الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأصل في ذلك ـ والله أعلم ـ أنه لا اختلاف في هذه الأمور، بل إنها كُتِبت كما عهدوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان لهم من أمر القرآن سوى جمعه في مصحف واحدٍ، ثمَّ نسخه في عهد عثمان، والله أعلم.
وقد أخرج البخاري ما يؤنس بأن ما بين الدفتين مما كان من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا سفيان عن عبد العزيز بن رفيع قال: دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس رضي الله عنهما، فقال له شداد بن معقل: «أَتَرَكَ النبي صلى الله عليه وسلم من شيء؟
قال: ما ترك إلا ما بين الدفتين.
قال: ودخلنا على محمد ابن الحنفية، فسألناه، فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين» (1).
•
المرحلة الثالثة *
في عهد عثمان رضي الله عنه
كانت هذه المرحلة هي خاتمة مراحل جمع القرآن المعتمد عليه عند المسلمين، ولقد كانت مهمة عثمان تتمثل في نسخ مصحف أبي بكر إلى عدد من المصاحف ليعتمد عليها المسلمون، ولتكون من الموازين التي يعلمون بها صحة ما يُنسب إلى القرآن من حيث أصول حروفه وكلماته وجُمَلِه، إذ قد يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءاتٍ لكنها مما تُركت في العرضة
(1) صحيح البخاري برقم (5019) وقد تقدم.
(2)
شعب الإيمان (2:546).
الأخيرة، فلم يُقرأ بها، وترك الناس بلا مرجع يرجعون إليه يجعلهم لا يزالون مستمرين في قراءة ما تُركت تلاوته.
ومن أوضح الأمثلة في ذلك ما ثبت عند البخاري وغيره في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل: 3]، فقد ورد عن علقمة، قال: «دخلت الشأم فصليت ركعتين، فقلت: اللهم يسر لي جليساً صالحاً فرأيت شيخاً مقبلاً، فلما دنا قلت: أرجو أن يكون استجاب.
قال: من أين أنت؟
قلت: من أهل الكوفة.
قال: أفلم يكن فيكم صاحب النعلين والوساد والمطهرة؟ أو لم يكن فيكم الذي أجير من الشيطان؟ أو لم يكن فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره؟
كيف قرأ ابن أم عبد {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1].
فقرأت {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى *وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى *وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل: 1 - 3].
قال: أقرأنيها النبي صلى الله عليه وسلم فاهُ إلى فِيَّ، فما زال هؤلاء حتى كادوا يردونني» (1).
فحين ترجع إلى ما نسخه عثمان رضي الله عنه في المصاحف لا تجد هذه القراءة الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتعلم حينئذ أنها مما تُركت القراءة به في العرضة الأخيرة، والله أعلم.
عمل عثمان رضي الله عنه في المصحف:
ويمكن استخلاص عمل عثمان من الخبر الذي رواه البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما (2) كالآتي:
(1) صحيح البخاري برقم (3761).
(2)
روى البخاري بسنده عن ابن شهاب أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه: «أن حذيفة بن =
1 -
سبب الجمع، والذي دعا إليه:
لم يذكر حذيفة رضي الله عنه مثالاً على هذا الاختلاف الكائن بين القرأة، وقد
= اليمان قدم على عثمان ـ وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ـ فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين؛ أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا. حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق». صحيح البخاري برقم (4988).
(1)
ذكر ابن حجر العسقلاني وقت هذه المعركة، وخرج منه بوقت تقريبي لنسخ المصاحف في عهد عثمان، فقال: «وكانت هذه القصة في سنة خمس وعشرين في السنة الثالثة أو الثانية من خلافة عثمان، وقد أخرج ابن أبي داود من طريق أبي إسحاق عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: خطب عثمان فقال: يا أيها الناس إنما قبض نبيكم منذ خمس عشرة سنة، وقد اختلفتم في القراءة
…
الحديث في جمع القرآن.
وكانت خلافة عثمان بعد قتل عمر، وكان قتل عمر في أواخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث عشرة سنة إلا ثلاثة أشهر، فإن كان قوله: خمس عشرة سنة؛ أي: كاملة، فيكون ذلك بعد مضي سنتين وثلاثة أشهر من خلافته. لكن وقع في رواية أخرى له منذ ثلاث عشرة سنة، فيُجمع بينهما بإلغاء الكسر في هذه وجبره في الأولى، فيكون ذلك بعد مضي سنة واحدة من خلافته فيكون ذلك في أواخر سنة أربع وعشرين وأوائل سنة خمس وعشرين، وهو الوقت الذي ذكر أهل التاريخ أن أرمينية فُتِحَت فيه، وذلك في أول ولاية الوليد بن عقبة بن أبي معيط على الكوفة من قِبَلِ عثمان.
وغفل بعض من أدركناه، فزعم أن ذلك كان في حدود سنة ثلاثين، ولم يذكر لذلك مستنداً». فتح الباري (9:17).
يكون الاختلاف كمثل الاختلاف الوارد في الأثر السابق عن علقمة بحذف وإثبات، وقد يكون بإبدال لفظ بلفظ، وقد يكون بطريقة قراءة، كل ذلك جائز أن يكون، والله أعلم.
2 -
أن القصد من هذا العمل نسخ مصاحف من مصحف أبي بكر، الذي هو أصل العمل:
كانت المصاحف عند عمر رضي الله عنه، ثم عند حفصة رضي الله عنها بعده، فأخذها عثمان رضي الله عنه بقصد نسخ مصاحف من هذا المصحف، ولم يكن له هدف آخر كالانتخاب منه، كما يذهب إليه بعضهم، حيث يذهب إلى أن عثمان رضي الله عنه ترك المنسوخ من الآيات الواردة في مصحف أبي بكر رضي الله عنه، وقد مضى التنبيه على عدم وجود مثل هذه الآيات في مصحفه.
3 -
تكوين لجنة لهذا العمل العظيم:
يلاحظ أنَّ ثلاثة منهم مكيُّون، والرابع مدنيٌّ وهو زيد بن ثابت رضي الله عنه، ويلاحظ أنه نصَّ على عملهم، وهو النسخ فحسب.
4 -
المنهج المتبع في الرسم حال الاختلاف:
أرشدهم عثمان رضي الله عنه إلى ما يعملونه حال اختلافهم في رسم كلمة
(1) قد ورد في آخر أثر زيد بن ثابت: «وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حتى توفاه الله ثم عند حفصة بنت عمر» .
ما، بدلالة قوله «فاكتبوه»؛ أي: فارسموه بطريقة نطق قريش التي نزل القرآن أول ما نزل بلغتها.
فإن قلت: كيف يختلفون، وأمامهم المصحف ينقلون منه؟
فالجواب: إن زيداً لما كتب المصحف في عهد أبي بكر رضي الله عنه لم يكن معه مثل هذه اللجنة التي يُظَنُّ من اجتماعها على أمر اجتهادي ـ وهو رسم المصحف ـ أن تقع في اختلاف، وهذا يدلُّك على أن رسم المصحف لم يكن إلزاماً؛ لأن بينهم اختلاف تنوعٍ في الكتابة ـ أي: الرسم ـ، وليس هذا بغريب في علم الكتابة البتة، وما رُوي من أنهم اختلفوا في لفظ (التابوت) هل يُكتب بالتاء المفتوحة أو بالتاء المربوطة، فإنه يدل على ذلك النوع من الاختلاف، والله أعلم.
ومن باب الفائدة، فهنا مسألتان متعلقتان بنسخ عثمان رضي الله عنه للمصاحف:
الأولى: أن الأصل في القرآن المسموع المحفوظ في الصدور لا المرسوم:
إن رسم الكلمة بنوع من الرسم لا يمنع من قراءتها بما ثبت، وإن لم يرد بها الرسم، فالمحفوظ في الصدور أصل، والرسم فرع عنه، إذ هو صورة لذلك المحفوظ، ويظهر ذلك من عدد من الأمثلة، منها:
1 -
رُسِم في جميع المصاحف لفظ (بضنين) بالضاد أخت الصاد، والقرأة على وجهين فيها بالضاد، وبالظاء التي لم يرد فيها رسم في المصاحف.
2 -
رُسِم في جميع المصاحف لفظ (الصراط) بالصاد، وقد قرئ قوله تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] بالصاد، والسين، وإشمام الصاد زاياً.
3 -
رسم في جميع المصاحف (لأهب لك)، وقد قرئ بالياء (ليهب).
وينشأ عن هذه المسألة مسألة أخرى، وهي أنَّ الكتبة للمصحف
العثماني لم يقصدوا دائماً استيعاب مرسوم القراءات، ففي أحيانٍ ينشرون اختلاف القراءات في المصاحف كقراءة (وصَّى، وأوصى)، (تجري تحتها، تجري من تحتها)، وفي أحيانٍ أخرى يكتفون برسم واحدٍ فقط، كالأمثلة السابقة (الصراط، بضنين، لأهب).
كما يلاحظ أمر مهم للغاية، وهو أنَّ رسم الكلام في وقت الصحابة كان مجرَّداً من النقط والشكل والضبط، وهذه إنما حدثت بعدهم، فمن يمثل في مسألة كتابتهم بأنهم رسموا في مصحف (فتبينوا) وفي آخر (فتثبتوا) أو في مصحف (ننشرها)، وفي آخر (ننشزها) = فقد أوهم، وغفل عن هذه الحقيقة، وهذا المثال لا يصلح لما ذهب إليه، والله أعلم.
الثانية: أن لمفهوم الأحرف السبعة أثراً في فهم عمل هذه اللجنة:
إن مفهوم الأحرف السبعة له أثر في فهم كيف تمَّ رسم المصحف في عمل الصحابة، فإن جعلت اختلاف الصوتيات الكائن في القراءة من إظهار وإدغام، وفتح وإمالة وروم وإشمام، وما إلى ذلك من الأحرف السبعة، فإنك ستحكم قطعاً بأن شيئاً من الأحرف السبعة لا يمكن كتابته؛ لأنَّ ذلك إنما يتمُّ بالضبط، حيث يصطلح العلماء على الإشارة إلى الإدغام والإمالة والروم والإشمام، وهذا سيكون خارجاً عن رسم المصحف.
وإذا جعلت هذا الاختلاف خارجاً عن مفهوم الأحرف السبعة فإنك يحسن أن تلاحظ أنَّ أي اختلاف يخرج عن الاختلاف في الرسم فلن يكون من الأحرف السبعة إذا أنت قلت: إنه كتب على الأحرف السبعة، أو لم يكتب على الأحرف السبعة، والمقصود: أن الأحرف السبعة لا تؤخذ من رسم المصحف فقط، والله أعلم.
5 -
إلزام الناس بما نُسِخ من مصحف أبي بكر، وأمرهم بتحريق مصاحفهم:
«وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق» .
إن هذا الإلزام أمر مهمٌّ للغاية، فهذا القرآن الذي قرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكُتب في عهده، وكانت عليه العرضة الأخيرة، وجمعه أبو بكر رضي الله عنه في مصحف، ثمَّ نسخت منه اللجنة التي اختارها عثمان رضي الله عنه، وما عداه فهو مما تُرك في العرضة الأخيرة، ولم يُقرأ به، ومن ذلك عدد لا بأس به من الآيات التي حكى الصحابة أنها كانت مما يُقرأ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبقيت حتى الإلزام بهذا الجمع؛ لأنه ليس كل واحدٍ من الصحابة بلغه ما تُرك من النازل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا زال يحفظه ويقرأ به. لكن لما أجمع الصحابة على هذا المصحف، عُلِم أنه هو الذي ثبت في العرضة الأخيرة فحسب، وما عداه مما قد تنقله كتب الآثار يكون مما تُرك لا محالة، والله أعلم.
وهذا الإلزام سيكون حاسماً قاطعاً للخلاف؛ لاتفاق المصدر، فلو خرج شامي وعراقي مرة أخرى، وأثبت كل واحد منهما قراءته بما بعث به عثمان رضي الله عنه، فإن الحال هنا إلى أن الصادر عن المدينة مما اتفق عليه الصحابة أنه قرآن بهذا الاختلاف الثابت فيه. أما قبل ذلك فلم يكن لهم مرجع معين، فكلٌّ ينسب القراءة إلى من قرأ عليه من الصحابة، وهم يقرؤون بالثابت والمتروك لعدم علمهم بتركه.
وبهذا يتضِّح خلاف عمل عثمان عن عمل أبي بكر رضي الله عنهما.
قراءات مقترحة في موضوع: جمع القرآن
• «جمع القرآن في مراحله التاريخية» ، للباحث محمد شرعي أبو زيد، وهو موجود على الشبكة العنكبوتية قسم المكتبة الإلكترونية من شبكة التفسير والدراسات القرآنية (tafsir.ne) وغيرها من المواقع.
• وفي شبكة التفسير مجموعة من البحوث المتعلقة بجمع القرآن، وهي من البحوث التي أقامها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة النبوية تحت عنوان (عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن وعلومه).
• وهذا الموضوع ـ مع ما كُتِب فيه ـ لا زال بحاجة إلى بحث وتحرير يعتمد على النصوص، ويحلل ما فيها من المعلومات، دون النظر العقلي الظني الذي صار في بعض قضايا هذا الموضوع بدرجة الأمور المسلمات التي يُظنُّ صحتها، أو عدم وجود اختلاف فيها.
بحوث مقترحة في موضوع: جمع القرآن
1 -
موقف ابن مسعود رضي الله عنه من (جمع المصحف)، وموقفه من (سورة الفلق والناس) في كونهما من القرآن، وهل يؤثر موقف ابن مسعود ـ لو لم يرجع عنه ـ في جمع القرآن بعد اتفاق الصحابة عليه؟
2 -
كيفية الرد على من أراد الاستفادة من موقف ابن مسعود في الانتقاص من جمع القرآن وتدوينه، وما ظهر من زعمهم الباطل بنقص القرآن.
3 -
تحرير عمل عثمان في المصاحف، وما حصل من حرق
المصاحف، وكيفية بقاء بعض القراءات المنسوبة للصحابة بعد هذا الحرق، وأثر هذه القراءات المنسوبة لهم علميّاً.
• ومن البحوث التي تتعلق بحفظه في الصدور:
1 -
جمع الآيات المتعلقة بقراءته وحفظه، ودراستها دراسة تحليلية.
2 -
دراسة حال الصحابة المعتنين بالقراءة (قراء الصحابة)، ومعرفة سيرهم المتعلقة بقراءة القرآن وحفظه؛ كالصحابة الذين كانوا في (سَرِيَّة القُرَّاء) وغيرهم من الصحابة المعتنين بالقرآن.
3 -
جمع الأحاديث المتعلقة بقراءة القرآن وحفظه، ودراستها دراسة تحليلية، واستنباط ما فيها من الفوائد.