المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ دلالته على الذم والمنع أقرب من دلالته على الجواز والاستحباب - الكلام على مسألة السماع - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌صورة الاستفتاء

- ‌الفصل الثاني: أن تَعاطِيَها على وجه اللعب واللهو والمجون

- ‌كل ما ليس بطاعة للرسول فهو هوى للأنفُس

- ‌ هذا من النفاق الذي أنبتَه الغناءُ في القلب

- ‌ السماع من الأسباب التي يُتوصَّل بها إلى ظهور الكوامن الباطنة

- ‌فصلفي التنبيه على نكتة خفية(4)من نكت السماع

- ‌لله في كل جارحة من جوارح العبد عبوديةٌ تخصُّه

- ‌ سرُّ الصلاة ولبُّها إقبال القلب فيها على الله وحضوره بكليته بين يديه

- ‌ التكبير

- ‌ الركوع

- ‌السجود

- ‌ من القول ما يَحرُمُ استماعه، ومنه ما يُكْرَه

- ‌ الألف واللام هنا لتعريف العهد

- ‌ ذم استماع القول الذي هو الغناء

- ‌ليس لأحد أن يبتدع دينًا لم يأذن به الله، ويقول: هذا(5)يحبه الله

- ‌الأعمال أربعة: فواحد منها مقبول، وثلاثة أرباعها مردودة

- ‌ السماع المحدَث من أعظم المحركات(4)للهوى

- ‌هذه الأصول الثلاثة هي الفرقان بين الناس

- ‌ الاستعانة على الحق بالشيء اليسير من الباطل

- ‌الصوت الذي يُفعَل(3)عند النعمة هو صوت الغناء

- ‌الثاني: أنَّ اللفظ الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على مورد النزاع

- ‌خلو العباداتُ من ملابسة الصور والتعلق بها

- ‌ الثالث: كثرة إيقاد النيران بالشموع وغيرها

- ‌ الخامس: ما يقارنه من الرقص والتكسُّر والتخنيث

- ‌ السادس: ما يُقارنه من آلات اللهو والمعازف

- ‌السابع: ما يُقارنه من عُشَراء السوء وخُلَطاء الشر(4)الذين يُضِيْعون الصلوات(5)، ويتبعون الشهوات

- ‌الثامن: ما يقارنه من حركات النفوس المختلفة، والأصوات المنكرة، والحركات العظيمة

- ‌العمل لا يُمدح أو يُذَمّ بمجرد اشتماله على اللذة وعدمها

- ‌ من أصول الشرك والضلال

- ‌ دلالته على الذم والمنع أقرب من دلالته على الجواز والاستحباب

- ‌ ميزان أهل العلم والاعتدال

- ‌ تزندقَ بالسماع طوائفُ لا يُحصِيهم إلا الله، كما تزندق بالكلام

- ‌ التوسُّطُ في أمرِ السماع

- ‌سلامة القلب نوعان:

- ‌ بالصبر واليقين تُنال الإمامةُ في الدين

- ‌ لم يلزم منه الرخصة للرجال ولا في عموم الأحوال

- ‌هو مجرد حظ النفس وغذاؤها

الفصل: ‌ دلالته على الذم والمنع أقرب من دلالته على الجواز والاستحباب

وقطعَ حباله، قال: ولم أسمع صوتًا أطيبَ منه، ووقعتُ لوجهي حين سمعته، حتى أشار عليه سيدُه بالسكوت، فسكت.

*قال صاحب القرآن: لا ريبَ أن الصوت المتناهي في الحسن يُحرِّك النفوس تحريكًا عظيمًا جدًّا خارجًا عن العادة، وقد شاهد الناس وسمعوا من ذلك ما هو معلوم، والأصوات من أعظم المحركات للنفوس، ولا يُعادِلُها شيء في حركة النفوس إلا الصور، فإذا اتفق قوة المؤثر واستعداد المحل قوي التأثير، حتى يغيب عن الحسِّ أحيانًا، ويحول بين سامعه وبين مباشرة المؤلم المؤذي، فلا يَشعُر به.

وإذا صادف محلًّا مستعدًّا لصِغَرٍ

(1)

أو أنوثةٍ أو جزعٍ أو فرحٍ أو قوةِ حبٍّ أو رياضةٍ ولطافةِ روحٍ، حرَّكهُ غايةَ الحركة، وأزعجَ قاطنَه

(2)

، وأثار ساكنَه، وهذا لا يدل على جواز ولا تحريم ولا مدح ولا ذم، بل‌

‌ دلالته على الذم والمنع أقرب من دلالته على الجواز والاستحباب

، فإن هذا يُفسِد النفوس أكثر مما يُصلِحها، ويضرها أكثر مما ينفعها، وإن كان فيه منفعة يسيرة فآفته ومضرته أكبر من نفعه

(3)

، وقد قال تعالى للشيطان:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64]، فالصوت الشيطاني يَستفِزُّ بني آدم، وصوت الشيطان كل صوت في غير طاعة الله، نُسِبَ إلى

(1)

في الأصل: "كصغر".

(2)

ع: "باطنه".

(3)

ع: "منفعته".

ص: 312

الشيطان لأمره به ورضاه به، وإلا فليس هو الصوت نفسه، فصوت الغناء وصوت النوح وصوت المعازف [116 ب] من الشبابات والأوتار وغيرها كلها من أصوات الشيطان، التي يَستفِزُّ بها بني آدم فيَستخِفُّهم ويُزعِجُهم. ولهذا قال السلف في هذه الآية:"إنه الغناء".

ولا ريبَ أنه من أعظم أصوات الشيطان التي يَستفِزُّ بها النفوسَ ويُزعِجها ويُقلِقها، وهو ضدُّ القرآن الذي تطمئن به القلوب وتسكنُ وتُخبِتُ إلى ربها، فصوت القرآن يُسكِّن النفوسَ ويُطَمْئِنُها ويُوقرها، وصوت الغناء يَستفِزُّها ويُزعِجُها ويُهيِّجُها، كما قيل:

حاملُ الهوى تَعِبُ

يَستفِزُّه الطَّرَبُ

كلَّما انقضَى سببٌ

عادَ منك لي سَبَبُ

تَضْحَكِينَ لاهيةً

والمحِبُّ يَنْتَحبُ

تَعجَبِين من سَقَمِيْ

صِحَّتِي هي العَجَبُ

(1)

فلو لم يكن دليل على أن صوت الغناء والمعازف هو صوت الشيطان لما يستفزّ به السامع ويُقلِقه به ويُزعِجه ويُزِيل طمأنينتَه لكفى به دليلًا.

وكذلك صوته الذي يَستفِزُّ به النفوسَ عند المصيبة وهو النوح، فيستفزُّها بهذا الصوت إلى الحزن والأسف والسخط بما قضى الله،

(1)

الأبيات لأبي نواس في ديوانه (227).

ص: 313

ويستفزُّها بذلك الصوت إلى الشهوة والإرادة والرغبة فيما يبغضه الله، فينهاها بصوت النوح عما أمرها الله به، ويأمرها بصوت الغناء بما نهاها الله عنه. وهذا الصوت هو أحد الأسباب الخمسة التي أقسم الشيطان أن

(1)

يَحتنِكَ بها ذريةَ آدم ويستأصلهم إلا قليلًا، وهي استفزازهم بصوته، والإجلابُ عليهم بخيله ورَجلِه، ومشاركتهم في أموالهم وأولادهم

(2)

. فكل راكب في معصية الله فهو خَيَّالةُ الشيطان، وكل ماشٍ في معصية الله فمن

(3)

رَجَّالتِه، وكل مالٍ أُخِذ من غير حلِّه وأُخرِج في غير حقه فهو شريك صاحبه [117 أ] فيه، وكل ولدٍ من نطفة زنا فهو شريك أبيه فيه.

فتبارك من جعل كلامه شِفاءً لصدور المؤمنين، وحياةً لقلوبهم، ونورًا لبصائرهم، وغذاءً لقلوبهم، ودواءً لسقامهم، و قرةً لعيونهم، وفتح به منهم أعينًا عُمْيًا

(4)

وآذانًا صُمًّا وقلوبًا غُلْفًا، وأمطر على قلوبهم سحائبَ دِيمهِ، فاهتزَّتْ ورَبَتْ وأنبتتْ من كل زوج بهيج، فأشرقتْ به الوجوه، واستنارتْ به القلوب، وانقادتْ به الجوارح إلى طاعته ومحبته،

ص: 314

فصبغَ القلوبَ به معرفة وإيمانًا، وملأها حكمة وإيقانًا، {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138]، لا كصبغة السماع التي تملأ القلوب هوى وشهوة وظلمة وشركًا، وتُعوِرُ

(1)

بصيرةَ القلب وتَطْمِسُ نوره وتُنكِّسه وتُخنِّث عزمَه. فقلَّ أن ترى سماعيًّا إلا وهو مخنَّث العزيمة، يلوحُ التخنيثُ على شمائله وحركاته.

وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم صوت الغناء صوتًا فاجرًا أحمق

(2)

، فوصفه بالفجور والحمق، فالفجور: الظلم، والحمق: الجهل. وقال لقمان لابنه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19]، والمغني والرقاص أبعد الناس من هذا، فلا هذا غضَّ من صوته، ولا هذا قصدَ في مشيه.

فصل

* قال صاحب الغناء

(3)

: نحن نتحاكم

(4)

في هذه المسألة إلى سيد الطائفة الجنيد، قال أبو عمر

(5)

الأنماطي: سمعته يقول وقد سُئل: ما بالُ

(1)

ع: "وتغور" تصحيف.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

انظر "الرسالة القشيرية (ص 509).

(4)

ع: "نحاكم".

(5)

كذا في النسختين و"تاريخ بغداد"(12/ 73): "أبو عمر" وفي "القشيرية": "أبو عمرو". وفي طبعة دار المنهاج منها (ص 682): "أبو عمر"، فلعله الصواب.

ص: 315

الإنسان يكون هادئًا فإذا سمع السماع اضطرب؟ فقال: إنَّ الله لما خاطب الأرواح في الميثاق الأول بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172]، استفرغتْ عذوبةَ

(1)

سماعِ [الكلام]

(2)

الأرواحُ، فإذا سمعوا السماع حرَّكهم ذِكرُ ذلك.

* [117 ب] قال صاحب القرآن: من دُعي إلى تحكيم الله ورسوله وما أُنزِل على نبيه من الكتاب والحكمة، فلم يرضَ بذلك، ودعا إلى تحكيم من يصيب ويخطئ، ولم يُولِّه الله الحكمَ فيما شجر بين المتنازعين، فقد بخسَ حظَّه وأضاعَ نصيبَه.

فهذا النقل إن كان ثابتًا عن الجنيد فهو نقل عن غير معصوم، وإن لم يكن ثابتًا عنه وهو الأليق

(3)

بمثل جلالته ومعرفته فهو نقل غير مصدَّق عن قائلٍ غير معصوم، فكيف يكون حجةً؟ والجنيد أعرفُ بالله من أن يقول مثل هذا، فإنَّ هذا الاضطراب يكون لجميع الحيوان ناطقه وأعجمه، ويكون للكفار والمنافقين والفساق والفجار، ثمّ الاضطراب قد يكون لحلاوة الصوت ومحبته واستلذاذه

(4)

، وقد يكون للخوف منه وهيبته، وقد يكون للحزن والجزع، وقد يكون للغضب.

(1)

ع: "عذوبته".

(2)

زيادة من "القشيرية"، وليست في النسختين.

(3)

ع: "اللائق".

(4)

ع: "واشتداده" تحريف.

ص: 316

وأيضًا فمن المعلوم قطعًا أنَّ الصوت المسموع ليس هو ذلك الخطاب الأول، ولا هو متعلق به، ولا هو منه بسبيل.

وأيضًا فإنَّ هذا الاضطراب على قرآن الشيطان والغناء الذي هو مادة النفاق ورقية الفجور، كيف يُحرِّك للخطاب بقوله:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ؟

وأيضًا فإنَّ العبد لو سمع كلام الله بلا واسطة كما سمعه موسى بن عمران لم

(1)

يكن

(2)

سماعه بعدُ لأصواتِ الألحان

(3)

والغناء محرِّكًا لذلك مذكِّرًا به. بل المأثور أنَّ موسى مَقَتَ الآدميين وأصواتهم وكلامهم لما وقر في مسامعه من كلام ربه جل جلاله

(4)

.

وأيضًا فإنَّ استلذاذ الصوت أمر طبيعي لا تعلق له بكونهم

(5)

سمعوا خطاب الرب في الأزل أصلًا.

وأيضًا فإنَّ أحدًا لا يذكر ذلك السماع أصلًا إلا بالخبر عنه.

(1)

ع: "إن لم".

(2)

في الأصل: "يكون".

(3)

ع: "الأصوات والألحان".

(4)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(12650) والبيهقي في "الشعب"(10527) عن ابن عباس. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 203): "فيه جويبر، وهو ضعيف جدًّا".

(5)

ع: "بكونه".

ص: 317

وأيضًا فإنَّ معنى الآية ينبُو عما حملها عليه

(1)

من قال [118 أ] بهذا القول من وجوه متعددة:

منها: أنَّه قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ

(2)

} [الأعراف: 172]، ولم يقل: من آدم، ولا قال: من ظهره، ولا قال: من

(3)

ذريته.

ومنها: أنَّه أشهدهم على أنفسهم، ولابدّ أن يكونوا عند هذا الإشهاد موجودين، والنفوس البشرية إنما تُحدَثُ عند خلق أبدانها، لا أنها مخلوقة قبل الأبدان.

ومنها: أنَّ المقصود بهذا الإشهاد إثبات الحق وإقامة الحجة، وهذا إنما حصل بعد خروجهم إلى هذه الدار وإقامة الحجة عليهم من الرسل

(4)

، وبما رُكِّب فيهم من العقول ونُصِب لهم من الأدلة، وكيف تقوم الحجة عليهم بأمر لا يذكره أحد منهم؟

ومنها: أنَّه قال: {أَنْ يَقُولُوا

(5)

يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}

(1)

"عليه" ليست في الأصل.

(2)

كذا في النسختين بصيغة الجمع، وهي قراءة أبي عمرو التي كانت سائدة في دمشق زمن المؤلف.

(3)

"من" ليست في ع.

(4)

ع: "بالرسل".

(5)

كذا في الأصل بصيغة الغائب، وهي قراءة أبي عمرو.

ص: 318

أي حِذارَ أن يقولوا لئلا يقولوا، فأخبر أنَّ هذا الإشهاد والتقرير لئلا يحتجوا عليه

(1)

سبحانه يومَ القيامة بغفلتهم عنه، فكيف تقوم عليهم الحجة بأمرٍ كلهم عنه غافل لا يذكره أحد منهم؟

ومنها: أنَّه قال: {أَوْ يَقُولُوا

(2)

إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 173]، فأخبر أنَّه أقام عليهم الحجة لئلا يحتجوا عليه بتقليد الآباء، فلو أهلكهم لأهلكهم بذنوب غيرهم، وهذا كله حصل بعد إرسال الرسل

(3)

وإنزالِ الكتب وتركيبِ العقول والأسماع والأبصار فيهم، فكيف يحصل بهذا العهد الذي لا يذكره أحد؟

ثمَّ إنَّ الجنيد في السماع كان له أحوال: أولها حضوره، ثمّ المنع من التكلُّف له، والرخصة لمن صادفه

(4)

.

قال القشيري

(5)

: "سمعت محمد بن الحسين، يقول: سمعت الحسين بن أحمد بن جعفر، يقول: سمعت أبا بكر بن ممشاذ، [118 ب] يقول: سمعت الجنيد، يقول: السماع فتنةٌ لمن طلبه، ترويحٌ لمن صادفه.

(1)

في الأصل: "عليهم".

(2)

كذا في الأصل على قراءة أبي عمرو.

(3)

في الأصل: "الرسول".

(4)

بعدها في ع: "مصادفة".

(5)

"الرسالة القشيرية"(ص 44).

ص: 319

فأخبر أنَّه فتنةٌ لمن قصده، ولم يجعله لمن صادفه قُربةً ولا مستحبًّا. بل جعله من نوع الراحة، فكيف يقول مع هذا إنَّه يُذكِّر الخطاب المتقدم؟ ثمّ إنَّ الجنيد ترك السماع وتاب منه، ومنع منه

(1)

أصحابه، كما تقدم حكاية ذلك

(2)

.

فصل

*قال صاحب السماع

(3)

: فهذا أبو علي الدقاق من شيوخ القوم وساداتهم يقول ما حكاه عنه القشيري

(4)

، قال: سمعته يقول: السماع حرام على العوام لبقاء نفوسهم، مباح للزهاد لحصول مجاهداتهم، مستحب لأصحابنا لحياة قلوبهم.

*قال صاحب القرآن: إن كان أبو علي الدقاق من شيوخ القوم، فأبو علي الروذباري ــ الذي شهد فيه القشيري بأنَّه أظرف المشايخ وأعلمهم بالطريقة، وقد صحب الجنيد والطبقة الثانية، وكان يقول: أستاذي في التصوف الجنيدُ، وفي الفقه أبو العباس ابن سُريج، وفي الأدب ثعلب، وفي الحديث إبراهيم الحربي ــ سئل عمن يسمع الملاهي ويقول: هي لي حلال، لأني قد وصلتُ إلى درجة لا يؤثر في اختلاف

(1)

"منه" ليست في ع.

(2)

انظر (ص 44).

(3)

ع: "الغناء".

(4)

"الرسالة القشيرية"(ص 509).

ص: 320

الأحوال، فقال: نعم، قد وصل لَعمري ولكن إلى سَقَر

(1)

.

فقول أبي علي: "هو مباح للزهاد لحصول مجاهداتهم" هو الذي أنكره أبو علي بعينه.

ثمّ إنَّ هذا التقسيم مما تردُّه الشريعة، فإنَّ ما حرمه الله ورسوله يستوي في تحريمه العامة والخاصة كسائر المحرمات، فلم يحرم الله على العامة

(2)

شيئًا ويبيحه للخاصة ثمّ يستحبّه لخاصة الخاصة، وهل هذا إلا من جنس التلاعب بالدين؟! فلو قال قائل: الخمر حرام على العوام لبقاء نفوسهم وما يقع فيها من العربدة والشر، مباح لمن جاهد [119 أ] نفسَه عن ذلك، مستحب لمن قلبه حيٌّ لا يؤثر فيه شربه، أكان فرقٌ بينه وبين هذا التقسيم؟ وأين في شرع الله ورسوله فعل مباح لبعض المكلفين، حرام بعينه على بعضهم، مستحب لبعضهم، مع استوائهم في التكليف وأسبابه؟ هذا مما لا يمكن مجيء الشرع به.

وإذا اختلفت الأحكام باختلاف المكلفين اختلفت باختلاف أوصافهم

(3)

، كتحريم نكاح الإماء

(4)

على القادر الواجد لنكاح حرة، وإباحته للعاجز الخائف العَنَتَ، وكوجوب الصوم على المقيم والمرأة

(1)

"الرسالة القشيرية"(ص 119).

(2)

ع: "للعامة".

(3)

في الأصل: "أوصافها".

(4)

ع: "الأمة".

ص: 321

الطاهر، وإباحة الفطر للمسافر ووجوبه

(1)

على الحائض، وكوجوب الزكاة على المالك للنصاب وسقوطها عن

(2)

العاجز عنه، وتحريم النكاح والوطء على المحرم وإباحته للحلال، وتحريم دخول المسجد على الجنب وإباحته للطاهر. فهذا هو الذي تجيء به الشرائع، وهو تعليق الأحكام بالأوصاف واختلافها بسببها.

فأما أن يكون الفعل حرامًا على العامة مباحًا للخاصة مستحبًّا لخاصة الخاصة، فهذا شرعُ دينٍ لم يأذن به الله، ثمّ ما الضابط المفرِّق بين من يحرم عليه ويباح ويستحب؟ وما هو العامي الذي يحرم عليه والخاص الذي يباح له وخاص الخاص الذي يستحب له؟ وهل هذا وأمثاله إلّا فتح باب تبديل الدين وتغييره

(3)

؟ وفتحه هدمٌ لقواعد الشرع المحمدي

(4)

، والله المستعان.

فصل

* قال صاحب الغناء

(5)

: فهذا ذو النون المصري من سادات القوم ومشايخ الطريق، سُئل عن الصوت الحسن فقال: مخاطبات

(6)

(1)

في الأصل: "ووجوه".

(2)

في الأصل: "على".

(3)

ع: "باب تبديل وتغيير".

(4)

"وفتحه

المحمدي" ليست في الأصل.

(5)

"الرسالة القشيرية"(ص 509).

(6)

في الأصل: "مخاطبًا".

ص: 322

وإشارات أودعها الله كلَّ

(1)

طيب وطيبة. وسئل مرة أخرى عن السماع، [119 ب] فقال: واردُ حقّ يُزعِج القلوبَ إلى الحق، فمن أصغى إليه بحقٍّ تحقَّقَ، ومن أصغَى إليه بنفسٍ تزندق.

* قال صاحب القرآن: الحكاية عن أضعافِ أضعاف هؤلاء لا تُجدِي عليك شيئًا، فلِمَ

(2)

ذا التكثر بما لا يفيد؟ ثمّ إنَّ هذا الكلام لا تُعرَف صحتُه عن ذي النون، والكذب على المشايخ كثير جدًّا، وقد رأى أهل العلم وسمعوا من ذلك ما لا يُحصِيه إلا الله. ثمّ لو سُلِّمَتْ صحةُ هذا عن ذي النون فله حكم أمثاله من غير المعصومين الذين يجوز عليهم بل يجب وقوع الخطأ منهم، وغاية أحدهم أن يُعذَر فيما صدر منه باجتهاده، ويكون ذلك العمل منه

(3)

مغفورًا بنيته وصدقه وحسناته وغير ذلك، وأما أن يُجعَل قدوةً للناس في ذلك فكلَّا ولمَّا.

وذو النون قد نُقِل عنه أنَّه لما دخل بغداد اجتمع إليه الصوفية وفيهم قوَّالٌ، فاستأذنوه في أن يقول بين يديه، فأذن له، فابتدأ يقول:

صغيرُ هواك عذَّبني

فكيفَ به إذا احتَنَكا

وأنت جمعتَ في قلبي

هوًى قد كان مشتركا

أما تَرْثِي لِمُكْتَئِبٍ

إذا ضحِكَ الخليُّ بكى

(1)

في الأصل: "في كل".

(2)

ع: "فكم" تحريف.

(3)

"منه" ليست في ع.

ص: 323

فقام ذو النون، وسقط على وجهه، والدم يقطُر من جبينه ولا يسقط على الأرض، ثمّ قام رجل من القوم فتواجد، فقال له ذو النون:{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء: 218]، فجلس الرجل

(1)

.

قال أبو علي الدقاق: كان ذو النون صاحب إشرافٍ على ذلك الرجل، حيث نبَّهه أن ذلك ليس مقامه، وكان ذلك الرجل صاحب إنصافٍ حيث قَبِلَ ذلك منه وقعد.

وذو النون أحد الشيوخ الذين حضروا السماع [120 أ] تأويلًا، وليس ذو النون بأجلَّ من سفيان الثوري، وشريك بن عبد الله، ومِسْعَر بن كِدام، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وغيرهم من أئمة الكوفة الذين استحلُّوا النبيذ المسكر تأويلًا، ولا بأجلَّ من عطاء بن أبي رباح وابن جريج وغيرهما ممن استحلَّ المتعة والصرف، ولا بأجلَّ من الأعمش والطائفة ممن استحلَّ الأكل في رمضان بعد طلوع الفجر، ولا بأجلَّ ممن استحلَّ أكلَ

(2)

ذي الناب من السباع والمخلب من الطير، ولا بأجلَّ ممن استحلَّ إتيانَ النساء في أدبارهن، ولا بأجلَّ ممن جوَّز للصائم أكلَ البَرَد، ولا بأجلَّ ممن جوَّز نكاحَ الزانية مع استمرارها على البغاء، وجوَّز نكاحَ البنت المخلوقة من مائه سفاحًا، وغير ذلك بالتأويل، وكذلك الذين استحلُّوا قتالَ علي بن أبي طالب من أهل

(1)

"الرسالة القشيرية"(ص 513).

(2)

ع: "أكل كل".

ص: 324