الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
61 - (20) بَابٌ: الإِسْلامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ، وَكَذَا الْهِجْرَةُ وَالْحَجُّ
225 -
(116)(39) حدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ وَأَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ وإسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ
ــ
61 -
(20) بَابٌ: الإِسْلامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ، وَكَذَا الْهِجْرَةُ وَالْحَجُّ
أي هذا باب معقود في بيان الحديث الذي يدل على أن الإسلام الشرعي وهو الإسلام ظاهرًا وباطنًا، فهو بمعنى التصديق القلبي والانقياد الظاهري يهدم أي يزيل ويرفع ما قبله، أي المؤاخذة بما قبله من أعمال الجاهلية من الشرك والمعاصي كبائرها وصغائرها، أي يسقطه ويمحو أثره ففي قوله يهدم استعارة تصريحية تبعية حيث شبه إسقاط الإسلام أثر أعمال الجاهلية بهدم الجدار وإذهابه عن محله واشتق منه يهدم بمعنى يسقط على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية (وكذا) أي ومثل الإسلام في الهدم المذكور (الهجرة) والانتقال من مكة إلى المدينة لطلب رضا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم (والحج) المبرور كما سيأتي البسط فيهما وفصلناهما بكذا إشارة إلى أن ذكرهما هنا استطرادي وإن ذكرا في الحديث لأن ترجمة الكتاب للإيمان.
(225)
- س (116)(39)(حدثنا محمد بن المثنى) بن عبيد بن قيس (العنزي) بفتح العين والنون أبو موسى البصري ثقة ثبت من العاشرة، مات سنة (252) روى عنه المؤلف في أربعة عشر بابًا تقريبًا (و) حدثنا أيضًا (أبو معن) بفتح الميم وسكون العين زيد بن يزيد الثقفي (الرقاشي) بفتح الراء المهملة والقاف المخففة وشين معجمة نسبة إلى رقاش بنت ضبيعة اهـ من تقريب التهذيب، البصري روى عن أبي عاصم في الإيمان والأطعمة، وخالد بن الحارث في الحج، ووهب بن جرير في النكاح والفضائل، وأبي عامر العقدي في دلائل النبوة، وعمر بن يونس في الفضائل وغيرها، ومعتمر بن سليمان، وغندر، ويروي عنه (م) والحسين بن إسحاق التستري، وقال في التقريب: ثقة من الحادية عشرة، روى عنه المؤلف في ستة أبواب تقريبًا (و) حدثنا أيضًا (إسحاق بن منصور) بن بهرام الكوسج، أبو يعقوب التميمي المروزي ثم النيسابوري، ثقة ثبت من الحادية عشرة، روى عنه المؤلف في سبعة عشرة بابًا تقريبًا. (كلهم) أي كل من الثلاثة (عن أبي عاصم) النبيل الضحاك بن مخلد بن الضحاك بن مسلم الشيباني البصري، ثقةٌ ثبت من التاسعة، مات سنة (212) روى عنه المؤلف في
-وَاللَّفْظُ لابْنِ الْمُثَنَّى- حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ (يَعْنِي أَبَا عَاصِمٍ) قَال: أَخْبَرَنَا حَيوَةُ بْنُ شُرَيحٍ، قال: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيب، عَنِ ابْنِ شَمَاسَةً الْمَهْرِيِّ،
ــ
اثني عشرة بابًا تقريبًا، وأتى بقوله (واللفظ) أي لفظ الحديث الآتي (لابن المثنى) تورعًا من الكذب على غيره، وفائدة هذه المقارنة بيان كثرة طرقه، قال ابن المثنى (حدثنا الضحاك) بصيغة السماع لا بالعنعنة، وأتى بالعناية في قوله (يعني) ابن المثنى بالضحاك (أبا عاصم) النبيل إشعارًا بأن هذه الكنية إنما زادها من عند نفسه أيضًا إيضاحًا للضحاك لا مما سمعه من شيخه ابن المثنى (قال) أبو عاصم النبيل (أخبرنا حيوة) بفتح أوله وسكون ثانيه وفتح الواو (بن شريح) بضم الشين مصغرًا بن صفوان التجيبي بضم أوله نسبة إلى تجيب بن ثومان بن سليم أبو زرعة المصري الزاهد، وقيل الحضرمي الكندي، روى عن يزيد بن أبي حبيب، وأبي يونس سليم، وأبي الأسود محمد بن عبد الرحمن، وكعب بن علقمة، ويزيد بن عبد الله بن الهاد، والبراء، وأبي صخر وخلق، ويروي عنه (ع) وأبو عاصم، وابن وهب، وعبد الله بن يزيد، وابن المبارك، والليث وغيرهم، وقال في التقريب: ثقة ثبت فقيه زاهد من السابعة مات سنة (158) وليس في مسلم من اسمه حيوة إلا هذا الثقة، روى عنه المؤلِّف في الإيمان والصلاة في موضعين، والجنائز والضحايا في موضعين، والنكاح في موضعين، والجهاد في موضعين، والصيد، فجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها سبعة أبواب تقريبًا (قال) حيوة بن شريح (حدثني يزيد بن أبي حبيب) وأبو حبيب اسمه سويد مولى شريك بن الطفيل الأزدي، أبو رجاء المصري عالمها، ثقة فقيه وكان يرسل، من الخامسة مات سنة (128) ثمان وعشرين ومائة، وقد قارب الثمانين (80) روى عنه المؤلف في أحد عشر بابًا تقريبًا (عن) عبد الرحمن (بن شُماسة) بضم الشين المعجمة وتخفيف الميم بعدها سين مهملة، وفي القاموس شماسة كثمامة اسم اهـ.
وقال القرطبي رويناه بفتح الشين وضمها (المهري) بفتح الميم وسكون الهاء نسبة إلى مهرة اسم قبيلة، أبي عمرو المصري، روى عن عمرو بن العاص في الإيمان، وعقبة بن عامر في النكاح والجهاد، وأبي الخير مرثد بن عبد الله في النذور، وعائشة في الجهاد، وعبد الله بن عمر قوله في الجهاد، وأبي ذر الغفاري في الفضائل، وأبي بصرة في الفضائل، ويروي عنه (م عم) ويزيد بن أبي حبيب، وكعب بن علقمة، وحرملة بن عمران، والحارث بن يعقوب، وثقه العجلي وابن حبان، وقال في التقريب: ثقة من
قَال: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوْ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ. فَبَكَى طَويلًا وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ. فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا ابَتَاهُ امَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
ــ
الثالثة، مات سنة (101) إحدى ومائة أو بعدها، روى عنه المؤلف في خمسة أبواب تقريبًا كما بيناه.
(قال) ابن شماسة (حضرنا عمرو بن العاص) بن وائل بن هاشم بن سُعَيد بضم أوله مصغرًا السهمي، الصحابي المشهور، أبا محمد القرشي المكي له تسعة وثلاثون حديثًا، اتفقا على ثلاثة، وانفرد (خ) بطرف حديث و (م) بحديثين، أسلم عند النجاشي، وقدم مهاجرًا في صفر سنة ثمان، ولاه النبي صلى الله عليه وسلم جيش السلاسل، عِداده في أهل مكة، وكان من دهاة قريش، مات بمصر -وكان واليًا عليها- ليلة الفطر سنة إحدى أو اثنتين وستين في ولاية يزيد بن معاوية وصلى عليه ابنه عبد الله بن عمرو، ثم صلى بالناس صلاة العيد، روى عنه عبد الرحمن بن شماسة المهري في الإيمان، وقيس بن أبي حازم، وأبو قيس مولاه في الصوم والأحكام، وأبو عثمان النهدي، وهذا السند من سداسياته، ورجاله ثلاثة منهم مصريون واثنان بصريان، وواحد مكي إلا إسحاق بن منصور فإنه مروزي أي حضرنا عنده (وهو) أي والحال أن عمرًا (في سياقة الموت) أي في سكرة الموت وحضور مقدماته (فبكى) عمرو بكاءً (طويلًا و) الحال أنه (حول وجهه) وأعرض به عنا (إلى) جهة (الجدار) أي جدار البيت (فجعل ابنه) عبد الله بن عمرو أي شرع (يقول) له (يا أبتاه) أي يا أبي، منادى مضاف إلى ياء المتكلم والهاء للسكت وإعرابه يا حرف نداء، أبتا منادى مضاف منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المنقلبة ألفًا قبلها تاء مزيدة للتفخيم منع من ظهورها اشتغال المحل بالفتحة المناسبة بالتاء لاستدعائها فتح ما قبلها، وتاء التأنيث حرف زائدٌ للتفخيم مبني على الفتح، وحركوها بالفتح لمناسبة الألف لأن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحًا، أبَ مضاف وياء المتكلم المنقلبة ألفًا للتخفيف في محل الجر مضاف إليه مبني على السكون لشبهها بالحرف شبهًا وضعيًا والهاء حرف زائد للسكت مبني على السكون، وجملة النداء جزء مقول لا محل لها من الإعراب، وإن أردت الخوض في إعراب المنادى المضاف إلى ياء المتكلم فراجع رسالتنا هداية أولي العلم والإنصاف في إعراب المنادى المضاف، والهمزة في قوله (أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستفهام التقريري الذي هو بمعنى نفي النفي، وما نافية، لا استفتاحية كما زعمه بعضهم لأن
بِكَذَا؟ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا؟ قَال: فَقَال: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلاثٍ،
ــ
حرف الاستفتاح لا يدخل على الأفعال (بكذا) وكذا كناية عن البشارات وقوله (أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا) توكيد لفظي لما قبله، والمعنى قد بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا من البشارات فلا تبكِ يا أبتي فإنه فرط لكم.
قال القاضي: وفي هذا ترجية المحتضر في رحمة الله تعالى بذكر أحاديث الرجاء وصالح عمله ليموت وقد غلب عليه الرجاء.
قال الأبي: استحبه وفعله كثيرٌ، ومنه أنه قال المعتمر لابنه: يا بني حدثني بالرخص لعلي ألقى الله تعالى وأنا أحسن الظن به، ومثله عن ابن حنبل، وسليمان التيمي، وغلب الخوف على اخرين فلم يطمئنوا، قيل للداراني وقد احتضر: أبشر فإنك تقدم على رب غفور رحيم قال: أفلا تقولون احذر فإنك تقدم على ربٍ يجازي على الصغيرة ويؤاخذ بالكبيرة، والأول أرجح فإن الرجاء يجلب محبة الله تعالى التي هي غاية السعادة "ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" ولذا قال صلى الله عليه وسلم "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى" وفي حديث آخر "أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء".
(قال) ابن شماسة (فـ) ـلما فرغ ولده من كلامه (قال) عمرو بن العاص (إن أفضل ما نعد) بضم النون من أعد الرباعي لا من عدَّ الثلاثي أي إن أفضل ما ندخره عند الله تعالى، وأكثره أجرًا (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله) أي أفضل ما نتخذه عدة للقاء الله تعالى الإيمان بالله تعالى وتوحيده وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم والنطق بذلك، وقد تقدم أن الإيمان أفضل الأعمال كلها، ويتأكد أمر النطق بالشهادتين عند الموت ليكون ذلك خاتمة أمره وآخر كلامه و (إني قد كنت) في حياتي (على أطباق ثلاث) أي على أحوال ثلاث ومنازل ثلاث، جمع طبق، والطبق الحال ومنه قوله تعالى {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)} [الانشقاق: 19] أي حالًا بعد حال، وذكر اسم العدد مع كون المعدود مذكرًا نظرا إلى كون الطبق بمعنى المنزلة، وفي بعض الرواية (على أطباق ثلاثة) بالتاء نظرًا إلى لفظ الطبق.
لَقَدْ رَأَيتُنِي وَمَا أَحَدْ أَشَذَ بُغْضًا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِني، وَلا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ، فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الإِسْلامَ فِي قَلْبِي "أَتَيتُ النبِي صلى الله عليه وسلم فَقُلتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ. قَال: فَقَبَضْتُ يَدِي. قال: مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟ قَال: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ. قَال: تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟
ــ
الأولى منها أنه (لقد رأيتُني) أي والله لقد رأيت نفسي (و) الحال أنه (ما أحد) من الناس (أشد بغضًا) ومقتًا الرسول الله صلى الله عليه وسلم مني ولا) أحد (أحب إليَّ أن كون قد استمكنت) أي تمكنت (منه) أي من قتله (فقتلته) أي قتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم لشدة بغضي إياه (فلو مت) أنا (على تلك الحال) والضلالة الكنت من أهل النار) وأهل العذاب المخلدين فيها أبدًا، فهذه هي الحالة الأولى من الأطباق الثلاث، والثانية ما ذكره بقوله (فلما جعل الله) سبحانه وتعالى (الإسلام) والإيمان (في قلبي) وألقاه في روعي (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وجئته (فقلت) له صلى الله عليه وسلم (ابسط يمينك) ومُدها إلي (فلأبايعك) بجزم الفعل على أن اللام لام الأمر وإسكانها لوقوعها بعد الفاء، والفاء لازمة على أن اللام للأمر واقعة في جواب شرط مقدر تضمنه الأمر الذي هو (ابسط)، لأن أمر المتكلم نفسه إنما يكون باللام، ومنه حديث "قوموا فلأصل لكم" والتقدير هنا إن بسطت إلي يمينك أبايعك، كما يكون أمر الغائب باللام نحو قوله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} ويصح أن تكون اللام لام كي، وتكون تعليلية، وينصب أبايعك بان مضمرة بعد اللام جوازًا، والتقدير ابسط يمينك إليَّ لكي أبايعك على الإسلام، وتقدم بيان معنى المبايعة في حديث جابر رضي الله عنه (فبسط) أي مد رسول الله صلى الله عليه وسلم (يمينه) إليَّ ليبايعني على الإسلام (قال) عمرو بن العاص (فـ) ـلما بسط يمينه إلي (قبضت) أي: أمسكت (يدي) عن بسطها إليه فـ (ـقال) لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما لك) أي أيُّ شيء ثبت لك، أي أيُّ مانع منعك من بسط يدك إلي (يا عمرو) بعد ما بسطتُ يدي إليك (قال) عمرو (قلت) له صلى الله عليه وسلم (أردت) وقصدت (أن أشترط) عليك شيئًا من الشروط قبل المبايعة (قال) لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (تشترط بماذا) أي بأي شيء تريد أن تشترطه عليَّ يا عمرو.
قال النواوي: ضبطناه (بماذا) بإثبات الباء، فيجوز أن تكون زائدة للتوكيد كما في
قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي. قَال: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ "
ــ
نظائرها ويجوز أن تكون دخلت على معنى تشترط وهو تحتاط، أي تحتاط بماذا اهـ. قال الأبي: قلت زيادتها في خبر ما وليس وفاعل كفى ومفعوله وأفعل به ضرورة عند البصريين، فالتضمين أقرب، وإن كان فيه خلاف بين الأندلسيين، وعلى أنها زائدة فما مفعوله وصح ذلك لأن الاستفهام إذا قصد به الاستثبات صح أن يعمل فيه ما قبله اهـ.
قال عمرو (قلت) له صلى الله عليه وسلم أريد أن أشترط على ربي (أن يغفر لي) بالبناء للمفعول، أي أن يغفر لي ربي جميع ما وقع مني من الشرك والمعاصي صغائرها وكبائرها فـ (ـقال) لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (أما علمت) يا عمرو أي ألم تعلم يا عمرو (أن الإسلام) والإيمان (يهدم) ويسقط عن صاحبه (ما كان قبله) أي قبل الإسلام، أي يُسقط عنه جميع ما كان عليه من الحقوق مطلقًا، وجميع ما ارتكبه من الذنوب صغائرها وكبائرها (و) أما علمت (أن الهجرة) إلى الله تعالى وإلى رسوله لطلب رضاهما (تهدم) أي تذهب وتزيل وتمحو وتسقط (ما كان قبلها) من الذنوب والمعاصي مطلقًا (وأن الحج) المبرور (يهدم) أي يمحو ويزيل ويسقط (ما كان قبله) أي قبل الحج من الذنوب مطلقًا، وهذا موضع الترجمة من الحديث.
قال القرطبي: وفي الهدم هنا استعارة وتوسع، لأن المراد به الإذهاب والإزالة لأن الجدار إذا انهدم فقد زال وضعه، وذهب وجوده، وقد عبر عنه في الرواية الأخرى بالجبِّ فقال:"يَجُبُّ" أي يقطع ومنه المجبوب وهو المقطوع ذكره، ومعنى العبارتين واحد، ومقصودها أن هذه الأعمال الثلاثة تسقط الذنوب التي تقدمتها كلها صغيرها وكبيرها فإن ألفاظها عامة خرجت على سؤال خاص، فإن عمرًا إنما سأل أن يغفر له ذنوبه السابقة بالإسلام فأجيب على ذلك، فالذنوب داخلة في تلك الألفاظ العامة قطعًا، وهي بحكم عمومها صالحة لتناول الحقوق الشرعية والحقوق الآدمية، وقد ثبت ذلك في حق الكافر الحربي إذا أسلم فإنه لا يطالب بشيء من تلك الحقوق، ولو قتل وأخذ الأموال لم يقتص منه بالإجماع، ولو خرجت الأموال من تحت يده لم يطالب بشيء منها، ولو أسلم الحربي وبيده مال مسلم عبيد أو عروض فمذهب مالك أنه لا يجب عليه رد شيء من ذلك تمسكًا بعموم هذا الحديث، وبأن للكفار شبه ملك فيما حازوه من
وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلا أَجَلَّ فِي عَينِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أمْلأَ عَينَيَّ مِنْهُ إِجْلالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أنْ أَصِفَهُ مَا أطَقْتُ، لأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلأُ عَينَيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ
ــ
أموال المسلمين وغيرهم، لأن الله تعالى قد نسب لهم أموالًا وأولادًا فقال تعالى {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ} [التوبة: 55].
وذهب الشافعي إلى أن ذلك لا يحل لهم، وأنه يجب عليهم ردها إلى من كان يملكها من المسلمين، وأنهم كالغُصَّاب، وهذا يُبعده أنهم لو استهلكوا ذلك في حالة كفرهم ثم أسلموا لم يضمنوا بالإجماع على ما حكاه أبو محمد عبد الوهاب بن محمد الفامي الشافعي، فأما أسرى المسلمين الأحرار فيجب عليهم رفع أيديهم عنهم، لأن الحر لا يُملك، فهذا حكم الحربي، وأما من أسلم من أهل الذمة فلا يُسقط الإسلام عنه حقًّا وجب عليه لأحدٍ من مال أو دم أو غيرهما، لأن أحكام الإسلام جارية عليهم واستيفاء الفروع في كتب الفقه، وأما الهجرة والحج فلا خلاف في أنهما لا يُسقطان إلا الذنوب والآثام السابقة، وهل يُسقطان الكبائر أو الصغائر فقط موضع نظر يأتي في الطهارة إن شاء الله تعالى، قال الأبي:(قلت) الأظهر هدمهما ذلك، وإلا لم يكن لذكرهما مزية، لأن الوضوء يهدم الصغائر، ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" وحديث "من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه".
(وما كان) أي ثم ما كان (أحد) من الناس (أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا) أحد (أجل) أي أعظم قدرًا وأهيب (في عيني منه) صلى الله عليه وسلم (وما كنت أطيق) وأقدر (أن أملأ عيني) بتشديد الياء لأنه من التثنية (منه) أي من نظره صلى الله عليه وسلم في حال حياته (اجلالًا) وهيبة وتعظيمًا (له) صلى الله عليه وسلم قال القاضي: وفي هذا إشارة إلى ما كانوا عليه من تعظيمه صلى الله عليه وسلم كما أُمروا به في قوله تعالى: {وَتُعَزِّرُوُهُ} الآية (ولو سئلت) الآن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وطُلب مني (أن أصفه) صلى الله عليه وسلم أي أن أذكر أوصافه لأحد (ما أطقت) ولا قدرت على ذلك، وذلك (لأني لم أكن أملأ عيني منه) بتشديد الياء أيضًا لأنه من التثنية، أي من نظره صلى الله عليه وسلم في حال حياته هيبة منه (ولو) كنت (مِتُّ على تلك الحال) التي هي توقيره صلى الله عليه وسلم وتعظيمه ومحبته (لرجوت) من الله
أَنْ أَكُونَ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيَها. فَإِذَا أَنَا مُتُّ، فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلَا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنَّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا
ــ
تعالى (أن أكون من أهل الجنة) بسبب توقيره صلى الله عليه وسلم وهذه هي الحالة الثانية من الأحوال الثلاثة، وذكر الثالثة بقوله (ثم) بعد وفاته صلى الله عليه وسلم (ولينا أشياء) أي أمورًا كثيرة من أمور الدين وأُمِّرنا عليها كولاية القضاء، وإمارة الجيش، وإمامة الصلاة مثلًا، وجملة قوله (ما أدري) ولا أعلم (ما حالي) وشأني (فيها) أي في تلك الأشياء أأصبت فيها أم أخطأت، وهل أثاب عليها أم أعاقب.
(فـ) ـالآن حضر أجلي، وأوصي إليكم، وأقول لكم (إذا أنا متُّ) وجهزت وحملت إلى المقابر (فلا تصحبني) أي فلا تصحب جنازتي ولا تتبعني إلى محل الدفن (نائحة) ونادبة أي رافعة الصوت بالبكاء علي ومعددة الشمائل (ولا) تصحبني (نارٌ) لما فيها من الفأل القبيح؛ بكون آخر ما يصحبه في الدنيا النار، قال القرطبي: إنما أوصى باجتناب هذين الأمرين لأنهما من عمل الجاهلية، ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال القاضي: وصى فيهما امتثالًا للنهي عن ذلك، والنهي في النياحة على التحريم، وفي النار على الكراهة، وعلله ابن حبيب بخوف التفاؤل بالمصير إلى النار، وقيل: إنه من فعل الجاهلية؛ كانوا يفعلونه تغاليًا؛ وشُرعت مخالفتهم، وأوصت أسماء بنت أبي بكر أن لا تُتْبَع جنازتها بنارٍ (فإذا دفنتموني) ووضعتموني في اللحد، أي إذا فرغتم من دفني ووضعي في اللحد ونصب اللبن علي (فشنوا) أي صبوا وأهيلوا (عليَّ) أي على حفيرة قبري (التراب) أي تراب قبري (شنًا) أي صبًا لينًا برفق، قال النواوي:(سُنّوا علي التراب سنًّا) ضبطناه بالسين المهملة، وضبطناه (شنوا عليَّ التراب شنًا) بالشين المعجمة، وكذا قال القاضي: أنه بالمعجمة وبالمهملة بمعنى واحد وهو الصب، وقيل بالمهملة الصب في سهولة، وبالمعجمة الصب على التفريق اهـ، وهذه سنة في صب التراب على الميت في القبر قاله القاضي عياض، وقد كره مالك في العتبية (1) الترصيص أي البناء على القبر بالحجارة والطوب.
قال الأبي: سن التراب في القبر صبه فيه دون الحد يمنع من وصوله إلى الكفن فإن
(1) العتبية مسائل في مذهب الإمام مالك منسوبة إلى مصنفها محمد بن أحمد العتبي القرطبي توفي سنة (254 هـ).
ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْل قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ، وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي
ــ
عنى بكونه سنة السنة عرفًا، فلم يرد فيه إلا وصية عمرو هذه وغايتها أنه مذهب صحابي، وقد يريد بالسنِّ أن يصب التراب فوق اللحد لا أن يعقد القبر كله بناء، ويؤيده ما ذكر عن العتبية من كراهية الترصيص: وهو إحكام البناء وطلاؤه، إلا أن يريد بالترصيص رفع البناء فوق القبر وهو بعيد اهـ. وفي العتبية: ولا أكره بناء اللحد باللبن، قال ابن رشد: قال ابن حبيب: أفضل اللحد اللبن ثم الألواح ثم القراميد (أي الآجر) ثم القصب ثم السنُّ (ثم) بعدما شننتم التراب عليَّ (أقيموا) أي امكثوا (حول قبري) أي جانبه (قدر ما) أي قدر زمنٍ (تنحر) وتذكى فيه (جزور) أي إبل، والجَزور بفتح الجيم التي تنحر من الإبل، والجزرة بفتحها وفتح الزاي من غير الإبل، وفي كتاب العين: الجزرة من الضأن والمعز خاصة، وهي مأخوذة من الجزر بفتح الجيم وسكون الزاي، وهو القطع، أي قدر زمنٍ تذكى وتنحر فيه إبلٌ (ويقسم) أي يُجزأ فيه الحمها) لو أريد ذلك، وقوله (حتى أستأنس) علةٌ لقوله أقيموا أي امكثوا والبثوا ودوموا حول قبري لكي أستأنس (بكم) أي بحضوركم حول قبري (وأنظر ماذا أراجع به) أي وحتى انظر الجواب الذي أراجع وأجيب به (رسل ربي) أي سؤال رسل ربي عن ربي ونبيِّي وديني وإمامي، والمراد بالجمع ما فوق الواحد؛ وهما منكر ونكير، وقيل الجمع على بابه لأن معهما غيرهما من الفتان والمفتن كما قيل، وإنما طلب الاستئناس بهم؛ لأنه أثبت له في المراجعة، وأخذ بعضهم منه القراءة على القبر لأنه إذا استأنس بهم فبالقرآن أولى، وفي هذا الحديث حجة على ثبوت سؤال القبر وفتنته، لأنه لا يقوله إلا بتوقيف، وعلى أن الميت يحيا في القبر للسؤال فيسمع ويعلم، ولا يعارضه قوله تعالى:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80]. للاختلاف في معنى الآية، واحتمال تأويلها فقد قيل إنك لا تسمعهم شيئًا ينفعهم، فكذلك هؤلاء على قلوبهم غشاوة، وفي آذانهم وقر الكفر اهـ ابن كثير، ولصحة الآثار في فتنة القبر، أو أن المراد بالآية في غير هذا الوقت.
وهذا الحديث أعني حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه انفرد به الإمام مسلم رحمه الله تعالى عن غيره والله أعلم.
قال النواوي: أما أحكام هذا الحديث ففيه عظم موقع الإسلام والهجرة والحج، وأن كل واحد منها يهدم ما كان قبله من المعاصي، وفيه استحباب تنبيه المحتضر على
226 -
(117)(40) حدَّثني مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيمُونٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ
ــ
إحسان ظنه بالله سبحانه وتعالى، وذكر آيات الرجاء، وأحاديث العفو عنده، وتبشيره بما أعده الله تعالى للمسلمين، وذكر حسن أعماله عنده؛ ليحسن ظنه بالله تعالى، ويموت عليه، وهذا الأدب مستحب بالاتفاق، وموضع الدلالة له من هذا الحديث قول ابن عمرو لأبيه: أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، وفيه ما كانت الصحابة رضوان الله تعالى عليهم من توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله وفي قوله (فلا تصحبني نائحة ولا نار) امتثال لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقد كره العلماء ذلك فأما النياحة فحرام، وأما إتباع الميت بالنار فمكروه للحديث، ثم قيل سبب الكراهة كونه من شعار الجاهلية كما مر عن القرطبي.
وقوله (ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور) إلخ فيه فوائد منها: إثبات فتنة القبر وسؤال الملكين، وهو مذهب أهل الحق، ومنها استحباب المكث عند القبر بعد الدفن لحظة نحو ما ذكر، وفيه أن الميت يسمع حينئذ مَنْ حول القبر، وقد يستدل به لجواز قسمة اللحم المشترك ونحوه من الأشياء الرطبة كالعنب، وفي هذا خلاف لأصحابنا معروف، قالوا: إن قلنا بأحد القولين إن القسمة تمييز حق ليست ببيع جاز، وإن قلنا بيع فوجهان أصحهما لا يجوز للجهل بتماثله في حال الكمال فيؤدي إلى الربا، والثاني يجوز لتساويهما في الحال.
فإذا قلنا لا يجوز فطريقها أن يُجعل اللحم وشبهه قسمين ثم يبيع أحدهما صاحبه نصيبه من أحد القسمين بدرهم مثلًا ثم يبيع الآخر نصيبه من القسم الآخر لصاحبه بذلك الدرهم الذي له عليه فيحصل لكل واحد منهما قسم بكماله، ولها طرق غير هذا لا حاجة إلى الإطالة بها هنا والله أعلم اهـ من المنهاج.
ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى لحديث عمرو بن العاص بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهم فقال:
(226)
- ش (117)(40)(حدثني محمد بن حاتم بن ميمون) السمين، أبو عبد الله البغدادي وثقه ابن عدي والدارقطني وابن حبان، وقال في التقريب: صدوق ربما وهم من العاشرة، مات سنة (235) خمس وثلاثين ومائتين، روى عنه المؤلف في أحد عشر بابًا تقريبًا (و) حدثنا أيضًا (إبراهيم بن دينار) البغدادي أبو إسحاق التمار ثقة ثبت من
(وَاللَّفْظُ لإِبْرَاهِيمَ) قَالا: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ (وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ) عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ؛ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيرٍ
ــ
العاشرة، مات سنة (232) اثنتين وثلاثين ومائتين، روى عنه المؤلف في سبعة أبواب، وفائدة هذه المقارنة بيان كثرة طرقه، وأتى بقوله (واللفظ) أي لفظ الحديث الآتي (لإبراهيم) بن دينار تورعًا من الكذب على محمد بن حاتم، لأنه لو لم يأت بهذه الجملة لأوهم أن محمد بن حاتم روى هذا اللفظ الآتي (قالا) أي قال محمد بن حاتم وإبراهيم بن دينار (حدثنا حجاج) بن محمد الأعور الهاشمي، مولى سليمان بن مجالد مولى أبي جعفر الهاشمي المصيصي، أبو محمد، أصله ترمذي، سكن المصيصة، روى عن ابن جريج في الإيمان والصلاة والزكاة وغيرها، وشعبة، وابن أبي ذئب، وغيرهم، ويروي عنه (ع) ومحمد بن حاتم وإبراهيم بن دينار والوليد بن شجاع، وهارون بن عبد الله، وحجاج بن الشاعر، وزهير بن حرب في الزكاة، وعلي بن خشرم، ويحيى بن يحيى، وسريج بن يونس، وخلق، قال أبو داود: بلغني أن يحيى كتب عنه نحوًا من خمسين ألف حديث، وقال في التقريب: ثقة ثبت لكنه اختلط في آخر عمره لما قدم بغداد قبل موته، من التاسعة، مات ببغداد سنة (206) ست ومائتين، روى عنه المؤلف في الإيمان والصلاة والزكاة في موضعين وغيرها، وأتى بقوله (وهو ابن محمد) إشعارًا بأن هذه النسبة ليست مما سمعه من الشيخ بل زادها من عند نفسه إيضاحًا للراوي (عن) عبد الملك بن عبد العزيز (بن جريج) الأموي مولاهم، أبي الوليد، أو أبي خالد المكي ثقة فقيه مشهور مدلس مُرسل من السادسة، مات سنة خمسين ومائة (150) روى عنه المؤلف في ستة عشر بابًا تقريبًا.
(قال) ابن جريج (أخبرني يعلى بن مسلم) بن هرمز البصري ثم المكي، روى عن سعيد بن جبير في الإيمان، والجهاد، وأبي الشعثاء، وعكرمة ومجاهد، وطلق بن حبيب، ويروي عنه (خ م د ت س) وابن جريج، ومحمد بن المنكدر، وشعبة، وسفيان بن حسين وغيرهم وثقه ابن معين، وأبو زرعة، وقال في التقريب: ثقة من السادسة.
(أنه) أي أن يعلى (سمع سعيد بن جببر) بن هشام الأسدي مولاهم، مولى بني والبة بن الحارث من بني أسد، أبا عبد الله الكوفي، روى عن ابن عباس في الإيمان والصلاة، والصوم وغيرها، وابن عمر في الصلاة والحج واللعان وغيرها، وعبد الله بن
يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، ثُمَّ أَتَوْا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم. فَقَالُوا: إِن الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو لَحَسَنٌ. وَلَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً. فَنَزَلَ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ وَلَا
ــ
مغفل في الذبائح، وأبي عبد الرحمن السلمي في الكفارة، ويروي عنه (ع) ويعلي بن مسلم، وآدم بن سليمان، وعمرو بن مرة، وأبو الزبير في الصلاة والحج، وموسى بن أبي عائشة، والحكم، والأعمش وأيوب، وعمرو بن دينار وخلائق.
وكان فقيهًا عابدًا ورعًا فاضلًا قتله الحجاج بن يوسف سنة خمس وتسعين (95) كهلًا وهو ابن تسع وأربعين سنة (49) فما أمهل بعده، وقال في التقريب: ثقةٌ ثبت فقيه عابد من الثالثة روى عنه المؤلف في سبعة أبواب تقريبًا.
حالة كون سعيد بن جبير (يحدث عن) عبد الله (بن عباس) بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي، أبي العباس، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم المكي ثم المدني ثم الطائفي، مات بالطائف وقبر بها سنة (68) ثمان وستين، روى عنه المؤلف في سبعة عشر بابًا تقريبًا.
وهذا السند من سداسياته، رجاله اثنان منهم مكيان، وواحد بغدادي، وواحد مصيصي، وواحد كوفي، وواحد طائفي (أن ناسًا من أهل الشرك) والكفر والمعاصي (فتلوا) أنفُسَ الناس بغير حق (فكثروا) من القتل (وزنوا) أي وطئوا فروجًا محرمة (فأكثروا) من الزنا (ثم أتوا) وجاءوا (محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا) لرسول الله صلى الله عليه وسلم (إن) الدين (الذي تقولـ) ـه وتعتقده (وتدعو الناس إليه) الذي هو دين الإسلام (لـ) ـدين (حسن) أي حق لا باطل، مرغوب فيه لا عنه، وكلمة لوفي قوله (ولو تخبرنا) يا محمد (أن لما عملنا) هـ وفعلناه في حياتنا وأكثرنا منه (كفارة) وسترًا وعفوًا عند الله تعالى، إما شرطية حذت جوابها تقديره لأسلمنا وآمنا به، وهو أولى، لأن حذف الجواب كثير في القرآن، وفي كلام العرب كقوله تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} أو للتمني بمعنى ليت، فلا تحتاج إلى جواب (فنزل) قوله تعالى:({وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ}) أي لا يعبدون ({مَعَ اللَّهِ}) سبحانه وتعالى ({إِلَهًا آخَرَ}) أي معبودًا آخر ({وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ}) قتلها ({إلا بِالْحَقِّ}) كالحد والقصاص والمحاربة ({وَلَا
يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)} [الفرقان: 68]
ــ
يَزْنُونَ}) أي لا يطئون فروجًا محرمة ({وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ}) المذكور من الشرك والقتل والزنا ({يَلْقَ}) أي يجد عند الله سبحانه وتعالى ({أَثَامًا}) أي عقوبة على ما اقترفه من ذلك {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} {إلا مَنْ تَابَ} ورجع عن ذلك المذكور {وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} من الإيمان والطاعات {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 68 - 71] وهذا الاستثناء محل الاستشهاد من الآية.
قال النواوي رحمه الله تعالى: غرض الإمام بذكر حديث ابن عباس الاستشهاد لحديث عمرو بن العاص على أن جَبَّ الإسلام لما قبله جاء به القرآن كما جاءت به السنة.
قال الأبي: لم يتكلم على هذا الحديث الشارحون بأكثر من هذا ويظهر من الحديث أنهم كانوا كفارًا وهو نَصٌّ في غير مسلم، قال ابن عباس لما نزل قوله تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إلى {مُهَانًا} قال ناسٌ من المشركين كيف لنا بالدخول في الإسلام، وقد فعلنا جميع هذا فنزل قوله تعالى:{إلا مَنْ تَابَ} وهذا نص في أنهم كفار واستحسانهم لا يثبت به إسلامهم نعم يدل على قربهم منه، ولم يكونوا عالمين بأن الإسلام يجب ما قبله ولذا سألوا.
واختلف في الاستثناء المذكور فقيل يرجع إلى الجميع فانتزع من الآية صحة توبة القاتل، وقيل يرجع إلى الشرك والزنا فلا تنتزع، وقال ابن عباس: إنما يرجع إلى الشرك، ومستند كل قائل قرائن، وفي هذا الأصل في أصول الفقه خلاف وهي مسألة الاستثناء المتعقب جملًا معطوفة بالواو هل يرجع إلى الجميع أو إلى الأخيرة وقيل بالوقف، وهذا الخلاف إنما هو عند عدم القرائن اهـ.
قوله ({وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ}) وذا إشارة إلى واحد في أصل وضعها غير أن الواحد تارة يكون واحدًا بالنص عليه، وتارة يكون بتأويل، وإن كانت أمور متعددة في اللفظ كما في هذه الآية، وقوله تعالى:{عَوَانٌ بَينَ ذَلِكَ} في البقرة، فإنه ذكر قبل ذا أمورًا وأعاد الإشارة إليها من حيث إنها مذكورة أو مقولة فكأنه قال: ومن يفعل المذكور أو المقول، وفي هذه الآية حجة لمن قال إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وهو الصحيح من مذهب مالك على ما ذكر في الأصول اهـ مفهم.
وَنَزَلَ: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53]
ــ
وقوله: (ونزل) معطوف على قوله أولًا فنزل أي ونزل أيضًا ({يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا}) وفرّطوا ({عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا}) ولا تيأسوا ({مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}) ونيل غفرانه.
وهذا الحديث أعني حديث ابن عباس شارك المؤلف في روايته البخاري (4810) وأبو داود (4273) والنسائي (7/ 86)، وجملة ما ذكره المؤلف في هذا الباب حديثان، الأول: حديث عمرو بن العاص ذكره للاستدلال، والثاني: حديث ابن عباس ذكره للاستشهاد، والله أعلم.
(تتمة) في فضائل عمرو بن العاص ووفاته رضي الله تعالى عنه.
قال البياسي: كان عمرو بن العاص داهية العرب رأيًا وعقلًا ولسانًا، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا خاطب رجلًا ولم يفهم يقول: سبحان من خلقك وخلق عمرو بن العاص، وولي مصر عشر سنين وثلاثة أشهر، أربعة لعمر، وأربعة لعثمان، وسنتين وثلاثة أشهر لمعاوية رضي الله عنهم وتوفي سنة ثلاث وأربعين وهو ابن تسعين سنة، وقيل غير ذلك، وترك من الناضِّ ثلاثمائة ألف دينار وخمسة وعشرين ألف دينار، ومن الوَرِق ألفي ألف دينار، وغلةَ ألفي ألف دينار، وضيعته المعروفةَ بالرَّهْطِ وقيمتها عشرة آلاف ألف درهم، ولما حضرته الوفاة نظر إلى ماله فقال: ليتك بعرًا، وليتني مت في غزوة ذات السلاسل، لقد دخلت في أمور ما أدري ما حجتي فيها عند الله، أصلحت لمعاوية دنياه؛ وأفسدت آخرتي؛ عَمي عني رشدي حتى حضر أجلي؛ لكأني به حوى مالي وأساء خلافتي في أهلي، ثم قال لابنه: ائتني بجامعة فشد بها يدي إلى عنقي ففعل؛ ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إنك أمرتني فعصيت ونهيتني فتجاوزت، ولست عزيزًا فانتصر، ولا بريئًا فأعتذر، ولكني أشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمدًا عبدك ورسولك، ثم وضع أصبعه في فمه كالمفكر المتندم حتى مات، وقال له ابنه عبد الله: يا أبت كنت تقول ليتني أحضر رجلًا عاقلًا قد نزل به الموت يحدثني بما يجد، وقد نزل بك فحدثني بما تجد، قال: يا بني لكاني في ضغث (1) ولكأنِّي أتنفس من سَمِّ الخياط، ولَكأَني غصنُ شوكٍ جُرَّ من قدمي إلى هامتي اهـ من الأبي.
قال القرطبي: (وفي حديث عمرو بن العاص فوائد).
(1) ضغث بالضاد والغين المعجمتين وهو اللوك بالأنياب والنواجذ كما في "اللسان".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
منها: تبشير المحتضر وتذكيره باعماله الصالحة ليقوى رجاؤه، ويحسن بالله تعالى ظنه، ومنها أن الميت ترد عليه روحه ويسمع حِسَّ من هو على قبره وكلامهم، وأن الملائكة تسأله في ذلك الوقت، وهذا كله إنما قاله عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن مثله لا يدرك إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فينبغي أن يرشد الميت في قبره حين وضعه فيه إلى جواب السؤال، ويذكر بذلك، فيقال له: قل الله ربي والإسلام ديني ومحمد رسولي؛ فإنه عن ذلك يسأل كما جاءت به الأحاديث على ما يأتي إن شاء الله تعالى، وقد جرى العمل عندنا بقرطبة كذلك فيقال: قل هو محمد رسول الله تعالى، وذلك عند هيل التراب ولا يعارض هذا بقوله تعالى:{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 33]، ولا بقوله تعالى:{فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم: 52] لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نادى أهل القليب وأسمعهم، وقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون جوابًا، رواه أحمد والبخاري ومسلم، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما وقد قال في الميت:"إنه يسمع قرع نعالهم" رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أنس بن مالك، وإن هذا يكون في حال دون حال، ووقت دون وقت، وسيأتي استيفاء هذا المعنى في الجنائز إن شاء الله تعالى.
(قلت) وهذا الذي قاله القرطبي رحمه الله تعالى من تلقين الميت في قبره بدعة ليس لها أصل لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها شيء، ولم ينقل فعلها عن أحد من الصحابة، ولا واحد من السلف الصالح اهـ.
وفي هذا الحديث أيضًا بيان ما كانت الصحابة عليه من شدة محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وتوقيره، وفيه الخوف من تغير الحال والتقصير في الأعمال في حال الموت لكن ينبغي أن يكون الرجاء هو الأغلب في تلك الحال، حتى يُحسن ظنه بالله تعالى؛ فليقاه على ما أمر به رسول الله تعالى صلى الله عليه وسلم حيث قال:"لا يموتن أحدكم إلا وهو يُحسن الظن بالله عز وجل" رواه مسلم وأبو داود من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما.