المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌43 - (2) باب كون الشرك أقبح الذنوب، وقبح بعضها على بعض - الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج - جـ ٣

[محمد الأمين الهرري]

فهرس الكتاب

- ‌42 - (1) بَابُ: كَوْنِ الإيِمَان أَفْضَلَ الأعْمَالِ عَلَى الإِطْلَاقِ وَتَفْضِيلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ

- ‌43 - (2) بَابُ كَوْنِ الشِّرْكِ أَقْبَحَ الذُّنُوبِ، وَقُبْحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ

- ‌44 - (3) - بَابُ: بَيَانِ الْكَبَائِرِ وَأَكْبَرِهَا

- ‌45 - (4) بَابُ: بَيَانِ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ، وَالأمْرِ بِاجْتِنَابِهَا الَّذِي هُوَ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ

- ‌46 - (5) بَابٌ: مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيهِ

- ‌47 - (6) بَابُ: لا يدخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ كِبْرٌ

- ‌48 - (7) بَابُ: مَنْ مَاتَ مُؤمِنًا لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ تَعَالى شَيئًا. . دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ مُشْرِكًا. . دَخَلَ النَّارَ، وَبَيَان الْمُوجِبَتَينِ

- ‌49 - (8) بَابُ: ارْتِكَابِ الْمُؤْمِنِ الْكَبَائِرَ لَا يُخْرِجُهُ عَنِ الإِيمَانِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ

- ‌50 - (9) بَابُ: الاكْتِفَاءِ بِظَاهِرِ الإِسْلام، وَتَرْكِ الْبَحْثِ عَمَّا فِي الْقُلُوبِ، وَتَحْرِيمِ قَتْلِ الإِنْسَانِ بَعْدَ أَن قَال: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ

- ‌51 - (10) بَابُ: إِيمَانِ مَنْ تبَرَّأَ مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

- ‌52 - (11) بَابُ: إِيمَانِ النَّمَّامٍ، وَغِلَظِ تَحْرِيمِ النَّمِيمَةِ

- ‌53 - (12) بَابٌ: إِيمَانِ الْمُسْبِل إِزَارَهُ، وَالْمَانِّ بِصَدَقَتِهِ، وَالْمُنَفِّقِ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ، وَمَنْ لَا يُكَلِّمُهُ اللَّهُ تَعَالى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيهِ

- ‌54 - (13) بَابُ: إِيمَانِ مَنْ قتَلَ نَفْسَهُ بِشَيءٍ، وَأَنَّهُ يُعَذَّبُ بِهِ فِي النَّارٍ، وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَغَيرِ ذَلِكَ

- ‌55 - (14) بَابُ: إِيمَانِ مَنْ غَلَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ

- ‌56 - (15) بَابُ: الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْقَاتِلَ لِنَفْسِهِ لَا يَكْفُرُ إِنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ الْقَتْلَ

- ‌57 - (16) بَابٌ مَا يُقْبَضُ عِنْدَهُ رُوحُ كُلِّ مُومِنٍ وَيَبْقَى بَعْدَهُ عَلَى الأَرْضِ شِرَارُ النَّاسِ

- ‌58 - (17) بَابٌ: مَا يُخَافُ مِنْ سُرْعَةِ سَلْبِ الإيمَانِ وَالْحَضِّ عَلَى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ تَظَاهُرِ الْفِتَنِ الشَّاغِلَةِ عَنْهَا

- ‌59 (18) - بَابٌ: مَخَافَةُ الْمُؤمِنِ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ مِنَ الإِيمَان

- ‌60 - (19) - بَابُ: إِسْلامِ مَنْ أَخْلَصَ فِي إِسْلامِهِ، وَمَنْ لَمْ يُخْلِصْ فِيهِ

- ‌61 - (20) بَابٌ: الإِسْلامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ، وَكَذَا الْهِجْرَةُ وَالْحَجُّ

- ‌62 - (21) بَابُ: إِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَأَحْسَنَ .. أَحْرَزَ مَا قَبْلَهُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ

- ‌63 - (22) بَابُ: إِطْلاقِ الظُّلْمِ عَلَى الشِّرْكِ، وَإِخْلاصِ الإِيمَان مِنْهُ

- ‌64 - (23) بَابُ: شِكَايَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى خَطَرَاتِ النَّفْسِ، وَنُزُولِ قَوْلهِ تَعَالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا}

- ‌65 - (24) بَابُ: تَجَاوُزِ اللهِ تَعَالى لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَخَوَاطِرِهَا

- ‌66 - (25) بَابُ: كِتَابَةِ الْحَسَنَةِ لِلْمُؤْمِنِ بِمُجَرَّدِ هَمِّهَا، وَعَدَمِ كِتَابَةِ السَّيِّئَةِ عَلَيهِ بِمُجَرَّدِ الْهَمِّ

- ‌67 - (26) بَابٌ: اسْتِعْظَامُ الْوَسْوَسَةِ فِي الإِيمَانِ مَحْضُ الإِيمَانِ وَصَرِيحُهُ وَخَالِصُهُ

- ‌68 - (27) بَابُ: التَّسَاؤُلِ عَمَّنْ خَلَقَ الْخَلْقَ، وَمَنْ خَلَقَ اللهَ، وَبَيَانِ مَا يَقُولُهُ مَنْ وَجَدَ ذَلِكَ

- ‌69 - (28) بَابُ إِثْمِ مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ بِيَمِينِهِ

- ‌فصل في الأحكام التي تستفاد من أحاديث الباب

الفصل: ‌43 - (2) باب كون الشرك أقبح الذنوب، وقبح بعضها على بعض

‌43 - (2) بَابُ كَوْنِ الشِّرْكِ أَقْبَحَ الذُّنُوبِ، وَقُبْحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ

161 -

(81)(4) حَدَّثَنَا عُثْمَانُ ابْنُ أَبِي شَيبَةَ وَإسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. قَال إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ. وَقَال عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورِ، عَنْ أبي وَائِلٍ،

ــ

43 -

(2) بَابُ كَوْنِ الشِّرْكِ أَقْبَحَ الذُّنُوبِ، وَقُبْحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ

أي هذا باب معقود في بيان كون الإشراك بالله تعالى أقبح الذنوب، وأشدها عقوبة وأمها وأساسها، كما أن الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال الصالحة وأكثرها أجرًا، وأساسها ومبناها فالنسبة بينهما نسبة التضاد والتباين، فناسب إدخال هذه الترجمة في ترجمة كتاب الإيمان، فلا اعتراض على المؤلف بذكرها هنا؛ لأن بينهما نسبة التباين والتضاد، وفي بيان كون بعضها أقبح وأشد عقوبة من بعض، كما أن بعض الأعمال الصالحة أفضل وأكثر أجرًا من بعض.

ثم استدل المؤلف رحمه الله تعالى على الترجمة فقال:

(161)

- س (81)(4)(حَدَّثَنَا عثمان) بن محمَّد (بن أبي شيبة) إبراهيم بن عثمان العبسي مولاهم أبو الحسن الكُوفيّ، ثِقَة من العاشرة، مات سنة (239)(و) حدثنا أَيضًا (إسحاق بن إبراهيم) بن مخلد الحنظلي، أبو يعقوب المروزي، وقال في التقريب: ثِقَة حافظ مجتهد، قرين أَحْمد بن حنبل من العاشرة، مات سنة (238) ثمان وثلاثين ومائتين، روى عنه المؤلف في أحد وعشرين بابًا تقريبًا، وأتى بقوله (قال إسحاق: أخبرنا جرير، وقال عثمان: حَدَّثَنَا جرير) لبيان اختلاف كيفية سماعهما لأن بين أخبرنا وحدثنا فرقًا في اصطلاح الإِمام مسلم، وتورعًا من الكذب على أحدهما لو اقتصر على إحدى الصيغتين، وفائدة هذه المقارنة بيان كثرة طرقه، أي روى لنا جرير بن عبد الحميد الكُوفيّ، أبو عبد الله الضَّبِّيّ، ثِقَة من الثامنة، مات سنة (188) روى عنه المؤلف في ستة عشر بابًا تقريبًا (عن منصور) بن المعتمر بن عبد الله بن ربيعة السلمي، أبي عتاب بمثلثة بعدها باء موحدة، الكُوفيّ، ثِقَة ثبت، وكان لا يدلس، من الخامسة، مات سنة (132) اثنتين وثلاثين ومائة، روى عنه المؤلف في تسعة عشر بابًا تقريبًا.

(عن أبي وائل) شَقِيق بن سلمة الأسدي الكُوفيّ، أحد سادة التابعين، ثِقَة مخضرم، مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة (100)، وتقدم البسط في

ص: 26

عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ عَبدِ اللهِ قَال: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ؟ قَال: أَنْ تَجْعَلَ لله نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قَال: قُلْتُ لَهُ: إِنَّ ذلِكَ

ــ

ترجمته وأن المؤلف روى عنه في تسعة أبواب (عن عمرو بن شرحبيل) بضم الشين وفتح الراء وسكون الحاء المهملة الهمداني، أبي ميسرة الكُوفيّ، أحد الفضلاء، روى عن عبد الله بن مسعود في الإيمان وعمر وعلي، ويروي عنه (خ م د ت س) وأبو وائل والقاسم بن مخيمرة، وقال في التقريب: ثِقَة مخضرم، مات سنة (63) ثلاث وستين (عن عبد الله) بن مسعود الهذلي الكُوفيّ، وهذا السند من سداسياته، رجاله كلهم كوفيون إلَّا إسحاق بن إبراهيم فإنَّه مروزي (قال) عبد الله بن مسعود (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم) أي أشد عقوبة (عند الله) سبحانه وتعالى قال الأبي: لا يقال السؤال عن أفضل الأعمال لما تقدم من التزامه، والحرص عليه، وأما أعظم الذنوب فترك السؤال عنه أفضل وأرجح، ليقع الكف عن الجميع، ويشهد لذلك حديث "إن الله أخفى ثلاثًا في ثلاث".

(قلت) السؤال عنه ليكون التحرز منه أكثر (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظمها عقوبة عند الله تعالى (أن تجعل لله) شريكًا، وتعتقد أن له تعالى (ندًا) أي مثلًا (وهو) أي والحال أن الله سبحانه وتعالى (خلقك) وحده، وليس له شريك في خلقك وإيجادك، قال المازري: الند: المثل، وجمعه أنداد، ومنه قوله تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} قال الأبي: بل هو أخص منه لأنه المثل المناوئ من ند إذا نفر وخالف (فإن قلت) يلزم أن يكون غير المناوئ غير منهي عنه، لأنه لا يلزم من النهي عن الأخص، النهي عن الأعم والمثل منهي عن اتخاذه، خالف أم لم يخالف.

(قلت) هو كقوله تعالى {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] وفي قوله صلى الله عليه وسلم "وهو خلقك" تقبيح للجعل وبيان للفرق.

قال القرطبي: معناه أن اتخاذ الإنسان إلهًا غير خالقه المنعم عليه مع علمه بأن ذلك المتخذ ليس هو الذي خلقه، ولا الذي أنعم عليه من أقبح القبائح، وأعظم الجهالات، وعلى هذا فذلك أكبر الكبائر وأعظم العظائم اهـ.

(قال) ابن مسعود (قلت له) صلى الله عليه وسلم (إن ذلك) المذكور من جعل ندٍ له

ص: 27

لَعَظِيمٌ. قَال: قُلْتُ: ثُمّ أَيٌّ؟ قَال: ثُمّ أن تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أن يَطعَمَ مَعَكَ

ــ

تعالى، وهو خلقك وحده (لعظيم) أي لأمر عظيم، وذنب كبير حقًّا، لا شك فيه، لأن فيه جحد نعمة الخلق والإيجاد (قال) عبد الله (قلت) له صلى الله عليه وسلم (ثم) بعد ذلك الجعل المذكور (أيٌّ) أي أيُّ الذنب أعظم عند الله تعالى، وأشد عقوبة، والتنوين في أيٌّ عوض عن المضاف إليه المحذوف، لأنها معربة بالضمة الظاهرة، وثم هنا للترتيب في الإخبار والذكر، ولا يصح كونها للترتيب الزماني، إذ لا يتصور فيه، ولا للترتيب الرتبي لأن شرطه كون المعطوف أعظم كقوله:"يرى غمرات الموت ثم يزورها" وهو هنا بالعكس فهي هنا للترتيب في الإخبار فقط.

(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثم) أعظم الذنب بعد الإشراك (أن تقتل ولدك مخافة) أي كراهة (أن يطعم) ويأكل (معك) مالك فيدخل عليك الفقر، وهو بمعنى قوله تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} أي فقر، وفي الأخرى {مِنْ إِمْلَاقٍ} فالأولى نهي للأغنياء أن يقتلوا خوف الفقر الآتي، والثانية للفقراء أن يقتلوا تخفيفًا للعيال، والحديث جامع لمعنى الآيتين، والعرب إنما كانت تفعله في البنات، لتخفيف المؤونة، ولفرط الغيرة لما يعرض من فضيحة النساء، ويتحملون ذلك في الذكر لما يرجون فيه من حماية الجانب وتكثير العشيرة، بخلاف البنات، قال السهيلي: وما ذكر أنَّهم يفعلونه خشية الإملاق أصح، وهو الموءودة المذكورة في قوله تعالى {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} وذكر الولد قيد في كون القتل أقبح لا في كونه كبيرة، لأنه ضد ما جبلت عليه الآباء من الرقة، فلا يقع إلَّا من جافي الطبع، لا سيما وقد قيل إنهم كانوا يدفنونه حيًّا.

قال القرطبي قوله (أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك) هذا من أعظم الذنوب لأنه قتل نفس محرمة شرعًا، محبوبة طبعًا، مرحومة عادة، فإذا قتلها أبوها كان ذلك دليلًا على غلبة الجهل والبخل، وغلظ الطبع والقسوة، وأنه قد انتهى من ذلك كله إلى الغاية القصوى، وهذا نحو قوله تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151] أي فقر، وهذا خطاب لمن كان فقره حاصلًا في الحال، فيخفف عنه بقتل ولده، مؤنته من طعامه ولوازمه، وهذه الآية بخلاف الآية الأخرى التي قال فيها {خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} سورة الإسراء، آية (31) فإنَّه خطاب لمن كان واجدًا لما ينفق عليه في الحال، غير أنَّه كان يقتله مخافة الفقر في ثاني حالٍ وكان بعض جفاة الأعراب وجهالهم ربما يفعلون ذلك، وقد قيل إن الأولاد في هاتين الآيتين هم البنات كانوا يدفنونهن أحياء أنفة وكبرًا ومخافة

ص: 28

قَال: قُلْتُ: ثُمّ أَيٌّ؟ قَال: ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ"

ــ

العيلة والمعرة وهي الموءودة التي ذكر الله تعالى بقوله: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8 و 9] والحاصل أن أهل الجاهلية كانوا يصنعون كل ذلك فنهى الله تعالى عن ذلك وعظم الإثم فيه والمعاقبة عليه وأخبر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن ذلك من أعظم الكبائر.

(قال) ابن مسعود (قلت) له صلى الله عليه وسلم (ثم) بعد قتل الولد (أي) ذنب أعظم (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثم) أعظم الذنب بعد قتل الولد (أن تزاني حليلة جارك) أي أن تزني بمن يحل له وطؤها من حرة أو أمة فالمفاعلة ليست على بابها أو هي على بابها والمراد بزناها موافقتها له عليه ورضاها به، وذكر الحليلة خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له إذ لا فرق في قبح الزنا بالجارة بين كونها متزوجة أو عزبة وأما لفظ الجار فلم يخرج مخرج الغالب بل مخرج شدة قبح الزنا بها لأنه زنا وإبطال لحق الجار وفي حديث المقداد "لأن يزني أحد بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره" ولأن التمكن منه أقرب. اهـ سنوسي.

وقال القاضي: خمس حليلة الجار، لأن الغالب أن الرَّجل إنما يزاني من قرب مكانه، وأمكن لقاؤه، ونبه بالحليلة على عظم حق الجار، وأنه يجب أن يغار على حليلة جاره من الفاحشة، مثل ما يغار على حليلة نفسه، وخص الثلاثة بالذكر، لاعتياد العرب لها في الجاهلية.

وعبارة القرطبي بالحاء المهملة، هي التي يحل وطؤها بالنكاح أو بالتسري، سميت بذلك لكونها تحل له، وقيل لكونها تحل معه، والجار: المجاور في المسكن، والداخل في جوار العهد (وتزاني) تحاول الزنا يقال: المرأة تزاني مزاناة وزنى، والزنا وإن كان من أكبر الكبائر والفواحش، لكنه بحليلة الجار أفحش وأقبح، لما ينضم إليه من خيانة وهتك ما عظم الله ورسوله، من حرمته وشدة قبح ذلك شرعًا وعادةً، فلقد كانت الجاهلية يستمدحون بصون حرام الجار، ويغضون دونهم الأبصار، كما قال عنترة:

وأغض طرفي ما بدت لي جارتي

حتَّى يواري جارتي مأواها

ومن معنى ما ذكر أن الزنا بالجارة أيسر، ما روي أن ابنة لبعض الكبراء زنت بعبدها أو عبد أبيها فقيل لها: أبالعبد وأنت في نسبك، وأنت كذا وكذا، فقالت: "قرب

ص: 29

162 -

(00)(00) حَدَّثَنَا عُثمَانُ بْنُ أبي شَيبَةَ وإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أبي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، قَال: قَال عَبدُ الله: "قَال رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ؟ قَال:

ــ

الوساد وطول السناد أفضى بي إلى الفساد" وتعني بالسناد طول الحديث، وقرب المكان.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث البُخَارِيّ، رواه في التفسير، وفي التوحيد وفي الأدب، وفي الديات، وفي غيرها، وأبو داود، رواه في الطلاق، والتِّرمذيّ في التفسير والنَّسائيّ في الكبرى، في التفسير، وفي المحاربة اهـ من التحفة.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه فقال:

(162)

- متا (00)(00)(حدثنا عثمان بن أبي شيبة) العبسي الكُوفيّ، ثِقَة من (10) مات سنة (239)(وإسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المروزي، ثِقَة من العاشرة، مات سنة (238)(جميعًا) أي كلاهما (عن جرير) بن عبد الحميد الكُوفيّ الضَّبِّيّ، ثِقَة من الثامنة، مات سنة (188)(عن الأَعمش) سليمان بن مهران الكاهلي الكُوفيّ، ثِقَة من الخامسة، مات سنة (148)(عن أبي وائل) شَقِيق بن سلمة الأسدي الكُوفيّ ثِقَة مخضرم، مات وله (100) سنة في خلافة عمر بن عبد العزيز (عن عمرو بن شرحبيل) الهمداني الكُوفيّ، ثِقَة مخضرم، مات سنة (63)(قال) عمرو (قال عبد الله) بن مسعود الهذلي الكُوفيّ، وهذا السند من سداسياته، رجاله كلهم كوفيون أَيضًا، إلَّا إسحاق بن إبراهيم فإنَّه مروزي، وغرضه بسوق هذا السند بيان متابعة الأَعمش لمنصور بن المعتمر في رواية هذا الحديث عن أبي وائل، وكرر متن الحديث لما في هذه الرواية من المخالفة للرواية الأولَى، في بعض الكلمات، ولأن ابن مسعود أضاف السؤال في الرواية الأولى إلى نفسه، وفي هذه الرواية إلى رجل مبهم، ولا يضر جهالته لأنه صحابي.

(قال رجل) لم أر من ذكر اسمه، وجهالته لا تضر في السند، لأنه صحابي، والصحابة كلهم عدول، كما مر آنفًا، أي سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكبر الذنوب فقال (يَا رسول الله؛ أي الذنب أكبر) أي أشد عقوبة (عند الله) تعالى (قال)

ص: 30

أَنْ تَدْعُوَ لله نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قَال: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَال: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قَال: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَال: أن تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ". فَأَنْزَلَ الله عز وجل تَصْدِيقَهَا: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ

ــ

رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر الذنوب وأشدها عقوبة (أن تدعو) وتجعل في دعوتك وعبادتك (لله) سبحانه وتعالى (ندًا) أي مثلًا وشريكًا في العبادة والدعاء (وهو) أي والحال أن الله سبحانه وتعالى (خلقك) وأوجدك من العدم وحده لا شريك له في إيجادك (قال) الرَّجل السائل (ثم) بعد الإشراك (أي) أي أيُّ الذنب أكبر (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبرها (أن تقتل ولدك) الذي هو أحب النَّاس إليك (مخافة) أي خشية (أن يطعم) بفتح الياء، أي أن يأكل (معك) مالك فيُدخل عليك الفقر (قال) الرَّجل السائل (ثم) بعد قتل الولد (أيٌّ) أي أيُّ الذنب أكبر (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبرها وأشدها عقوبة (أن تزاني) أي أن تزني بـ (حليلة جارك) أي زوجته برضاها وذلك يتضمن الزنا، وإفسادها على زوجها، واستمالة قلبها إلى الزاني، وذلك أفحش، وهو مع امرأة الجار أشد قبحًا، وأعظم جرمًا، لأن الجار يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه، ويأمن بوائقه، ويطمئن إليه، وقد أمر بإكرامه والإحسان إليه، فإذا قابل هذا كله بالزنا بامرأته، وإفسادها عليه مع تمكنه منها، على وجه لا يتمكن غيره منه، كان في غاية من القبح.

(فأنزل الله) سبحانه وتعالى (عز) أي اتصف بالكمالات (وجل) أي تنزه عن النقائص (تصديقها) أي تصديق فتوى الرسول صلى الله عليه وسلم أي آية مصدقة لفتوى الرسول شاهدة لها قوله ({وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ}) ولا يعبدون ({مَعَ اللَّهِ}) سبحانه وتعالى ({إِلَهًا آخَرَ}) أي معبودًا آخر غير الله سبحانه وتعالى، والموصول في محل الرفع معطوف على الموصول في قوله {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} على كونه صفة لعباد الرَّحْمَن الواقع مبتدأ خبره قوله {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} إلخ، أي عباد الرَّحْمَن الذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ({وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ}) قَتْلَها لإيمانها أو أمانها لكونها معصومة حينئذ ({إلا بِالْحَقِّ}) أي إلَّا مُحِقِّين في قتلها كان قتلوها لقصاص أو حدٍّ {وَ} الذين ({لَا يَزْنُونَ}) أي لا يطئون فرجًا محرمًا ({وَمَنْ

ص: 31

يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}

ــ

يَفْعَلْ ذَلِكَ}) المذكور من الإشراك والقتل والزنا ({يَلْقَ أَثَامًا}) أي عقوبة على ذلك وجملة الشرط معترضة بين المبتدأ والخبر المذكورين آنفًا.

قال القرطبي: ظاهر هذا الحديث أن هذه الآية نزلت بسبب هذا الذنب الذي ذكره النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وليس كذلك، لأن التِّرْمِذِيّ قد روى هذا الحديث، وقال فيه: وتلا النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية، بدل فأنزل الله وظاهره أنَّه صلى الله عليه وسلم قرأ بعد ذكره الحديث ما قد كان أنزل منها، على أن الآية تضمنت ما ذكره في حديثه.

قال النواوي: أما أحكام هذا الحديث ففيه أن أكبر المعاصي الشِّرك، وهذا ظاهرٌ لا خفاء فيه، وأن القتل بغير حق يليه وكذلك قال أصحابنا أكبر الكبائر بعد الشِّرك القتل وكذا نص عليه الشَّافعيّ رضي الله عنه في كتاب الشهادات من مختصر المزني وأما ما سواهما من الزنا واللواط وعقوق الوالدين والسحر وقذف المحصنات والفرار يوم الزحف وأكل الربا وغير ذلك من الكبائر فلها تفاصيل وأحكام تعرف بها مراتبها ويختلف أمرها باختلاف الأحوال والمفاسد المرتبة عليها وعلى هذا يقال في كل واحدة منها هي من أكبر الكبائر وإن جاء في موضع أنها أكبر الكبائر كان المراد من أكبر الكبائر كما مر في أفضل الأعمال والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ.

***

ص: 32