الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
صيغ عبارات أسباب النُّزول
الأصل في أسباب النُّزول الصريحة أنها نقلية من جهتين: الصيغة التي يُحكى بها سبب النُّزول، والحدث الذي يُذكر في سبب النُّزول، فكما لا يصح افتعال حدث يقال فيه: إنه سبب نزول، كذلك لا يصلح ذكر صيغة لم ترد في المنقول عن الصحابة أو التابعين وأتباعهم.
وقد وقع عند بعض المعاصرين خطأ في حكاية الصيغة، حيث قال:«تختلف عبارات القوم في التعبير عن سبب النُّزول، فتارة يُصرح بلفظ السبب، فيقال: (سبب نزول الآية كذا)، وهذه العبارة نص في السببية لا تحتمل غيرها» (1).
وهذا الذي قاله لا يكاد يوجد في أثر من آثار أسباب النُّزول المنقولة عن الصحابة والتابعين وأتباعهم، وإنما ذلك توهُّمٌ من قائله، وظنٌّ بوجوده، وليس الأمر كذلك.
وأشهر الصيغ في أسباب النُّزول هي العبارة التي تأتي بعد فاء السببية (فنَزلت، أو فأنزل)، وعبارة (نزلت في كذا، أُنزلت في كذا).
ورود كلمة النُّزول قرينة قوية في إرادة ذكر سبب النُّزول، وليست أصلاً يُحكم به على أن ورودها في الأثر يدل على أنه هو سبب النُّزول المباشر، إذ قد يكون هناك ما يدلُّ على أنه ليس المراد بها سبب النُّزول المباشر.
(1) مناهل العرفان (1:114).
أولاً: عبارة (فأنزل الله، فنَزلت):
عبارة (فأنزل الله، فنَزلت) أَدْخَلُ في السببية من عبارة (نزلت في كذا، أُنزلت في كذا)؛ إذ غالب ما يرد بهذه الصيغة يدخل في سبب النُّزول المباشر بخلاف عبارة (نزلت في كذا، أُنزلت في كذا).
ومن قرأ في آثار السلف ظهر له أنهم قد يتوسعون في إطلاق عبارات النُّزول، ولا يريدون بها بيان سبب النُّزول، وإنما يريدون معنى لآخر؛ كالتفسير وغيره، ومن أمثلة ذلك ما رواه الطبري في قوله تعالى:{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58]، فعن أبي الكنود عن عبد الله:«{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} قالوا: حنطة حمراء فيها شعيرة فأنزل الله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}» . فقوله: «فأنزل الله» لا يعني سبب النُّزول كما هو ظاهر من الأثر؛ لأنه لا يصحُّ حمل هذه العبارة على إرادة سبب النُّزول المباشر، والله أعلم.
ومن أمثلة ما ورد من هذه العبارة، وأريد به سبب النُّزول المباشر ما رواه البخاري في أمر تحويل القبلة عن البراء بن عازب رضي الله عنه:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَلَ البيت، وأنه صلى أو صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه، فمر على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مكة، فَدَاروا كما هم قبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تُحَوَّلَ قِبَلَ البيت رجالٌ قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنْ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]» (1).
ثانياً: عبارة (نزلت في كذا، أُنزلت في كذا):
يكثر في هذه العبارة إرادة التفسير، وما يأتي منها لبيان سبب النُّزول المباشر قليل بالنسبة للعبارة الأولى.
(1) صحيح البخاري برقم (41)؛ وأخرجه أيضاً مسلم برقم (525) مختصراً.
وقد وقع خلاف بين العلماء في ورود هذه العبارة عن الصحابي؛ هل تُعدُّ من أسباب النُّزول، أو من قبيل التفسير؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت728هـ): «وقد تنازع العلماء في قول الصاحب: نزلت هذه الآية في كذا؛ هل يجري مجرى المسند؛ كما يذكر السبب الذي أنزلت لأجله، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند؟ فالبخاري يدخله في المسند، وغيره لا يدخله في المسند، وأكثر المساند على هذا الاصطلاح؛ كمسند أحمد وغيره، بخلاف ما إذا ذكر سبباً نزلت عقبه، فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند» (1).
ومعنى هذا أن اختلافهم في عبارة (نزلت في كذا) دون عبارة (فنَزلت، فأنزل الله)، فهم يجعلون عبارة (فنَزلت، فأنزل الله) من قبيل المرفوع؛ لأنَّ سبب النُّزول يحكي حدثاً وقع في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لذا فهو من هذا القبيل.
أما عبارة (نزلت في كذا)، فبعضهم يجعلها من قبيل المرفوع؛ كالبخاري (2)، وبعضهم يجعلها من قبيل التفسير؛ لكثرة ما ترد هذه العبارة عنهم، وهم يريدون بها أن ما يذكرونه يدخل في معنى الآية وحكمها، والله أعلم.
ومن أمثلة ما يرد من هذه العبارة في سبب النُّزول المباشر:
1 -
ما رواه البخاري بسنده عن هشام بن عروة، قال: قال عروة: «كان الناس يطوفون في الجاهلية عراة إلا الحُمْس ـ والحمس قريش وما ولدت ـ وكانت الحمس يحتسبون على الناس يعطي الرجل الرجل الثياب يطوف فيها
(1) مجموع الفتاوى (13:340).
(2)
الذي يدل على ذلك أنه يروي عن الصحابة موقوفات كثيرة في التفسير، لكن ما يرويه عنهم بهذه الصيغة يسنده، مما يدل على أنه داخل في المرفوع عنده، وأنه على شرطه، ومن ذلك ما رواه في تفسير سورة الأنفال، قال:«حدثني محمد بن عبد الرحيم حدثنا سعيد بن سليمان أخبرنا هشيم أخبرنا أبو بشر عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: سورة الأنفال قال: نزلت في بدر» .
وتعطي المرأة المرأة الثياب تطوف فيها فمن لم يعطه الحمس طاف بالبيت عرياناً وكان يفيض جماعة الناس من عرفات ويفيض الحمس من جمع.
قال: وأخبرني أبي عن عائشة رضي الله عنها أن هذه الآية نزلت في الحمس: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199].
قال كانوا يفيضون من جمع فدفعوا إلى عرفات» (1).
2 -
وفي قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَاسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] روى البخاري بسنده عن عبد الله بن معقل قال: «جلست إلى كعب بن عجرة رضي الله عنه فسألته عن الفدية، فقال: نزلت فيَّ خاصة، وهي لكم عامة؛ حُمِلْتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: «ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى، أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى؛ تجد شاة؟» .
فقلت: لا.
فقال: «فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع» (2).
ومن أمثلة ما يرد من هذه العبارة من التفسير:
1 -
ما روى مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، قال:«نزلت في عذاب القبر» (3).
2 -
وروى مسلم: في قوله عز وجل: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128] عن عائشة قالت: «نزلت في المرأة تكون عند الرجل، فَلَعَلَّهُ أن لا يستكثر منها، وتكون لها صحبة وولد، فتكره أن يفارقها، فتقول له: أنت في حل من شأني» (4).
(1) صحيح البخاري برقم (1665).
(2)
صحيح البخاري برقم (1816).
(3)
صحيح مسلم برقم (2871)؛ وأخرجه أيضاً البخاري برقم (1369).
(4)
صحيح مسلم برقم (3021).