المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌53 - (12) باب: إيمان المسبل إزاره، والمان بصدقته، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، ومن لا يكلمه الله تعالى يوم القيامة ولا ينظر إليه - الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج - جـ ٣

[محمد الأمين الهرري]

فهرس الكتاب

- ‌42 - (1) بَابُ: كَوْنِ الإيِمَان أَفْضَلَ الأعْمَالِ عَلَى الإِطْلَاقِ وَتَفْضِيلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ

- ‌43 - (2) بَابُ كَوْنِ الشِّرْكِ أَقْبَحَ الذُّنُوبِ، وَقُبْحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ

- ‌44 - (3) - بَابُ: بَيَانِ الْكَبَائِرِ وَأَكْبَرِهَا

- ‌45 - (4) بَابُ: بَيَانِ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ، وَالأمْرِ بِاجْتِنَابِهَا الَّذِي هُوَ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ

- ‌46 - (5) بَابٌ: مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيهِ

- ‌47 - (6) بَابُ: لا يدخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ كِبْرٌ

- ‌48 - (7) بَابُ: مَنْ مَاتَ مُؤمِنًا لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ تَعَالى شَيئًا. . دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ مُشْرِكًا. . دَخَلَ النَّارَ، وَبَيَان الْمُوجِبَتَينِ

- ‌49 - (8) بَابُ: ارْتِكَابِ الْمُؤْمِنِ الْكَبَائِرَ لَا يُخْرِجُهُ عَنِ الإِيمَانِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ

- ‌50 - (9) بَابُ: الاكْتِفَاءِ بِظَاهِرِ الإِسْلام، وَتَرْكِ الْبَحْثِ عَمَّا فِي الْقُلُوبِ، وَتَحْرِيمِ قَتْلِ الإِنْسَانِ بَعْدَ أَن قَال: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ

- ‌51 - (10) بَابُ: إِيمَانِ مَنْ تبَرَّأَ مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

- ‌52 - (11) بَابُ: إِيمَانِ النَّمَّامٍ، وَغِلَظِ تَحْرِيمِ النَّمِيمَةِ

- ‌53 - (12) بَابٌ: إِيمَانِ الْمُسْبِل إِزَارَهُ، وَالْمَانِّ بِصَدَقَتِهِ، وَالْمُنَفِّقِ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ، وَمَنْ لَا يُكَلِّمُهُ اللَّهُ تَعَالى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيهِ

- ‌54 - (13) بَابُ: إِيمَانِ مَنْ قتَلَ نَفْسَهُ بِشَيءٍ، وَأَنَّهُ يُعَذَّبُ بِهِ فِي النَّارٍ، وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَغَيرِ ذَلِكَ

- ‌55 - (14) بَابُ: إِيمَانِ مَنْ غَلَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ

- ‌56 - (15) بَابُ: الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْقَاتِلَ لِنَفْسِهِ لَا يَكْفُرُ إِنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ الْقَتْلَ

- ‌57 - (16) بَابٌ مَا يُقْبَضُ عِنْدَهُ رُوحُ كُلِّ مُومِنٍ وَيَبْقَى بَعْدَهُ عَلَى الأَرْضِ شِرَارُ النَّاسِ

- ‌58 - (17) بَابٌ: مَا يُخَافُ مِنْ سُرْعَةِ سَلْبِ الإيمَانِ وَالْحَضِّ عَلَى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ تَظَاهُرِ الْفِتَنِ الشَّاغِلَةِ عَنْهَا

- ‌59 (18) - بَابٌ: مَخَافَةُ الْمُؤمِنِ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ مِنَ الإِيمَان

- ‌60 - (19) - بَابُ: إِسْلامِ مَنْ أَخْلَصَ فِي إِسْلامِهِ، وَمَنْ لَمْ يُخْلِصْ فِيهِ

- ‌61 - (20) بَابٌ: الإِسْلامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ، وَكَذَا الْهِجْرَةُ وَالْحَجُّ

- ‌62 - (21) بَابُ: إِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَأَحْسَنَ .. أَحْرَزَ مَا قَبْلَهُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ

- ‌63 - (22) بَابُ: إِطْلاقِ الظُّلْمِ عَلَى الشِّرْكِ، وَإِخْلاصِ الإِيمَان مِنْهُ

- ‌64 - (23) بَابُ: شِكَايَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى خَطَرَاتِ النَّفْسِ، وَنُزُولِ قَوْلهِ تَعَالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا}

- ‌65 - (24) بَابُ: تَجَاوُزِ اللهِ تَعَالى لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَخَوَاطِرِهَا

- ‌66 - (25) بَابُ: كِتَابَةِ الْحَسَنَةِ لِلْمُؤْمِنِ بِمُجَرَّدِ هَمِّهَا، وَعَدَمِ كِتَابَةِ السَّيِّئَةِ عَلَيهِ بِمُجَرَّدِ الْهَمِّ

- ‌67 - (26) بَابٌ: اسْتِعْظَامُ الْوَسْوَسَةِ فِي الإِيمَانِ مَحْضُ الإِيمَانِ وَصَرِيحُهُ وَخَالِصُهُ

- ‌68 - (27) بَابُ: التَّسَاؤُلِ عَمَّنْ خَلَقَ الْخَلْقَ، وَمَنْ خَلَقَ اللهَ، وَبَيَانِ مَا يَقُولُهُ مَنْ وَجَدَ ذَلِكَ

- ‌69 - (28) بَابُ إِثْمِ مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ بِيَمِينِهِ

- ‌فصل في الأحكام التي تستفاد من أحاديث الباب

الفصل: ‌53 - (12) باب: إيمان المسبل إزاره، والمان بصدقته، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، ومن لا يكلمه الله تعالى يوم القيامة ولا ينظر إليه

‌53 - (12) بَابٌ: إِيمَانِ الْمُسْبِل إِزَارَهُ، وَالْمَانِّ بِصَدَقَتِهِ، وَالْمُنَفِّقِ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ، وَمَنْ لَا يُكَلِّمُهُ اللَّهُ تَعَالى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيهِ

197 -

(101)(24) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشارٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ،

ــ

53 -

(12) بَابٌ: إِيمَانِ الْمُسْبِل إِزَارَهُ، وَالْمَانِّ بِصَدَقَتِهِ، وَالْمُنَفِّقِ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ، وَمَنْ لَا يُكَلِّمُهُ اللَّهُ تَعَالى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيهِ

أي هذا بابٌ معقود في بيان حكم إيمان المسبل والمرخي إزاره، عن الحد المشروع، لأجل الخيلاء والكبر، وحكم إيمان المان بصدقته، أي الذي يمتن ويعدد بصدقته على المتصدق عليه وحكم إيمان المنفق والمُربح بسلعته وبضاعته المعروضة للبيع، بالحلف الكاذب، واليمين الفاجرة على أنَّه اشتراها بكذا، ولا يبيعها إلَّا بكذا، وحكم إيمان من لا يكلمه الله سبحانه وتعالى يوم القيامة لغضبه عليهم، فإيمان هؤلاء إن استحلوا عملهم ذلك فهو باطل، لخروجهم عن الملة؛ باستحلال عملهم، وإلا فإيمانهم صحيح، ولكن هم عصاة يعاقبون على عملهم، وترجمتنا هذه أعم وأولى من تراجمهم، وأوفق لترجمة كتاب الإيمان، ثم استدل المؤلف رحمه الله تعالى لهذه التَّرجمة فقال:

(197)

- س (101)(24)(حَدَّثَنَا أَبو بكر) عبد الله بن محمد (بن أبي شيبة) إبراهيم بن عثمان العبسي مولاهم الكوفي، من العاشرة، مات سنة (235)(ومحمد بن المثنى) العنزي أَبو موسى البصري، من العاشرة، مات سنة (252) روى عنه المؤلف في أربعة عشر بابًا تقريبًا (و) محمد (بن بشار) العبدي، أَبو إسحاق البصري، المعروف ببندار، لكونه بُندار العلم أي أوعيته، من العاشرة، مات سنة (252) وله (85) سنة، روى عنه المؤلف في اثني عشر بابًا تقريبًا، وفائدة هذه المقارنة بيان كثرة طرقه (قالوا) أي قال كل من أبي بكر وابن المثنى وابن بشار (حَدَّثَنَا محمد بن جعفر) الهذلي مولاهم، أَبو عبد الله البصري، المعروف بغُندر، من التاسعة، مات في ذي القعدة سنة (193) وكان ابن امرأة شعبة، روى عنه المؤلف في ستة أَبواب تقريبًا (عن شعبة) بن الحجاج بن الورد العتكي مولاهم، أبي بسطام البصري، ثقة متقن حافظ، من السابعة، مات سنة (160) روى عنه المؤلف في ثلاثين بابا (35) تقريبًا (عن علي بن مدرك) -بضم الميم يسكان الدال المهملة وكسر الراء على صيغة اسم الفاعل- النخعي، أبي مدرك

ص: 131

عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَال: "ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةٍ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيهِمْ،

ــ

الكوفي، روى عن أبي زرعة في الإيمان، وهلال بن يساف، وإبراهيم، ويروي عنه (ع) وشعبة، والأعمش، والمسعودي، ثقة من الرابعة، مات سنة (125) عشرين ومائة، روى عنه المؤلف في الإيمان.

(عن أبي زرعة) هرم بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي الكوفي، ثقة من الثالثة، رأى عليًّا (عن خرشة) بخاء معجمة ثم راء مفتوحتين ثم شين معجمة (ابن الحُرِّ) بضم المهملة والراء المشددة، الفزاري الكوفي، أخي سلامة بنت الحر، كان يتيمًا في حجر عمر، قال أَبو داود: له صحبة، وقال العجلي: ثقة من كبار التابعين، فيكون من الثانية، روى عن أبي ذر في الإيمان، وعبد الله بن سلام في الفضائل، وعن عمر، ويروي عنه (ع) وأَبو زرعة، وربعي بن حراش، والمسيب بن رافع، من الثانية، مات سنة (74) أربع وسبعين (عن أبي ذر) جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار الغفاري المدني الصحابي المشهور أحد نجباء الصحابة تقدم إسلامه وتأخرت هجرته فلم يشهد بدرًا ومناقبه كثيرة جدًّا مات بالربذة وقبر هناك سنة (32) اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنهم روى عنه المؤلف في الإيمان والصلاة والزكاة وفي إسلام أبي ذر.

وهذا السند من سباعياته، رجاله ثلاثة منهم بصريون وثلاثة كوفيون وواحد مدني، إلَّا في سند ابن أبي شيبة فالكوفيون عليه أربعة والبصري اثنان والمدني واحد (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة) أنفار (لا يكلمهم الله) سبحانه وتعالى (يوم القيامة) تكليم رضًا عنهم بل يكلمهم تكليم سَخَطٍ وغضب عليهم كما جاء في صحيح البخاري "يقول الله لمانع الماء اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك" رواه البخاري (2369) من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وكما حكى الله تعالى أنَّه يقول للكافرين {قَال اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]، وقيل معناه لا يكلمهم بلا واسطة استهانة بهم، وقيل معنى ذلك الإعراض عنهم والغضب عليهم (ولا ينظر إليهم) نظر رحمة ورضا بل ينظر إليهم نظر سخط وغضب، ونظر الله تعالى إلى عباده رحمته لهم وعطفه عليهم وإحسانه إليهم، وهذا النظر هو المنفي في هذا الحديث، فمعنى لا ينظر

ص: 132

وَلا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَال: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مِرَارٍ. قَال أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَال: الْمُسْبِلُ،

ــ

إليهم لا يرحمهم من إطلاق السبب وإرادة المسبب وإلَّا فالله سبحانه وتعالى يرى كل موجود (ولا يزكيهم) أي لا يطهرهم من ذنوبهم لعظم جرمهم، وقيل لا يثني عليهم ومن لا يثني عليه سبحانه يعذبه (ولهم) أي لأولئك الثلاثة (عذاب أليم) أي شديد الألم الموجع، أي لهم عذاب أليم مؤبد لا ينقطع على كفرهم إن استحلوا ذلك فلا إيمان لهم، أو عذاب شديد على جرمهم مجازاة عليه إن لم يستحلوا ذلك، فإيمانهم باق صحيح، فبهذا التَّأويلِ طابق الحديث التَّرجمة، ومعنى (عذاب اليم) مؤلم، قال الواحدي: هو العذاب الذي يخلص إلى قلوبهم وجعه، قال: والعذاب كل ما يعيي الإنسان ويشق عليه، قال: وأصل العذاب في كلام العرب من العذب وهو المنع، يقال: عَذَبْتُه عَذْبًا إذا منعته، وعَذَبَ عُذُوبًا أي امتنع، وسمي الماء عذبًا لأنه يمنع العطش فسمي العذاب عذابًا لأنه يمنع المعاقب من معاودة مثل جرمه ويمنع غيره من مثل فعله والله أعلم اهـ نووي.

(قال) أَبو ذرٍّ (فقرأها) أي قرأ هذه الآية يعني لا يكلمهم الله إلخ (رسول الله صلى الله عليه وسلم وكررها (ثلاث مرار) أي ثلاث مرات تأكيدًا لشأن هؤلاء الثلاثة (قال أَبو ذرٍّ) قلت للنبي صلى الله عليه وسلم (خابوا) أي خاب هؤلاء الثلاثة وحرموا عن نيل المقاصد التي هي رضا الله تعالى وإحسانه ورحمته (وخسروا) في صفقتهم بطردهم عن رحمته تعالى واستحقاقهم لعذابه (من هم) أي من هؤلاء الثلاثة الذين لا يكلمهم الله تعالى ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم (يا رسول الله قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهم (المسبل) أي المرخي إزاره الجار طرفه على الأرض خيلاء، أي كبرًا وعجبًا كما جاء في الحديث الآخر "لا ينظر الله إلى من يجر ثوبه بطرًا" وقد أخرجه أحمد في المسند عن ابن عمر بلفظ "لا ينظر الله عز وجل إلى الذي يجر إزاره خيلاء" والخيلاء الكبر، والإزار ما يتحزم به، وكانت العرب لا تعرف السراويلات، وإنَّما تعرف الأزر، ذكر ابن عبد ربه: أن أعرابيًّا وجد سراويل، فأخرج يديه من ساقيه، وجعل يلتمس من أين يخرج رأسه فلم يجد فرمى به وقال: إنه لقميص شيطان، وخص الإزار لأنه أكثر لباس العرب، ويشهد لذلك قوله في الآخر "جر ثوبه" فعم جميع ما يلبس، فحكم الإزار والرداء

ص: 133

وَالْمَنَّانُ،

ــ

والثوب في ذلك سواء، وقد روى أَبو داود من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"الإسبال في الإزار والقميص والعمامة فمن جر منها خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة".

رواه أَبو داود (4094) وفي طريق أخرى قال ابن عمر ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإزار "فهو في القميص" رواه أَبو داود (4095).

قال القرطبي رحمه الله تعالى: وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الحد الأحسن والجائز في الإزار، الذي لا يجوز تعديه، فقال فيما رواه أَبو داود والنَّسائي من حديث أبي سعيد الخدري:"أُزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين وما أسفل ذلك ففي النار" رواه أَبو داود (4093) والنَّسائي في السنن الكبرى (9715) والخيلاء: الكبر والعجب، ويدل هذا الحديث بمفهومه؛ على أن من جر ثوبه على غير وجه الخيلاء؛ لم يدخل في هذا الوعيد، ولما سمع أَبو بكر هذا الحديث "قال: يا رسول الله إن جانب إزاري يسترخي؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لست منهم يا أبا بكر) أخرجه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (6062) إذ كان جره إياه لغير الخيلاء، بل لأنه لا يثبت على عاتقه.

قال الأبي: وجر كل شيء بحسبه فجر السراويل والقميص إطالتهما لأسفل من الكعبين، وإطالة الكُمِّ، ففي العُتْبِيَّةِ رأى عمر رجلًا أطال كميه فقطعهما عليه على أطراف أصابعه.

والوعيد المرتب على الجر والخيلاء إنما هو على الجر بالفعل، لا على الجر بالإمكان.

فائدة: وأول من جر الثوب: قارون صاحب موسى بن عمران عليه السلام اهـ تفسير الحدائق نقلًا عن روح البيان.

(والمنان) فعال من المَنِّ، وهو من صيغ المبالغة، فلا يتناول الوعيد المذكور إلَّا من كثر منُّه وهو في ذلك كذلك بخلاف إبطاله الصدقة، وقد فسره في الحديث فقال:"هو الذي لا يُعطي شيئًا إلَّا مَنَّهُ" أي إلَّا امتن به على المُعطى له، ولا شك في أن الامتنان بالعطاء مبطل لأجر الصدقة والعطاء، مؤذٍ للمُعطى له، ولذلك قال تعالى {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264].

ص: 134

وَالْمُنَفقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ"

ــ

وإنما كان المن كذلك لأنه لا يكون غالبًا إلَّا عن البخل والعجب، والكبر ونسيان منة الله تعالى فيما أنعم به عليه، فالبخيل يُعْظم في نفسه العطية وإن كانت حقيرة في نفسها، والعجب يحمله على النظر لنفسه بعين العظمة، وأنه مُنعم بماله على المعطى له، ومتفضل عليه وإن له عليه حقًّا يجب عليه مراعاته، والكبر يحمله على أن يحتقر المُعطى له؛ وإن كان في نفسه فاضلًا، وموجب ذلك كله الجهل ونسيان منة الله تعالى فيما أنعم به عليه، إذ قد أنعم عليه مما يُعطي، ولم يحرمه ذلك، وجعله ممن يُعطي ولم يجعله ممن يسأل، ولو نظر ببصيرته لعلم أن المنة للآخذ لما يزيل عن المُعطي من إثم المنع، وذم المانع، ومن الذنوب ولما يحصل له من الأجر الجزيل، والثناء الجميل، ولبسط هذا موضع آخر.

وقيل المنان في هذا الحديث هو من المَن الذي هو القطع، كما قال الله تعالى {لَهُمْ أَجْرٌ غَيرُ مَمْنُونٍ} [فصلت: 8]، أي غير مقطوع، فيكون معناه البخيل، بقطعه عطاء ما يجب عليه للمستحق، كما قد جاء في حديث آخر "البخيل المنان" رواه أحمد من حديث أبي ذر رضي الله عنه فنعته به، لأن المن يستلزم البخل، لأن المان لا يمن إلَّا بما عظم في عينيه وشح بإخراجه، والجواد لا يستعظم فلا يمن ويدل على أنَّه يستلزمه قوله:

وإن امرأً أهدى إلي صنيعة

وذكَّرنيها مرة لبخيل

وإذا كان التذكير بالنعمة يستلزم بالبخل فكيف بالمن الذي هو أخص منه، وإنما كان أخص منه، لأنه تقرير النعمة على من أسديت إليه، والمعنى الأول أظهر لقوله "لا يُعطي شيئًا إلَّا منها (والمنفق) أي المربح (سلعته) المعروضة للبيع (بالحلف الكاذب) أي باليمين الفاجرة، فهو بمعنى الرواية الأخرى "بالحلف الفاجر" ويقال: الحلف بكسر اللام وإسكانها.

قال القرطبي: قوله: (والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) الرواية في المُنفق بفتح النون وكسر الفاء مشددة، وهو مضاعف نفق البيع ينفق نفاقًا إذا خرج ونفد، وهو ضد كسد، غير أن نفق المُخفف لازم، فإذا شُدد عُدي إلى المفعول، ومفعوله هنا سلعته، وقد وصف الحلف وهي مؤنثة بالكاذب، وهو وصف مذكر، وكأنه ذهب بالحلف مذهب القول فذكره، أو مذهب المصدر وهو مثل قولهم أتاني كتابه فمزقتها، ذهب بالكتاب مذهب الصحيفة والله تعالى أعلم.

ص: 135

198 -

(00)(00) وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى (وَهُوَ الْقَطَّانُ) حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا سُلَيمَانُ الأَعْمَشُ، عَنْ سُلَيمَانَ بْنِ مُسْهِرٍ،

ــ

وممن ذكر الإسكان ابن السكيت في أول كتابه "إصلاح المنطق" اهـ نواوي.

قال القاضي: وقد جمعت هذه اليمين الكذب والغرور (أي غروره إياه بيمينه) وأخذ مال الغير بغير حق والاستخفاف بحق الله تعالى، فعلى القول في حد الكبيرة: إنه ما توعد عليها تكون تلك الثلاث كبائر لترتيبه الوعيد عليها إن لم يستحلها، وإلَّا فقد أخرجته من الملة وسلبته الإيمان.

وهذا الحديث أعني حديث أبي ذر شارك المؤلف في روايته أَبو داود (4087) و (4088) والتِّرمِذي (1211) والنَّسائي (7/ 245) وابن ماجة (2208).

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه فقال:

(198)

- متا (00)(00)(وحدثني أَبو بكر) محمد (بن خلاد) بن كثير (الباهلي) البصري ثقة من العاشرة مات سنة (245) أربعين ومائتين على الصحيح روى عنه المؤلف في ستة أَبواب، قال أَبو بكر (حَدَّثَنَا يحيى) بن سعيد بن فروخ القطان التميمي أَبو سعيد البصري الأحول أحد أئمة الجرح والتعديل ثقة متقن حافظ إمام قدوة من التاسعة مات سنة (198) ثمان وتسعين ومائة، روى عنه المؤلف في ثلاثة عشر بابًا تقريبًا، وأتى بلفظ هو في قوله (وهو القطان) إشعارًا بأن هذه النسبة لم يسمعها من شيخه بل مما زادها من عند نفسه إيضاحًا للراوي قال يحيى (حَدَّثَنَا سفيان) بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع الثَّوري أَبو عبد الله الكوفي ثقة حافظ فقيه عابد إمام حجة من رؤوس الطبقة السابعة مات سنة (161) إحدى وستين ومائة، روى عنه المؤلف في أربعة وعشرين بابًا تقريبًا.

فائدة: إذا روى المؤلف عن سفيان وأطلق فالعلامة التي تعرف بها أنَّه ثوري أو ابن عيينة أنَّه إن وقع ثالث السند كما هنا فهو ثوري وإن وقع ثاني السند فهو ابن عيينة إلَّا في المقدمة فإنه يخالف فيها هذه القاعدة، قال سفيان (حَدَّثَنَا سليمان) بن مهران (الأعمَش) الكاهلي مولاهم أَبو محمد الكوفي ثقة حافظ قارئ من الخامسة مات سنة (148) ثمان وأربعين ومائة (عن سليمان بن مسهر) الفزاري الكوفي، روى عن خرشة بن الحر في الإيمان والفضائل ويروي عنه (م د س) والأعمش وإبراهيم النخعي، وثقه النَّسائي، له

ص: 136

عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال:"ثَلَاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمَنَّانُ الَّذِي لا يُعْطِي شَيئًا إِلَّا مَنَّهُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِرٍ، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ".

199 -

(00)(00) وَحَدَّثَنِيهِ بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ

ــ

عندهم حديثان، وقال في التقريب: ثقة من الرابعة، ووهم من ذكره في الصحابة (عن خرشة بن الحر) الفزاري الكوفي، ثقة من كبار التابعين، من الثانية، مات سنة (74)(عن أبي ذر) جندب بن جنادة بن سفيان الغفاري المدني، الصحابي المشهور، وهذا السند من سباعياته رجاله أربعة منهم كوفيون، واثنان بصريان، وواحد مدني، وغرضه بسوق هذا السند بيان متابعة سليمان بن مسهر لأبي زرعة في رواية هذا الحديث عن خرشة بن الحر، وفائدة هذه المتابعة بيان كثرة طرقه لأن المُتال والمُتابَع ثقتان، وكرر متن الحديث لما في هذه الرواية من المخالفة للرواية الأولى، بنقص شيء وزيادة شيء (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة) أنفار (لا يكلمهم الله) سبحانه وتعالى (يوم القيامة) تكليم رضًا ورحمة، بل يكلمهم تكليم غضب وسخط كما مر البحث عنه، أحدهم (المنان الذي) يمتن ويذكر ويعدد ما أعطى على الفقير و (لا يعطي شيئًا إلَّا مَنَّهُ) أي منَ ذلك الشيء وذكره وعدده على المعطى له، ليتكبر به ويفتخر به عليه (و) ثانيهم (المنفق) أي المربح (سلعته) وبضاعته (بالحلف الكاذب) واليمين الفاجرة (و) ثالثهم (المسبل) أي المرخي (إزاره) على الأرض، والجار لها على الأرض، وقد تقدم بحث أي بحث على هذا الحديث قريبًا، فلا عود ولا إعادة والله أعلم.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة ثانيًا في حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه فقال:

(199)

- متا (00)(00)(وحدثنيه) أي وحدثني الحديث المذكور يعني حديث أبي ذر الغفاري (بشر بن خالد) الفرض نسبة إلى علم الفرائض - العسكري، أَبو محمد البصري، روى عن محمد بن جعفر في الإيمان وغيره، وحسين الجعفي، وعدة، ثقة يغرب من العاشرة، مات سنة (255) قال بشر (حَدَّثَنَا محمد) بن جعفر الهذلي مولاهم، المعروف بغندر، أَبو عبد الله البصري، ثقة إلَّا أن فيه غفلة، من التاسعة، مات سنة (193) روى عنه المؤلف في ستة أَبواب تقريبًا.

ص: 137

(يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ) عَن شُعْبَةَ، قَال: سَمِعْتُ سُلَيمَانَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَقَال:"ثَلَاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيهِمْ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ".

200 -

(102)(25) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي شَيبَةَ،

ــ

وأتى بالعناية في قوله (يعني ابن جعفر) إشعارًا بأن هذه النسبة لم يسمعها من شيخه (عن شعبة) بن الحجاج بن الورد العتكي، مولاهم أبي بسطام البصري، ثقة متقن إمام الأئمة، من السابعة، مات سنة (160) ستين ومائة، روى عنه المؤلف في ثلاثين بابًا تقريبًا.

(قال) شعبة (سمعت سليمان) بن مهران الأعمَش الكاهلي، أبا محمد الكوفي، ثقة مدلس من الخامسة، مات سنة (148) روى عنه المؤلف في ثلاثة عشر بابًا تقريبًا، والجار والمجرور في قوله (بهذا الإسناد) متعلق بمحذوف حال من سليمان، أي سمعت سليمان الأعمَش حالة كونه راويًا عن أبي ذر بهذا الإسناد، واسم الإشارة راجع إلى ما بعد شيخ المتابع وهو سليمان الأعمَش، وغرضه بسوق هذا السند بيان متابعة شعبة لسفيان الثَّوري في رواية هذا الحديث عن الأعمَش، أي حالة كون سليمان الأعمَش راويًا عن سليمان بن مسهر عن خرشة بن الحر عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا السند أيضًا من سباعياته، رجاله ثلاثة منهم بصريون، وثلاثة منهم كوفيون، وواحد مدني، وفائدة هذه المتابعة بيان كثرة طرقه أيضًا، وذكر هنا من الحديث ما خالف فيه شعبة لسفيان بقوله (و) لكن (قال) شعبة في روايته عن الأعمَش (ثلاثة) سوغ الابتداء بالنكرة نية إضافة مخصصة، أي ثلاثة أنفار (لا يكلمهم الله) سبحانه وتعالى تكليم رضا ولطف (ولا ينظر إليهم) نظر رحمة واحسان (ولا يزكيهم) أي لا يطهرهم من خبيث أعمالهم لعظم جرمهم، لأن ذنوبهم جمعت ذنوبًا كثيرة (ولهم عذاب أليم) أي شديد الألم، يصل ألمه إلى قلوبهم، فخالف شعبة لسفيان بزيادة ولا ينظر إليهم إلخ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى لحديث أبي ذر بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما فقال:

(200)

- ش (102)(25)(وحدثنا أَبو بكر) عبد الله بن محمد (بن أبي شيبة) إبراهيم بن عثمان العبسي مولاهم الكوفي، ثقة حافظ من العاشرة، مات سنة (235) روى عنه المؤلف في ستة عشر بابًا تقريبًا.

ص: 138

حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَأَبُو مُعَاويَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُريرَةَ، قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ (قَال أَبُو مُعَاويةَ: وَلَا يَنْظُرُ إِلَيهِمْ) وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ"

ــ

قال أَبو بكر (حَدَّثَنَا وكيع) بن الجراح الرؤاسي أَبو سفيان، ثقة من كبار التاسعة، مات في آخر سنة (196) روى عنه المؤلف في ثمانية عشر بابًا تقريبًا (وأَبو معاوية) محمد بن خازم التميمي الضرير الكوفي، ثقة من كبار التاسعة، مات سنة (195) روى عنه المؤلف في أربعة عشر بابًا تقريبًا، وفائدة المقارنة بيان كثرة طرقه كلاهما رويا (عن الأعمَش) سليمان بن مهران الكاهلي مولاهم، أبي محمد الكوفي، ثقة حافظ من الخامسة، مات سنة (148) روى عنه المؤلف في ثلاثة عشر بابًا تقريبًا (عن أبي حازم) سلمان الأشجعي مولى عزة الكوفي جالس أبا هريرة خمس سنين، ثقة من الثالثة، مات على رأس (100) المائة، روى عنه المؤلف في خمسة أَبواب تقريبًا.

(عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر الدوسي المدني، الصحابي الجليل أحد المكثرين، وهذا السند من خماسياته، رجاله كلهم كوفيون إلَّا أبا هريرة، فإنه مدني (قال) أبو هريرة (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم الله) سبحانه وتعالى (يوم القيامة) تكليم رضًا ورحمة (ولا يزكيهم) أي لا يطهرهم الله سبحانه وتعالى من خبيث أعمالهم، وقبيح سيئاتهم بالعفو والغفران (قال أَبو معاوية) أي زاد أَبو معاوية في روايته على وكيع وقال (ولا ينظر الله إليهم) نظر رحمة وإحسان (ولهم) أي لهؤلاء الثلاثة (عذاب أليم) أي وجيع، يصل وجعه إلى قلوبهم، أحدهم (شيخ) وهو من طعن في من الكبر، بأن جاوز العمر الغالب ستين سنة (زانٍ) أي زنى ووطئ في فرج حرام بغير شبهة ولا إكراه (وملك كذاب) أي يكذب في رعيته (وعائل) أي فقير (مستكبر) أي متكبر على غيره، فالسين فيه زائدة، قال القرطبي: العائل الفقير والمعيل الكثير العيال، يقال: عال الرجل فهو عائل إذا افتقر، والعيلة الفقر، وأعال فهو معيل إذا كثر عياله.

قال القاضي: ولا يقتضي الحديث أن غير الثلاثة معذور، لأنها إنما ذكرت لبيان أن العقوبة عليها أشد وكانت أشد لأن المعصية مع وجود الصارف عنها تدل على الاستخفاف بحق المعبود، والمعاندة له فالصارف للشيخ عن الزنا انكسار حدة شهوته،

ص: 139

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وكمال عقله، وطول إعذار الله سبحانه إليه، والصارف للملك عن الكذب قدرته على نيل اختياره دون كذب، إذ لا يخشى أحدًا، والصارف للعائل عن الاستكبار فقره، لأن الاستكبار إنما هو بالدنيا، وليست عنده فاستكباره عناد اهـ.

وقال القرطبي: وإنما غلظ العقاب على هؤلاء الثلاثة لأن الحامل لهم على تلك المعاصي محض المعاندة، واستخفاف أمر تلك المعاصي التي اقتحموها، إذ لم يحملهم على ذلك حاملٌ حاجِي، ولا دعتهم إليها ضرورة كما يدعو من لم يكن مثلهم.

وبيان ذلك أن الشيخ لا حاجة ولا داعية له تدعوه إلى الزنا، لضعف داعية النكاح في حقه ولكمال عقله، ولقرب أجله، إذ قد انتهى إلى طرف عمره، ومثله في ذلك الملك الكذاب، إذ لا حاجة له إلى الكذب، فإنه يمكنه أن يمشي أغراضه بالصدق، فإن خاف من الصدق مفسدة ورَّى، وأما العائل المستكبر فاستحق ذلك لغلبة الكبر على نفسه إذ لا سبب له من خارج يحمله على الكبر، فإن الكبر غالبًا إنما يكون بالمال والخدم والجاه، وهو قد عدم ذلك كله، فلا موجب له إلَّا غلبة الكبر على نفسه، وقلة مبالاته بتحريمه، وتوعيد الشرع عليه، مع أن اللائق به والمناسب لحاله الرقة والتواضع لفقره وعجزه اهـ.

فلم يبق في زنا الأول، وكذب الثاني، واستكبار الثالث إلَّا ضربًا من الاستخفاف بحق الله تعالى، ومعاندة نواهيه وأوامره، وقلة الخوف من وعيده إذ لم يبق ثم حامل لهم على هذا سواه مع سبق القدر لهم بالشقاء، فهؤلاء الثلاثة إن استحلوا ذلك فقد خرجوا من الملة فلا إيمان لهم، وإلا فهم عاصون بارتكاب الكبائر فلا بد من معاقبتهم على ذلك إن لم يتوبوا، ولم يسمح الله لهم، فبهذا التأويل يطابق الحديث التَّرجمة.

قال الأبي: فإن وجد من الشيوخ من لم تنكسر حدته، فلا يكون مساويًا للشاب لأن التعليل بالوصف لا يضره تخلف الحكمة في بعض الصور، كالملك المسافر يقصر وإن لم تلحقه المشقة فإن احتاج الملك إلى الكذب في مداهنة بعض المفسدين لم يلحقه الوعيد، لأنه أحد المواضع التي استثني فيها جواز الكذب، ويلحق بالثلاثة من شركهم في المعنى الموجب للوعيد كسرقة الغني فإنها ليست كسرقة المحتاج، ولا يبعد أن يكون المدح في أضداد هذه الأنواع أيضًا يتفاوت، فالعفة من الشاب أمدح منها من الشيخ، والصدق من غير الملك أمدح منه من الملك، والتواضع من الغني أمدح منه من الفقير،

ص: 140

201 -

(103)(26) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيبَةَ وَأَبُو كُرَيبٍ، قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاويَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ - وَهَذَا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ - قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةٍ، وَلا يَنْظُرُ إِلَيهِمْ وَلا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضلِ مَاءٍ بِالْفَلَاةِ

ــ

ويدل على ذلك حديث: "وسبعة يظلهم الله

" فذكر شابًّا نشأ في طاعة الله تعالى انتهى.

وهذا الحديث أعني حديث أبي هريرة الوارد في (شيخ زانٍ وملك كذاب وعائل مستكبر) شارك المؤلف في روايته أحمد (3/ 433)، والنَّسائي (6/ 86)، وابن ماجة (2208).

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى لحديث أبي ذر ثانيًا بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما فقال:

(201)

- ش (103)(26)(وحدثنا أَبو بكر) عبد الله بن محمد (بن أبي شيبة) إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي من العاشرة (وأَبو كريب) محمد بن العلاء بن كريب الهمداني الكوفي ثقة من العاشرة، مات سنة (248)(قالا) أي قال أَبو بكر وأَبو كريب (حَدَّثَنَا أَبو معاوية) محمد بن خازم التميمي الكوفي، ثقة من كبار التاسعة، مات سنة (195)(عن الأعمَش) سليمان بن مهران الكاهلي، أبي محمد الكوفي، ثقة من الخامسة، مات سنة (148)(عن أبي صالح) ذكوان السمان المدني، مولى جويرية بنت الحارث، ثقة ثبت من الثالثة، مات سنة (101) روى عنه المؤلف في ثمانية أَبواب تقريبًا (عن أبي هريرة)، الدوسي المدني، وهذا السند من خماسياته، رجاله ثلاثة منهم كوفيون، واثنان مدنيان (وهذا) الحديث الآتي لفظ (حديث أبي بكر) بن أبي شيبة، وأما أَبو كريب فروى معناه (قال) أَبو هريرة (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث) أنفسٍ، وذكر اسم العدد هنا بحذف الهاء، وهو صحيح على معنى ثلاثُ أنفسٍ، وجاء الضمير في لا يكلمهم مذكرًا على المعنى، أي ثلاثة أنفارٍ (لا يكلمهم الله) سبحانه وتعالى (يوم القيامة ولا ينظر اليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) أحدهم (رجلٌ) أي شخص (على فضل ماء) أي على ماء فاضل عن حاجته وكفايته، كائن ذلك الماء (بالفلاة) أي بالمفازة

ص: 141

يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ لَهُ بِاللهِ لأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا

ــ

والفلاة بفتح الفاء هي المفازة والقفر التي لا أنيس بها (يمنعه) أي يمنع ذلك الماء (من ابن السبيل) أي من المسافر المار على ذلك الماء، أي يمنع ابن السبيل من شرب ذلك الماء الفاضل عن حاجته قال النواوي: ولا شك في غلظ تحريم ما فعل، وشدة قبحه، فإذا كان من يمنع فضل الماء الماشية عاصيًا، فكيف بمن يمنعه الأدمي المحترم فإن الكلام فيه فلو كان ابن السبيل غير محترم كالحربي والمرتد لم يجب بذل الماء له اهـ.

قال القرطبي (قوله ورجل على فضل ماء بالفلاة) إلخ يعني بفضل الماء ما فضل عن كفاية السابق للماء وأخذ حاجته منه فمن وإن كذلك فمنع ما زاد على ذلك تعلق به هذا الوعيد، وابن السبيل: هو المسافر، والسبيل: الطَّرِيق، وسُمي المسافر بذلك لأن الطَّرِيق تبرزه وتظهره فكأنها ولدته، وقيل: سُمي بذلك لملازمته إياه، كما يقال في الغراب: ابن دأية لملازمته دأية البعير الدَّبِر لينقرها (والبعير الدَّبِرُ: هو الذي تقرحت دأيته، والدأية من البعير: هو الموضع الذي تقع عليه ظِلفة الرحل فيعقره) والفلاة: القفر كما مر.

وهذا هو الماء الذي قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن منعه بقوله: "لا يُمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ" رواه البخاري، ومسلم، وأَبو داود، والتِّرمِذي، وابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في رقم (1566) وقد أجمع المسلمون على تحريم منع ذلك لأنه منع ما لا حق له فيه من مستحقه، وربما أتلفه أو أتلف ماله وبهيمته، فلو منعه هذا الماء حتَّى مات عطشًا اقتص منه عند مالك، لأنه قتله كما لو قتله بالجوع أو بالسلاح.

قال الأبي: حمل الشراح هذا الماء على أنَّه غير مملوك الأصل، فهو من نوع ما قبله، فالصارف لهذا أيضًا كونه لا يملك أصله، وقد أخذ حاجته فمنعه، وقد استغنى عنه ككذب الملك مع ما فيه من تعريض مسلم للتلف اهـ.

(و) ثانيهم (رجل بايع) أي ساوم (رجلًا) آخر وباع له (بسلعة) أي ببضاعة معروضة للبيع (بعد (صلاة (العصر فحلف) أي حلف وأقسم الرجل الأول وهو البائع (له) أي للرجل الثاني وهو المشتري (بالله) أي باسم الله أو بصفته ليغره على أنَّه (لأخذها) أي لأخذ تلك السلعة واشتراها (بـ) ـثمن قدره (كذا) أي ألف ريال (وكدا) أي وخمسمائة، مع

ص: 142

فَصَدَّقَهُ، وَهُوَ عَلَى غَيرِ ذلِكَ،

ــ

أنَّه أخذها بألف ريال فقط (فصدقه) أي فصدق المشتري البائع على أنَّه أخذها بألف وخمسمائة، فأعطاه ألفين، بزيادة خمسمائة أي ألف ريال (وهو) أي والحال أن أخذه تلك السلعة (على كير ذلك) المذكور من الذي أشار إليه بقوله: كذا وكذا، وهو ألف وخمسمائة، والمعنى أنَّه اشتراه بألف، ويزعم أنَّه اشتراها بالف وخمسمائة، ويبيعها بألفين.

ومعنى الكلام أي: حلف له بعد صلاة العصر على أعين الناس فالتقييد بذلك لأنه وقت اجتماعهم وتكاثرهم، ولأنه وقت تلاقي ملائكة الليل والنهار، وفي ذلك تكثير للشهود منهم على كذب الحالف أو صدقه، فيكون أخوف، ذكره المفسرون عند تفسير قوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} في سورة المائدة اهـ من هامش بعض المتون.

وقال القاضي عياض (وقوله بعد العصر) قيده بذلك لشدة الأمر فيها، وحضور ملائكة الليل والنهار عندها، وشهادتهم على مجاهرته ربه بيمينه واستخفافه عظيمَ حقه انتهى.

وعبارة المفهم هنا (قوله: ورجل بايع رجلًا سلعة) رويناه سلعة بغير باء، ورويناه بالباء فعلى الباء بايع بمعنى ساوم، كما جاء في الرواية الآخرى "ساوم" مكان بايع، وتكون الباء بمعنى عن كما قال الشاعر:

فإن تسألوني بالنساء فإنني

بصير بأدواء النساء طبيب

أي عن النساء، وعلى إسقاطها يكون معنى بايع باع فيتعدى بنفسه، وسلعةً مفعول به وقوله (فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا) يعني أنَّه كذب فزاد في الثمن الذي به اشترى فكذب واستخف باسم الله تعالى حتَّى حلف به على الكذب، وأخذ مال غيره ظلمًا فقد جمع بين كبائر، فاستحق هذا الوعيد الشديد، وتخصيصه بما بعد العصر يدل على أن لهذا الوقت من الفضل والحرمة ما ليس لغيره من ساعات اليوم.

وقال أيضًا: ويظهر لي أن يقال إنما كان ذلك لأنه عقب الصلاة الوسطى، كما يأتي النص عليه، ولما كانت هذه الصلاة لها من الفضل، وعظيم القدر أكثر مما لغيرها كان ينبغي لمصليها أن يظهر عليه عقبها من التحفظ على دينه، والتحرز على إيمانه أكثر مما ينبغي له عقب غيرها لأن الصلاة حقها أن تنهى عن الفحشاء والمنكر كما قال الله

ص: 143

وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لا يُبَايِعُهُ إِلا لِدُنْيَا، فَإِنْ أعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ"

ــ

تعالى {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، أي تحمل على الامتناع عن ذلك مما يحدث في قلب المصلي بسببها من النور والانشراح والخوف من الله تعالى، والحياء منه، ولهذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزد من الله إلَّا بعدًا" رواه الطبراني في الكبير من حديث ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما.

وإذا كان هذا في الصلوات كلها كانت الوسطى بذلك أولى، وحقها في ذلك أكثر وأوفى فمن اجترأ بعدها على اليمين الغموس التي يأكل بها مال الغير كان إثمه أشد وقلبه أفسد والله سبحانه وتعالى أعلم.

وهذا الذي ظهر لي، أولى مما قاله القاضي أَبو الفضل، فإنه إنما كان ذلك لاجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار في ذلك الوقت لوجهين:

أحدهما: لأن هذا المعنى موجود في صلاة الفجر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ثم يجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر" رواه البخاري ومسلم والنَّسائي، فتبطل خصوصية العصر لمساواة الفجر لها في ذلك.

وثانيهما: أن حضور الملائكة واجتماعهم إنما هو في حال فعل هاتين الصلاتين لا بعدهما كما قد نص عليه في الحديث حين قال: "يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر وتقول الملائكة أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون" وهذا يدل دلالة واضحة على أن هؤلاء الملائكة لا يشاهدون من أعمال العباد إلَّا الصلوات فقط وبها يشهدون، فتدبر ما ذكرته فإنه الأنسب الأسلم، والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ قرطبي.

(و) ثالثهم (رجل بايع) وعاهد (إمامًا) وسلطانًا على الإمامة حالة كونه (لا يبايعه) أي لا يريد مبايعته (إلا للدنيا) أي إلَّا لأجل نيل حظوظ الدنيا منه من المال والجاه وغيرهما لا لاتفاق الكلمة (فإن أعطاه) أي فإن أعطاه الإمام (منها) أي من الدنيا (وفى) وبرَّ ونفَّدَ تلك البيعة فلا ينقضها ولا يخدعه (وإن لم يعطه) أي وإن لم يُعطِ الإمام ذلك الرجل مراده (منها) أي من الدنيا (لم يفِ) ذلك الرجل بيعة الإمام، بل ينقضه ويسعى في

ص: 144

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

إبطالها، وقال القاضي: استحق ذلك لغشه الإمام والمسلمين، لأنه يظن أنَّه إنما بايعه ديانة، وهو قَصَدَ ضد ذلك، مع ما يثير من الفتن، لا سيما إن كان متبوعًا انتهى.

قال القرطبي قوله: (ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلَّا لدنيا) إنما استحق هذا الوعيد الشديد لأنه لم يقم لله تعالى بما وجب عليه من البيعة الدينية، فإنها من العبادات التي تجب فيها النية والإخلاص، فإذا فعلهما لغير الله تعالى من دنيا يقصدها، أو غرض عاجلٍ يقصده بقيت عهدتها عليه لأنه منافق مراء غاش للإمام والمسلمين غير ناصح في شيء من ذلك، ومن كان هذا حاله كان مثيرًا للفتن بين المسلمين، بحيث يسفك دماءهم، ويستبيح أموالهم، ويهتك بلادهم، وسعى في إهلاكهم لأنه إنما يكون مع من بلَّغه إلى أغراضه، فيبايعه لذلك وينصره ويغضب له ويقاتل مخالفه، فينشأ من ذلك تلك المفاسد، وقد تكون هذه المخالفة في بعض أغراضه فينكث بيعته ويطلب هلكته، كما هو حال أكثر أهل هذه الأزمان، فإنهم قد عمهم الغدر والخذلان.

قوله (فإن أعطاه منهما وفى) إلخ هكذا الرواية (وفى) بتخفيف الفاء و (يف) محذوف الواو والياء مخففًا، وهو الصحيح هنا رواية ومعنى، لأنه يقال وفى بعهده يفي وفاءً، والوفاء ممدود: ضد الغدر، ويقال: أوفى بمعنى وفى، وأما (وفَّى) المشدد الفاء فهو بمعنى توفية الحق وإعطائه، يقال: وفاه حقه يُوفيه توفية، ومنه قوله تعالى:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)} [النجم: 37]، أي قام بما كلفه من الأعمال كخصال الفطرة وغيرها، كما قال الله تعالى:{فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124].

وحكى الجوهري: أوفاه حقه، وعلى هذا، وعلى ما تقدم فيكون أوفى بمعنى الوفاء بالعهد، وتوفية الحق والأصل أوفى: أطل على الشيء وأشرف عليه.

واعلم: أن اختلاف بيان الثلاثة في أحاديث الباب أعني حديث أبي ذر وحديثي أبي هريرة محمول على اختلاف حاجة المُخاطبين بها إلى بيان تلك الثلاثة المذكورة في كل حديث من تلك الأحاديث هكذا ظهر لفهمي السقيم، ولم أرَ من ذكره، وهذا الحديث أعني حديث أبي هريرة الثاني شارك المؤلف في روايته أحمد (2/ 253) والبخاري (2358) وأبو داود (3474) و (3475) والنَّسائي (7/ 247) ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث أبي هريرة هذا رضي الله تعالى عنه فقال:

ص: 145

202 -

(00)(00) وَحَدَّثَنِي زُهَيرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ. ح وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْثَرٌ، كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَش، بِهَذَا الإسْنَادِ

مِثْلَهُ

ــ

(202)

- متا (00)(00) وحدثني زهير بن حرب) بن شداد الحرشي أَبو خيثمة النَّسائي، ثقة ثبت من العاشرة، مات سنة (234) روى عنه المؤلف في عشرين بابًا تقريبًا، قال زهير (حَدَّثَنَا جرير) بن عبد الحميد بن قرط الضبي، أَبو عبد الله الكوفي، ثقة من الثامنة، مات سنة (188) روى عنه المؤلف في ستة عشر بابًا تقريبًا.

(ح) أي حول المؤلف السند (و) قال (حَدَّثَنَا سعيد بن عمرو) بن سهل بن إسحاق بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي (الأشعثي) بالشين المعجمة والعين المهملة والثاء المثلثة منسوب إلى جده الأشعث أَبو عثمان الكوفي روى عن عبثر بن القاسم في الإيمان وغيره، وسفيان بن عيينة في مواضع، ومروان بن معاوية في الصوم، وأبي ضمرة أَنس بن عياض في الصوم، وحاتم بن إسماعيل في الحج والبيوع وأبي أمامة في الأشربة، ويروي عنه (م) وأَبو زرعة ووثقه، وقال في التقريب: ثقة من العاشرة، روى عنه المؤلف في أربعة أَبواب تقريبًا كما بيناها، قال سعيد بن عمرو (أخبرنا عبثر) بمثلثة بوزن جعفر، ابن القاسم الزبيد -بالضم مصغرًا- أَبو زبيد بضم الزاي الكوفي روى عن الأعمَش في الإيمان، وسليمان التيمي، وإسماعيل بن أبي خالد، وأبي إسحاق الشيباني، ومطرف بن طريف، وحصين بن عبد الرحمن، والعلاء بن المسيب وغيرهم، ويروي عنه (ع) وسعيد بن عمرو الأشعثي ويحيى بن يحيى وهناد بن السري، وخلف بن هشام، وأحمد بن يونس، وقتيبة وخلق، قال أَبو داود: ثقة ثقة، وقال في التقريب: ثقة من الثامنة، مات سنة (179) تسع وسبعين ومائة، روى عنه المؤلف في الإيمان والصلاة في موضعين، والجنائز، والحج، والطلاق، والأشربة في موضعين، والأطعمة، والأدب، فجملة الأَبواب التي روى عنه المؤلف فيها ثمانية تقريبًا.

(كلاهما) أي كل من جرير وعبثر رويا (عن الأعمَش) سليمان بن مهران الكاهلي مولاهم، أبي محمد الكوفي، ثقة حافظ مدلس، من الخامسة، مات سنة (148) والجار والمجرور في قوله (بهذا الإسناد) متعلق بما عمل في المتاج، واسم الإشارة راجع إلى ما بعد شيخ المتابَع من أبي صالح وأبي هريرة، وقوله (مثله) مفعول ثانٍ لما عمل في

ص: 146

غَيرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ "وَرَجُلٌ سَاوَمَ رَجُلًا سِلْعَة".

203 -

(00)(00) وَحَدَّثَنِي عمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛

ــ

المتابع، والضمير عائد إلى أبي معاوية في السند السابق، والتقدير كلاهما رويا عن الأعمَش عن أبي صالح عن أبي هريرة مثل حديث أبي معاوية عن الأعمَش، وهذان السندان من خماسياته، الأول منهما رجاله: كوفيان ومدنيان ونسائي، والثاني رجاله: ثلاثة منهم كوفيون واثنان مدنيان وغرضه بسوق هذا السند بيان متابعة جرير وعبثر لأبي معاوية في رواية هذا الحديث عن الأعمَش، وفائدتها بيان كثرة طرقه، واستثنى عن المماثلة بقوله (غير أن في حديث جرير ورجل ساوم رجلًا سلعة) له معروضة للبيع بدل قوله في الرواية الأولى (ورجل بايع رجلًا) والله أعلم، ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة ثانيًا في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فقال:

(203)

- متا (00)(00)(وحدثني عمرو) بن محمد بن بكير بن شابور بمعجمة (الناقد) أَبو عثمان البغدادي، ثقة حافظ وهمَ في حديث، من العاشرة مات سنة (232) اثنتين وثلاثين ومائتين، روى عنه المؤلف في عشرة أَبواب تقريبًا، قال عمرو (حَدَّثَنَا سفيان) بن عيينة بن ميمون الهلالي مولاهم، أَبو محمد الأعور المكي، ثقة حافظ فقيه إمام حجة، من الثامنة مات أول يوم من رجب سنة (198) ثمان وتسعين ومائة، وله (91) إحدى وتسعون سنة، ودفن بالحجون، قال لابن أخيه الحسن بن عمران بن عيينة بجمع آخر حجة حجها: قد وافيت هذا الموضع سبعين مرة، أقول في كل سنة: اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، وإني قد استحييت من الله عز وجل من كثرة ذلك، قال: فلم يسأل الله تعالى فرجع فتوفي في السنة الداخلة، روى عنه المؤلف في خمسة وعشرين بابًا تقريبًا.

(عن عمرو) بن دينار الجمحي مولاهم، أبي محمد المكي، ثقة ثبت من الرابعة، مات سنة (126) ستٍ وعشرين ومائة في أولها، روى عنه المؤلف في اثنين وعشرين بابًا تقريبًا (عن أبي صالح) ذكوان السمان مولى جويرية بنت الحارث القيسية، المدني، ثقة ثبت من الثالثة، مات سنة (101)(عن أبي هريرة) الدوسي المدني، وهذا السند من خماسياته، رجاله اثنان منهم مدنيان واثنان مكيان وواحد بغدادي، وغرضه بسوق هذا

ص: 147

قَال: أُرَاهُ مَرْفُوعًا. قَال: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصرِ عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ فَاقْتَطَعَهُ" وَبَاقِي حَدِيثِهِ نَحْوُ حَدِيثِ الأَعْمَشِ

ــ

السند بيان متابعة عمرو بن دينار لسليمان الأعمَش في رواية هذا الحديث عن أبي صالح، وفائدة هذه المتابعة بيان كثرة طرقه، وكرر من متن الحديث لما فيه من المخالفة للراوية الأولى (قال) أَبو صالح (أراه) أي أرى هذا الحديث وأظنه (مرفوعًا) أي رواه أَبو هريرة ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال (قال) النبي صلى الله عليه وسلم (ثلاثة) أنفار (لا يكلمهم الله) يوم القيامة (ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم) أحدهم (رجل حلف) وأقسم (على يمين) أي على محلوف به من أسمائه تعالى أو صفاته، أي حلف بما يُحلف به شرعًا من أسمائه وصفاته، فعلى بمعنى الباء، واليمين بمعنى المحلوف به، ويجوز أن يقال: إن على صلة، وينصب يمين على أنَّه مصدر ملاق في المعنى لا في اللفظ كما في القرطبي (بعد صلاة العصر) خصها لأنها وقت اجتماع الشهود كما مر.

(على) ادعاء (مال) امرئٍ (مسلم) أو ذمي لأن ماله محترم، وكذا اختصاصاتهما فحُكم له بيمينه مع شاهد (فاقتطعه) أي فاقتطع ذلك المال، وأخذه مع كذبه في دعواه (وباقي حديثه) أي حديث عمرو بن دينار (نحو حديث الأعمَش) أي مثله.

***

ص: 148