا عما
(2)
قال وفعل، أن يفتي بأنَّ السماع حلال مطلقًا، وهو يعلم أنَّ هذه البلايا وأضعاف أضعافها فيه؟ هل يطيب السماع عند القوم إلَّا بمدح ما حرَّم الله ورسوله، وذِكْر محاسن المردان والنسوان، والأشعار التي قيلت في حريم المسلمين وأبنائهم؟
فوالله إنَّ بلية الإسلام بهؤلاء من أعظم البلايا، وفي غير
(3)
سبيل الله كم أُفسِد بالسماع من قلب، وكم سُلِب من نعمة، وكم جُلِب من نقمة، وكم رُكِب به من فرج حرام، وكم استُحِلَّ به من المحارم والآثام، وكم صَدَّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وكم قطع على السالكين طريق
(4)
النجاة، وكم تهافتتْ
(5)
به فَراشُ العقول والأحلام في الجحيم، وكم فاتها به من
(6)
حظها من الله وجنات النعيم؟ تاللهِ ما نصبَ صياد بني آدم مثل هذا
(1)
البيتان لابن الرومي. وتخريجهما في "روضة المحبين"(ص 52).
(2)
ك: "كما" تحريف.
(3)
"غير" ساقطة من ع.
(4)
في الأصل: "سبيل". والمثبت من ك، ع.
(5)
في الأصل: "تهافت". والمثبت من ك، ع.
(6)
"من" ليست في ع.
الشَّرَك لصيد النفوس، ولا أدار على الندامى بعد كؤوس الخمر مثل هذه الكؤوس، وما عَلِقَتْ حبائل هذا الشَّرك بقلبٍ إلا وعزَّ استنقاذُه على الناصحين، ولا أسرَ به من أسيرٍ إلَّا وتعذر فكاكُه على المخلصين
(1)
.
بَرِئنا إلى الله من معشرٍ
…
بهم مرضٌ من سماعِ الغنا
وكم قلتُ يا قومِ أنتم على
…
شفا جُرُفٍ فاسْتَهانوا بنا
ولما استمرُّوا على غيِّهم
…
رجعنا إلى الله في رُشْدنا
فعِشنا على ملة المصطفى
…
وماتوا على تَاتِنا تَنْتَنا
فصل
ومن مفاسده: أنَّه يُثقِل على القلوب الفكرَ في معاني القرآن وحقائق الإيمان، فبحسب انصرافه إلى السماع يكون انصرافه عن ذلك، فمستقِلٌّ ومستكثر، وكذلك يُثقِل على اللسان ذكرَ الله، وإن خف الذكر على لسانه كان ذكرًا مجردًا عن مواطأة القلب للسان
(2)
، وهذا أمر يعلمه السماعي الصادق من نفسه، ولا يمكنه جحده بقلبه، فما اجتمع السماع والذكر والقرآن في موطن إلا وطردَ أحدهما الآخر، فلا يجتمعان إلا حربًا، لا يجتمعان سلمًا قط.
(1)
بعدها في ع: "من قول المصنف". والأبيات في "إغاثة اللهفان"(1/ 403) بلا نسبة. انتهج فيها نهج الأبيات التي أنشدها ابن القشيري في الرد على "الشفا" لابن سينا. انظر "مجموع الفتاوى"(9/ 253) و"الرد على المنطقيين"(ص 510).
(2)
ع: "اللسان". ك: "واللسان".
فصل
ومن مفاسده: أنَّه يميل بسامعه إلى اللذات العاجلة، ويدعو إلى استيفائها من جميع الشهوات بحسب الإمكان، ولا يَردعُ
(1)
سامعَه عن
(2)
استيفائها إلا عصمة عجز، أو فقر
(3)
جائحة، أو خوف عقوبة عاجلة، أو فقر، أو فضيحة تُذهِب الرئاسة والمروءة، أو خوف عقاب الله في الدار الآخرة، إن
(4)
قوي وارد الإيمان على وارد السماع، وإلا قالت النفس لا أبيع حاضرًا بغائب ولا نقدًا بنسيئة.
خذ ما تراه ودَعْ شيئًا سمعتَ به
(5)
وهذا كامن فيها، لو ناطقتَها لنطَقَتْ لك به، ومعظم هذه
(6)
اللذات التي يدعو إليها السماع لذة المنكح، وليست تمام لذته إلا في المتجددات، وإن كانت القديمات أجمل منهن، ولا سبيل إلى كثرة المتجددات من الحلّ غالبًا، فيتقاضى السماع [39 أ] والطباعُ اجتلابَها من المحرمات.
(1)
ع: "ينزع". ك: "يدع".
(2)
"عن" ليست في ك.
(3)
كذا في النسخ، ولعل الصواب: "أو نوبة
…
".
(4)
ك: "أو".
(5)
عجزه: في طلعة الشمس ما يُغنيك عن زُحَلِ
والبيت للمتنبي في ديوانه (3/ 205).
(6)
ع، ك:"لذة".
ولذلك
(1)
قال السلف الصالح
(2)
: "الغناء رقية الزنا". وبين الغناء وشهوة الجماع ولذته أقربُ نسبٍ
(3)
، من جهة أنَّ الغناء لذة الروح، والجماع أكبر لذات النفس، فيجتمع داعي اللذتين على طبع مستعد ونفس فارغة، فيجد الداعي القوي محلًّا فارغًا لا مدافع له، فيتمكن منه، كما قيل
(4)
:
أتاني هواها قبلَ أن أعرِفَ الهوى
…
فصادفَ قلبًا فارغًا فتمكَّنا
ولما يئس الصياد من المتعبدين أن يسمع أحدهم شيئًا من الأصوات المحرمة كالعود والطنبور والشبابة، نظر إلى المعنى الحاصل بهذه الآلات، فأدرجه في ضمن الغناء، وأخرجه في قالبه، وحسَّنه لمن قلَّ فقهه ورقَّ علمه، وإنما مراده التدريج من شيء إلى شيء.
والعارف من نظر في الأسباب إلى غاياتها ونتائجها، وتأمل مقاصدها وما تؤول إليه، ومن عرف مقاصد الشرع في سَدِّ
(5)
الذرائع المفضية إلى الحرام قطع بتحريم هذا السماع، فإنَّ النظر إلى الأجنبية
(1)
ك: "وكذلك".
(2)
هو الفضيل بن عياض، أخرجه عنه ابن أبي الدنيا في "ذم الهوى"(57) والبيهقي في "شعب الإيمان"(5108).
(3)
ع: "سبب".
(4)
البيت للمجنون أو غيره، وتخريجه في "روضة المحبين"(ص 144).
(5)
في الأصل: "صد" خطأ.
واستماع صوتها لغير حاجة حرامٌ
(1)
سدًّا للذريعة، وكذلك الخلوة بها.
ومحرمات الشريعة قسمان: قسم حرم لما فيه من المفسدة، وقسم حرم لأنَّه ذريعة إلى ما اشتمل على المفسدة.
فمن نظر إلى صورة هذا المحرَّم ولم ينظر إلى ما هو وسيلة إليه استشكل وجهَ تحريمه، وقال: أي مفسدة في النظر إلى صورة جميلة خلقها الله تعالى، وجعلها آيةً ودلالةً عليه؟ وأي مفسدة في صوت مطرب بآلة تؤديه، أو استماع كلام موزون بصوت حسن؟ وهل هذا إلا بمنزلة سماع أصوات الطيور المطربة، ورؤية
(2)
الأزهار والمناظر المستحسنة من الأماكن المُعجِبة
(3)
البناء، والأشجار والأنهار وغيرها؟
فيقال لهذا القائل: تحريم هذا النظر إلى الصور [39 ب] وهذه الآلات المطربة من تمام حكمة الشارع، وكمال شريعته، ونصيحته للأمة
(4)
، فإنَّه حرّم ما
(5)
اشتمل على المفاسد، وما هو وسيلة وذريعة إليه، ولو أباح وسائل المفاسد مع تحريمها لكان تناقضًا يُنزَّه عنه، ولو أنَّ عاقلًا من العقلاء حرَّم مفسدة وأباح الوسيلة المفضية إليها، لعدَّه الناس سفيهًا متلاعبًا، وقالوا: إنَّه متناقض، وهل يمكن مَن شَمَّ رائحةَ الشريعة
(1)
ع: "حرم".
(2)
"أو استماع
…
ورؤية" ساقطة من ك.
(3)
ك: "المتعجبة".
(4)
ع: "لأمته".
(5)
"ما" ساقطة من ك.
والفقه في الدين أن يُورد
(1)
مثل هذا الكلام؟ وهل هو
(2)
إلا بمثابة أن يقال: أي مفسدة في الصلاة لله بعد الصبح وبعد العصر حتى يُنهَى عنها؟ وأي مفسدة في تحريم
(3)
قطرة من الخمر لا تُسكِر ولا تُغيِّب العقل حتى يُحدَّ عليها؟ وأي مفسدة في تحريم الصلاة إلى القبور وفي النهي عن الصلاة فيها؟ وأي مفسدة في النهي عن
(4)
تقدم رمضان بيوم أو يومين وعن سبِّ آلهة المشركين في وجوههم؟ إلى أضعاف أضعاف هذا مما
(5)
نهى عنه الشارع سدًّا لذريعة إفضائه
(6)
إلى المحرم الذي يكرهه ويبغضه، وهل هذا إلا محض حكمته ورحمته وصيانته لعباده وحميته لهم من المفاسد أو أسبابها ووسائلها؟
والعاقل العارف بالواقع يعلم أنَّ إفضاء هذا السماع إلى ما حرَّمه الله ورسوله إن لم يزد على إفضاء النظر فليس بدونه، بل كثيرًا ما يكون إفضاؤه فوق إفضاء الخمر، فإن سُكر الخمر إفاقةُ صاحبه سريعة وسُكر السماع لا يستفيق
(7)
صاحبه إلا في عسكر الهالكين.
(1)
في الأصل: "يردد". والمثبت من ك، ع.
(2)
ك: "هذا".
(3)
"تحريم" ساقطة من ك.
(4)
"النهي عن" ليست في الأصل.
(5)
ع: "إنما".
(6)
ع: "للذريعة لإفضائه".
(7)
ك: "لا يفيق".
فصل
فإن قال هذا المغرور المخدوع: إن سماع هذا الغناء المطرب بهذه الآلات المطربة المزعج للطباع الداعي لها إلى العشق ولوازمه لا يُؤثِّر عندي، ولا أسمعه لهذا الغرض، ولا يلتفت قلبي إلى حب ما يوصف [40 أ] فيه، وإنما أُنزله على مقتضى حالي ووجدي في حب الله والدار الآخرة، فهو يُثير من قلبي ما هو كامن فيه، كما يثير من قلب محب الدنيا والصور ما هو كامن فيه، فأنا
(1)
سماعي لله وبالله، فلا يضرُّني ما فيه من المفاسد، بخلاف سماع أهل اللهو واللعب.
فالجواب أن يقال: هذا موضع الغرور والتلبيس، ومنه وقع مَن وقع
(2)
في شبكة السماع وشَرَكِه، ورام التخلصَ منها فعزَّ عليه.
فيقال له أولًا:
ما الفرق بينك وبينَ من يقول: أنا أنظر إلى الصور المستحسنة من النساء الأجانب وإلى معاطفهن وقدودهن ووُرود خدودهن
(3)
وسائر محاسنهن، وليس نظري نظر الفساق، فأنظر إليهن نظرَ اعتبارٍ واستدلال وتفكر في كمال قدرة الخالق، فأتعجب من حسن الصنعة في استدارةِ
(1)
في الأصل: "فان". والمثبت من ك، ع.
(2)
"من وقع" ساقطة من ع.
(3)
"ورود" ليست في الأصل. ع: "ورد".
ذلك الوجه وحسنه، وتناسب خَلْقه، وتبلُّجِ تلك الجبهة
(1)
والجبين فوقه واستوائهما
(2)
، وتقوُّسِ
(3)
تَينكَ الحاجبين
(4)
واعتدالِ خلقهما كأنهما خُطَّا بقلم، وأقول: تبارك مَن خطهما بقلم القدرة!
وأنظرُ إلى تَينكَ العينين وما أُودِعَتاه من الملاحة والحلاوة والسواد في ذلك البياض، وحسن شكلهما
(5)
، وجَمْعهما لمحاسن الوجه، ثم أنظر إلى دقة
(6)
الأنف
(7)
واستوائه وحسن شكله، وإلى ذلك الفم واستدارته ولطفه
(8)
وبديع خلقه، وهكذا عضوًا عضوًا
(9)
. وأقول في
(10)
خلال ذلك كله: تبارك الله أحسنُ الخالقين، وإذا رأيتُ هذه الصورة ذكَّرتْني الحورَ العين، كما قال قائل
(11)
:
وإذا رآك العابدون تيقَّنوا
…
حُورَ الجِنانِ لدى النعيمِ الخالدِ
(1)
ع: "البهجة" تحريف.
(2)
ع، ك:"واستوائها".
(3)
"وتقوس" ساقطة من ك.
(4)
الحاجب مذكر، فقول المؤلف "تينك" وهم أو عامي.
(5)
ع: "سلكهما".
(6)
ع: "رقة".
(7)
ك: "ذلك الأنف".
(8)
ع: "ولفظه" تحريف.
(9)
ع: "عضوًا بعد عضو".
(10)
"في" ليست في ع.
(11)
أولهما مع أبيات أخرى لأبي إسحاق الصابي في يتيمة الدهر (2/ 259).
فسَعَوا إلى ذاك النعيمِ وشمَّروا
…
إذ كان فيك عليه أكبرُ شاهد
[40 ب] وهل هذا إلا فَتْح لباب الإباحة وخَرْق لسياج الشريعة؟ وليس بعده إلا
(1)
أن تقول: إنما حُرِّمت الخمر لما يُوقع شربُها فيه من العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وأنا أشربها
(2)
لغير هذا الغرض، بحيث لا تُوقِعني في عداوة ولا بغضاء، ولا تصدّني عن ذكر الله، ولا عن فرضٍ من فرائضه!
وكل هذا وأمثاله قد رأيناه وشاهدناه في بعض
(3)
القوم، وفي كتبهم ومخاطباتهم، فانظر كيف يَرِقُّ
(4)
الدين حتى ينسلخ منه الرجل كانسلاخ الشعرة من العجين، والمعصوم من عصمه الله.
ثم يقال لك
(5)
ثانيًا:
الطباع البشرية فيك حيَّةٌ لم تمتْ، وإن ادّعيتَ غير هذا كذَّبتْك طباعك وبَشَريتك
(6)
، فإذا زعمتَ أنك تسمع الإشارة
(7)
سبقك الطبع
(1)
"إلا" ليست في الأصل.
(2)
"أشربها" ساقطة من ك.
(3)
ع: "من" بدل "في بعض".
(4)
ك: "مزق".
(5)
كذا في النسخ "لك"، وكأن الكلام مستمر مع المخاطب.
(6)
في الأصل: "بشرتك".
(7)
في الأصل: "للإشارة".
إلى مقصوده وحظه قبل أخذ الإشارة، ثم تُبرطِلُك نفسُك بتلك الإشارة، والطبع يعمل
(1)
عملَه ويتقاضى
(2)
حظَّه وأنت مشغول عنه بالإشارة، والإشارة لا تدوم، فإذا ترحَّلتْ عنك طالبك الطبعُ بحظِّه أتمَّ مطالبة، فأعلى أحوالك أن تقعَ في حومة الحرب والجهاد، فيُدَال على طبعك مرةً ويُدالَ عليك أخرى، والغالب أنك
(3)
أسيرٌ معه تجعل
(4)
حظَّه عبودية وقربة، وهذه نكتة السماع وسِرُّه ولبُّه، فتكون أسوأ حالًا ممن
(5)
سمعه لهوًا ولعبًا، وعدَّه معصية وذنبًا.
فليتأمل اللبيب الفطن هذا الموضع حقَّ التأمل، وليدقِّق النظرَ في هذا الدوار الذي اختطف من شاء الله من
(6)
العالمين، وما نجا منه إلا فرد مميَّز
(7)
عن كثرة الهالكين، والله المستعان وعليه التكلان.
ثم يقال لك ثالثًا:
لو كان سماعك بالله وعن الله كما تقول، لدلَّت على صدقك [41 أ]
(1)
ع: "يكمل".
(2)
ك: "بعمله وتقاضى".
(3)
"أنك" ليست في ع.
(4)
ع: "بجعل".
(5)
ك: "من".
(6)
في الأصل: "رب". والمثبت من ك، ع.
(7)
الأصل: "تميز". والمثبت من ك، ع.
شواهدُ ذلك من سماع كلامه وأسمائه وصفاته ومواعظه
(1)
وترغيبه وترهيبه، وما يدعو إلى محبته ويباعد عن سخطه، ولم يكن سماعك لشيء لا يُشار
(2)
به إلى الخالق، وإنما يُشار به إلى الخمر والمسكر
(3)
والمليحة والمليح وطيب وصالهما وعذوبته وتوابع ذلك، فتعالى الله وتنزَّه جنابُه وجلَّت عظمتُه أن يشار إليه بذلك، أو يُستجلَب رضاه وقربه به، كلا والله إن استُجلِبَ بذلك إلا مَقْتُه والبعدُ منه.
وكيف يجوز أن تؤخذ الإشاراتُ إلى الله سبحانه من
(4)
التغزل
(5)
في النساء والمردان؟ وأين هذا مما يجب له سبحانه من الهيبة والتعظيم والوقار والإجلال لعظمته وخشيته والخوف منه؟ وقد آل بهم هذا إلى أن أطلقوا في حقِّه سبحانه ما يطلقه هؤلاء العشاق في معشوقيهم
(6)
من الصدّ
(7)
والهجر والوصال وتوابع ذلك، ونشأت من ذلك الشطحات والطامَّات والرعونات التي هي ضد طريق العبودية، وكل هذا من مفاسد السماع، والعاقل يعلم أن مفسدة شرب الخمر دون هذه المفسدة بكثير.
(1)
ك: "مواضعه" تحريف.
(2)
ك: "إلا لشيء يشار".
(3)
الأصل: "السكر".
(4)
في الأصل: "في".
(5)
ع: "المتغزل".
(6)
ع، ك:"معشوقهم".
(7)
"الصدو" ساقطة من ك.
ومن العجب استدلالهم على جواز سماع الغناء والمعازف والشبابة والدفوف المصلصلة بسماع أصوات
(1)
الهَزار والبلبل والشُّحْرور والقُمري، وهل هذا
(2)
إلا من جنس قياس الذين {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]؟ ومن جنس قياس أهل الإباحة الذين يقولون: النظر إلى الصور الجميلة والتلذذ بها مثل النظر إلى سائر ما خلق الله من المناظر البهيَّة
(3)
من الأزهار والثمار والنبات والحيوان، فما الذي حلَّل هذا وحرَّم هذا؟ أَفَتَرى هذا ما عَلِمَ أن سماع أصوات الطيور ورؤية محاسن النبات والثمار لا يدعو [41 ب] إلى ما يدعو إليه سماع الغناء وآلات اللهو والنظر إلى الصور المستحسنة؟
(4)
.
فإن كنتَ لا تدرِي فتلك مصيبةٌ
…
وإن كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظمُ
(5)
فصل
والتحقيق في هذا
(6)
السماع أنه مركب من شبهة وشهوة، وهما
(1)
ع: "صوت".
(2)
ع: "هذه".
(3)
الأصل: "البهجة". ع: "المبهجة". والمثبت من ك.
(4)
بعدها في ع: "قيل".
(5)
البيت لصفي الدين الحلي في "ديوانه"(ص 65) من قصيدة له من بحر الكامل، بتغيير طفيف للبيت الذي هنا من بحر الطويل. وأنشده شيخ الإسلام كما هنا في "منهاج السنة"(4/ 128، 5/ 162، 7/ 253، 459).
(6)
"هذا" ليس في الأصل.
الأصلان اللذان ذمَّ الله من يتبعهما ويُحكِّمهما على الوحي الذي بعث الله به أنبياءه ورسله. قال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] فالظن الشبهة، وما تهوى الأنفس الشهوة، والهدى الذي جاءنا من ربنا مخالف لهذا وهذا، وقال تعالى:{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69]، فالاستمتاع بالخلاق ــ وهو النصيب ــ هو الشهوة، والخوض هو الكلام بمقتضى الشبهة
(1)
. فهذان الداءان
(2)
هما داءا
(3)
الأولين والآخرين إلا من عصم الله، وقليل ما هم، وهذا السماع قد تركَّب أمره من هذين الأصلين.
فأمَّا الشبهة التي فيه فهي تعلق أهله بالشبهة التي يستندون إليها في فعله، كقولهم: حضره ساداتُ المشايخ ومَن لا يُطعَن
(4)
عليه، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم في بيته
(5)
، وسمع الحداء وهو ضرب من سماع الغناء، وسمع الشعر وأجاز عليه، ونحو ذلك من الآثار التي سنذكرها، ونبين أن صحيحها لا
(1)
"هو الشهوة
…
الشبهة" ساقطة من ك.
(2)
ع: "اللذان".
(3)
ع، ك:"داء".
(4)
ع: "مطعن".
(5)
"في بيته" ليست في ك.
يدل، وما هو صريح في الدلالة
(1)
فكذِبٌ موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الشبهة التي فيه أن الروح متى سمعت ذكر المحبة والمحبوب والقرب منه ورضاه حرَّك ذلك لمن في قلبه شيء من المحبة الصادقة، وهذا أمرٌ لا يمكن [42 أ] دفعه، فهذا نصيب الشبهة فيه.
وأما الشهوة فهي نصيب النفس منه، فإن النفس تلتذُّ بسماع الغناء، وتَطْرَب بالألحان المطربة، وتأخذ بحظِّها الوافر فيه، حتى ربما أسكرها، وفعل فيها ما لا يفعله الخمر، فإن الطباع تنفعل للسماع والصورة والخمر، وتَسْكَر النفوسُ بها أتمَّ سُكْرٍ، ولهذا قال الله سبحانه في اللوطية لما أخذهم العذاب:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، فلعشاق الصور سكرة لا يستفيقون منها إلا في عسكر الهالكين، إلا من تداركه الله برحمته.
والسماع يُسكِر الروحَ كما تقدم، وتزيد لذته أحيانًا على لذة الخمر، ولهذا تُؤثِّر الألحان في الأطفال والبهائم ما لا يؤثر غيرها فيها. وقد تتجرد هذه الشهوة التي هي حظ النفس وهو الغالب من السماع، وقد تُبهرَج
(2)
بنوع شبهة من محبة الله وطلبه والشوق إلى لقائه، فالشهوة فيه ما للنفوس من الحظ، والشبهة ما للقلب والروح فيه من السفر إلى المحبوب.
(1)
ك: "الدلائل".
(2)
ع: "يمتزج".
ولكن ثمَّ نكتة، وهي أنه هل هذا من الزاد الذي تُسافر به
(1)
القلوب والأرواح إلى محبوبها، أو ليس من زاد سيرها إليه؟
فههنا تُسكَب العبرات، ويتبيّن مَن هو عامل على حظه وإرادته من المحبوب، سواء أراده محبوبه أو لم يرده، وهو حال السماع الشعري الذي يثيره، ومن هو عامل على مراد محبوبه منه
(2)
ومرضاته، وهو حال السماع القرآني، فهذا لون، وهذا لون. وبين الحالين أبعد مما
(3)
بين المشرقين، ولأجل الباطل الذي فيه تدخل الدواخل القادحة على مَن حضره من الصادقين، لأنه ربما غلب فيه سُكر النفوس على حظِّ القلوب والأرواح، فانغمر في حظ النفوس، وصار الحكم للغالب، ويصير [42 ب] النصيب خالصًا للنفس والشيطان.
فصاحب الحال المحمود في السماع قد يغلب عليه جانب الباطل، وينغمر الحق فيه ويستهلك، لكون صورة هذا السماع غير مشروعة، وليست من أمر الدين ولا من الإسلام، فهي صورة مبتدعة.
فلهذا السبب قد يقوى جانبُ النفس والشيطان فيه على جانب الحق، وتصير الحركة نفسانية لا قلبية، ولا يشعر صاحبها لغلبة حكم
(4)
(1)
ك: "فيه".
(2)
"منه" ليست في ع.
(3)
الأصل: "ما". والمثبت من ك، ع.
(4)
ع: "الحكم".
الوارد عليه، ونفس الحركة التي أثارها
(1)
السماع ليست هي الميزان نفسها، بل هي الموزونة، فتستدعي ميزانًا يزنها به الصادق الناصح لنفسه العامل على مراد ربه لا على مراده هو، وحينئذٍ يتبين له هل هي حركة نفس أو حركة قلب في مرضاة المحبوب. فليتفطن اللبيب لهذا
(2)
الموضع، وليقف فيه وقفةَ المتأمل
(3)
، والله الموفق.
فصل
ولمّا تقادم العهد، وطال الأمد، ودَرَستْ معالم الدين، وأخذ الناس بُنَيَّاتِ الطريق، وصار الناس إلا الأقلّ
(4)
كما
(5)
قال الله عزوجل: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]، فاستند كل قوم غير حزب الله ورسوله إلى ظُلَم آرائهم
(6)
، وحكَّموا على السنة مقالات شيوخهم وطرائقهم وأهوائهم، وصار المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، وصار الغالب على هذا الخلق الهوى المطاع، والرأي المعجَب به، والتقليد الذي ليس مع مقلِّده برهان من الله ولا
(1)
ك: "انشاوها" تحريف.
(2)
ك: "هذا".
(3)
ك: "التأمل".
(4)
ع: "الولي".
(5)
"كما" ساقطة من ك.
(6)
ع: "رأيهم".
بصيرة به، إنْ معه
(1)
إلا قولُه: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22].
فانحرفت لذلك الأعمال، وانقلبت الأذواق، وفسدت الأحوال، وصَدِئت القلوب، وكثير منها انتكس، فلا يعرف من المعروف إلا ما وافق هواه، ولا يُنكِر منه
(2)
إلا ما خالف [43 أ] هواه، وهذا هو ميّت الأحياء، كما
(3)
قال عبد الله بن مسعود: أتدرون ما ميت الأحياء
(4)
؟ قالوا: لا، قال: هو الذي لا يعرف معروفًا
(5)
ولا ينكر منكرًا. وقالوا له: يا أبا عبد الرحمن! هلك مَن لم يأمر بالمعروف وينهَ عن المنكر، فقال
(6)
: هلك مَن لم يكن له قلب يعرف به المعروف والمنكر
(7)
.
فلا يوجد غالبًا إلا ذوق منحرف في عمل منحرف صادر من قلب منحرف، فتخرج الأقوال والأحوال فيها من الانحراف ما فيها، فعظم الخَطْب واشتد الأمر، وكثرت الشطحات والطامَّات، وانسلخت القلوب من الإيمان، وأربابها لا يعلمون، لأن القلب متى لم يكن على
(1)
"إن معه" ليست في ع.
(2)
ك: "من المنكر".
(3)
"كما" ليست في الأصل.
(4)
"كما
…
الأحياء" ساقطة من ك.
(5)
"معروفا" ساقطة من ك.
(6)
في الأصل: "فقالوا"، والمثبت من ع.
(7)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(1/ 135).
قلب الرسول وأصحابه في القصد والعلم والمحبة والكراهة والتصديق واستحسان ما استحسنوه وإيثاره
(1)
واستقباح ما استقبحوه واجتنابه، كان فيه من الانحراف عن الإيمان بقدر انحرافه عن ذلك، حتى تعود القلوب كما قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "القلوب
(2)
على أربعة: قلب أجرد، فيه سراج يزهر، فذاك قلب المؤمن"
(3)
. فإنه أجرد أي متجرد من هذا الانحراف في قصده وحبه وعلمه، متجرد
(4)
عن شهوات الغي وشبهات الباطل، متجرد عن معارضات أمر الله بالتأويل والشهوات، وعن معارضات خبره بالتقليد والشبهات، وفيه من الإيمان ومباشرة روحه له سراج يزهر، فهذا هو القلب السليم الذي لا ينجو إلا من أتى الله به
(5)
.
الثاني: قلب أغلف، وهو قلب الكافر في غلاف، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، بل المعروف عنده منكر والمنكر معروف.
[43 ب] الثالث: قلب منكوس، أي مكبوب كالكُوزِ المجخِّي، وهو قلب المنافق، وهو شر قلوب الخلق، وهذا القلب دأبه دائمًا أن يدعو الناس إلى ما يكرهه الله ورسوله، وينهاهم عما يحبه الله ورسوله من الأقوال والأعمال والاعتقاد.
(1)
"وإيثاره" ليست في ك.
(2)
"القلوب" ليست في ك.
(3)
أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(1439) وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 276).
(4)
"متجرد" ساقطة من ك.
(5)
"به" ليست في الأصل. وفي ك: "بقلب سليم".
الرابع: قلب له مادة إيمان
(1)
ومادة نفاق، فهو يتقلب بين المادتين، وهو للغالب عليه منهما.
ومن كان له بصيرة وتأملَ أحوالَ الخلق رآهم لا يخرجون عن هذه الأقسام الأربعة، فمن أين تجيء الأذواق الصحيحة المستقيمة، والقلوب قد انحرفت أشدَّ الانحراف عن هَدْي نبيها وما كان عليه هو وأصحابه؟
والسلف الصالح كانوا يجدون الأذواق الصحيحة المتصلة بالله في الأعمال الصحيحة المشروعة، وفي قراءة كتاب الله وتدبره واستماعه، وفي مزاحمة العلماء بالركب، وفي الجهاد في سبيل الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الحب في الله
(2)
والبغض فيه
(3)
، وتوابع ذلك.
فصار ذوق المتأخرين إلا من عصمه
(4)
الله في اليراع والدفّ والمواصيل، والأغاني المطربة من الصور المستحسنة، والرقص والزعقات
(5)
، وتعطيل ما يحبه الله ويرضاه من عبوديته المخالفة لهوى النفوس.
(1)
ع: "الإيمان".
(2)
ع: "بالله".
(3)
ك: "في الله".
(4)
الأصل: "رحم". والمثبت من ك، ع.
(5)
ك: "والزعاق".
فشتان بين ذوق الألحان وذوق القرآن، وبين ذوق العود والطنبور، وذوق المؤمنين والنور، وبين ذوق الزَّمْر وذوق الزُّمَر
(1)
، وبين ذوق الناي
(2)
وذوق "اقتربت الساعة وانشق القمر"، وبين ذوق المواصيل والشبابات وذوق يس والصافات، وبين ذوق
(3)
غناء الشعر وذوق [44 أ] سورة الشعراء، وبين ذوق السماع للمكاء
(4)
والتصدية وذوق الأنبياء
(5)
، وبين الذوق على سماع تُذكر فيه العيون السود والخصور والقدود، وذوق سماع سورة يونس وهود، وبين ذوق الواقفين في طاعة الشيطان على أقدامهم صَوافَّ، وذوق الواقفين في خدمة الرحمن في سورة الأنعام والأعراف، وبين ذوق الواجدين على طرب
(6)
المثالث والمثاني، وذوق العارفين عند استماع القرآن العظيم والسبع المثاني، وبين ذوق أولي الأقدام الصافات في حضرة سماع الشيطان، وذوق أصحاب الأقدام الصافات بين يدي الرحمن.
سبحان الله! هكذا تنقسم الأذواق والمواجيد، ويتميز خلق
(1)
"وذوق الزمر" ساقطة من ك.
(2)
ع: "المثاني". ك: "النار".
(3)
"ذوق" ليست في ع.
(4)
ع: "سماع أصحاب المكاء".
(5)
"وبين ذوق السماع
…
الأنبياء" ساقطة من ك.
(6)
ع: "ضرب".
المطرودين من خلق
(1)
العبيد، وسبحان المُمِدِّ
(2)
لهؤلاء وهؤلاء من عطائه، والمفاوت
(3)
بينهم في الكرامة يوم القيامة
(4)
. فوالله لا يجتمع محبة سماع الشيطان وكلام الرحمن في قلب رجل واحد أبدًا، كما لا تجتمع بنتُ عدو الله وبنت رسول الله عند رجل واحد أبدًا
(5)
(6)
.
أنتَ القتيلُ بكل من أحببتَه
…
فاخترْ لنفسك في الهوى من تَصطفِي
(7)
كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، إذا اجتمعوا واشتاقوا إلى حادٍ يَحدُو بهم ليَطِيب لهم السيرُ، ومُحرِّكٍ
(8)
يُحرِّك قلوبَهم إلى محبوبهم، أمروا واحدًا منهم يقرأ والباقون يستمعون، فتطمئن قلوبهم، وتَفيِضُ عيونُهم، ويجدون من
(9)
حلاوة الإيمان أضعافَ ما يجده السماعاتية من حلاوة السماع، وكان عمر بن الخطاب إذا جلس عنده
(1)
في النسخ: "خلع" تحريف.
(2)
ع: "المهدي". ك: "الممهد".
(3)
الأصل: "والمفارق". والمثبت من ك، ع.
(4)
ع: "لقائه".
(5)
كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (3729) عن المسور بن مخرمة.
(6)
بعدها في ع: "كما قيل".
(7)
البيت لابن الفارض في ديوانه، وانظر تخريجه في "روضة المحبين"(ص 110).
(8)
"محرك" ليست في ك.
(9)
"من" ليست في ع.
أبو موسى يقول: يا أبا موسى [44 ب] ذَكِّرْنا ربَّنا، فيأخذ أبو موسى في القراءة
(1)
، وتعمل تلك الأقوال
(2)
في قلوب القوم عملها، وكان عثمان بن عفان يقول: لو طهرتْ قلوبنا لما شبعتْ من كلام الله
(3)
. وإي والله! كيف تشبع من كلام محبوبهم
(4)
وفيه نهاية مطلوبهم؟ وكيف تشبع من القرآن وإنما فُتِحت به لا بالغناء والألحان؟
إذا مرِضْنا تداوينَا بذكرِكُمُ
…
فإن تركناه زادَ السُّقْم والمرضُ
(5)
وأصحاب الطران
(6)
والألحان عن هذا كله بمعزلٍ، هم في واد والقوم في واد.
الضبُّ والنونُ قد يُرجَى التقاؤُهما
…
وليس يُرجَى التقاءُ الوحي والقَصَبِ
(7)
(1)
أخرجه ابن سعد في "الطبقات"(4/ 109) وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 258) وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(37/ 339 طبعة المجمع). وانظر "سير أعلام النبلاء (2/ 391) و"البداية والنهاية" (11/ 255).
(2)
ك: "الأحوال".
(3)
أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد "فضائل الصحابة"(775) والبيهقي في "الأسماء والصفات"(2/ 56).
(4)
ع: "محبوبه" خطأ.
(5)
البيت باختلاف الشطر الثاني في "مدارج السالكين"(3/ 207) و"الوابل الصيب"(ص 172).
(6)
كذا في الأصل وع، والطر: آلة تشبه الدف والطبل. وفي ك: "الطرب".
(7)
صدره لأبي إسحاق الصابي في "يتيمة الدهر"(2/ 345).
فأين حال من يَطربُ بسماعِ الغناءِ والقَصَبِ بين المثالث والمثاني وذوقِه ووجْدِه إلى حال من يجد لذة السماع وروح الحال وذوق طعم الإيمان؟ إذا سمع في حال إقبال قلبه
(1)
على الله، وأنسه به، وشوقه إلى لقائه، واستعداده لفهم مراده من كلامه، وتنزيله على حاله، وأخْذِه بحظه الوافر منه، قارئًا
(2)
مجيدًا حسنَ الصوت والأداء يقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)} [طه: 1 - 8]. وأمثالَ هذا النمط من القرآن الذي إذا صادف حياةً في قلب صادق قد شَمَّ رائحةَ المحبة وذاق حلاوتها، فقلبه لا يَشبَعُ من كلام محبوبه، ولا يَقَرُّ ولا يطمئنُّ إلا به= كان
(3)
[45 أ] موقعه من قلبه كموقع وصال الحبيب بعد طول الهجران، وحلَّ منه محلَّ الماء البارد في شدة الهجير من الظمآن، فما ظنك بأرضٍ حياتُها بالغيثِ، أصابها وابِلُه أحوجَ ما كانت إليه، فأنبتَ
(4)
فيها من كل زوجٍ بهيجٍ قائمٍ على سُوقِه يشكره ويثني عليه.
(1)
"قلبه" ليست في ك.
(2)
"قارئًا" مفعول الفعل "سمعَ".
(3)
"كان" جواب شرط "إذا صادف".
(4)
ك: "فأنبتت".