الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
طرق تعبير السلف عن النُّزول
المكي والمدني مصطلحان مرتبطان بالمكان والزمان، وعليهما وقعت عبارات العلماء رحمهم الله.
وكان للسلف عناية خاصة بمكان نزول القرآن، وكان أول نزول القرآن في غار حراء بمكة، ثم تتابع نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان منه ما نزل بمكة قبل الهجرة، وما نزل في ضواحي مكة، ثمَّ هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ونزل عليه فيها القرآن، وكان له سفرات نزل فيها قرآن، وكان منه ما نزل عليه بمكة بعد هجرته صلى الله عليه وسلم، فكيف كان السلف يعبِّرون عن هذا النُّزول؟
ولقد كان للسلف طريقتان في التعبير عن النُّزول:
الأولى: روايات تذكر كل السور، وتميز مكيها من مدنيها.
الثانية: روايات متفرقة تذكر المكي والمدني، ويكثر في هذه الروايات الإشارة إلى أماكن نزول الآيات.
وفي كلا الطريقتين لم يقع منهم نصٌّ مباشر على الزمان (قبل الهجرة، وبعد الهجرة).
بل كان الوارد عن بعض الصحابة التنبيه على معرفة المكان دون الزمان؛ كالوارد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «والذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن أنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه» (1)، وقد ورد هذا المعنى عن غيره من السلف.
(1) أخرجه البخاري برقم (5002).
أما الطريقة الأولى، فقد ورد بها روايات عديدة عن بعض الصحابة والتابعين وأتباعهم، ومنها ـ على سبيل المثال ـ ما رواه البيهقي (ت458هـ) بسنده عن عكرمة (ت105هـ)، والحسن البصري (ت110هـ)؛ قالا: «أنزل الله من القرآن بمكة اقرأ باسم ربك، ون، والمزمل، والمدثر، وتبت يدا أبي لهب، وإذا الشمس كورت، وسبح اسم ربك الأعلى، والليل إذا يغشى، والفجر، والضحى، وألم نشرح، والعصر، والعاديات، والكوثر، وألهاكم التكاثر، وأرأيت، وقل يا أيها الكافرون، وأصحاب الفيل، والفلق، وقل أعوذ برب الناس، وقل هو الله أحد، والنجم، وعبس، وإنا أنزلناه، والشمس وضحاها، والسماء ذات البروج، والتين والزيتون، ولإيلاف قريش، والقارعة، ولا أقسم بيوم القيامة، والهمزة، والمرسلات، وق، ولا أقسم بهذا البلد، والسماء والطارق، واقتربت الساعة، وص، والجن، ويس، والفرقان، والملائكة، وطه، والواقعة، وطسم، وطس، وطسم، وبني إسرائيل، والتاسعة، وهود، ويوسف، وأصحاب الحجر، والأنعام، والصافات، ولقمان، وسبأ، والزمر، وحم المؤمن، وحم الدخان، وحم السجدة، وحمعسق، وحم الزخرف، والجاثية، والأحقاف، والذاريات، والغاشية، وأصحاب الكهف، والنحل، ونوح، وإبراهيم، والأنبياء، والمؤمنون، وآلم السجدة، والطور، وتبارك، والحاقة، وسأل، وعَمَّ يتساءلون، والنازعات، وإذا السماء انشقت، وإذا السماء انفطرت، والروم، والعنكبوت.
وما نزل بالمدينة: ويل للمطففين، والبقرة، وآل عمران، والأنفال، والأحزاب، والمائدة، والممتحنة، والنساء، وإذا زلزلت، والحديد، ومحمد، والرعد، والرحمن، وهل أتى على الإنسان، والطلاق، ولم يكن، والحشر، وإذا جاء نصر الله، والنور، والحج، والمنافقون، والمجادلة، والحجرات، ويا أيها النبي لم تحرم، والصف، والجمعة، والتغابن، والفتح، وبراءة» (1).
(1) دلائل النبوة للبيهقي (7:143).
قال البيهقي: «والتاسعة يريد بها سورة يونس. قال: وقد سقط من هذه الرواية الفاتحة، والأعراف، وكهيعص فيما نزل بمكة» (1).
وأما الطريقة الثانية، ففيها روايات عديدة، منها ما رواه البخاري بسنده عن طارق بن شهاب «أن أناساً من اليهود قالوا: لو نزلت هذه الآية فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً.
فقال عمر: أية آية؟
فقالوا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً} [المائدة: 3]. فقال عمر: إني لأعلم أي مكان أنزلت؛ أنزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة» (2).
فهذه الروايات وغيرها تدل على أنَّ السلف كانوا يُعنون بذكر المكان الذي نزلت فيه السورة أو الآية، لكن لا يعني هذا أنهم كانوا يُغفلون الزمان الذي ضبطه بعض أتباع التابعين بضابط الهجرة، فما كان قبل الهجرة فهو مكي، وما كان بعد الهجرة فهو مدني، فهذا الضابط، وإن لم ينصوا عليه إلا أنهم يعملون بفحواه، فهل يُتصوَّر أن يكون نزول آية إكمال الدين في مكة قبل الهجرة؟
بالطبع لا، فقول عمر رضي الله عنه:«أنزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة» يتضمن نزولها بعد الهجرة؛ لأن حجة الوداع كانت بعد الهجرة قطعاً، ولم يكن هناك داعٍ لأن يقول عمر: نزلت بعد الهجرة، ولا كان من مصطلحات الصحابة والتابعين وكثير من أتباع التابعين (3).
(1) دلائل النبوة للبيهقي (7:143)؛ وقد نقله في الإتقان (1:38).
(2)
صحيح البخاري برقم (4407)؛ وأخرجه أيضاً مسلم برقم (3017).
(3)
بدأ التقويم بالهجرة سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم بدأ ينتشر التأريخ بالهجرة شيئاً فشيئاً، ينظر في هذا: البداية والنهاية، نشر مكتبة المعارف، بيروت (3:206 - 207).
وهذا مما يحتاج أن يلاحظه من يكتب في المكي والمدني؛ لأن ربطه بالهجرة قد تأخر، ولم يظهر في عهد الصحابة كبارهم وصغارهم، ولا ظهر في كلام التابعين =
وأول من رأيته نصَّ على هذا الضابط الزماني يحيى بن سلام البصري (ت200هـ) قال: «
…
وإن ما نزل بمكة وما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغ النبي عليه السلام المدينة فهو من المكي.
وما نزل على النبي عليه السلام في أسفاره بعدما قدم المدينة فهو من المدني» (1).
وهذا الضابط الزماني هو الذي اعتمده العلماء المتأخرون، وسارت به الكتب بعدهم.
فقد كتب السيوطي (ت911هـ) وغيره في هذا المبحث مسائل متنوعة، ومنها:
اصطلاحات المكي والمدني، وقد جعلها ثلاثة:
• ما كان بمكة فهو مكي، وما كان بالمدينة فهو مدني، وهذا فيه اعتبار المكان.
• ما كان خطاباً بصيغة {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} فهو مكي، وما كان بصيغة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهو مدني، وهذا فيه اعتبار الخطاب.
• ما كان قبل الهجرة فهو مكي وما كان بعد الهجرة فهو مدني، وهذا فيه اعتبار الزمان.
ولم ينسب هذه الأقوال لقائلين بها، وفي القولين الأولين تجوُّزٌ؛ لأن من القرآن ما كان نازلاً في غير مكة والمدينة، ولأن القرآن ليس كله خطاباً بهاتين الصيغتين أو ما يشبههما، وليس كل سورة فيها أحد هذين الخطابين.
وقد زاد بعض المعاصرين الاستدلال والاحتجاج، ورجَّح اعتبار
= ولا كبار أتباع التابعين، وهذا أمر يحتاج إلى نظر من هذه الجهة.
ولا يعني هذا عدم الاستفادة من الضابط الزمني، لكن المراد عدم تحكيمه على أقوال السلف في المكي والمدني، وتخطئتهم في ذكر الزمان، كما ذهب إلى ذلك بعضهم عند حديثه عن الترجيح بين مصطلحات المكي والمدني.
(1)
ينظر: مختصر تفسير يحيى لابن أبي زمنين (1:113)؛ ولهود بن محكم (1:69).
الزمان الذي رجحه بعض المتقدمين كابن حجر العسقلاني (ت852هـ) والسيوطي (ت911هـ) وغيرهما.
والمقصود هنا التنبيه على أنه لا تعارض بين مذهب السلف في التعبير عن النُّزول بالمكان، وما ذهب إليه المتأخرون من العلماء من أن ما نزل قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل بعد الهجرة فهو مدني؛ لأن السلف كانوا يعتنون بذكر المكان، ويعملون بالزمان في تطبيقاتهم التفسيرية، ومما يدل على ذلك ما يأتي: قال سعيد بن منصور: حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر قال: «سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] أهو عبد الله بن سلام؟ فقال: كيف؟ وهذه السورة مكية» (1).
ويمكن تلخيص القول في هذه المسألة بأن يُعتبر المصطلحان معاً بحيث يكون في ذكر مكان النُّزول إشارة إلى ضابط الزمان إن احتاج الأمر إلى ذلك.
وإذا تأملت ذلك وجدت:
1 -
أن كل ما وُصِف من القرآن بأنه مدني فلا يدخله اللَّبس، فما وصف بالمدني فهو بعد الهجرة لا قبلها قطعاً.
2 -
أنَّ الأماكن التي ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما ذهب إليها بعد الهجرة؛ ـ كبعض غزواته: غزوة بني المصطلق وغزوة تبوك ـ لا يمكن أن يقال: إنها من المكي؛ لأنها بعد الهجرة.
3 -
يبقي الأمر في بعض السور والآيات التي نزلت بمكة بعد الهجرة، وهي قليلة بالنسبة لسور وآيات القرآن.
وإذا كان الأمر كذلك فلا حاجة إلى الترجيح بين المصطلحين ـ كما ذهب إليه بعض من كتب في المكي والمدني ـ لأمن اللبس في أغلب نزول القرآن من هذه الجهة، والله أعلم.
(1) سنن سعيد بن منصور، تحقيق: د. سعد الحميد (5:442).
مسألة: في الآيات المستثناة من السور:
ورد عن علماء الصحابة والتابعين وأتباع التابعين بعض الآثار التي يذكرون فيها أن السورة مكية إلا آيات منها، وكذا أن السورة مدنية إلا آيات منها، وهذا المبحث من المباحث التطبيقية النفيسة التي تتداخل بين التفسير وعلوم القرآن، والأصل في هذا المبحث النقل عن الصحابة الذين شاهدوا التنْزيل، لكن قد يجتهد بعض من جاء بعدهم لقرينة تظهر له بسبب بعض الآثار الواردة في النُّزول، أو غير ذلك.
ومن أمثلة الآيات المستثناة:
1 -
قال السيوطي: «الأنفال: استُثني منها: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [30] الآية، قال مقاتل: نزلت بمكة» (1).
2 -
وعند تحرير هذه الأمثلة يظهر الآتي:
1 -
أن الأصل في السورة أن تكون مكية كلها، أو مدنية كلها، والاستثناء منها خلاف الأصل.
2 -
أن الشبهة قد تقع في الاستثناء، لذا لا يلزم أن يكون كل استثناءٍ صحيحاً.
3 -
أنَّ ما قيل فيه بالاستثناء يحتمل الاحتمالات العقلية الآتية:
(1) الإتقان (1:39)؛ وينظر: قول مقاتل في تفسيره، تحقيق الدكتور عبد الله شحاته (2:97)، قال: «سورة الأنفال مدنية كلها غير آية واحدة {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا
…
} الآية».
(2)
الإتقان: (1: 44 - 45).
الأول: أن يكون الاستثناء صحيحاً، وتكون السورة كلها نزلت بمكة أو بالمدينة، ثم أضيف إليها الآية.
الثاني: أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ الآية المكية في حدث مدني، فتوهم الصحابي أنها نزلت آنئذ، فحكم بمدنيتها، إذ ليس كل الصحابة يعلم جميع النازل من القرآن، ولا مكان نزوله أو وقته.
الثالث: أن يكون دخول الحدث المدني في آية مكية بوحي نزل عليه، فيتلوا الآية المكية آنئذ، فيتوهم الصحابي أنها نزلت في هذا الحدث.
والفرق بينه وبين الذي قبله: أن الأول من فعله صلى الله عليه وسلم مباشرة، والثاني بوحي نزل عليه.
وإليك تطبيق ذلك على بعض الآيات:
1 -
قال مقاتل (ت150هـ): «سورة الأنفال مدنية كلها غير آية واحدة {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [30]» (1).
إذا رجعت إلى هذه الآية التي في سورة الأنفال وجدت أن السورة تتحدث عن أحداثٍ تتعلق بغزوة بدر، وهذا الحدث الذي تتحدث عنه الآية كان بمكة، لما تآمر الكفار على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنجاه الله منهم، فالآية تذكير بهذا الحدث، لذا صُدِّرت بلفظ (وإذ) الدال على وقوع الحدث قبل الآية.
ولربما لما كان الحدث مكيّاً توهم مقاتل أنه هذه الآية مكية.
ولربما أنه اعتمد على ما روي عن مجاهد وعكرمة في هذه الآية من أنها مكية، فحكم بذلك، فقد روى الطبري (ت310هـ) بسنده عن ابن جريج (ت150هـ)، قال: «عن عكرمة، قوله:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] قال: هذه مكية.
قال ابن جريج: قال مجاهد: هذه مكية» (2).
(1) تفسير مقاتل، تحقيق الدكتور عبد الله شحاته (2:97)؛ وينظر: الإتقان (1:39).
(2)
ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (13:502).
قال ابن عطيَّةَ (ت542هـ) ـ معلقاً على قول مجاهد وعكرمة ـ: «وحكى الطَّبريُّ عن عكرمةَ ومجاهد أنَّ هذه الآيةَ مكيَّةٌ
…
ويحتملُ عندي قول عكرمةَ ومجاهدٍ: «هذه مكيَّةٌ» ، أن أشارا إلى القصَّةِ لا إلى الآيةِ» (1).
وإذ خُرِّج قول مقاتل ومن سبقه على ما ذهب إليه ابن عطية لم يكن مرادهم النُّزول، وإنما مرادهم زمن قصة الآية فحسب.
فإن قُلت: هل عُهِد من السلف مثل هذا التعبير في المكي والمدني؟
فالجواب: إن هذا يحتاج إلى استقراء، لكن ما ذكر لك من باب التخريج ليلتئم القول على ما هو مشهور من كون نزول سورة الأنفال كلها في المدينة، وباب التخريج واسع.
2 -
الحكم بنُزول هذه الآية في عبد الله بن سلام رضي الله عنه وارد عن جمع من الصحابة والتابعين، وقد ذكر الطبري (ت310هـ) وغيره الرواية عنهم في ذلك، فقد ورد عن سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن سلام، وابن عباس، وعوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنهم، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والحسن، وابن زيد (3)، على اختلاف بينهم في النص على عبارة النُّزول.
وقد اعترض مسروق على هذا المذهب، ومما ورد عنه في ذلك ما رواه الطبري (ت310هـ) بسنده عن الشعبي عن مسروق في قوله تعالى: {قُلْ
(1) تفسير ابن عطية، ط. قطر (6:272).
(2)
الإتقان: (1:44 - 45).
(3)
تفسير الطبري، ط. دار هجر، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (21:126 - 131).
أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأحقاف: 10] الآية، قال:«كان إسلام ابن سلام بالمدينة، ونزلت هذه السورة بمكة، إنما كانت خصومة بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين قومه فقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10] قال: التوراة مثل الفرقان، وموسى مثل محمد، فآمن به واستكبرتم، ثم قال: آمن هذا الذي من بني إسرائيل بنبيه وكتابه، واستكبرتم أنتم فكذبتم أنتم نبيكم وكتابكم {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي} إلى قوله: {هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 10 - 11]» .
وقد تبعه على ذلك الشعبي، فقد روى الطبري (ت310هـ) بسنده عنه، قال:«إن ناساً يزعمون أن الشاهد على مثله: عبد الله بن سلام، وأنا أعلم بذلك، وإنما أسلم عبد الله بالمدينة، وقد أخبرني مسروق أن آل حم إنما نزلت بمكة، وإنما كانت محاجَّة رسول الله (ص) لقومه فقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأحقاف: 10] يعني: الفرقان {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10]، فمثل التوراة الفرقان؛ التوراة شهد عليها موسى، ومحمد على الفرقان، صلى الله عليهما وسلم» (1).
ويستفاد من قول الجمهور أنَّ الآية مدنية النُّزول، وقد وُضِعت في سورة مكية، وهذا ظاهر مذهبهم في ذلك.
ولو جعلت قول مسروق ومن تبعه هو المقدَّم، فإنه يلزم في تخريج الروايات الواردة عن الجمهور ما يأتي:
1 -
أن تكون الآية مما تقدم نزوله وتأخر حكمه، كما ورد في قوله تعالى:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]، فقد روى الطبري (ت310هـ) بسنده عن أيوب قال: لا أعلمه إلا عن عكرمة أن عمر قال: «لما نزلت {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} [القمر: 45] جعلت أقول: أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]» (2)
(1) تفسير الطبري، ط. دار هجر، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (21:126).
(2)
تفسير الطبري، ط. دار هجر، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (22:157).
ومما نزل مبكراً، وتأخر وقوعه قوله تعالى:{وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 2]، على من فسَّر الآية بأنها: حلال لك أنت تصنع في مكة ما تشاء (1)، وكان ذلك يوم الفتح، والآية مكية.
2 -
أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية عليهم في ذلك الحدث، فظن بعضهم أنها لتوها نزلت في هذا الشأن، وليس الأمر كذلك، بل يكون في قراءته التنبيه على شمول الآية لحال ابن سلام رضي الله عنه وأمثاله ممن يؤمن من أهل الكتاب.
وقد وقع في بعض الآثار ما يشير إلى هذا، ومن ذلك ما رواه الطبري (ت310هـ) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]، قال:«كان ذلك يوم بدر قال: قالوا: نحن جميع منتصر. قال: فنَزلت هذه الآية» (2) فابن عباس رضي الله عنهما مع كونه لم يحضر بدراً ـ عبَّر بالنُّزول، لِمَا سمع من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لها في هذا الموطن، والله أعلم.
3 -
أن يكون في التعبير بالنُّزول توسُّعٌ ممن قال به، ولا يكون مراده السببية المباشرة، وإنما مراده التفسير، والحكم بدخول حال ابن سلام رضي الله عنه في معنى الآية (3).
(1) قال به ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد، وعطاء، والضحاك، تفسير الطبري، ط. دار هجر، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (24:403 - 405).
(2)
تفسير الطبري، ط. دار هجر، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (22:158).
(3)
هذه الآية من الآيات المشكلة من جهة المراد بها أولاً، وقد أوقعت الإمام الطبري في التأرجح في الترجيح بين القولين، فالسياق مع قول مسروق والشعبي، وعبارات الصحابة ومن تبعهم تدل على نزولها في عبد الله بن سلام، قال الطبري (ت310هـ): «والصواب من القول في ذلك عندنا أن الذي قاله مسروق في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنزيل؛ لأن قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} في سياق توبيخ الله ـ تعالى ذكره ـ مشركي قريش واحتجاجاً عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهذه الآية نظير سائر الآيات قبلها، ولم يَجْرِ لأهل الكتاب ولا لليهود قبل ذلك ذِكْرٌ فتوجه هذه الآية إلى أنها فيهم نزلت، ولا دَلَّ على انصراف الكلام عن قصص الذين تقدم الخبر عنهم معنى.
غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك عني به =
وهذا يرد أيضاً في عبارات السلف في النُّزول، وإن كان قليلاً، ويمكن حمل قول ابن عباس رضي الله عنهما السابق على هذا المعنى.
= عبد الله بن سلام، وعليه أكثر أهل التأويل، وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن، والسبب الذي فيه نزل، وما أريد به، فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك: وشهد عبد الله بن سلام وهو الشاهد من بني إسرائيل على مثله؛ يعني: على مثل القرآن، وهو التوراة، وذلك شهادته أن محمداً مكتوب في التوراة أنه نبي، تجده اليهود مكتوباً عندهم في التوراة، كما هو مكتوب في القرآن أنه نبي». تفسير الطبري، ط. دار هجر، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (21:131 - 132).
وللتفسير في هذا المقام مسلكان:
المسلك الأول: أن يحكم بصحة نزولها في عبد الله بن سلام، ويكون فيها من الاحتمالات ما سبق ذكره في المتن، ثمَّ يُحكم بعموم الوصف في قوله:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} ، فيدخل في ذلك شهادة موسى عليه السلام، وكذا شهادة كل من يؤمن من بني إسرائيل.
المسلك الثاني: أن يُحكم بقول مسروق في أن نزولها كان في مكة، وأن المعنيَّ بها أولاً موسى عليه السلام، ثمَّ يُعمَّم الوصف المذكور، فيدخل فيه عبد الله بن سلام، وكل من آمن من أهل الكتاب بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثاني
طريق معرفة المكي والمدني
إن الأصلَ في معرفة المكي والمدني من السور والآيات إنما هو النقلُ عن الصحابة الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم، وإذا تأملت ما حكاه العلماء من المكي والمدني وجدت ما يأتي:
1 -
قسم وقع الاتفاق عليه بأنه مكي أو مدني.
2 -
قسم وقع الخلاف فيه بين العلماء من الصحابة أو ممن هو دونهم من التابعين وأتباعهم.
3 -
أنَّ هذا الاختلاف كان في الآيات أكثر منه في السور، وبهذا كان لا بدَّ من الاجتهاد في هذا المختلَف فيه، وكان لا بدَّ من وجود ضوابط للترجيح في هذا الاختلاف، فصار الأمر في معرفة المكي والمدني على طريقين: الطريق النقلي والطريق القياسي الاجتهادي.
أما النقلي فظاهرٌ، فإذا وقع الاتفاق أو وقع النقل عن واحد من الصحابة ليس له مخالف فالأمر على ما قال، والمنقول هو الأغلب الأعم في باب المكي والمدني دون القياسي.
وأما القياسي الاجتهادي فإنه يقوم على معرفة ما يمكن القياس عليه، وهو ما دلَّ بالاستقراء من موضوعات المكي والمدني وأسلوبهما في السور والآيات، وقد استنبط العلماءُ عدداً من الضوابط التي يُعرف بها المكي والمدني (1)، ومنها:
(1) ممن اعتنى بذكر الضوابط. مكي بن أبي طالب في كتابه «إيضاح الناسخ والمنسوخ» ، =
1 -
أورد بعض العلماءِ ضابطاً يتعلق بالخطاب، فقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه (ت32هـ) أنه قال:«ما كان {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أنزل بالمدينة وما كان {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} فبمكة» .
وهذا الضابط أغلبي، وليس كليّاً؛ لأنه ورد في القرآن المدني الخطاب بيا أيها الناس، فقد أجمع العلماء على أن سورة النساء مدنية، وأولها:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]، فانخرم بهذا أن يكون الخطاب بهذين الوصفين ضابطاً مُطَّرداً في معرفة المكي والمدني.
ويلاحظ أن بعض من كتب في المكي والمدني جعل من هذا الضابط (الخِطابي) اصطلاحاً ثالثاً أضافه إلى الاصطلاح المكاني والزماني.
وجَعْلُ هذا الضابط قولاً ثالثاً في تعريف المكي والمدني ضعيف جدّاً، بل لا يُتصوَّر القول به؛ لأنه لا يُتصور أن يخفى على أحد من أهل العلم أن أكثر السور ـ فضلاً عن الآيات ـ لا يوجد فيها الخطاب بهذين الخطابين، والله أعلم.
2 -
عن عروة بن الزبير (ت94هـ) قال: «كل شيء نزل من القرآن فيه ذكر الأمم والقرون؛ فإنما نزل بمكة.
وما كان من الفرائض والسنن؛ فإنما نزل بالمدينة» (1).
وهذا الضابط أغلبيٌّ أيضاً؛ لأنه ورد في القرآن المدني شيءٌ من ذكر الأمم والقرون ـ كقصة آدم وإبليس وقصة موسى في سورة البقرة المدنية ـ، لكنه في القرآن المكي أكثر.
كما أنه من جهة الفرائض والسنن أغلبي كذلك؛ لأن بعض الأحكام قد فُرِضت بمكة، لكن أكثر الأحكام وتفاصيلها إنما نزلت بالمدينة لما
= تحقيق: د. أحمد حسن فرحات (ص114 - 115)؛ والسيوطي في الإتقان في علوم القرآن (1:47 - 49).
(1)
أخرجه أبي شيبة برقم (30140).
قامت الدولة الإسلامية، وصار الأمر والنهي فيها للرسول صلى الله عليه وسلم، ولئن كانت بعض الأحكام قد فُرضت بمكة ـ كالزكاة ـ فإن كثيراً من تفاصيلها إنما كان في المدينة.
3 -
كل سورة ورد في أولها أحرف تهجٍ فهي مكية، سوى البقرة وآل عمران والرعد، وفي سورة الرعد خلاف.
4 -
كل سورة ورد فيها لفظ (كلا)، فهي مكية، ولم يرد هذا اللفظ إلا في النصف الثاني من سور القرآن، قال عبد العزيز الديريني (ت694هـ) (1):
وما نزلت كلا بيثرب فاعلمن
ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى (2)
5 -
كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية؛ لأن النفاق لم يظهر إلا في المدينة.
6 -
كل سورة فيها سجدة فهي مكية.
7 -
كل سورة نزل فيها جدال لأهل الكتاب وذكر لأحوالهم ومخازيهم فهي مدنية.
(1) هو عبد العزيز بن سعيد بن عبد الله؛ عز الدين الدميري المعروف بالديريني، شافعي متصوف، له مشاركة في العلوم، وله نظم رائق في التفسير، سماه «التيسير في التفسير» ، وهي منظومة نفيسة يذكر فيها معاني مفردات ألفاظ القرآن، وقد يذكر القراءات وتوجيهها، اختلف في وفاته، قيل: إنها كانت سنة 694هـ، وقيل: 697هـ، والله أعلم، وكانت ولادته سنة 612هـ.
(2)
هذا البيت ليس في منظومته المطبوعة المسماة «التيسير في التفسير» ، ويظهر أن هذا البيت من منظومة أخرى في المكي والمدني، وهي مفقودة، بدلالة أن السيوطي ذكره في أول مبحث المكي والمدني ممن ألف فيه، وهو مثبت مطلع، فيقدم على قول من شكك في وجود مؤلف له بهذا العنوان، والله أعلم.