المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌50 - (9) باب: الاكتفاء بظاهر الإسلام، وترك البحث عما في القلوب، وتحريم قتل الإنسان بعد أن قال: لا إله إلا الله - الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج - جـ ٣

[محمد الأمين الهرري]

فهرس الكتاب

- ‌42 - (1) بَابُ: كَوْنِ الإيِمَان أَفْضَلَ الأعْمَالِ عَلَى الإِطْلَاقِ وَتَفْضِيلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ

- ‌43 - (2) بَابُ كَوْنِ الشِّرْكِ أَقْبَحَ الذُّنُوبِ، وَقُبْحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ

- ‌44 - (3) - بَابُ: بَيَانِ الْكَبَائِرِ وَأَكْبَرِهَا

- ‌45 - (4) بَابُ: بَيَانِ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ، وَالأمْرِ بِاجْتِنَابِهَا الَّذِي هُوَ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ

- ‌46 - (5) بَابٌ: مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيهِ

- ‌47 - (6) بَابُ: لا يدخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ كِبْرٌ

- ‌48 - (7) بَابُ: مَنْ مَاتَ مُؤمِنًا لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ تَعَالى شَيئًا. . دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ مُشْرِكًا. . دَخَلَ النَّارَ، وَبَيَان الْمُوجِبَتَينِ

- ‌49 - (8) بَابُ: ارْتِكَابِ الْمُؤْمِنِ الْكَبَائِرَ لَا يُخْرِجُهُ عَنِ الإِيمَانِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ

- ‌50 - (9) بَابُ: الاكْتِفَاءِ بِظَاهِرِ الإِسْلام، وَتَرْكِ الْبَحْثِ عَمَّا فِي الْقُلُوبِ، وَتَحْرِيمِ قَتْلِ الإِنْسَانِ بَعْدَ أَن قَال: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ

- ‌51 - (10) بَابُ: إِيمَانِ مَنْ تبَرَّأَ مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

- ‌52 - (11) بَابُ: إِيمَانِ النَّمَّامٍ، وَغِلَظِ تَحْرِيمِ النَّمِيمَةِ

- ‌53 - (12) بَابٌ: إِيمَانِ الْمُسْبِل إِزَارَهُ، وَالْمَانِّ بِصَدَقَتِهِ، وَالْمُنَفِّقِ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ، وَمَنْ لَا يُكَلِّمُهُ اللَّهُ تَعَالى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيهِ

- ‌54 - (13) بَابُ: إِيمَانِ مَنْ قتَلَ نَفْسَهُ بِشَيءٍ، وَأَنَّهُ يُعَذَّبُ بِهِ فِي النَّارٍ، وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَغَيرِ ذَلِكَ

- ‌55 - (14) بَابُ: إِيمَانِ مَنْ غَلَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ

- ‌56 - (15) بَابُ: الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْقَاتِلَ لِنَفْسِهِ لَا يَكْفُرُ إِنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ الْقَتْلَ

- ‌57 - (16) بَابٌ مَا يُقْبَضُ عِنْدَهُ رُوحُ كُلِّ مُومِنٍ وَيَبْقَى بَعْدَهُ عَلَى الأَرْضِ شِرَارُ النَّاسِ

- ‌58 - (17) بَابٌ: مَا يُخَافُ مِنْ سُرْعَةِ سَلْبِ الإيمَانِ وَالْحَضِّ عَلَى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ تَظَاهُرِ الْفِتَنِ الشَّاغِلَةِ عَنْهَا

- ‌59 (18) - بَابٌ: مَخَافَةُ الْمُؤمِنِ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ مِنَ الإِيمَان

- ‌60 - (19) - بَابُ: إِسْلامِ مَنْ أَخْلَصَ فِي إِسْلامِهِ، وَمَنْ لَمْ يُخْلِصْ فِيهِ

- ‌61 - (20) بَابٌ: الإِسْلامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ، وَكَذَا الْهِجْرَةُ وَالْحَجُّ

- ‌62 - (21) بَابُ: إِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَأَحْسَنَ .. أَحْرَزَ مَا قَبْلَهُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ

- ‌63 - (22) بَابُ: إِطْلاقِ الظُّلْمِ عَلَى الشِّرْكِ، وَإِخْلاصِ الإِيمَان مِنْهُ

- ‌64 - (23) بَابُ: شِكَايَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى خَطَرَاتِ النَّفْسِ، وَنُزُولِ قَوْلهِ تَعَالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا}

- ‌65 - (24) بَابُ: تَجَاوُزِ اللهِ تَعَالى لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَخَوَاطِرِهَا

- ‌66 - (25) بَابُ: كِتَابَةِ الْحَسَنَةِ لِلْمُؤْمِنِ بِمُجَرَّدِ هَمِّهَا، وَعَدَمِ كِتَابَةِ السَّيِّئَةِ عَلَيهِ بِمُجَرَّدِ الْهَمِّ

- ‌67 - (26) بَابٌ: اسْتِعْظَامُ الْوَسْوَسَةِ فِي الإِيمَانِ مَحْضُ الإِيمَانِ وَصَرِيحُهُ وَخَالِصُهُ

- ‌68 - (27) بَابُ: التَّسَاؤُلِ عَمَّنْ خَلَقَ الْخَلْقَ، وَمَنْ خَلَقَ اللهَ، وَبَيَانِ مَا يَقُولُهُ مَنْ وَجَدَ ذَلِكَ

- ‌69 - (28) بَابُ إِثْمِ مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ بِيَمِينِهِ

- ‌فصل في الأحكام التي تستفاد من أحاديث الباب

الفصل: ‌50 - (9) باب: الاكتفاء بظاهر الإسلام، وترك البحث عما في القلوب، وتحريم قتل الإنسان بعد أن قال: لا إله إلا الله

‌50 - (9) بَابُ: الاكْتِفَاءِ بِظَاهِرِ الإِسْلام، وَتَرْكِ الْبَحْثِ عَمَّا فِي الْقُلُوبِ، وَتَحْرِيمِ قَتْلِ الإِنْسَانِ بَعْدَ أَن قَال: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ

178 -

(90)(13) حدَّثنا قُتَيبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيثٌ. ح وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ

ــ

50 -

(9) بَابُ: الاكْتِفَاءِ بِظَاهِرِ الإِسْلام، وَتَرْكِ الْبَحْثِ عَمَّا فِي الْقُلُوبِ، وَتَحْرِيمِ قَتْلِ الإِنْسَانِ بَعْدَ أَن قَال: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ

أي بابُ وجوب الاكتفاء والاجتزاء بالإسلام الظاهر من الإنسان بنطق الشهادتين في عصمة دمه وماله، وجريان أحكام الإسلام عليه، وترك البحث عما في قلبه من الاعتقاد، هل هو جازم أم لا، وبيان تحريم قتل الإنسان بعد أن أقر بالشهادتين، ولو في حالة الخوف، حكمًا عليه بظاهر إقراره، ثم استدل المؤلف رحمه الله تعالى على هذه الترجمة فقال:

(178)

- س (90)(13)(حدثنا قتيبة بن سعيد) بن جميل بن طريف بن عبد الله الثقفي مولاهم أبو رجاء البغلاني، ثقة ثبت من العاشرة، مات سنة (240) روى عنه المؤلف في سبعة أبواب تقريبًا، قال قتيبة (حدثنا ليث) بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي مولاهم، أبو الحارث المصري، ثقة من السابعة، مات في شعبان سنة (175) خمس وسبعين ومائة، روى عنه المؤلف في خمسة عشر بابًا تقريبًا.

فائدة: ليث بن سعد: هو الإمام الحافظ شيخ الإسلام، وعالم الديار المصرية، مولده بقرية فشندة، وهي الآن قلقشندة، من أعمال القليوبية، سنة ثلاث وتسعين، سمع عطاء بن أبي رباح، وابن شهاب الزهري، وهشام بن عروة، وخلقًا كثيرًا، وروى عنه خلقٌ كثيرٌ منهم ابن المبارك وابن لهيعة، قال ابن وهب: كل ما كان في كتب مالك، وأخبرني من أرضى من أهل العلم، فهو الليث بن سعد، وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: الليث أتبع للأثر من مالك، مات سنة (175) خمس وسبعين ومائة اهـ الطبقات الكبرى 7/ 517، تاريخ بغداد 13/ 27، سِير 8/ 1360.

(ح) أي حول المؤلف السند (و) قال (حدثنا محمد بن رمح) بن المهاجر التجيبي مولاهم أبو عبد الله المصري، ثقة ثبت من العاشرة، مات بمصر سنة (242) روى عن

ص: 74

(وَاللَّفْظُ مُتَقَارِبٌ) أَخْبَرَنَا اللَّيثُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيثِيِّ، عَنْ عُبَيدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ، عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ؛

ــ

الليث بن سعد في الإيمان وغيره، وأتى بحاء التحويل لبيان اختلاف سماع شيخيه، لأن قتيبة قال حدثنا ليث، وابن رمح قال أخبرنا الليث، وقوله (واللفظ) أي لفظ حديثهما (متقارب) أي حديثهما منشابه في بعض الألفاظ، وبعض المعاني، هو بمعنى قوله في بعض المواضع حدثنا فلان بنحو حديث فلان، قال ابن رمح (أخبرنا الليث) بن سعد الفهمي المصري (عن) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله (بن شهاب) الزهري أبي بكر المدني، ثقة حافظ متقن، من الرابعة، مات سنة (125) روى عنه المؤلف في ثلاثة وعشرين بابًا تقريبًا (عن عطاء بن يزيد الليثي) من أنفسهم أبي يزيد المدني، ثقة من الثالثة، مات سنة (107) خمس أو سبع ومائة، وقد جاوز الثمانين (80) روى عنه المؤلف في خمسة أبواب تقريبًا (عن عبيد الله بن عدي بن الخيار) بكسر المعجمة بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي النوفلي المدني، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقُتل أبوه ببدر، وكان هو في الفتح مميزًا، فعُدَّ في الصحابة لذلك، وعده العجلي وغيره في ثقات التابعين، روى عن المقداد بن الأسود في الإيمان، وعمر وعثمان وعلي، ويروي عنه (خ م د س) وعطاء بن يزيد الليثي، وجعفر بن أمية الضمري مات في آخر خلافة الوليد بن عبد الملك سنة تسعين (90) ومات الوليد سنة اثنتين وتسعين (92)(عن المقداد) بن عمرو بن ثعلبة البهراني الكندي المدني، وكان في حجر الأسود بن عبد يغوث الكندي، فتبناه الأسود فنسب إليه، وقيل له المقداد (بن الأسود) وكان عمرو أبو المقداد حليف كندة، فلذلك قيل له الكندي، وكان المقداد يُعد في أهل الحجاز، يُكنى أبا الأسود، وكان له صحبة من النبي صلى الله عليه وسلم له اثنان وأربعون حديثًا، روى عنه عبيد الله بن عدي بن الخيار في الإيمان، وعلي بن أبي طالب في الوضوء، وعبد الرحمن بن أبي ليلى في الأطعمة، وسُليم بن عامر في صفة الحشر، وأنس بن مالك، وابن عباس، وهمام بن الحارث وسليمان بن يسار، و (ع) وغيرهم، مات بالجُرُف سنة (33) ثلاث وثلاثين، وحُمل على رقاب الرجال إلى المدينة، وصلى عليه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وكان له يوم مات نحو من سبعين (70) سنة، وكان فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وليس عندهم من اسمه المقداد إلا هذا الصحابي الجليل.

ص: 75

أَنَّهُ أَخْبَرَهُ "أَنَّهُ قَال: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّارِ، فَقَاتَلَنِي، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ، فَقَال: أَسْلَمْتُ لِلهِ، أَفَأقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللهِ بَعْدَ أَنْ قَالهَا؟ قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَقْتُلْهُ قَال: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ قَدْ قَطَعَ يَدِي، ثُمَّ قَال ذلِكَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا، أَفَاقْتُلُهُ؟ قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَال"

ــ

وهذا السند من سداسياته، رجاله أربعة منهم مدنيون، واثنان مصريان، أو مصري وبغلاني، ومن لطائفه أن فيه رواية صحابي وهو عبيد الله بن عدي عن صحابي وهو المقداد بن الأسود، وسيأتي بسط الكلام في المقداد إن شاء الله تعالى قريبًا.

(أنه) أي أن المقداد بن الأسود (أخبره) أي أخبر لعبيد الله بن عدي (أنه) أي أن المقداد (قال يا رسول الله أرأيت) أي أخبرني (إن لقيت) وقابلت (رجلًا من الكفار) الأعداء (فقاتلني) أي فقاتل معي (فضرب إحدى يدي) أي إحدى اليدين لي (فقطعها ثم لاذ) واعتصم وتحصن (مني بشجرة) واحتجب مني بها (فقال أسلمت لله) أي استسلمت نفسي لله تعالى، وآمنت به، وانقدت لأوامره وشرائعه وقبلتها (1) أضربه بسيفي (فأقتله يا رسول الله بعد أن قالها) أي بعد أن قال كلمة الإسلام، وأقر بالشهادتين لعدم صحة إسلامه، أم أتركه لصحة إسلامه، وعصمة دمه بكلمة الإسلام (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواب سؤالي (لا تقتله) ولا تزعجه، لكونه معصوم الدم بكلمة الإسلام (قال) المقداد (فقلت يا رسول الله إنه) أي إن ذلك الرجل الكافر (قد قطع يدي) وأبانها مني (ثم قال ذلك) الكلام، أي قال كلمة أسلمت لله (بعد أن قطعها) أي بعد أن قطع يدي (أ) أضربه بالسيف (فأقتله) أم أتركه لكونه معصوم الدم بكلمة أسلمت لله (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا) تقربه ولا (تقتله فإن) أبيت و (قتلته فإنه) أي فإن ذلك الرجل الذي قال كلمة الإسلام ثم قتلته (بمنزلتك قبل أن تقتله) في عصمة الدم، إذ قد نطق بما يوجب عصمته من كلمتي الإسلام (وإنك) يا مقداد (بمنزلته) أي بمنزلة ذلك الرجل (قبل أن يقول كلمته التي قالـ) ـها التي هي كلمة الإسلام، في كونك غير معصوم الدم معرضًا للقصاص، وقيل: أنت بمنزلته في استحقاق مُطلق الإثم، وإن اختلف بسببه هو في المقداد إثم مقصرٍ في الاجتهاد، وفي الرجل إثم كافر كما سيأتي بسط الخلاف فيه.

ص: 76

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قوله (أرأيت إن جاء رجل من الكفار فقاتلني) فيه دليل على جواز السؤال عن أحكام النوازل قبل وقوعها، وقد روي عن بعض السلف كراهية الكلام في النوازل قبل وقوعها، وهذا إنما يُحمل على ما إذا كانت المسائل مما لا تقع، أو تقع نادرًا، فأما ما يتكرر من ذلك ويكثر وقوعه، فيجب بيان أحكامها على من كانت له أهلية ذلك، إذا خيف الثغور "خلو الزمان" عن المجتهدين والعلماء في الحال، أو في الاستقبال، كما قد اتفق عليه أئمة المسلمين من السلف، لما توقعوا ذلك فرعوا الفروع ودونوها، وأجابوا عما سُئلوا عنه من ذلك، حرصًا على إظهار الدين وتقريبًا على من تعذرت عليه شروط الاجتهاد من اللاحقين اهـ قرطبي.

قال الأبي: قال ابن المنير: كان الإمام مالك لا يُجيب في مسألة حتى يسأل، فإن قيل نزلت أجاب، وإلا أمسك عن الجواب، ويقول: بلغني أن المسألة إذا نزلت أُعين عليها المتكلم، وإلا خُذل المتكلف، ولذا كان أصل مذهبه إنما هي أجوبة لا مسائل مرتبة، ومن ثم صعب مذهبه.

قلت: وزاده صعوبة ما اتسع فيه أهل مذهبه من التفريعات والفروض، حتى إنهم فرضوا ما يستحيل وقوعه عادةً، فقالوا: ولو وطئ الخنثى نفسه فوُلد له هل يرث بالأبوة أو بالأمومة، وأنه لو تزايد له ولد من ظهره، وآخر من بطنه لم يتوارثا لأنهما لم يجتمعا في ظهرٍ ولا بطنٍ، وفرضوا مسألة الستة حملاء، واجتماع عيد وكسوف، مع أنه يستحيل عادة، واعتذر عن ذلك بعضهم بأنهم فرضوا ما يقتضيه الفقيه بتقدير الوقوع، ورده المازري: بأن تقدير الخوارق ليس من شأن الفقهاء اهـ أبي.

قال السنوسي: ولو اشتغل الإنسان بما يخصه من واجب ونحوه، ويتعلم أمراض قلبه وأدويتها، وإتقان عقائده، والتفقه في معنى القرآن والحديث، لكان أزكى لعمله، وأضوأ لقلبه، لكن النفوس الردية وإخوتها من شياطين الإنس والجن لم تترك العقل أن ينفذ لوجه مصلحة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم اشغلنا بك عما سواك، واقطع عنا كل قاطع يقطعنا عنك يا أرحم الراحمين انتهى.

وقوله (لاذ مني بشجرة) أي استتر، يقال: لاذ يلوذ لواذًا، إذا استتر، والملاذ ما يستتر به

وقوله (أسلمت لله) أي دخلت في دين الإسلام، وتدينت به، وفيه دليل على أن كل

ص: 77

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

من صدر منه أمر ما يدل على الدخول في دين الإسلام، من قول أو فعل حُكم له بذلك الإسلام وأن ذلك ليس مقصورًا على النطق بكلمتي الشهادة، وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام بني جذيمة الذين قتلهم خالد بن الوليد؛ وهم يقولون صبأنا صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" رافعًا يديه إلى السماء، ثم وَدَاهم، رواه أحمد والبخاري والنسائي من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.

والتعبير بأسلمت في هذه الراوية، يحتمل أنه من راوي قول المقداد، لقول المقداد في الطريق الثاني فقال لا إله إلا الله فيكون نقلًا بالمعنى، ويحتمل أنه من تعبير المقداد فيحتج به للدخول في الإسلام، بكل ما يدل على الدخول فيه من قول أو فعل، مما يتنزل منزلة النطق بالشهادتين. قوله (أفأقتله) سأل لظنه أن الإسلام خوف السيف لا ينفع، فأخبره صلى الله عليه وسلم أن الحكم على الظاهر، ولعل المقداد لم يكن سمع حديث "أُمرت أن أقاتل الناس" اهـ أبي.

قوله (فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله) قال بعضهم معناه: قتلت مؤمنًا مثلك، لأن الكلمة عَصَمت دمه، وأنت بمنزلته إذ لعله كان يُخفي إيمانه من قوم كفار، وأُخرج كرهًا، وقطعَ يدك متأولًا جواز ذلك في الدفع عن نفسه، كما كنت أنت بمكة تُخفي إيمانك، وأخرج أهل مكة من معهم من المسلمين كرهًا، وتأولت جواز قتله بعد أن قال كلمته.

ويشهد لهذا التأويل ما في البخاري من زيادة "وقال النبي صلى الله عليه وسلم للمقداد إذ كان يُخفي إيمانه بين قوم كفار، فأظهر إيمانه فقتله، كذلك كنت أنت بمكة تُخفي إيمانك بين قوم كفار.

قوله (وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال) ظاهره في الكفر، وليس ذلك بصحيح، لأنه إنما قتله متأولًا أنه باق على كفره، فلا يكون قتله كبيرة، وإذا لم يكن قتله كبيرة لم يصح لأحد، وإن كان مكفرًا بالكبائر، أن يقول هذا كفر بوجه، فدل ذلك على أنه متأول، وقد اختلف في تأويله، فقال أبو الحسن بن القصار: هو مثله، في كونه غير معصوم الدم، معرضًا للقصاص.

ص: 78

179 -

(00)(00) حدَّثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيدٍ،

ــ

قال القرطبي رحمه الله تعالى: وهذا ليس بشيء، لانتفاء سبب القصاص، وهو العمد العدوان، وذلك منتف هنا قطعًا، لأن المقداد تأول ما تأوله أسامة بن زيد، أنه قال ذلك خوفًا من السلاح، ألا ترى قول المقداد إنه قد قطع يدي ثم لاذ مني بشجرة، فلما أهويت لأقتله قال لا إله إلا الله، غير أن هذا التأويل لم يُسقط عنهما التوبيخ والذم، ولا توقع المطالبة بذلك في الآخرة، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم لأسامة:"كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة" وكرر ذلك عليه، ولم يستغفر له مع سؤال أسامة ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما لم يسقط عنه التوبيخ والتأثيم، وإن كان متأولًا لأنه أخطأ في تأويله، وعلى هذا يمكن أن يُحمل قوله "إنك بمنزلته قبل أن تقتله" على أنه بمنزلته في استحقاق الذم والتأثيم، ويكون هذا هو التأويل الثاني فيه، غير أن الاستحقاق فيها مختلف، فإن استحقاق المقداد لذلك، استحقاق مؤمن مقصر في الاجتهاد، والآخر استحقاقه استحقاق كافر، وإنما وقع التشبيه بينهما في مجرد الاستحقاق فقط والله أعلم.

التأويل الثالث: أنه بمنزلته في إخفاء الإيمان، أي لعله كان ممن يُخفي إيمانه بين الكفار، فأخرج مكرهًا، كما كنت أنت بمكة إذ كنت تُخفي إيمانك، ويعتضد هذا التأويل بما زاده البخاري في هذا الحديث، من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال للمقداد "إذا كان مؤمنٌ يُخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته كذلك كنت تُخفي إيمانك بمكة".

وهذا الحديث أعني حديث المقداد بن الأسود شارك المؤلف في روايته أحمد والبخاري وأبو داود، رواه أحمد (6/ 4 - 6) والبخاري (4019) وأبو داود (2644).

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث المقداد رضي الله تعالى عنه فقال:

(179)

- متا (. . .)(. . .)(حدثنا (سحاق بن إبراهيم) بن راهويه الحنظلي، أبو يعقوب المروزي ثقة حافظ مجتهد، من العاشرة، مات سنة (238) روى عنه المؤلف في أحد وعشرين بابًا تقريبًا.

(وعبد بن حميد) بن نصر الكَسِّيُّ، نسبة إلى مدينة فيما وراء النهر، أبو محمد، ثقة

ص: 79

قَالا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. ح وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الأنصَارِيُّ. حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمِ، عَنِ الأَوْزَعيِّ. ح وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ،

ــ

حافظ من الحادية عشرة، مات سنة (249) روى عنه المؤلف في اثني عشر بابًا تقريبًا، وفائدة هذه المقارنة بيان كثرة طرقه (قالا) أي قال كلٌّ من إسحاق وعبد (أخبرنا عبد الرزاق) بن همام الحميري مولاهم، أبو بكر الصنعاني، ثقة حافظ من التاسعة، مات سنة (211) روى عنه المؤلف في سبعة أبواب (قال) عبد الرزاق (أخبرنا معمر) -بسكون ثانيه- بن راشد الأزدي مولاهم، أبو عروة البصري، ثقة ثبت فاضل، من كبار السابعة، مات سنة (154) روى عنه المؤلف في تسعة أبواب تقريبًا.

(ح) أي حول المؤلف السند (و) قال (حدثنا إسحاق بن موسى) بن عبيد الله بن موسى بن عبد الله (الأنصاري) الأوسي، الخطمي أبو موسى المدني، ثم الكوفي، روى عن الوليد بن مسلم في الإيمان والجهاد، ومعن بن عيسى في الوضوء وغيره، وأنس بن عياض في ذكر الجن والقدر، وابن عيينة، وابن وهب وغيرهم، ويروي عنه (م ت س ق) وابنه موسى، وابن خزيمة، وكان أبو حاتم يُطنب القول فيه، وفي صدقه وإتقانه، ووثقه النسائي والخطيب وقال في التقريب: ثقة متقن من العاشرة، مات بأرض حمص راجعًا من الحج سنة (244) أربع وأربعين ومائتين، روى عنه المؤلف في خمسة أبواب الإيمان والوضوء وذكر الجن وفي القدر، قال إسحاق (حدثنا الوليد بن مسلم) القرشي الأموي مولاهم، أبو العباس الدمشقي ثقة كثير الحديث، وقال في التقريب: ثقة لكنه كثير التدليس والتسوية، من الثامنة مات سنة (195) روى عنه المؤلف في ستة أبواب تقريبًا (عن) عبد الرحمن بن عمرو بن يُحمد (الأوزاعي) أبي عمرو الشامي، ثقة مأمون فاضل فقيه، من السابعة، مات في الحمام سنة (157) روى عنه المؤلف في اثني عشر يابًا تقريبًا.

(ح) أي حول المؤلف السند (و) قال (حدثنا محمد بن رافع) القشيري مولاهم، أبو عبد الله النيسابوري، ثقة عابد من الحادية عشرة، مات سنة (245) روى عنه المؤلف في أحد عشر بابًا تقريبًا.

قال محمد بن رافع (حدثنا عبد الرزاق) بن همام الصنعاني، قال عبد الرزاق

ص: 80

أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيجٍ، جَمِيعًا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهذَا الإِسْنَادِ. أَمَّا الأوزَاعيُّ وَابْنُ جُرَيجٍ فَفِي حَدِيثِهِمَا قَال: أَسْلَمْتُ لِلهِ. كَمَا قَال اللَّيثُ فِي حَدِيثِهِ. وَأَمَّا مَعْمَرٌ فَفِي حَدِيثِهِ: فَلَمَّا أَهْوَيتُ لأَقْتُلَهُ قَال: لا إِلهَ إِلا اللهُ

ــ

(أخبرنا) عبد الملك بن عبد العزيز (بن جريج) الأموي مولاهم، أبو الوليد المكي، الفقيه المشهور، ثقة فقيه، وكان يدلس ويرسل، من السادسة، مات سنة (150) روى عنه المؤلف في ستة عشر بابًا تقريبًا، وفائدة هذه التحويلات بيان كثرة طرقه، وبيان اختلاف مشايخ مشايخه، وقوله (جميعًا) تأكيدٌ لكل من معمر في السند الأول، والأوزاعي في السند الثاني وابن جريج في السند الأخير، أي حالة كون كل من الثلاثة مجتمعين في الرواية (عن الزهري) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، أبي بكر المدني، حافظ متقن من رؤساء الطبقة الرابعة، مات سنة (125) روى عنه المؤلف في ثلاثة وعشرين بابًا تقريبًا، والجار والمجور في قوله (بهذا الإسناد) متعلق بما عمل في المتابعين الثلاثة، واسم الإشارة راجع إلى ما بعد شيخ المتابَع الذي هو ليث بن سعد، وشيخه ابن شهاب، وما بعده عطاء الليثي، وعبيد الله والمقداد، أي حدثنا معمر والأوزاعي وابن جريج جميعًا عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن عبيد الله بن عدي عن المقداد بن الأسود، مثل ما حدث ليث بن سعد عن ابن شهاب، إلا ما استثنى بقوله (أما الأوزاعي وابن جريج ففي حديثهما) أي في روايتهما لهذا الحديث لفظة (قال) ذلك الرجل الكافر (أسلمت لله).

(كما قال الليث في حديثه) أي حالة كون مقولهما مثلما قال الليث في روايته (وأما معمر ففي حديثه) أي في روايته لفظة (فلما أهويت) وبسطت ومددت يدي إليه (لأقتله قال) ذلك الكافر (لا إله إلا الله) يدل ما قال في الرواية الأولى أسلمت، أي فلما ملت لقتله، قال الجوهري: أهوى إليه بيده ليأخذه، وقال الأصمعي أهويت بالشيء إذا أومأت إليه، ويقال أهويت له بالسيف، فأما هوى فمعناه سقط إلى أسفل، ويقال انْهوى بمعناه فهو منهوٍ. وهذه الأسانيد الثلاثة من سباعياته، الأول منها رجاله أربعة منهم مدنيون وواحد بصري، وواحد صنعاني، وواحد مروزي أو كسِّي، والثاني منها أربعة منهم مدنيون، واثنان شاميان، وواحد كوفي، والثالث منها أربعة منهم مدنيون، وواحد مكي، وواحد صنعاني وواحد نيسابوري وغرض المؤلف بسوق هذه الأسانيد الثلاثة بيان متابعة

ص: 81

180 -

(00)(00) وحدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَال: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،

ــ

معمر في السند الأول، ومتابعة الأوزاعي في السند الثاني، ومتابعة ابن جريج في السند الثالث لليث بن سعد في رواية هذا الحديث عن ابن شهاب، وفائدة هذه المتابعة بيان كثرة طرقه، واعترض الدارقطني على مسلم بأن في رواية الوليد بن مسلم عن الأوزاعي اضطرابًا، يوجب ضعف الحديث، فكيف أدخلها في جامعه؟ فالجواب: أنه ذكرها متابعة، وقد تقرر عندهم أن المتابعات يحتمل فيها ما فيه نوع ضعف، لعدم الاعتماد عليها، بل هي لمجرد الاستئناس أفاده النواوي.

قال النووي: قوله (أما الأوزاعي وابن جريج في حديثهما) هكذا هو في أكثر الأصول، بفاء واحدة، وفي كثير منها (ففي حديثهما) بفائين، وهذا هو الأصل والجيد، والأول أيضًا جائز، فإن الفاء في جواب أما يلزم إثباتها، إلا إذا كان الجواب بالقول، فإنه يجوز حذفها؛ إذا حُذف القول، وهذا من ذلك، فتقدير الكلام أما الأوزاعي وابن جريج فقالا في حديثهما كذا، ومثل هذا في القرآن الكريم؛ وكلام العرب كثير، كقوله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} أي فيقال لهم أكفرتم، وقوله عز وجل {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيكُمْ} والله أعلم اهـ.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة ثانيًا في حديث المقداد رضي الله تعالى عنه فقال:

(180)

- متا (. . .)(. . .)(وحدثني حرملة بن يحيى) بن عبد الله التجيبي المصري، صدوق من الحادية عشرة، مات سنة (244) روى عن ابن وهب في مواضع، قال حرملة (أخبرنا) عبد الله (بن وهب) بن مسلم القرشي مولاهم، أبو محمد المصري، ثقة حافظ عابد، من التاسعة، مات سنة (197) روى عنه المؤلف في ثلاثة عشر بابا تقريبًا (قال) ابن وهب (أخبرني يونس) بن يزيد بن أبي النجاد الأيلي، أبو يزيد الأموي، ثقة إلا أن في روايته عن الزهري وهمًا قليلًا، وفي غير الزهري خطأ، من كبار السابعة، مات سنة (159) روى عنه المؤلف في ستة أبواب تقريبًا (عن) محمد بن مسلم (بن شهاب) الزهري، أبي بكر المدني، من الرابعة، مات سنة (125) روى عنه المؤلف في (23) بابًا تقريبًا.

ص: 82

قَال: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيثِي، ثُمَّ الْجُنْدَعِيُّ؛ أَنَّ عُبَيدَ اللهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَخْبَرَهُ؛ أَن الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو بْنَ الأسوَدِ الْكِنْدِيَّ، وَكَانَ حَلِيفًا لِبَنِي زُهْرَةَ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَال: يَا رَسُولَ اللهِ، أرَأَيتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّارِ؟ ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيثِ

ــ

(قال) ابن شهاب (حدثني عطاء بن بزيد الليثي) من أنفسهم (ثم الجندعي) نسبة إلى جندع بطن من ليث كما سيأتي، أبو يزيد المدني، ثقة من الثالثة (أن عبيد الله بن عدي بن الخيار) القرشي المدني (أخبره) أي أخبر لعطاء بن يزيد (أن المقداد بن عمرو) والده الذي أولده بالنصب، صفة أولى للمقداد، أي أن المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة، وكان حليفًا لبني زهرة، لمحالفته الأسود بن عبد يغوث الزهري، لأن الأسود حالفه أيضًا مع تبنيه إياه (ابن الأسود) بإثبات ألف ابن، لأنه ليس هنا واقعًا بين علمين متناسلين، وبنصب نونه لأنه صفة ثانية للمقداد، وكان الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة قد تبناه في الجاهلية، فنسب إليه، وصار به أشهر وأعرف، ولو قُرئ ابن الأسود بجر ابن لفسد المعنى، وصار عمرو بن الأسود، وذلك غلط صريح، وقوله (الكندي) بالنصب صفة ثالثة للمقداد، وهذا نسبة إلى كندة النسب الحقيقي له، مع ما سيأتي فيه من الاعتراض (وكان) المقداد (حليفًا لبني زهرة) لأن الأسود بن عبد يغوث الزهري حالفه مع تبنيه إياه، كما مر آنفًا (وكان) المقداد (ممن شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه) أي أن المقداد بن الأسود (قال يا رسول الله أرأيت) أي أخبرني (إن لقيت) وقابلت (رجلًا من الكفار ثم ذكر) يونس بن يزيد عن ابن شهاب (بمثل حديث الليث) بن سعد الذي رواه عن ابن شهاب السابق أول الباب، وغرضه بسوق هذا السند بيان متابعة يونس بن يزيد لليث بن سعد في رواية هذا الحديث عن ابن شهاب، وفائدة هذه المتابعة بيان كثرة طرقه، وهذا السند من سباعياته، رجاله أربعة منهم مدنيون، واثنان مصريان، وواحد أيلي، وفي هذا السند لطيفة تقدم نظائرها، وهو أن فيه ثلاثة تابعيين يروي بعضهم عن بعض، ابن شهاب وعطاء وعبيد الله بن عدي بن الخيار.

تتمة: قوله (أن المقداد بن عمرو ابن الأسود الكندي) الزهري.

قلت: ولهذا الاسم نظائر منها: عبد الله بن عمرو ابن أم مكتوم، وعبد الله بن أبي ابن سلول وعبد الله بن مالك ابن بحينة، ومحمد بن علي ابن الحنفية، وإسماعيل بن

ص: 83

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

إبراهيم ابن علية، وإسحاق بن إبراهيم ابن راهويه، ومحمد بن يزيد ابن ماجه، فكل هؤلاء ليس الأب فيهم ابنًا لمن بعده، فيتعين أن يُكتب ابن بالألف، وأن يعرب بإعراب الابن المذكور أولًا، قام مكتوم زوجة عمرو، وسلول زوجة أبي، وبحينة زوجة مالك وأم عبد الله، والحنفية زوجة علي رضي الله عنه، وعُلية زوجة إبراهيم، وراهويه هو إبراهيم والد إسحاق، وماجه -بالهاء- لقب يزيد، كراهويه لقب لإبراهيم، فهما نظيران، في كونهما لقبين لما قبلهما، هذا إذا قرأنا ماجه بالهاء فهو لقب ليزيد، فمعناه الحاذق الفطن، وأما إذا قرأناه بالتاء المربوطة، فهو اسم لأم محمد فيكون نظير إسماعيل بن إبراهيم ابن علية، ويكون معنى ماجه بالتاء المباركة.

ومرادهم بهذا كله تعريف الشخص بوصفه، ليكمل تعريفه، فقد يكون الإنسان عارفًا بأحد وصفيه دون الآخر، فيجمعون بينهما ليتم التعريف لكل أحد، وقدَّم هنا نسبته إلى عمرو على نسبته إلى الأسود؛ لكون عمرو هو الأصل الوالد، وهذا من المستحسنات النفيسة.

وكان المقداد رضي الله عنه من أول من أسلم، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أول من أظهر الإسلام بمكة سبعة منهم المقداد، وهاجر إلى الحبشة، يكنى أبا الأسود، وقيل: أبا عمرو، وقيل أبا معبد، وأما قولهم: في نسبه الكندي ففيه إشكال؛ من حيث إن أهل النسب قالوا: إنه بهراني نسبة إلى بهراء بن إلحاف بالحاء المهملة والفاء، ابن قضاعة لا خلاف بينهم في هذا، وممن نقل الإجماع عليه القاضي وغيره رحمهم الله تعالى.

وجوابه أن أحمد بن صالح المصري كاتب الليث قال: إن والد المقداد حالف كندة فنسب إليها، وروينا عن ابن شماسة عن سفيان عن صُهابة -بضم الصاد المهملة وتخفيف الهاء وبالباء الموحدة- المُهري قال: كنت صاحب المقداد ابن الأسود في الجاهلية، وكان رجلًا من بهراء فأصاب فيهم دمًا فهرب إلى كندة فحالفهم، ثم أصاب فيهم دمًا فهرب إلى مكة فحالف الأسود بن عبد يغوث، فعلى هذا تصح نسبته إلى بهراء؛ لكونه الأصل، وكذلك إلى قضاعة وتصح نسبته إلى كندة لحلفه، أو لحلف أبيه، وتصح إلى زهرة لحلفه مع الأسود.

ص: 84

181 -

(91)(14) حدَّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدِ الأَحْمَرُ.

ح وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيبٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مُعَاوَيةَ، كِلاهُمَا

ــ

وقوله (عطاء بن يزيد الليثي ثم الجندعي) بضم الجيم وإسكان النون وبعدها دالٌ ثم عين مهملتان، وتفتح الدال وتُضم لغتان، نسبة إلى جندع بطن من ليث، فلهذا قال الليثي ثم الجندعي، فبدأ بالعام وهو ليث، ثم الخاص وهو جندع، ولو عكس هذا فقيل الجندعي ثم الليثي لكان خطأ، من حيث إنه لا فائدة في قوله الليثي بعد الجندعي، ولأنه أيضًا يقتضي أن ليثًا بطنًا من جندع وهو خطأ.

وأما قوله (إن المقداد بن عمرو ابن الأسود إلى قوله أنه قال يا رسول الله) فأعاد أنه لطول الكلام، ولو لم يذكرها لكان صحيحًا، بل هو الأصل، ولكن لما طال الكلام جاز، أو حسن ذكرها ونظيره في كلام العرب كثير، وقد جاء مثله في القرآن العزيز والأحاديث الشريفة، ومما جاء في القرآن قوله جلّ وعزّ حكاية عن الكفار {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)} فأعاد أنكم للطول، ومثله قوله تعالى {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} فأعاد فلما جاءهم اهـ نواوي.

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى لحديث المقداد ابن الأسود بحديث أسامة رضي الله تعالى عنهما فقال:

(181)

- ش (91)(14)(حدثنا أبو بكر) عبد الله بن محمد (بن أبي شيبة) إبراهيم بن عثمان العبسي مولاهم الكوفي، ثقة من العاشرة، مات سنة (235) قال أبو بكر (حدثنا أبو خالد الأحمر) سليمان بن حيان -بتحتانية- الأزدي الكوفي، صدوق من الثامنة، مات سنة (224) روى عنه المؤلف في اثني عشر بابًا تقريبًا (ح) أي حول المؤلف السند (و) قال (حدثنا أبو كريب) محمد بن العلاء بن كريب الهمداني الكوفي، من العاشرة، مات سنة (248)(و) حدثنا (إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه الحنظلي، أبو يعقوب المروزي، ثقة من العاشرة، مات سنة (238) روى عنه المؤلف في خمسة عشر بابًا تقريبًا، كلاهما رويا (عن أبي معاوية) محمد بن خازم التميمي مولاهم الكوفي، ثقة من التاسعة، وأتى بحاء التحويل لاختلاف صيغة مشايخه، لأن أبا بكر قال حدثنا، وأما أبو كريب وإسحاق فقالا: عن أبي معاوية، ولاختلاف مشايخهم (كلاهما) أي كل من

ص: 85

عَنِ الأعمَشِ، عَنْ أَبِي ظِبْيَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيدٍ. وَهذَا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي شَيبَةَ.

قَال: "بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ،

ــ

أبي خالد وأبي معاوية رويا (عن الأعمش) سليمان بن مهران الكاهلي مولاهم، أبي محمد الكوفي، ثقة من الخامسة، مات سنة (148)(عن أبي ظبيان) الكوفي -بفتح الظاء المعجمة وكسرها وسكون الموحدة- فأهل اللغة يفتحون الظاء، ويلحِّنون من يكسرها، وأهل الحديث يكسرونها، اسمه حُصين -مصغرًا- بن جندب بن عمرو بن الحارث الجنبي -بفتح الجيم وسكون النون ثم موحدة- نسبة إلى جنب قبيلة من "قبائل اليمن، روى عن أسامة بن زيد في الإيمان، وجرير بن عبد الله في المناقب، وحذيفة وسلمان وعلي وطائفة، ويروي عنه (ع) والأعمش وحُصين بن عبد الرحمن وابنه قابوس، وسماك وعطاء، وقال في التقريب: ثقة من الثانية، مات سنة (90) تسعين، وقيل: سنة خمس أو ست وتسعين، روى عنه المؤلف في بابين (عن أسامة بن زيد) بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى القرشي الهاشمي مولاهم المعروف بالكلبي، يقال إنه من كلب اليمن، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاه، وأمه أم أيمن، واسمها بركة، وكانت حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم أبي زيد المدني، ويقال: أبو محمد، قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشرين سنة، وله مائة وثمانية وعشرون حديثًا، اتفقا على خمسة عشر، وانفرد كل منهما بحديثين، يروي عنه (ع)، وأبو ظبيان، وأبو عثمان النهدي، وكريب، وعطاء مولى سِباع، وعروة بن الزبير، وعامر بن سعد بن أبي وقاص، وأبو وائل، وكان قد نزل وادي القرى، ومات بالمدينة سنة (54) أربع وخمسين، وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقال الواقدي: توفي آخر خلافة معاوية رضي الله عنه.

وهذان السندان من خماسياته، والسند الأول رجاله كلهم كوفيون إلا أسامة فإنه مدني، والسند الثاني أيضًا كوفيون إلا إسحاق بن إبراهيم فإنه مروزي (وهذا) الحديث الآتي (حديث) أي لفظ حديث (ابن أبي شيبة) وروايته، وأما أبو كريب وإسحاق فرويا معناه لا لفظه، وإنما أتى بهذه الجملة تورعًا من الكذب على بعض مشايخه (قال) أسامة بن زيد (بعثنا) أي أرسلنا (رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية) أي مع سرية، وقطعة جيش، قال في القاموس: والسرية من خمسة أنفس إلى ثلاثمائة أو أربعمائة اهـ

ص: 86

فَصَبَّحْنَا الْحُرُقَاتِ مِنْ جُهَينَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا. فَقَال: لا إِلهَ إِلا اللهُ. فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذلِكَ. فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَقَال: لا إِلهَ إِلا اللهُ وَقَتَلْتَهُ؟ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا قَالهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاحِ. قَال: أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالهَا أَمْ لَا

ــ

(فصبحنا) أي أتينا صباحًا (الحُرُقات) بضم الحاء لا غير، وبضم الراء وفتحها، والحرقات بصيغة جمع المؤنث السالم، اسم موضع (من) بلاد (جهينة) قال القرطبي: هو موضع معروف من بلاد جهينة، يُسمى بجمع المؤنث السالم كعرفات وأذرعات أي أتينا أهلها صباحًا، أي أول النهار، وقابلناهم وهزمناهم (فأدركت) أنا أي لحقت أنا (رجلًا) منهم بعد ما هرب (فـ) ـلما أدركته (قال) ذلك الرجل كلمة إلا إله إلا الله) مع عديلتها محمد رسول الله، قال الأبي: ذكر الزمخشري وغيره: أن الرجل هو مرداس بن نهيك من أهل فدك، أسلم ولم يُسلم قومه، فلما أدركوه في سرية كان أميرها غالب بن فضالة، فرَّ قومه وبقي مرداس لتثبته في إسلامه، فلما رأى الخيل لجأ إلى عاقول من الجبل، فلما تلاحقت به الخيل، نزل وكبر وتشهد الشهادتين، وقال السلام عليكم، فقتله أسامة، واستاق غنمه، فوجد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدًا شديدًا، وقال أقتلتموه، قال أسامة: استغفر لي، فقال: كيف تصنع بلا إله إلا الله، فقال أسامة: استغفر لي، وقال: أعتق اهـ.

قال أسامة (فطعنته) أي طعنت ذلك الرجل برمحي، وقتلته لظني أن الإسلام خوف السيف لا ينفع، كما لا ينفع عند الاحتضار، قال أسامة (فوقع) أي حصل (في نفسي) أي في قلبي هَمٌّ وندمٌ (من) قتل (ذلك) الرجل (فذكرته) أي فذكرت قتل ذلك الرجل (للنبي صلى الله عليه وسلم مع بيان كيفية قتله (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقال) ذلك المقتول (لا إله إلا الله وقتلته) بعدما قالها (قال) أسامة (قلت يا رسول الله إنما قالها) أي إنما قال ذلك الرجل كلمة الشهادة (خوفًا من السلاح) والقتل، فليس إسلامه عن صدق وعزمِ، بل قالها وقاية لنفسه وتحصنًا لها، ولهذا التأويل سقط عنه القصاص (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة (1) تركته قتيلًا مرميًا (فلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها) أي أقال قلب ذلك الرجل كلمة الشهادة صدقًا (أم لا) أي، أم لم يقلها صدقًا، بل تحصنًا وخوفًا من السلاح، أو المعنى حتى تعلم أقالها خوفًا من السلاح، أم

ص: 87

فَمَا زَال يُكَرِّرُهَا عَلَي حَتَّى تَمَنَّيتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ"

ــ

لم يقلها خوفًا منه، وقال النواوي: الفاعل في قالها هو القلب، ومعناه أنك إنما كُلفت من العمل بما ظهر باللسان، وأما ما في القلب فلست بقادر على معرفته، أي أفلا شققت عن قلبه، لتنظر هل قالها القلب واعتقدها، وكانت فيه أم لم تكن فيه.

قال القرطبي: أي قالها بقلبه، وتكلم بها مع نفسه، ففيه دليل لأهل السنة على أن حديث النفس كلام وقول، كما قال شاعرهم:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جُعل اللسان على الفؤاد دليلا

فهو ردٌّ على من أنكر ذلك من المعتزلة، وأهل البدع، وفيه دليل على ترتيب الأحكام على الأسباب الظاهرة الجلية، دون الباطنة الخفية اهـ.

لأن الباطن لا يُعرف ولا يوصل إليه، وأن من أسلم في هذه الحالة يُقبل منه، ويَحرُم قتله، قال الأبي: كان الشيخ يقول: إلا أن يكون القتل قد وجب عليه، كما لو تعرض لجناب الرسول صلى الله عليه وسلم بما يُوجب قتله فلما قرب للقتل أسلم، فلا يقبل منه في رفع ما وجب عليه من القتل، كما لا تسقط توبة المحارب ما وجب عليه من القصاص.

قال أسامة (فما زال) وانفك رسول الله صلى الله عليه وسلم (يكررها) أي يكرر كلمة أفلا شققت (عليَّ) وعبارة القرطبي قوله (فما زال يكررها) أي يكرر كلمة الإنكار، وظاهر هذه الرواية، أن الذي كرر عليه إنما هو قوله: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا، وفي الرواية الأخرى أن الذي كرر عليه إنما هو قوله: كيف تصنع بلا إله إلا الله، إذا جاءت يوم القيامة، ووجه الجمع بينهما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كرر الكلمتين معًا، غير أن بعض الرواة ذكر إحدى الكلمتين، وذكر البعض الآخر منهم الكلمة الأخرى، وتكرار تلك الكلمة عليه إنكار شديد، وزجر أكيد، وإعراض عن قبول عذر أسامة الذي أبداه بقوله "إنما قالها خوفًا من السلاح" اهـ.

أي فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر تلك الكلمة على (حتى تمنيت) ووددت وأحببت (أني أسلمت يومئذ) أي يوم إذ كرر عليَّ تلك الكلمة، ليكون إسلامي في ذلك اليوم جابًا وقاطعًا عني إثم قتل ذلك الرجل، لأن الإسلام يجب ويقطع عن صاحبه ما وقع عنه قبله من المعاصي، ويُسقط عنه المؤاخذة بها.

ص: 88

قَال فَقَال سَعْدٌ: وَأَنَا وَاللهِ لَا أقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ

ــ

قال القرطبي: وإنما تمنى أسامة أن يتأخر إسلامه إلى يوم المعاتبة، ليسلم من تلك الجناية السابقة، وكأنه استصغر ما كان منه من الإسلام والعمل الصالح قبل ذلك، في جنب ما ارتكبه من تلك الجناية لما حصل في نفسه من شدة إنكار النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وعظمه، فإن قيل إذا استحال أن يكون قتل أسامة لذلك الرجل عمدًا لما ذكرتم، وثبت أنه خطأ، فلم لم تلزمه الكفارة والعاقلة والدية، فالجواب: أن ذلك مسكوت عنه، وغير منقول شيء منه في الحديث، ولا في شيء من طرقه، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم حكم بلزوم ذلك أسامة وعاقلته، ولم ينقل، وفيه بعد، إذ لو وقع شيء من ذلك لنقل في طريق من الطرق، مع أن العادة تقتضي التحدث بذلك والإشاعة ويَحتمِل أن يُقال إن ذلك كان قبل نزول حكم الكفارة والدية والله أعلم اهـ. قرطبي.

وقد أجاب بعض أصحابنا عن عدم إلزام الدية بأجوبة نذكرها على ضعفها: أحدها أنها لم تلزمه، ولا عاقلته لأنه كان مأذونًا له في أصل القتال، فلا يكون مأخوذًا بما وقع منه من إتلاف نفس أو مالٍ، كما تسقط الدية في خطأ الإمام، وعمن أُذن له في شيء، فأتلفه غلطًا كالأجير والخاتن والطبيب، وثانيها إنما لم يلزمه ذلك لأن المقتول كان من العدو، وكان فيهم ولم يكن له ولي من المسلمين يستحق ديته، فلا تجب فيه دية، كما قال الله تعالى {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ولم يحكم فيه بسوى الكفارة، وثالثها أن أسامة اعترف بالقتل، ولم تقم بذلك بينة، ولا تعقل العاقلة عمدًا ولا عبدًا ولا صلحًا ولا اعترافًا، ولم يكن لأسامة مالٌ فيكون فيه الدية، ذكره القرطبي أيضًا، وقال: وهذه الأوجه لا تسلم من الاعتراض، وتتبع ذلك يُخرج الكلام عن المقصود اهـ منه.

وقال ابن رشد: قتل أسامة ليس من العمد الذي فيه الإثم، ولا من الخطأ الذي فيه الدية والكفارة، وإنما هو عن اجتهاد تبين خطؤه، ففيه لأسامة أجر واحد، وإنما عاتبه النبي صلى الله عليه وسلم لتركه الاحتياط، ولئلا يقع منه القتل مرة ثانية، فيمن قالها صدقًا، ولذا حلف أسامة ألا يقاتل مسلمًا، ولذا تخلف عن نصرة عليّ رضي الله تعالى عنهما اهـ سنوسي.

(قال) أبو ظبيان (فقال سعد) بن أبي وقاص (وأنا والله لا أقتل مسلمًا حتى يقتله)

ص: 89

ذُو الْبُطَينِ يَعْنِي أُسَامَةَ. قَال: قَال رَجُلٌ: أَلَمْ يَقُلِ اللهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} ؟ فَقَال سَعْدٌ: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ.

وَأَنْتَ وَأَصحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ.

182 -

(00)(00) حدَّثنا يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ. حَدَّثَنَا هُشَيمٌ،

ــ

أي حتى يقتل مسلمًا (ذو البطين) -تصغير بطن- لقب أسامة بن زيد، لأنه كان له بطن عظيم، كما فسره بعض الراوة بقوله (يعني) سعد بذي البطين (أسامة) بن زيد، وهذا اقتداء من سعد بن أبي وقاص بأسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، والمراد أنه لا يقتل مسلمًا، كما أن أسامة كذلك لما سبق أنه حلف أن لا يقاتل مسلمًا، لما اتفق له في هذه القضية، فهو من الوقف على الممتنع وقوعه، لا أن مقصوده التقليد، وأن أسامة إن قاتل، قاتل معه (قال) أبو ظبيان (قال رجل) من الحاضرين عند سعد، ولم أرَ من ذكر اسمه، وفي بعض النسخ "فقال" اعتراضًا على سعد في كلامه هذا (ألم يقل الله) سبحانه وتعالى في كتابه العزيز ({وَقَاتِلُوهُمْ}) أي قاتلوا أيها المسلمون المشركين ({حَتَّى لَا تَكُونَ}) ولا توجد ({فِتْنَةٌ}) أي شرك (و) حتى ({وَيَكُونَ الدِّينُ}) والعمل ({كُلُّهُ}) أي جميعه خالصًا ({لِلَّهِ}) سبحانه وتعالى (فقال سعد) في جواب ذلك الرجل (قد قاتلنا) وجاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (حتى لا تكون) ولا توجد (فتنة) ولا شرك، ودخل الناس في دين الله تعالى أفواجًا (وأنت) أيها الرجل (وأصحابك) من المتكالبين على الخلافة والرئاسة (تريدون) وتقصدون الآن (أن تقاتلوا) أي أن توقعوا المقاتلة والمعاداة بين المسلمين (حتى تكون) وتوجد (فتنة) ومخالفة وافتراق كلمة بينهم والله أعلم.

وهذا الحديث أعني حديث أسامة بن زيد شارك المؤلف في روايته البخاري (4269) وأبو داود (2643).

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما فقال:

(182)

- متا (. . .)(. . .)(حدثنا يعقوب) بن إبراهيم بن كثير العبدي، مولى عبد القيس (الدورقي) أبو يوسف البغدادي، ثقة من العاشرة، مات سنة (252) وله (96) سنة، وقد تقدم البسط في ترجمته روى عنه المؤلف في ستة أبواب تقريبًا، قال يعقوب (حدثنا هُشيم) بن بشير -بوزن عظيم- بن القاسم بن دينار السلمي، أبو معاوية

ص: 90

أَخْبَرَنَا حُصَينٌ، حَدَّثَنَا أَبُو ظبْيَانَ، قَال: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيدِ بْنِ حَارِثَةَ يُحَدِّثُ، قَال: "بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَينَةَ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ،

ــ

الواسطي، نزيل بغداد، ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الخفي، من السابعة، مات سنة (183) وقد قارب (80) وتقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في ثمانية عشر بابًا تقريبًا، قال هُشيم (أخبرنا حُصين) -مصغرًا- ابن عبد الرحمن السلمي، أبو الهذيل الكوفي، روى عن أبي ظبيان، حُصين بن جندب، وعياض الأشعري، وسعيد بن جبير والشعبي، وأبي وائل، وحبيب بن أبي ثابت، وسالم بن أبي الجعد، وأبي سفيان، وكثير بن مرة وخلائق، ويروي عنه (ع) وهُشيم، ومحمد بن فضيل، وجرير، وشعبة، وعبد الله بن إدريس، وخالد بن عبد الله، وأبو عوانة، وأبو الأحوص، والثوري، وعبثر بن القاسم، وعباد بن العوام، وجماعة، وقال في التقريب: ثقة تغير حفظه في الآخر، من الخامسة، مات سنة (136) ست وثلاثين ومائة، وله (93) ثلاث وتسعون سنة، روى عنه المؤلف في الإيمان والوضوء، والصلاة في أربع مواضع، والصوم والحج، والدلائل والفضائل في موضعين، والجهاد في موضعين، وحق المملوك، والدعاء، لجملة الأبواب التي روى عنه المؤلف فيها عشرة.

قال حُصين (حدثنا أبو ظبيان) حُصين بن جندب الجنبي الكوفي، ثقة من الثانية، مات سنة (90) تسعين (قال) أبو ظبيان (سمعت أسامة بن زيد بن حارثة) المدني حالة كونه (يُحدث) ويروي أحاديث للناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا السند من خماسياته، رجاله اثنان منهم بغداديان، واثنان كوفيان، وواحد مدني، وغرضه بسوق هذا السند بيان متابعة حُصين بن عبد الرحمن للأعمش في رواية هذا الحديث عن أبي ظبيان وفائدتها بيان كثرة طرقه، وكرر متن الحديث لما في الرواية الآتية من المخالفة للرواية الأولى (قال) أسامة بن زيد (بعثنا) أي أرسلنا (رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة) -بضم الحاء المهملة وفتح الراء وضمهما أيضًا- بصيغة الإفراد هنا، وهي المذكورة في ديات صحيح البخاري، وهي موضع (من) بلاد (جهينة) قبيلة مشهورة، كانت من قضاعة لأنه جُهينة بن سُود -بضم السين- بن أسلُم -بضم اللام- ابن إلحاف بن قضاعة بن معد بن عدنان، وعدنان من ذرية إسماعيل عليه السلام (فصبحنا الفوم) أي قوم جهينة، أي أتيانهم صباحًا وأغرنا عليهم (فهزمناهم) أي فرقناهم وشتتناهم هزيمة،

ص: 91

وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَال: لَا إِلهَ إلا اللهُ. فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِيُّ، وَطَعَنْتُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ. قَال: فَلَمَّا قَدِمْنَا، بَلَغَ ذلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَال لِي: يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَال لا إِلهَ إِلا اللهُ؟ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِثَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا. قَال: فَقَال: أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَال لا إِلهَ إِلا اللهُ؟

ــ

قال أسامة (ولحقت) أي تبعت (أنا ورجل من الأنصار) لم أرَ من ذكر اسمه (رجلًا منهم) أي رجلًا من قوم جهينة (فلما غشيناه) أي فلما غشينا ذلك الرجل وأدركناه (قال) ذلك الرجل الكافر (لا إله إلا الله) محمد رسول الله، لأنها كناية عن الشهادتين، لأنهما اللتان تمنعان من القتل، ولا يبعد أن تكون كلمة التوحيد وحدها مانعة من القتل، لا سيما من مشرك (فكف عنه) أي انكف وامتنع (الأنصاري) عن قتله لما سمع منه كلمة الشهادة (و) أما أنا فقد (طعنت) الرجل (برمحي) وحربتي (حتى) عقرته و (قتلته) أي قتلت ذلك الرجل (قال) أسامة (فلما قدمنا) المدينة ورجعنا إليها (بلغ ذلك) أي وصل خبر قتلي لذلك الرجل (النبي صلى الله عليه وسلم فـ) ـدعاني و (قال لي: يا أسامة أقتلته) -بهمزة الاستفهام التوبيخي التعجبي- أي أقتلت ذلك الرجل (بعد ما قال) أي بعد قوله (لا إله إلا الله) محمد رسول الله (قال) أسامة (قلت) له صلى الله عليه وسلم (يا رسول الله إنما كان) ذلك الرجل (متعوذًا) أي معتصمًا مني بكلمة لا إله إلا الله لا مؤمنًا بها (قال) أسامة (فقال) لي رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة ثانية (أقتلته) يا أسامة (بعد ما قال لا إله إلا الله) أي بعد قوله كلمة الشهادة.

قال النواوي: وأما قول أسامة في الرواية الأولى (فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم وفي هذه الرواية (فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا أسامة أقتلته) إلخ، وفي الرواية الآتية (فجاء البشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره خبر الرجل فدعاه) يعني أسامة فسأله فيمكن الجمع بينها بأن أسامة وقع في نفسه من ذلك شيء بعد قتله ونوى أن يسأل عنه فجاء البشير فأخبر به قبل مقدم أسامة وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم بعد قدومهم فسأل أسامة فذكره وليس في قوله فذكرته ما يدل على أنه قاله ابتداءً قبل تقدم علم النبي صلى الله عليه وسلم به والله أعلم انتهى.

ص: 92

قَال: فَمَا زَال يُكَرِّرُهَا عَلَى حَتَّى تَمَنَّيتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذلِكَ الْيَوْمِ".

183 -

(92)(15) حدَّثنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خِرَاشٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، قال: سَمِعْتُ أَبِي

ــ

(قال) أسامة (فما زال) وبرح النبي صلى الله عليه وسلم (يكررها) أي يكرر كلمة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله، أي فما زال مكررًا إياها (علي حتى تمنيت) ووددت (أني لم كن أسلمت) وآمنت (قبل ذلك اليوم) الذي عاتبني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو وقع فيه قتلي إياه ليكون إسلامي بعده جابًا عني ما وقع مني من تلك الجريمة.

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى ثانيًا لحديث المقداد بحديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنهما فقال:

(183)

- ش (92)(15)(حدثنا أحمد بن الحسن بن خراش) -بكسر الخاء المعجمة- الخراساني أبو جعفر البغدادي، وثقه الخطيب، وقال في التقريب: صدوق من الحادية عشرة مات سنة (242) وله (60) سنة، روى عنه المؤلف في ثمانية أبواب تقريبًا، وتقدم البسط في ترجمته، قال أحمد بن الحسن (حدثنا عمرو بن عاصم) بن عبيد الله بن الوازع القيسي -بقاف- الكلابي، أبو عثمان البصري، روى عن المعتمر بن سليمان في الإيمان، وهمام في الصلاة والفضائل والتوبة، وسليمان بن المغيرة في الفضائل، وشعبة وجرير بن حازم وغيرهم، ويروي عنه (ع) وأحمد بن الحسن بن خراش، وزهير بن حرب، والحسن الحلواني، وابن بشار، وابن المثنى وغيرهم، قال النسائي: لا بأس به، وقال في التقريب: صدوق في حفظه شيء من صغار التاسعة، مات سنة (213) ثلاث عشرة ومائتين، روى عنه المؤلف في الإيمان والصلاة والفضائل في موضعين والتوبة في أربعة أبواب تقريبًا، قال عمرو (حدثنا معتمر) بن سليمان بن طرخان التيمي، مولى بني مُرة، أبو محمد البصري، أحد الأئمة الأعلام ثقة من كبار التاسعة، مات سنة (187) سبع وثمانين ومائة، وليس معتمر عندهم إلا هذا الثقة، وتقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في عشرة أبواب تقريبًا (قال) معتمر (سمعت أبي) سليمان بن طرخان التيمي مولاهم، أبا المعتمر البصري، ثقة عابد من الرابعة، مات سنة (143) عن (99) سنة، وتقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في اثني عشر بابًا تقريبًا.

ص: 93

يُحَدِّثُ؛ أَن خَالِدًا الأَثْبَجَ، ابْنَ أَخِي صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، حَدَّثَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ؛ أَنَّهُ حَدَّثَ: أَنَّ جُنْدَبَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيَّ

ــ

أي سمعت أبي سليمان حالة كونه (يحدث) ويروي لنا (أن خالدًا الأثبج) -بفتح الهمزة بعدها شاء مثلثة ساكنة ثم باء موحدة مفتوحة ثم جيم- لقب لخالد، قال أهل اللغة: الأثبج: هو عريض الثبج -بفتح الثاء والباء- وقيل: ناتئ الثبج، والثبج ما بين الكاهل والظهر، والكاهل مقدم أعلى الظهر مما يلي العنق اهـ مصباح وقوله (ابن أخي صفوان بن محرز) صفة ثانية لخالدا، وهو خالد بن عبد الله بن محرز المازني البصري، روى عن عمه صفوان بن محرز في الإيمان، والحسن، ويروي عنه (م س)، وسليمان التيمي، وعوف الأعرابي، وإبراهيم بن طهمان، قال العجلي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال في التقريب: صدوق من السابعة، وجملة قوله (حدث عن صفوان بن محرز) خبر قوله (أن خالدًا) وهو صفوان بن محرز -بضم الميم وسكون الحاء المهملة وكسر الراء آخره زاي ابن زياد المازني، الباهلي البصري، روى عن جندب بن عبد الله في الإيمان، وأبي موسى، وابن عمر في النجوى، وابن عباس، وأبي مسعود، ويروي عنه (خ م ت س ق) وابن أخيه خالد الأثبج وعاصم الأحول، وقتادة، وثابت، ومحمد بن واسع، قال ابن سعد: كان له فضل وورع، وكان ثقة، وقال العجلي: بصري تابعي ثقة، وقال في التقريب: ثقة عابد من الرابعة، مات سنة (174) أربع وسبعين ومائة، روى عنه المؤلف في بابين الإيمان والنجوى.

(أنه) أي أن صفوان بن محرز (حدث) خالدًا (أن جندب) -بضم الجيم وبضم الدال وفتحها (بن عبد الله) بن سفيان (البجلي) ثم العلقي -بفتحتين- نسبة إلى علقة بن عبقر بن أنمار، بطن من بجيلة، أبا عبد الله الكوفي ثم البصري، وربما نُسب إلى جده سفيان له ثلاثة وأربعون حديثًا (43) اتفقا على سبعة، وانفرد مسلم بخمسة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن حذيفة في الفتن، ويروي عنه (ع) وصفوان بن محرز في الإيمان، في قتل أسامة رجلًا قال: لا إله إلا الله، والحسن بن أبي الحسن في الصلاة، وعبد الله بن الحارث النجراني في الصلاة، وأنس بن سيرين في الصلاة، والأسود بن قيس، وأبو مجلز لاحق بن حميد، وعبد الملك بن عمير، وأبو عمران الجوني، ومحمد بن سيربن، وسلمة بن كهيل، وقال في التقريب: له صحبة، ومات بعد الستين (60).

ص: 94

بَعَثَ إِلَى عَسْعَسِ بْنِ سَلامَةَ، زَمَنَ فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيرِ، فَقَال: اجْمَعْ لِي نَفَرًا مِنْ إِخْوَانِكَ حَتَّى أُحَدِّثَهُمْ، فَبَعَثَ رَسُولًا إِلَيهِمْ. فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَ جُنْدَبٌ وَعَلَيهِ بُرْنُسْ أَصْفَرُ. فَقَال: تَحَدَّثُوا بِمَا كُنْتُمْ تَحَدَّثُونَ بِهِ حَتَّى دَارَ الْحَدِيثُ. فَلَمَّا دَارَ الْحَدِيثُ إِلَيهِ حَسَرَ الْبُرْنُس عَنْ رَأْسِهِ فَقَال: إِنِّي أَتَيتُكُمْ

ــ

وجملة قوله (بعث) أي أرسل، خبر أن، أي أن جندبًا بعث (إلى عسعس) بعينين مفتوحتين وسينين أولاهما ساكنة مهملات (بن سلامة) -بسين مفتوحة ولام مخففة- التميمي، أبي صفرة البصري، قال ابن عبد البر في الاستيعاب: هو بصري، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقولون: إن حديثه مرسل، وإنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم وكذا قال البخاري في تاريخه: حديثه مرسل، وكذا ذكره ابن أبي حاتم وغيره في التابعين، وهو من الأسماء المفردة، لا يُعرف له نظير والله أعلم اهـ نووي.

(زمن فتنة ابن الزبير) ظرف متعلق ببعث، أي بعث جندب في زمن الفتنة الواقعة بين حجاج بن يوسف الثقفي المبير، وبين عبد الله بن الزبير، حين نزل الحجاج مكة لقتال ابن الزبير، إلى عسعس بن سلامة (فقال) جندب لسفيره إلى عسعس، قل أيها السفير لعسعس (اجمع لي نفرًا) أي طائفة (من إخوانك) وأصحابك في مجلس واحد (حتى أحدثهم) أي لكي أذكرهم وأعظهم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في شؤون الفتنة، لئلا يقعوا في هذه الفتنة الحادثة (فبعث) عسعس (رسولًا) أي سفيرًا من عنده (إليهم) أي إلى نفر من أصحابه، ليجتمعوا في مجلس واحد انتظارًا لمجيء جندب بن عبد الله ليعظهم (فلما اجتمعوا) أي فلما اجتمع أولئك النفر من قوم عسعس (جاء جندب) بن عبد الله إلى مجلسهم (وعليه) أي وعلى جندب (برنس) بضم الباء وسكون الراء (أصفر) صفة برنس أي والحال أن على جندب برنسًا أصفر، والبرنس كل ثوب رأسه ملتصق به دراعة كانت أو جبة أو غيرهما اهـ نووي.

(فقال) جندب للقوم المجتمعين استئلافًا لهم (تحدثوا بما كنتم تحدثون به) أولًا، أي دوموا في محادثتكم ولا تقطعوها لأجلي، فتحدثوا من أولهم إلى آخرهم (حتى دار الحديث) على جميع أهل الحلقة، ووصلت النوبة إليه (فلما دار الحديث) عليهم ووصلت النوبة (إليه) أي إلى جندب (حسر البرنس) وكشفه (عن رأسه) تهيؤًا وتأدبًا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (فقال) جندب لأهل الحلقة (إني أتيتكم) وجئتكم،

ص: 95

وَلَا أُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكُمْ عَنْ نَبِيِّكُمْ. "إِن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بَعْثًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّهُمُ الْتَقَوْا فَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا شَاءَ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ لَهُ فَقَتَلَهُ، وَإِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ غَفْلَتَهُ. قَال: وَكُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهُ اسَامَةُ بْنُ زَيدٍ. فَلَمَّا رَفَعَ عَلَيهِ السَّيفَ

ــ

ولا في قوله (ولا أريد) زائدة لتأكيد الكلام بصورة النفي نظير قوله تعالى: {قَال مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} أي جئتكم أيها الجماعة والحال أني أريد وأقصد (أن أخبركم) وأحدثكم حديثًا سمعته (عن نبيكم) محمد صلى الله عليه وسلم

قال النواوي قوله (ولا أريد أن أخبركم) هكذا وقع في جميع الأصول وفيه إشكال من حيث إنه قال في أول الحديث بعث إلى عسعس فقال: اجمع نفرًا من إخوانك حتى أحدثهم، ثم يقول بعده أتيتكم ولا أريد أن أخبركم فيحتمل هذا الكلام وجهين: أحدهما أن تكون لا زائدة كما في قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} وقوله {قَال مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} ، والثاني أن يكون على ظاهره والمعنى أتيتكم ولا أريد أن أخبركم عن نبيكم صلى الله عليه وسلم بل أردت أن أعظكم وأحدثكم بكلام من عند نفسي لكني الآن أزيدكم على ما كنت نويته فأخبركم عن نبيكم صلى الله عليه وسلم وأقول لكم (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث) وأرسل (بعثًا) أي جيشًا (من المسلمين إلى قوم من المشركين) من جهينة (وإنهم) أي وإن جموع المشركين والمسلمين (التقو) أي تقابلوا وتقاتلوا (فكان رجل من المشركين إذا شاء) وأراد (أن يقصد إلى) قتل (رجل من المسلمين) ويغتاله (قصد) ذلك المشرك (له) أي لذلك المسلم واغتاله (فقتله) أي قتل ذلك المشرك المسلم غيلة (وإن رجلًا من المسلمين قصد غفلته) أي غفلة ذلك المشرك الفتاك للمسلمين.

(قال) جندب بن عبد الله (وكنا) معاشر المسلمين (نحدث) بضم النون وفتح الدال المشددة مضارع مبني للمجهول مسند لجماعة المتكلمين من حدث الرباعي (أنه) أي أن ذلك الرجل المسلم (أسامة بن زيد) بن حارثة (فلما رفع) ذلك المسلم (عليه) أي على ذلك المشرك (السيف) أي سيفه ليقتله، هكذا في بعض الأصول المعتمدة رفع بالفاء وفي بعضها رجع بالجيم وكلاهما صحيح، والسيف منصوب على الروايتين فرفع لتعديه، ورجع بمعناه، فإن رجع يستعمل لازمًا ومتعديًا، والمراد هنا المتعدي، ومنه قول الله عز

ص: 96

قَال: لا إِلهَ إِلا اللهُ، فَقَتَلَهُ. فَجَاءَ الْبَشِيرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ حَتَّى أَخْبَرَهُ خَبَرَ الرَّجُلِ كَيفَ صَنَعَ، فَدَعَاهُ. فَسَأَلَهُ، فَقَال: لِمَ قَتَلْتَهُ؟ قَال: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْجَعَ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَ فُلانًا وَفُلانًا، وَسَمَّى لَهُ نَفَرًا. وَإِنِّي حَمَلْتُ عَلَيهِ، فَلَمَا رَأَى السَّيفَ قَال: لا إِلهَ إِلا اللهُ. قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَقَتَلْتَهُ؟

ــ

وجل {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ} وقوله تعالى {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} والله أعلم اهـ نووي.

(قال) ذلك المشرك الفتاك (لا إله إلا الله) محمد رسول الله (فقتله) أي فقتل ذلك المسلمُ المشركَ القائلَ كلمة التوحيد ظنًّا منه أنه إنما قالها تحصنًا وتعوذًا منه، وهزمَ المسلمون المشركينَ، فأرسلوا خبر انتصارهم على المشركين، قبل رجوعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (فجاء البشير) أي حامل خبر البشارة (إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله) أي فسأل ذلك البشير النبي صلى الله عليه وسلم عن خبرهم مع المشركين (فأخبره) أي فأخبر ذلك البشير النبيَّ صلى الله عليه وسلم خبر ما جرى بينهم وبين المشركين، وانتصارهم عليهم قبل قدومهم (حتى أخبره) صلى الله عليه وسلم ذلك البشير (خبر الرجل) المسلم (كيف صنع) وفعل بالمشرك، من قتلِه بعد ما قال لا إله إلا الله، فقَدِم جيش المسلمين المدينة (فدعاه) أي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل المسلم القاتل للمشرك (فسأله) أي فسأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك المسلم عن كيفية قتله، وحاله حين قتله، فأخبر ذلك المسلم للنبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية قتله، وحاله حين قتله (فقال) النبي صلى الله عليه وسلم للرجل المسلم (لم قتلته) أي لم قتلت ذلك المشرك بعد ما قال لا إله إلا الله (قال) الرجل المسلم (يا رسول الله) قتلته لأنه (أوجع) وأوقع (في المسلمين) وجعًا وألمًا وضربًا كثيرًا (و) قتلًا ذريعًا حتى إنه (قتل فلانًا وفلانًا) من المسلمين (وسمى) ذلك الرجل المسلم (له) صلى الله عليه وسلم (نفرًا) من المسلمين، أي ذكر له صلى الله عليه وسلم أسماءَ نفرٍ من المسلمين المقتولين على يد ذلك المشرك وعددهم (وإني حملت) ووثبت (عليه) أي على ذلك المشرك، وشددت عليه (فلما رأى) وأبصر ذلك المشرك (السيف) مني واقعًا عليه (قال) ذلك المشرك (لا إله إلا الله) معتصمًا مني بكلمة التوحيد (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل المسلم القاتل توبيخًا وعتابًا له على قتله (أقتلته) أي أقتلت ذلك المشرك بعد ما قال لا إله

ص: 97

قَال: نَعَمْ قَال: فَكَيفَ تَصْنَعُ بِلا إِلهَ إِلا اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَال: يَا رَسُولَ اللهِ، اسْتَغْفِرْ لِي. قَال: وَكَيفَ تَصنَعُ بِلا إِلهَ إِلا اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَال: فَجَعَلَ لَا يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ: كَيفَ تَصْنَعُ بِلا إِلهَ إِلا اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ "

ــ

إلا الله (قال) الرجل المسلم (نعم) أي أجل قتلته يا رسول الله بعد ما قال لا إله إلا الله (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل المسلم القاتل (فكيف تصنع) وتخاصم (بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة) تخاصمك لذلك الرجل القائل لها (قال) الرجل المسلم القاتل (يا رسول الله استغفر لي) أي اطلب لي من الله تعالى مغفرة خطيئتي هذه (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة ثانية لذلك المسلم (وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة) تخاصمك لذلك المقتول القائل لها (قال) الراوي جندب بن عبد الله البجلي (فجعل) النبي صلى الله عليه وسلم وجعل هنا من أخوات صار، أي فصار النبي صلى الله عليه وسلم (لا يزيده) أي لا يزيد لذلك المسلم القاتل في جوابه حين قال له: استغفر لي يا رسول الله (على أن يقول) صلى الله عليه وسلم (كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة) تخاصمك لقائلها الذي قتلته.

قال النواوي: وأما ما فعله جندب بن عبد الله رضي الله تعالى عنه من جمع النفر ووعظهم، ففيه أنه ينبغي للعالم والرجل العظيم المُطاع وذي الشهرة أن يُسكِّن الناس عند الفتن، ويعظهم ويوضح لهم الدلائل.

وأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يوجب على أسامة قصاصًا ولا دية ولا كفارة، فقد يُستدل به لإسقاط الجميع، ولكن الكفارة واجبة، والقصاص ساقط للشبهة، فإنه ظنه كافرًا، وظن أن إظهاره كلمة التوحيد في هذا الحال، لا يجعله مسلمًا، وفي وجوب الدية قولان للشافعي، وقال بكل واحد منهما بعض من العلماء، ويجاب عن عدم ذكره الكفارة بأنها ليست على الفور، بل هي على التراخي، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة، جائز على المذهب الصحيح عند أهل الأصول، وأما الدية على قول من أوجبها فيَحتمِل أن أسامة كان في ذلك الوقت مُعسرًا بها فأخرت إلى يساره اهـ منه.

وهذا الحديث أعني حديث جندب بن عبد الله رضي الله تعالى عنه انفرد به الإمام مسلم رحمه الله تعالى وجملة ما ذكره المؤلف في هذا الباب ثلاثة أحاديث:

ص: 98

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الأول: حديث المقداد بن الأسود، ذكره للاستدلال وذكر فيه متابعتين.

والثاني: حديث أسامة بن زيد، وذكره للاستشهاد، وذكر فيه متابعة واحدة.

والثالث: حديث جندب بن عبد الله وذكره للاستشهاد أيضًا والله أعلم.

***

ص: 99