الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
فوائد أسباب النُّزول
1 -
معرفة المعنى المراد بالآية:
إن سبب النُّزول يعين على معرفة المراد وتعيينه، إذ قد ترد عليه احتمالات صحيحة من حيث هي، لكن سبب النُّزول يحدد أحد هذه المعاني، ويكون هو المراد دون غيره.
وقد نقل السيوطي بعض أقوال العلماء في أهمية أسباب النُّزول، منها: «قال ابن دقيق العيد: بيان سبب النُّزول طريق قوي في فهم معاني القرآن.
وقال ابن تيمية: معرفة سبب النُّزول يعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب».
وقد أفاض الشاطبي في هذا المعنى (1)، فقال: «وجاء رجل إلى ابن
(1) للشاطبي كلام طويل ونفيس في هذا الباب يحسن مراجعته، ومما قاله فيه: «معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل على ذلك أمران:
أحدهما: أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن ـ فضلاً عن معرفة مقاصد كلام العرب ـ إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب أو المخاطِب أو المخاطَب أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالَين، وبحسب مخاطَبين، وبحسب غير ذلك؛ كالاستفهام لفظه واحد ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك، وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها، ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة، وعمدتها مقتضيات الأحوال، وليس كل حال يُنقل، ولا كل قرينة تَقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بُدِّ، =
مسعود فقال: تركت في المسجد رجلاً يفسر القرآن برأيه؛ يفسر هذه الآية: {يَوْمَ تَاتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] قال: يأتي الناس يوم القيامة دخان فيأخذ بأنفاسهم حتى يأخذهم منه كهيئة الزكام.
فقال ابن مسعود: من علم علماً فليقل به، ومن لم يعلم، فليقل: الله أعلم، فإن من فِقْهِ الرجل أن يقول لما لا علم له به: الله أعلم.
إنما كان هذا لأن قريشاً استعصوا على النبي صلى الله عليه وسلم، دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَاتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] الآية إلى آخر القصة (1).
وهذا شأن أسباب النُّزول في التعريف بمعاني المنَزل بحيث لو فُقِدَ ذكر السبب لم يعرف من المنَزل معناه على الخصوص دون تطرق الاحتمالات وتوجه الإشكالات وقد قال صلى الله عليه وسلم: «خذوا القرآن من أربعة» وذكر منهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (2).
وقد قال في خطبة خطبها: «والله لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إني من أعلمهم بكتاب الله» (3).
وقال في حديث آخر: «والذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن أنزلت ولو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل
= ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال وينشأ عن هذا الوجه:
الوجه الثاني: وهو أن الجهل بأسباب التنْزيل مُوقِعٌ في الشبه والإشكالات، ومُورِدٌ للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف وذلك مظنة وقوع النِّزاع
…
» الموافقات، للشاطبي تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان (4:146 - 153)، وقد ذكر أمثلة مما وقع فيه الإشكال بسبب عدم معرفة سبب النُّزول.
(1)
أخرجه البخاري برقم (4774)؛ ومسلم برقم (2798) واللفظ له.
(2)
أخرجه البخاري برقم (3808)؛ ومسلم برقم (2464) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه البخاري برقم (5000).
لركبت إليه» (1).
وهذا يشير إلى أن علم الأسباب من العلوم التي يكون العالم بها عالماً بالقرآن.
وعن الحسن أنه قال: «ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يُعلم فيم أنزلت وما أراد بها» .
وهو نصٌّ في الموضوع مشيرٌ إلى التحريض على تعلم علم الأسباب.
وعن ابن سيرين قال: سألت عَبِيدة عن شيء من القرآن فقال: «اتق الله وعليك بالسداد؛ فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن.
وعلى الجملة، فهو ظاهر بالمزاولة لعلم التفسير» (2).
وهذا الأمر ظاهر لا يحتاج إلى تقرير، لكن أضرب لك مثالاً في ذلك:
ما رواه البخاري بسنده عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء رضي الله عنه يقول: «نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا لم يدخلوا من قِبَلِ أبوابِ بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار، فدخل من قِبَلِ بابه، فكأنه عُيِّرَ بذلك فنزلت: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]» (3).
وكون البيوت في الآية هي البيوت المسكونة مما أجمع عليه السلف، وإن اختلفوا في سبب النُّزول على أقوالٍ، قول البراء هو أصوبها؛ لأنه قول صحابي شاهد التنْزيل، وهو عارف بعادات قومه التي نزل القرآن بشأنها.
وقد ذهب بعض المتأخرين بتفسير هذه الجملة إلى مذاهب عجيبة تخالف سبب النُّزول ولا تتناسب مع سياق الآية، فمنهم من قال: «أي
(1) أخرجه البخاري برقم (5002)؛ ومسلم برقم (2463).
(2)
الموافقات، للشاطبي، تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان (4:152 - 153).
(3)
أخرجه البخاري برقم (1803) واللفظ له، وأخرجه أيضاً مسلم برقم (3026).
اطلبوا البِرَّ منْ أهلِه ووجهِه، ولا تطلبوه عندَ الجهلةِ المشركينَ» (1).
وهذا القول مخالف لسبب النُّزول، وإن كان جائزاً من جهة الاحتمال اللغوي، فالقائل به ربط هذا المقطع بالسؤال عن الأهلة في قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189]، وجعل أن السؤال عن الأهلة إنما هو سؤال عن سبب بدوِّها هلالاً حتى تصير بدراً، وأن الله أرشدهم إلى ما هو أهم من مسألتهم، وهو بيان الفائدة المتعلقة بالشرع بالنسبة للأهلة، وهذا التخريج فيه نظر؛ لأنهم إنما سألوا عن علاقتها بالشرع، فجاء الجواب مطابقاً:{قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} .
وذهب آخر إلى أنَّ البيوتَ كنايةٌ عنِ النِّسَاءِ، ويكونُ المعنى: وأتوا النِّسَاءَ منْ حيثُ أمرَكم اللهُ، والعربُ تُسَمِّي المرأةَ بيتاً، قالَ الشاعرُ (2):
مَا لِي إذَا أنْزِعُهَا صَأيتُ
…
أكِبَرٌ غَيَّرَنِي أمْ بَيتُ
أراد بالبيتِ المرأةَ (3).
وهذا التفسير مخالف للسياق، فالسياق لا علاقة له بكيفية إتيان النساء، ولو حُمِلت الآية عليه لكان في النظم تفكُّكاً ملحوظاً ينبو عنه نظم القرآن المعجز، إذ يكون المعنى:«يسألونك عن فائدة الأهلة لهم، قل هي مواقيت يوقتون بها عِدَدَهم من بلوغ الدين والإجارة وغيرها، ومواقيت للحج الذي هو من أركان الإسلام، وليس البر بأن تأتوا النساء من أدبارهن، ولكن البر من اتقى وأتاهن من قُبُلِهن» .
(1) مجاز القرآن (1:68).
(2)
الرجز بلا نسبة في عِدَّة مراجع: جمهرة اللغة (241، 257)؛ وديوان الأدب، للفارابي (3:298)، وغيرها. وهو يصف دلواً إذا نزعها صأى؛ أي: سمع لنفسه صوتاً.
(3)
أمالي الشريف المرتضى (1:378) وهو يُكثر من المحتملات الضعيفة، لغوية أو غيرها.
وهذا التفسير فيه تفكيك للنظم لا يحتاج الأمر فيه إلى خبير، والله المستعان.
وكل هذا إنما أوقع فيه الجهل بسبب النُّزول الذي حدَّد المراد بالبيوت، ولم يدع للاحتمال مجالاً، والله أعلم.
2 -
معرفة حكمة التشريع، ومسايرته للحوادث الواقعة:
إن من فوائد نزول القرآن منجماً أنه يساير الحوادث التي كانت تحدث للأمة الإسلامية إبَّان نشوئها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأي حدث يحدث، ويحتاج المسلمون فيه إلى بيان فإنه يحصل لهم بيانه بطرق متعددة، منها نزول القرآن الكريم.
وإذا تأملت بعض التشريعات وجدتها نزلت على أسبابٍ؛ اللعان، والظهار، والعضلِ، وتقسيم الغنائم، وغيرها من التشريعات. ومعرفة هذه الأسباب المقترنة بالآيات يدلُّك على شيء من حكمة التشريع، ورحمة الله بعباده بأن لم يتركهم هملاً بلا شرع يضبط أمورهم.
3 -
الاستفادة منها في مجال التزكية والتربية والتعليم:
إن إدراك أسباب النُّزول تعطي المربي فرصة كبيرة في التعامل مع الناس على ما هم عليه من الواقع الذي يعيشونه، ومن الأخلاق التي جبلهم الله عليها، وترشده إلى كيفية إثارتهم إلى القضية التي يريد أن يتحدث عنها ببيان كيفية عناية الله بمن نزل فيهم قرآن من المؤمنين، وكيف عالج ما فيهم من الأدواء، وكيف فضح أعداءهم وأبان لهم صنائعهم ومنكراتهم.
وهذا وإن لم يكن يختص بالآيات الواردة على سبب وحدها، إلا أن نزولها على سبب يزيد في قوتها من هذه الجهة، والله أعلم.
• * *