الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
أول ما نزل من القرآن
لم يقع خلاف بين العلماء في أن أول ما نزل من القرآن على الإطلاق هو أول خمس آيات من سورة العلق، فقد ثبت ذلك بالدليل الصريح، فعن محمد بن شهاب الزهري عن عروة بن الزبير أخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، فكان يلحق بغار حراء، فيتحنَّثُ فيه ـ قال والتَّحنُّثُ: التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود بمثلها، حتى فَجَأَه الحقُّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ.
قال: فأخذني، فغطَّني حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ.
قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني، فغطَّني الثانية حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ.
قلت: ما أنا بقارىء. فأخذني، فغطَّني الثالثة حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني، فقال:{اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَا وَرَبُّكَ الأَكَرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5].
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره حتى دخل على خديجة، فقال:«زَمِّلُوني زَمِّلُوني» . فزمَّلوه حتى ذهب عنه الرَّوع. قال لخديجة: «أي خديجة، ما لي؟ لقد خشيت على نفسي» . فأخبرها الخبر.
قالت خديجة: كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً، فوالله إنك
لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحديثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتُكْسِبُ المعدومَ، وتَقْرِي الضيفَ، وتُعِينُ على نوائب الحقِّ.
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ـ وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امرأً تنَصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخّاً كبيراً قد عَمِيَ ـ فقالت خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك.
قال ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟
فأخبره النبي (ص) خبر ما رأى.
فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى. ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حيّاً ـ ذكر حرفاً ـ (1).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو مخرجي هم؟» .
قال ورقة: نعم، لم يأت رجل بما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك حيّاً أنصرك نصراً مؤزراً. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفَتَرَ الوحيُ فترةً حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
وهذا صريح في أن أول نزولٍ للقرآن كان في غار حراء، وأن أول ما نزل منه هذه الآيات الخمس من أول سورة العلق.
بيد أنه ورد عن جابر بن عبد الله المدني رضي الله عنهما خلاف ذلك، حيث جعل سورة المدثر أول ما نزل.
روى البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: «فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت رأسي، فإذا المَلَكُ الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجثيت منه رعباً، فرجعت، فقلت: زَمِّلُوني
(1) هكذا جاءت هذه الكلمة في هذه الرواية، وفي رواية أخرى عند البخاري برقم (4): «ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك
…
».
(2)
أخرجه البخاري برقم (4، 4954)؛ ومسلم برقم (160).
زمِّلوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ *قُمْ فَأَنْذِرْ *وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ *وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ *وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 5]» (1).
وفي رواية أخرى عن يحيى بن أبي كثير قال: «سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن قال: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} . قلت: يقولون: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ! (2).
فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن ذلك، وقلت له مثل الذي قلت، فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة، فقلت: دثروني وصبوا علي ماءً بارداً، قال: فدثروني وصبوا علي ماءً بارداً، قال: فنَزلت: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ *قُمْ فَأَنْذِرْ *وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}» .
وقد أشكل جواب جابرٍ رضي الله عنه هذا على حديث عائشة رضي الله عنها أن أول ما نزل من القرآن الآيات الخمس الأولى من سورة العلق، وقد خرَّجه العلماء بعدد من التخريجات، لكن بعضها فيه نظر، ومن أحسن ما يمكن أن يُجاب عنه في هذا المقام ما يأتي:
أن جابراً لم يكن على علم بما نزل في غار حراء، وإن كان في حديثه إشارة إلى نزول جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم في الغار، وإنما سمع حديثه عن نزول الملك بآيات سورة المدثر، ولم يكن قد ذُكر له نزول آيات قبل سورة المدثر، فحكم بأنها أول ما نزل.
ومن التخريجات التي خُرِّج بها حديث جابر ـ وفيها نظر ـ ما يأتي:
1 -
أن يكون السؤال وقع عن أول سورة كاملة، فأجاب جابرٌ رضي الله عنه بأنها سورة المدثر.
(1) أخرجه البخاري برقم (4925)؛ ومسلم برقم (161).
(2)
أخرجه البخاري برقم (4922).
وهذا التخريج لا يسلم؛ لأنه السؤال عن أول ما نزل، وليس فيه أول سورة نزلت فيمكن أن يُخرَّج بهذا التخريج احتمالاً.
2 -
أن تكون الأولية مخصوصة؛ إما بما بعد فترة الوحي، وإما بالأمر بالإنذار.
وهذا التخريج لا يسلم؛ لأن السؤال صريح في أنه عن أول ما نزل، وليس في الأثر ما يدل على الأولية المخصوصة، وكونه ورد في حديث جابر رضي الله عنه «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي» فإنه لا يدل على أن جابراً رضي الله عنه أراد الأولية المخصوصة؛ لأن السؤال كان مطلقاً عن أول ما نزل، ولم يكن عن أولية مخصوصة (1).
والصحيح أن أول ما نزل على الإطلاق أول خمس آيات من سورة العلق، وأن أول ما نزل بعد فترة الوحي سورة المدثر، والله أعلم.
(1) ينظر في هذه التخريجات: الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (1:69 - 70).
مراجع مقترحة في موضوع: نزول القرآن
1 -
«نزول القرآن» ، لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت728هـ).
2 -
«الجواب الواضح المستقيم في كيفية نزول القرآن الكريم» ، لمفتي المملكة العربية السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (ت1389هـ).
3 -
«نزول القرآن» ، للأستاذ الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشايع.
والكتابة في هذا المبحث لا تكاد تختلف في كتب علوم القرآن سواءً أكانت متقدمة ـ كالبرهان والإتقان ـ أم كانت من كتب المعاصرين، سوى ما يذكره بعض المعاصرين من زيادات في بعض فوائد التنجيم.
بحوث مقترحة في موضوع: نزول القرآن
1 -
(دراسة أثر ابن عباس في النُّزول الجملي) وتكون دراسته من جهة السند، ومن جهة دلالة المتن وفوائده العلمية.
2 -
دراسة الأوليات والآخريات النسبية، من قولهم: أول ما نزل، وقولهم: آخر ما نزل.
3 -
ومن موضوعات نزول القرآن الاختلاف في أول ما نزل من القرآن، وقد بحثه كثيرون، وخلصوا إلى أن أول ما نزل على الإطلاق هو أول سورة العلق. وهناك أوليات نسبية مرتبطة ببعض الأحكام، وهي كثيرة، وفائدتها تظهر في معرفة (الناسخ والمنسوخ)، وفي معرفة (التدرج في التشريع).