الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
تجزئة المصحف
لقد كان من حكمة الله أن يكون القرآن مقسماً إلى سور، والسور مقسمة إلى آيات، وكان من فوائد هذا التقسيم تنشيط القارئ الذي يريد ختم القرآن بحيث ينتقل من آية إلى آية، ثم من سورة إلى سورة. وإن من منَّة الله على المسلمين أن يسَّر لهم تلاوة كلامه أناء الليل وأطراف النهار، وقد دأب المسلمون يجتهدون في هذه العبادة ويحرصون عليها، فعمدوا إلى تجزئة المصحف (1) إلى أقسام ليتسنى لهم قراءته بلا فتور ولا انقطاع، عملاً بالمنهج الذي رسمه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته لما سئل عن أحبِّ الأعمال، قالت عائشة رضي الله عنها:«سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قَلَّ. وقال: اكلفوا من الأعمال ما تطيقون» (2)، فذهب العلماء يقسمون المصحف مجتهدين في الوصول إلى تقسيم يُعِينُ القارئ أن يختم القرآن في قيام الليل من رمضان أو غيره، أو أن يختمه خارج صلاته، وقد وقع في تقسيماتهم اختلاف بسبب النظر إلى عدد الأيام التي يريدون أن يقع فيها ختم القرآن، فمن قسمه على سبعة أيام ليس كمن سيقسمه على عشرة أيام، ولا كمن أراد قسمته على ثلاثين يوماً (3).
(1) قال السخاوي: «يقال: أجزاء القرآن، والأحزاب، والأوراد بمعنى واحد، وأظنُّ الأحزاب مأخوذ من قولهم: حِزب فلان؛ أي: جماعته؛ لأن الحزب طائفة من القرآن. والوِردُ؛ أظنه من الوِردِ الذي هو ضدُّ الصدر؛ لأن القرآن يروي ظمأ القلب» . جمال القراء (1:124).
(2)
أخرجه البخاري برقم (6465)؛ وأخرج مسلم (782) القسم الأول منه.
(3)
ينظر في موضوع: تحزيب القرآن: فنون الأفنان في عيون علوم القرآن، لابن الجوزي، تحقيق: الدكتور رشيد العبيدي (ص107)؛ وجمال القراء وكمال الإقراء، =
ويمكن أن يكون أصل هذه التقسيمات ما أخرجه مسلم بسنده من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: «كنت أصوم الدهر وأقرأ القرآن كل ليلة قال فإما ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم، وإما أرسل إلي فأتيته، فقال لي: ألم أُخْبَر أنك تصوم الدهر، وتقرأ القرآن كل ليلة؟
فقلت: بلى يا نبي الله، ولم أُرِدْ بذلك إلا الخير.
قال: فإن بحسبك (1) أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام.
قلت: يا نبي الله؛ إني أطيق أفضل من ذلك.
قال: فإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزَورِك (2) عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً، فَصُمْ صَومَ داود نبي الله، فإنه كان أعبدَ الناس.
قال: قلت: يا نبي الله وما صوم داود؟
قال: كان يصوم يوماً ويفطر يوماً.
قال: واقرأ القرآن في كل شهر.
قال: قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك.
قال: فاقرأه في كل عشرين.
قال: قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك.
قال: فاقرأه في كل عشر.
قال: قلت: يا نبي الله إني أطيق أكثر من ذلك.
قال: فاقرأه في كل سبع، ولا تزد على ذلك، فإن لزوجك عليك حقاً، ولِزَورِكَ عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً.
قال: فشدَّدت فشُدِّد عليَّ.
قال: وقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر.
قال: فصرت إلى الذي قال لي النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كبرت وَدِدْتُ أني
= للسخاوي (1:124)؛ وسنن القراء ومناهج المجودين، للدكتور عبد العزيز القارئ (ص142).
(1)
أي: يكفيك.
(2)
أي: من يزورك من أصحابك وأضيافك.
كنت قَبِلْتُ رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم (1)» (2).
وهذا الحديث يشير إلى أنَّ من أراد أن يختم القرآن فإنه يجوز له أن يختمه في سبع، أو في عشر أو في عشرين أو في شهر، وبطبيعة الحال فإنه سيختلف القدر المقروء بين هذه التقسيمات.
وقد ورد عن الصحابة في التجزئة آثار، وقد سبق ذكر حديث وفد ثقيف، وسؤالهم الصحابة كيف يحزبون القرآن، وفيه الإشارة إلى أنهم كانوا يعتمدون القسمة الأسبوعية، فقد ورد فيما رواه أبو داود الطيالسي وغيره بأسانيدهم عن عبد الله بن أوس بن حذيفة الثقفي عن جده أوس رضي الله عنه قال: قدمنا وفد ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم فنَزل الأحلافيون على المغيرة بن شعبة، وأنزل المالكيين قُبَّتَه. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا فيحدثنا بعد العشاء الآخرة حتى يراوح بين قدميه من طول القيام، فكان أكثر ما يحدثنا اشتكاء قريش؛ يقول: كنا بمكة مستذلين مستضعفين فلما قدمنا المدينة انتصفنا من القوم فكانت سجال الحرب علينا ولنا، فاحتبس عنا ليلة عن الوقت الذي كان يأتينا فيه، ثم أتانا، فقلنا: يا رسول الله احتبست عنا الليلة عن الوقت الذي كنت تأتينا فيه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه طرأ علي حزبي من القرآن فأحببت أن لا أخرج حتى أقرأه، أو قال: أقضيه.
قال: فلما أصبحنا سألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحزاب القرآن كيف تحزبونه فقالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة وحزب المفصل» (3).
(1) إن ذلك من زيادة همة هذا الصحابي العابد، حيث كره ترك عادته التي ألزم بها نفسه، وكأنه قد اتخذ عهداً بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم في الاستمرار على ما التزم به أمامه، وإن لم يكن ذلك واجباً عليه، فلله درُّه من قدوة في الخير.
(2)
صحيح مسلم برقم (1159).
(3)
مسند أبي داود الطيالسي (1108)؛ وأخرجه أيضاً أبو داود السجستاني (1393)؛ وابن ماجه (1345).
وهذه القسمة الأسبوعية كما هو ظاهر تعتمد السور، فقد كانوا يُحزِّبون بها، ولا يقطعون السورة؛ لأنَّه كان من سننهم إنفاذ القراءة إلى آخر السورة (1)، وهذا التقسيم كالآتي:
1 -
ثلاث سور: البقرة وآل عمران والنساء، وتمثل في مصحف المدينة النبوية (2 - 106).
2 -
خمس سور: المائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، وتمثل في مصحف المدينة النبوية (106 - 207).
3 -
سبع سور: يونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر، والنحل، وتمثل في مصحف المدينة النبوية (208 - 281).
4 -
تسع سور: الإسراء، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، والحج، والمؤمنون، والنور، والفرقان، وتمثل في مصحف المدينة النبوية (282 - 366).
5 -
إحدى عشرة سورة: الشعراء، والنمل، والقصص، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة، والأحزاب، وسبأ، وفاطر، ويس، وتمثل في مصحف المدينة النبوية (367 - 445).
6 -
ثلاث عشرة سورة: الصافات، وص، والزمر، وغافر، وفصلت، والشورى، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف، ومحمد، والفتح، والحجرات، وتمثل في مصحف المدينة النبوية (446 - 517).
7 -
المفصَّل، من سورة ق إلى آخر القرآن، وتمثل في مصحف المدينة النبوية (518 - 604).
ثم كان لعلماء الأمة عناية بهذا الموضوع، فعمدوا مجتهدين إلى تقسيم القرآن تقسيمات متعددة، ويظهر أن ختم القرآن في شهر كان مقصداً أساساً في هذه التقسيمات؛ لأن الغالب عليها تقسيمه ثلاثين جزءاً.
(1) ينظر في هذا: سنن القراء ومناهج المجودين، للدكتور عبد العزيز قارئ (ص173).
ثم قسموه إلى أقل من الجزء، فجعلوا الجزء حزبين والحزب أربعة أرباع، في كل ربع ثُمُنان، فصار الجزء ثمانية أثمان، كما هو الحال في المصاحف المشرقية اليوم.
فالقسمة التي بين أيدينا في المصحف لا تذهب إلى تقسيم السور، بل هي تقسمه إلى أجزاء قد تنتهي في وسط سورة أو في خاتمة سورة، والملاحظ أنه لم يُعتمد في هذه التقسيمات على علم الوقف والابتداء، لذا قد تقع نهاية الثمن أو الحزب أو الجزء على موطن ناقص من جهة الوقف، فلا يكون وقفاً تامّاً، ولست أدري علام اعتمد من قسَّم هذا التقسيم؟!
وهي محكية قديماً، قد نقلها أبو عمرو الداني (ت444هـ) في كتابه «البيان في عدِّ آي القرآن» على خلافٍ في بعض المواطن، ولم يذكر هو ولا غيره سبب اختيار المواطن، وإنما الظاهر من هذه القسمة أنهم أرادوها لمن يختم في شهر، فإنه يقرأ كل يوم جزءاً حتى يختمه في ثلاثين يوماً.
وبعض التقسيمات للمصحف جعلته على سبعة وعشرين قسماً ليكون ختمه في رمضان في ليلة السابع والعشرين، وقد ذكر هذا التقسيم جماعة؛ منهم: الداني (ت444هـ) في كتابه «البيان في عد آي القرآن» (1)، وتلميذه أبو داود سليمان بن نجاح (ت496هـ) في كتابه «مختصر التبيين لهجاء التنْزيل» (2)، والسخاوي (ت643هـ) في «جمال القراء» (3)، وهذه التقسيمات ـ كما ترى ـ اجتهادية، وهناك تقسيمات أخرى محكية في كتب العلماء يمكن الرجوع إليها.
تنبيهات:
الأول: إن عدد صفحات الجزء في مصحف المدينة النبوية عشرون صفحة، فلو قسَّم المسلم هذه العشرين على عدد الصلوات الخمس، لكان
(1) البيان في عد آي القرآن (ص102).
(2)
ينظر على سبيل المثال: (2:596) من مختصر التبيين لهجاء التنْزيل.
(3)
جمال القراء وكمال الإقراء (1:138).
من حظِّ كل صلاة أربع صفحات، يقرؤها قبل الصلاة أو بعدها مباشرة، وبهذا يستطيع أن يقرأ جزءاً كل يوم، ويختمه بشهر.
الثاني: اعتمد مصحف (تاج كمبني)(1) ـ وهو المصحف الذي يُقرأ في القارة الهندية (الهند والباكستان وبنغلاديش) ـ على تجزئة تتعلق بالركوع، ويرمز لها بحرف (ع) يضعها على رقم الآية التي يحسن الركوع عندها، وهذا التقسيم لا ينظر إلى طول المقطع أو قِصَرِه، بل إلى تمام المعنى، حيث يعتمد على المواطن الصالحة للوقف، وقلَّ أن يخرج عن ذلك. وقد تتبعت كثيراً من مواطن الركوعات، فوجدتها تتبع المعنى، فتقف على معنى تامٍّ أو كافٍ، وهذا التقسيم المعتمد على الركوعات يصلح للقراءة في صلوات الفرض وصلاة التراويح وغيرها من الصلوات.
الثالث: كان السلف من الصحابة والتابعين يعتمدون التعشير في التعليم، وقد أخبر بذلك أبو عبد الرحمن السلمي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:«كنا إذا تعلمنا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات من القرآن لم نتعلم من العشر الذي نزلت بعدها حتى نعلم ما فيه» (2).
لكن كان بعضهم يكره وضع علامة التعشير في المصحف، وقد ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء بن أبي رباح (3).
وكان غيرهم يجيزها، ويتخفف فيها، وقد ذكر الداني (ت444هـ) الرواية عنهم كذلك.
• * *
(1) قد ذكرت علامات هذا المصحف ورموزه في كتاب «كنوز ألطاف البرهان في رموز أوقاف القرآن» لمحمد الصادق الهندي، وقد طبع بمصر قديماً 1290هـ.
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك (1:743)؛ والبيهقي في السنن (3:119)؛ وفي شعب الإيمان (2:330).
(3)
تنظر الرواية عنهم في: (المحكم في نقط المصاحف)(ص14 - 15).