المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أخبار أبي بكر الصديق وخلافته - المختصر في أخبار البشر - جـ ١

[أبو الفداء]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الأولعمود التواريخ القديمة

- ‌وذكر الأنبياء على الترتيب

- ‌ذكر نوح وولده

- ‌ذكر هود وصالح

- ‌ذكر إبراهيم الخليلصلوات الله عليه

- ‌ذكر بني إبراهيم

- ‌ذكر لوط‌‌ عليه السلام

- ‌ عليه السلام

- ‌ عليهما السلام

- ‌ذكر إسحاق بن إبراهيم

- ‌ذكر أيوب

- ‌ذكر يوسف

- ‌ عليه السلام

- ‌ذكر شعيب

- ‌ذكر موسى

- ‌ذكر حكام بني إسرائيل ثم ملوكهم

- ‌ذكر يوشع

- ‌أهوذ

- ‌باراق بن أبي نعيم

- ‌كذعون بن يواش

- ‌ أبيمالخ

- ‌يفتح الجرشي

- ‌أبصن

- ‌آلون

- ‌شمشون بنمانوح

- ‌إيثامور بن هارون

- ‌ شمويل النبي

- ‌ داود

- ‌طالوت بن قيش

- ‌عليه السلام أصغر بني أبيه، وكان يرعى غنم أبيه وأخوته، فطلبه طالوت

- ‌ سليمان

- ‌رحبعم

- ‌ يربعم

- ‌أفيا

- ‌أسا

- ‌يهوشافاط

- ‌يهورام

- ‌‌‌أحزياهو

- ‌أحز

- ‌عثليا هو

- ‌عثليا هو يؤاش

- ‌أمصيا

- ‌عزياهو

- ‌ يوثم

- ‌حزقيا

- ‌سنحاريب

- ‌أسرحدون

- ‌منشاثم ملك بعده ابنه

- ‌يهوياحوز

- ‌يهوياقيم

- ‌ بخت نصر

- ‌ صدقيا

- ‌ذكر يونس بن متى‌‌عليه السلام

- ‌عليه السلام

- ‌ذكر إرميا

- ‌ذكر نفل التوراة

- ‌ذكر زكريا وابنه يحيىعليهما السلام

- ‌ عليه السلام

- ‌ذكر عيسى بن مريم

- ‌ ذكر خراب بيت المقدسالخراب الثاني

- ‌الفصل الثانيذكر ملوك الفرس

- ‌طبقة أولى

- ‌ذكر الطبقة الثانية

- ‌الإسكندر بن فيلبس

- ‌ ملوك الطوائف

- ‌ذكر الطبقة الثالثة

- ‌ذكر الطبقة الرابعة

- ‌الفصل الثالثذكر فراعنة مصر واليونان والروم

- ‌الفراعنة

- ‌ذكر ملوك اليونان

- ‌ذكر ملوك الروم

- ‌الفصل الرابعملوك العرب قبل الإسلام

- ‌ملوك اليمن

- ‌ملوك العرب الذين كانوا في غير اليمن

- ‌ابتداء ملك اللخميين ملوك الحيرة

- ‌ ملوك غسان

- ‌ملوك جرهم

- ‌ملوك كندة

- ‌عدة من ملوك العرب

- ‌الفصل الخامسذكر الأمم

- ‌أمة السريان والصابئينمن كتاب أبي عيسى المغربي

- ‌أمة القبط وهم من ولد حام بن نوح

- ‌أمّة الفرسومساكنهم وسط المعمور

- ‌أمة اليونان

- ‌أمة اليهود

- ‌أمة النصارىوهم أمة المسيح

- ‌عليه السلام

- ‌الأمم التي دخلت في دين النصارى

- ‌أمم الهند

- ‌أمة السند

- ‌أمم السودانوهم من ولد حام

- ‌أمم الصين

- ‌بني كنعان

- ‌ البربر

- ‌أمة عاد

- ‌العمالقة

- ‌أمم العرب وأحوالهم قبل الإسلام

- ‌أحياء العرب وقبائلهم

- ‌ العرب العاربة

- ‌ما نقل من أخبار العرب البائدة

- ‌ رسول الله

- ‌ مولده

- ‌الفصل السادسالتاريخ الإسلامي

- ‌صلى الله عليه وسلم وذكر شيء من شرف بيته الطاهر

- ‌‌‌ صلى الله عليه وسلم

- ‌ صلى الله عليه وسلم

- ‌نسب رسول الله

- ‌رضاع رسول الله

- ‌رضاعه من حليمة السعدية

- ‌سفرة رسول الله‌‌صلى الله عليه وسلم

- ‌صلى الله عليه وسلم

- ‌تجديد قريش عمارة الكعبة

- ‌مبعث رسول الله

- ‌أول من أسلم من الناس

- ‌رضي الله عنه

- ‌الهجرة الأولىوهي هجرة المسلمين إِلى أرض الحبشة

- ‌نقض الصحيفة

- ‌الإسراء

- ‌ رضي الله عنها

- ‌وفاة أبي طالب

- ‌وفاة خديجة

- ‌سفره إلى الطائف

- ‌عرض رسول الله نفسه على القبائل

- ‌ابتداء أمر الأنصاررضي الله عنهم

- ‌الهجرة النبويةعلى صاحبها أفضل الصلاة والسلام

- ‌تزويج النبي بعائشةصلى الله عليه وسلم بعائشة بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما

- ‌المؤاخاة بين المسلمين

- ‌غزوة بدر الكبرى

- ‌غزوة بني قينقاع من اليهود

- ‌غزوة قرترة الكدر

- ‌غزوة أحد

- ‌غزوة بني النضير من اليهود

- ‌غزوة ذات الرقاع

- ‌غزوة بدر الثانية

- ‌غزوة الخندقوهي غزوة الأحزاب

- ‌غزوة بني قريظة

- ‌غزوة ذي قرد

- ‌غزوة بني المصطلق

- ‌عمرة الحديبية

- ‌صلى الله عليه وسلم وقريش

- ‌غزوة خيبر

- ‌رسل النبي إلى الملوكصلى الله عليه وسلم إِلى الملوك

- ‌عمرة القضاء

- ‌إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص

- ‌نقض الصلح وفتح مكة

- ‌غزوة خالد بن الوليد على بني خزيمة

- ‌غزوة حنين

- ‌حصار الطائف

- ‌غزوة تبوك

- ‌حج أبي بكر الصديقرضي الله عنه بالناس

- ‌ صلى الله عليه وسلم

- ‌إرسال علي بن أبي طالب إِلى اليمن

- ‌ حجة الوداع

- ‌وفاة رسول الله

- ‌ صلى الله عليه وسلم

- ‌ رضي الله عنه

- ‌خبر الأسود العنسي

- ‌أخبار أبي بكر الصديق وخلافته

- ‌وفاة أبي بكررضي الله عنه

- ‌خلافة عمر بن الخطاببن نفيل بن عبد العزى رضي الله عنه

- ‌مقتل عمررضي الله عنه

- ‌ رضي الله عنه

- ‌خلافة عثمان

- ‌مهلك يزد جرد بن شهريار بن برويز

- ‌ رضي الله عنه

- ‌أخبار علي بن أبي طالب

- ‌مسير عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة

- ‌مسيرة علي إلى البصرة

- ‌وقعة الجمل

- ‌وقعة صفين

- ‌ رضي الله عنه

- ‌مقتل علي بن أبي طالبرضي الله عنه

- ‌صفته

- ‌شيء من فضائله

- ‌تسليم الحسن الأمر إِلى معاوية

- ‌خلفاء بني أمية

- ‌أخبار معاوية بن أبي سفيان

- ‌أخبار يزيدابنه وهو ثاني خلفائهم، وأم يزيد ميسون بنت بحدل الكليبة، بويع بالخلافة

- ‌ بن معاوية

- ‌بحوارين من عمل حمص

- ‌أخبار معاوية بن يزيد

- ‌أخبار مروان بن الحكموهو رابع خلفائهم، وقام مروان بالشام في أيام ابن الزبير، واجتمعت إِليه

- ‌أخبار عبد الملك

- ‌ولاية الوليد بن عبد الملك

- ‌ بن مروان

- ‌أخبار سليمان بن عبد الملك

- ‌أخبار عمر بن عبد العزيز‌‌بن مروان بن الحكم بن أبي العاص

- ‌بن مروان بن الحكم بن أبي العاص

- ‌ رضي الله عنه

- ‌أخبار يزيد بن عبد الملك

- ‌أخبار هشام بن عبد الملك

- ‌أخبار الوليد بن يزيد‌‌‌‌بن عبد الملك

- ‌‌‌بن عبد الملك

- ‌بن عبد الملك

- ‌أخبار يزيد بن الوليد

- ‌ بن مروان بن الحكم

- ‌بيعة مروان بن محمد

- ‌خلفاء بني العباسأبو العباس السفاح

- ‌وأخباره إلى أن قتل

- ‌خلافة المنصور

الفصل: ‌أخبار أبي بكر الصديق وخلافته

‌الفصل الأول

عمود التواريخ القديمة

‌وذكر الأنبياء على الترتيب

ذكر آدم وبنيه إلى نوح من الكامل لابن الأثير، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأسود والأبيض وبين ذلك، ومنهم السهل والحزن وبين ذلك، وإنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، وخلق الله تعالى جسد آدم، وتركه أربعين ليلة، وقيل: أربعين سنة ملقى بغير روح، وقال الله تعالى للملائكة:" إذا نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين "" الحجر: 29 " فلما نفخ الروح، فسجد له الملائكة كلهم أجمعون " إلا إبليس أبى واستكبر، وكان من الكافرين "" البقرة: 34 " ولم يسجد كبراً وبغياً وحسداً، فأوقع الله تعالى على إبليس اللعنة والاياس من رحمته، وجعله شيطاناً رجيماً، وأخرجه من الجنة بعد أن كان ملكاً على سماء الدنيا والأرض، وخازناً من خزان الجنة، وأسكن الله تعالى آدم الجنة، ثم خلق الله تعالى من ضلع آدم حواء زوجته، وسميت حواء لأنها خلقت من شيء حي. فقال الله تعالى له:" يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا منها رغداً حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين "" البقرة: 35 " ثم إن إبليس أراد دخول الجنة ليوسوس لآدم، فمنعته الخزنة، فعرض نفسه على الدواب أن تحمله حتى يدخل الجنة ليكلم آدم وزوجه، فكل الدواب أبى ذلك غير الحية، فإنها أدخلته الجنة بين نابيها، وكانت الحية إذ ذلك على غير شكلها الآن، فلما دخل إبليس الجنة وسوس لآدم وزوجه، وحسن عندهما الأكل من الشجرة التي نهاهما الله عنها، وهي الحنطة، وقرر عندهما أنهما إن أكلا منها خلدا، ولم يموتا، فأكلا منها، فبدت لهما سوءاتهما، فقال الله تعالى " اهبطوا بعضكم لبعض عدو " " الأعراف: 24 " آدم وإبليس والحية، وأهبطهم الله من الجنة إلى الأرض، وسلب آدم وحواء كل ما كان فيه من النعمة والكرامة.

ولما هبط آدم إلى الأرض، كان له ولدان: هابيل وقابيل. ويسمى قابيل قاين أيضاً، فقرب كل من هابيل وقابيل قرباناً، وكان قربان هابيل خيراً من قربان قابيل، فتقبل قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل، فحسده على ذلك، وقتل قابيل هابيل، وقيل بل كان لقابيل أخت توءمة، وكانت أحسن من توءمة هابيل، وأراد آدم أن يزوج توءمة قابيل بهابيل، وتوءمة هابيل بقابيل، فلم يطلب لقابيل ذلك، فقتل أخاه هابيل، وأخذ هابيل، توءمته، وهرب بها.

ص: 8

وبعد قتل هابيل ولد لآدم شيث، وكانت ولادة شيث لمضي مائتين وثلاثين سنة من عمر آدم، وهو وصي آدم، وتفسير شيث: هبة الله، وإلى شيث تنتهي أنساب بني آدم كلهم. ولما صار لشيث من العمر مائتان وخمس سنين، ولد له أنوش، وكانت ولادة أنوش لمضي أربعمائة وخمس وثلاثين سنة من عمر آدم، وتقول الصابية: إنه ولد لشيث ابن آخر اسمه صابي بن شيث، وإليه تنسب الصابية، ولما صار لأنوش من العمر مائة وتسعون سنة، ولد له قينان، وذلك لمضي ستمائة وخمس وعشرين سنة من عمر آدم، ولما صار لقينان مائة وسبعون سنة، ولد له مهلائيل، وذلك لمضي سبع مائة وخمس وتسعين سنة من عمر آدم، ولما مضى من عمر مهلائيل مائة وخمسون وثلاثون سنة، توفي آدم، وذلك لمضي تسع مائة وثلاثين سنة من عمر آدم، وهو جملة عمر آدم.

قال ابن سعيد ونقله عن ابن الجوزي: إن آدم عند موته كان قد بلغ غدة ولده وولد ولده أربعين ألفاً.

ولما صار لمهلائيل من العمر مائة وخمسون وستون سنة ولد له يرد - بالدال المهملة والذال المعجمة أيضاً - ولما صار ليرد مائة واثنتان وستون سنة، ولد له حنوخ بحاء مهملة ونون وواو وخاء معجمة.

ولمضي عشرين سنة من عمر حنوخ، توفي شيث وعمره تسع مائة واثنتا عشرة سنة، وكانت وفاة شيث لمضي سنة ألف ومائة واثنتين وأربعين لهبوط آدم.

واسم شيث عند الصابية عاديمون.

ولما صار لحنوخ مائة وخمس وستون سنة من العمر، ولد له متوشلح - بتاء مثناة من فوقها، وقيل بثاء مثلثة وآخره حاء مهملة - ولما مضى من عمر متوشلح ثلاث وخمسون سنة توفي أنوش بن شيث، وكان عمر أنوش لما توفي تسعمائة وخمسين سنة.

ولما صار لمتوشلح من العمر مائة وسبع وستون سنة، ولد له لامخ، ويقال له لامك ولمك أيضاً.

ولما مضى إحدى وستون سنة من عمر لامخ، توفي قينان بن أنوش، وعمره تسع مائة وعشر سنين.

ولما صار للامخ من العمر مائة وثمان وثمانون سنة ولد له نوح، وكانت ولادة نوح بعد أن مضى ألف وستمائة واثنتان وأربعون سنة من هبوط آدم.

ولما مضى من عمر نوح أربع وثلاثون سنة توفي مهلائيل بن قينان، وكان عمر مهلائيل لما توفي ثمانمائة، وخمساً وتسعين سنة.

ولما مضى من عمر نوح مائتان وست وستون سنة توفي يرد بن مهلائيل، وكان عمر يرد لما توفي تسعمائة واثنتين وستين سنة.

وأما حنوخ، وهو إدريس، فإنه رفع لما صار له من العمر ثلاثمائة وخمس وستون سنة، رفعه الله إلى السماء، فكان ذلك لمضي ثلاث عشرة سنة من عمر لامخ، قبل ولادة نوح بمائة وخمس وسبعين سنة، ونبأ الله إدريس المذكور، وانكشفت له الأسرار السماوية، وله صحف، منها: لا تروموا أن تحيطوا بالله خيرة، فإنه أعظم وأعلى أن تدركه فطن المخلوقين إلا من آثاره.

وأما متوشلح بن حنوخ فإنه توفي لمضي ستمائة سنة من عمر نوح، وذلك عند ابتداء مجيء الطوفان.

وكان عمر متوشلح

ص: 9

لما توفي، تسعمائة وتسعاً وستين سنة، ولما صار لنوح خمسمائة سنة من العمر، ولد له: سام وحام ويافث.

ولما مضى من عمر نوح ستمائة سنة كان الطوفان، وذلك لمضي ألفين ومائتين واثنتين وأربعين سنة من هبوط آدم.

‌ذكر نوح وولده

من الكامل لابن الأثير، أن الله تعالى أرسل نوحاً إلى قومه، وقد اختلف في ديانتهم، وأصح ذلك ما نطق به الكتاب العزيز، بأنهم كانوا أهل أوثان. قال الله تعالى:" وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً وقد أضلوا كثيراً "" نوح: 23 - 24 " وصار نوح يدعوهم إلى طاعة الله تعالى، وهم لا يلتفتون. وكان قوم نوح يخنقون نوحاً حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

وبقي لا يأتي قرن منهم إلا كان أخبث من الذي قبله، وكانوا يضربونه حتى يظنوا أنه قد مات، فإذا أفاق نوح اغتسل، وأقبل إليهم يدعوهم إلى الله تعالى.

فلما طال ذلك عليه، شكاهم إلى الله تعالى، فأوحى الله إليه " إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " " هود: 36 " فلما يئس نوح منهم دعا عليهم فقال: " رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً " " نوح: 26 " فأوحى الله إلى نوح أن يصنع السفينة، فصار قومه يسخرون منه ويقولون: يا نوح قد صرت نجاراً بعد النبوة. وصنع السفينة من خشب الساج، فلما فار التنور - وكان هو الآية بين نوح وبين ربه - حمل نوح من أمره الله بحمله، وكان منهم أولاد نوح الثلاثة وهم: سام وحام ويافث، ونساؤهم، وقيل: حمل أيضاً ستة أناسي، وقيل ثمانين رجلاً، أحدهم جرهم، كلهم من بني شيث.

ثم أدخل ما أمره الله تعالى من الدواب، وتخلف عن نوح ابنه يام - وكان كافراً - وارتفع الماء وطمى، وجعلت الفلك تجري بهم في موج كالجبال، وعلا الماء على رؤوس الجبال خمسة عشر ذراعاً، فهلك ما على وجه الأرض من حيوان ونبات، وكان بين أن أرسل الله الماء وبين أن غاض ستة أشهر وعشر ليال، وقيل إن ركوب نوح في السفينة كان لعشر ليال مضت من رجب، وكان ذلك أيضاً لعشر ليال خلت من آب، وخرج من السفينة يوم عاشوراء من المحرم، وكان استقرار السفينة على الجودي من أرض الموصل.

قال ابن الأثير: وأما المجوس فلا يعرفون الطوفان، وكان بعضهم يقر بالطوفان، ويزعم أنه كان في إقليم بابل وما قرب منه، وأن مساكن ولدخيومرث، كانت بالمشرق، فلم يصل ذلك إليهم، وكذلك جميع الأمم المشرقية من الهند والفرس والصين لا يعترفون بالطوفان، وبعض الفرس يعترف به ويقول: لم يكن عاماً، ولم يتعد عقبة حلوان.

والصحيح أن جميع أهل الأرض هم، من ولد نوح، لقوله تعالى:" وجعلنا ذريته هم الباقين "" الصافات: 77 " فجميع الناس من ولد سام وحام ويافث أولاد نوح فسام أبو العرب وفارس والروم. وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج، والفرنج والقبط من ولد نوح ابن حام،

ص: 10

وولد لحام أيضاً مازيغ، وولد لمازيغ كنعان، وبنو كنعان كانوا أصحاب الشام حتى غزتهم بنو إسرائيل، كذا نقل ابن سعيد.

وقد نقل ابن الأثير أن بني كنعان هم، من ولد سام، والله أعلم، وولد لسام عدة أولاد، منهم: لاوذ بن سام، وولد للاوذ فارس وجرجان وطسم وعمليق الذي هو أبو العماليق، ومنهم كانت الجبابرة بالشام، والفراعنة بمصر، وسكنت بنو طسم اليمامة إلى البحرين.

ومن ولد سام أيضاً أرم بن سام، وولد لأرم عدة أولاد، فمنهم غاز بن أرم. فمن ولد غاز ثمود وجديس.

وولد أيضاً لأرم عوض، ومن عوض عاد، وكان كلام ولد أرم العربية.

وسكنت بنو عاد الرمل إلى حضرموت، وسكنت ثمود الحجر بين الحجاز والشام، ولنرجع إلى ذكر من هو على عمود النسب من نوح إلى إبراهيم، فنقول: وولد لنوح سام وحام ويافث لمضي خمسمائة سنة من عمر نوح، وكان الطوفان لستمائة سنة من عمر نوح.

وولد لسام أرفخشذ، بعد أن مضى مائة وسنتان من عمر سام، وذلك بعد الطوفان بسنتين.

ولما صار لأرفخشذ من العمر مائة وخمس وثلاثون سنة. ولد له قينان، فولادة قينان تكون لمضي مائة وسبع وثلاثين سنة للطوفان.

ولما صار لقينان مائة وتسع وثلاثون سنة، ولد له شالح، فتكون ولادة شالح لمضي مائتين وست وسبعين سنة من الطوفان.

ولما مضت سنة ثلاثمائة وخمسين للطوفان، توفي نوح عليه السلام، وعمره تسعمائة وخمسون سنة، فتكون وفاة نوح لمضي أربع وسبعين سنة من عمر شالح. ثم ولد لشالح عابر، لما صار لشالح من العمر مائة وثلاثون سنة، وذلك لمضي أربع مائة وست سنين للطوفان.

ثم ولد لعابر فالغ لما صار لعابر مائة وأربع وثلاثون سنة، وذلك لمضي خمسمائة وأربعين سنة للطوفان. ثم ولد لفالغ رعو، ولفالغ مائة وثلاثون سنة، وعند مولد رعو تبلبلت الألسن وقسمت الأرض، وتفرقت بنو نوح، وذلك لمضي ستمائة وسبعين سنة للطوفان.

ولما صار لرعو مائة واثنتان وثلاثون سنة ولد له ساروع - واسمه في التوراة سرور - وذلك بعد أن مضى ثمانمائة وسنتان للطوفان.

ولما صار لساروع مائة وثلاثون سنة ولد له ناحور، وذلك لمضي سنة ثلاثين وتسعمائة للطوفان، ولما صار لناحور تسع وسبعون سنة ولد له تارح، وذلك لمضي ألف سنة وإحدى عشرة سنة للطوفان.

ولما صار لتارح سبعون سنة ولد له إبراهيم الخليل عليه السلام، وذلك لمضي ألف وإحدى وثمانين سنة للطوفان.

وأما جملة أعمار المذكورين، فعاش سام ستمائة سنة فتكون وفاته بعد وفاة نوح بمائة وخمسين سنة، وعاش أرفخشذ أربعمائة وخمساً وستين سنة، وعاش قينان أربع مائة وثلاثين سنة، وعاش شالح أربعمائة وستين سنة، وعابر أربعمائة وأربعاً وستين سنة، وفالغ ثلاثمائة وتسعاً وثلاثين سنة، ورعو ثلاثمائة وتسعاً وثلاثين سنة، وساروع ثلاثمائة وثلاثين سنة، وناحور مائتين وثمان سنين، وتارح مائتين وخمس سنين.

ص: 11

وأما سبب تبلبل الألسن فقد ذكر أبو عيسي أن بني نوح الذين نشؤوا بعد الطوفان، اجتمعوا على بناء حصن يتحرزون به خوفاً من مجيء الطوفان مرة ثانية، والذي وقع رأيهم عليه أن يبنوا صرحاً شامخاً تبلغ رأسه السماء، فجعلوا له اثنين وسبعين برجاً، وجعلوا على كل برج كبيراً منهم يستحث على العمل، فانتقم الله تعالى منه، وبلبل ألسنتهم إلى لغات شتى.

ولم يوافقهم عابر على ذلك، واستمر على طاعة الله تعالى، فبقاه الله تعالى على اللغة العبرانية، ولم ينقله عنها.

ولما افترقت بنو نوح صار لولد سام العراق وفارس وما يلي ذلك إلى الهند، وصار لوالد حام الجنوب مما يلي مصر على النيل، وكذلك مغرباً إلى منتهى المغرب الأقصى، وصار لولد يافث مما يلي بحر الخزر، وكذلك مشرقاً إلى جهة الصين، وكانت شعوب أولاد نوح الثلاثة عند تبلل الألسن اثنين وسبعين شعباً.

‌ذكر هود وصالح

وهما نبيان أرسلا بعد نوح وقبل إبراهيم الخليل عليه السلام، أما هود فقد قيل أنه عابر بن شالح المذكور.

وأرسل الله هوداً إلى عاد - وكانوا أهل أصنام ثلاثة - وكان عاد وثمود جبارين طوال القامات، كما أخبر الله في التنزيل عنهم، قال الله تعالى " واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة " " الأعراف: 69 " ودعا هود قوم عاد فلم يؤمن منهم إلا القليل، فأهلك الله الذين لم يؤمنوا بريح سبع ليال وثمانية أيام حسوماً - والحسوم الدائم - فلم تدع من عاد أحداً إلا هلك، غير هود والمؤمنين معه، فإنهم اعتزلوا في حظيرة، وبقي هود كذلك حتى مات، وقبره بحضرموت، وقيل بالحجر من مكة.

ويروى أنه كان من قوم عاد شخص اسمه لقمان، وهو غير لقمان الحكيم الذي كان على عهد داود النبي عليه السلام، وكان قد حصل لعاد - قبل أن يهلكهم الله - الجدب، فأرسلوا جماعة منهم إلى مكة يستسقون لهم، وكان من جملة الجماعة المذكورين لقمان المذكور.

فلما هلكت عاد كما ذكرنا بقي لقمان بالحرم، فقال له الله تعالى: اختر ولا سبيل إلى الخلود، فقال: يا رب، أعطني عمر سبعة أنسر، فكان يأخذ الفرخ الذكر يخرج من بيضته، حتى إذا مات أخذ غيره، وكان يعيش كل نسر ثمانين سنة، وكان اسم النسر السابع لبداً، فلما مات لبد مات لقمان معه، وقد أكثر الناس والعرب في أشعارهم من ذكر هذه الواقعة فلذلك ذكرناها.

وأما صالح، فأرسله الله إلى ثمود، وهو صالح بن عبيد بن أسف بن ماشج ابن عبيد بن خادر بن ثمود، فدعا صالح قوم ثمود إلى التوحيد - وكان مسكن ثمود بالحجر كما تقدم ذكره - فلم يؤمن به إلا قليل مستضعفون، ثم إن كفارهم عاهدوا صالحاً على أنه إن أتى بما يقترحونه عليه آمنوا به، واقترحوا عليه أن يخرج من صخرة معينة ناقة، فسأل صالح الله تعالى في ذلك، فخرج من تلك الصخرة ناقة، وولدت فصيلاً، فلم يؤمنوا، وآخر الحال

ص: 12

أنهم عقروا الناقة فأهلكهم الله تعالى بعد ثلاثة أيام بصيحة من السماء فيها صوت كالصاعقة، فتقطعت قلوبهم، فأصبحوا في ديارهم جاثمين، وسار صالح إلى فلسطين، ثم انتقل إلى الحجاز، يعبد الله إلى أن مات وهو ابن ثمان وخمسين سنة.

‌ذكر إبراهيم الخليل

صلوات الله عليه

وهو إبراهيم بن تارح وهو آزر بن ناحور بن ساروغ بن رعو بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح.

وقد أسقط ذكر قينان بن أرفخشذ من عمود النسب، قيل بسبب أنه كان ساحراً، فأسقطوه من الذكر، قالوا: شالح بن أرفخشذ، بالحقيقة شالح بن قينان بن أرفخشذ، فاعلم ذلك.

وولد إبراهيم بالأهواز وقيل ببابل وهي العراق، وكان آزر أبو إبراهيم يصنع الأصنام ويعطيها إبراهيم ليبيعها، وكان إبراهيم يقول: من يشتري ما يضره ولا ينفعه.

ثم لما أمر الله تعالى إبراهيم أن يدعو قومه إلى التوحيد، دعا أباه فلم يجبه، ودعا قومه، فلما فشا أمره واتصل بنمرود بن كوش وهو ملك تلك البلاد، وكان نمرود عاملاً على سواد العراق، وما اتصل به للضحاك وقيل بل كان النمرود ملكاً مستقلاً برأسه، فأخذ نمرود إبراهيم الخليل، ورماه في نار عظيمة، فكانت النار عليه برداً وسلاماً، وخرج إبراهيم من النار بعد أيام، ثم آمن به رجال من قومه على خوف من نمرود، وآمنت به زوجته سارة وهي ابنة عمه هاران، ثم إن إبراهيم ومن آمن معه وأباه على كفره، فارقوا قومهم، وهاجروا إلى حران، وأقاموا بها مدة.

ثم سار إبراهيم إلى مصر - وصاحبها فرعون، قيل كان اسمه سنان بن علوان، وقيل طوليس - فذكر جمال سارة لفرعون - وهو طوليس المذكور - فأحضر سارة وسأل إبراهيم عنها فقال: هذه أختي، يعني في الإسلام، فهم فرعون المذكور فأيبس الله يديه ورجليه، فلما تخلى عنها أطلقه الله تعالى، ثم هم بها فجرى له كذلك فأطلق سارة وقال: لا ينبغي لهذه أن تخدم نفسها، ووهبها هاجر جارية لها، فأخذتها وجاءت إلى إبراهيم، ثم سار إبراهيم من مصر إلى الشام، وأقام بين الرملة وإيلياء.

وكانت سارة لا تلد، فوهبت إبراهيم هاجر ووقع إبراهيم على هاجر، فولدت له إسماعيل - ومعنى إسماعيل بالعبراني مطيع الله - وكانت ولادة إسماعيل لمضي ست وثمانين سنة من عمر إبراهيم، فحزنت سارة لذلك، فوهبها الله إسحاق وولدته سارة ولها تسعون سنة، ثم غارت سارة من هاجر وابنها إسماعيل وقالت: ابن الأمة لا يرث مع ابني. وطلبت من إبراهيم أن يخرجهما عنها، فأخذ إبراهيم هاجر وابنها إسماعيل وسار بهما إلى الحجاز، وتركهما بمكة، وبقي إسماعيل بها، وتزوج من جرهم امرأة.

وماتت أمه هاجر بمكة وقدم إليه أبوه إبراهيم، وبنيا الكعبة وهي بيت الله الحرام، ثم أمر الله إبراهيم أن يذبح ولده وقد اختلف في الذبح، هل هو إسحاق. أم إسماعيل وفداه الله بكبش.

وكان إبراهيم في آخر أيام بيوراسب المسمى بالضحاك الذي سنذكره

ص: 13

مع ملوك الفرس إن شاء الله تعالى، وفي أول ملك أفريدون، وكان النمرود عاملاً له بما ذكرناه، وكان لإبراهيم أخوان وهما هاران وناحور أولاد آزر.

فهاران أولد لوطاً، وأما ناحور فأولد بتويل وبتويل أولد لابان ولابان أولد ليا وراحيل زوجتي يعقوب.

ومن زعم أن الذبيح إسحاق يقول: كان موضع الذبح بالشام على ميلين من إيلياء - وهي بيت المقدس - ومن يقول إنه إسماعيل يقول إن ذلك كان بمكة، وقد اختلف في الأمور التي ابتلى الله إبراهيم بها، فقيل: هي هجرته عن وطنه، والختان، وذابح ابنه، وقيل غير ذلك.

وفي أيام إبراهيم توفيت زوجته سارة بعد وفاة هاجر وفي ذلك خلاف - وتزوج إبراهيم بعد موت سارة امرأة من الكنعانيين، وولدت من إبراهيم ستة نفر فكان جملة أولاد إبراهيم ثمانية إسماعيل وإسحاق، وستة من الكنعانية على خلاف في ذلك.

‌ذكر بني إبراهيم

الذين على عمود النسب إلى موسى عليه السلام، أما مولد إبراهيم فقد تقدم في ذكر نوح، أن إبراهيم ولد لمضي ألف وإحدى وثمانين سنة من الطوفان.

ولما صار لإبراهيم مائة سنة ولد له إسحاق، ولما صار لإسحاق ستون سنة ولد له يعقوب، ولما صار ليعقوب ست وثمانون سنة ولد له لاوي. ولما صار للاوي ست وأربعون سنة ولد له قاهاث، ولما صار لقاهاث ثلاث وستون سنة ولد له عمران، ولما صار لعمران سبعون سنة ولد له موسى عليه السلام، فيكون ولادة موسى لمضي أربع مائة وخمس وعشرين سنة من مولد إبراهيم، وعاش موسى مائة وعشرين سنة. فيكون ما بين ولادة إبراهيم ووفاة موسى خمسمائة وخمساً وأربعين سنة.

وأما جملة أعمار المذكورين، فإن إبراهيم عاش مائة وخمساً وسبعين سنة، وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة، ويعقوب مائة وسبعاً وأربعين سنة، ولاوي مائة وسبعاً وثلاثين سنة، وعاش قاهاث مائة وسبعاً وعشرين سنة، وعمران مائة وستاً وثلاثين سنة.

ومات إبراهيم ولإسحاق خمس وسبعون سنة، ومات إسحاق وليعقوب مائة وعشرون سنة، ومات يعقوب وللاوي ستون سنة، ومات لاوي ولقاهاث إحدى وثمانون سنة، ومات قاهاث ولعمران أربع وستون سنة، ومات عمران ولموسى ست وستون سنة، بناء على أن جملة عمر عمران مائة وست وثلاثون سنة.

وقد اختلف في معنى الصحف التي أنزلها الله تعالى على إبراهيم، وقد روى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها أمثال، فمنها: أيها المسلط المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم، فإني لا أردها، ولو كانت من كافر، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه. وإبراهيم أول من اختتن،

ص: 14

وأضاف الضيف، ولبس السروايل.

‌ذكر لوط‌

‌ عليه السلام

أما لوط فهو ابن أخي إبراهيم الخليل، وهو لوط بن هاران بن آزر، آزر هو تارح، وباقي النسب قد مر عند ذكر إبراهيم الخليل.

وكان لوط ممن آمن بعمه إبراهيم، وهاجر معه إلى مصر، وعاد إلى الشام.

وأرسل الله تعالى لوطاً إلى أهل سدوم، وكانوا أهل كفر وفاحشة، ودام لوط يدعوهم إلى الله تعالى، وينهاهم فلم يلتفتوا إليه، وكانوا على ما أخبر الله عنهم في قوله تعالى " إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر " " العنكبوت: 28 - 29 ". وكان قطعهم للطريق أنه إذا مر بهم المسافر أمسكوه، وفعلوا فيه اللواط، وكان لوط ينهاهم، ويتوعدهم على الإصرار، فلا يزيدهم وعظه إلا تمادياً.

فلما طال ذلك عليه، سأل الله تعالى النصرة عليهم، فأرسل الله الملائكة لقلب سدوم وقراها الخمس، وكان بسدوم أربعمائة ألف بشري، وأما قراها فهي صبعة، وعمرة. وأدما، وصبويم. وبالع.

وكان الملائكة قد أعلموا إبراهيم الخليل بما أمرهم الله تعالى به من الخسف بقوم لوط، فسأل إبراهيم جبريل فيهم، وقال له: أرأيت إن كان فيهم خمسون من المسلمين؟ فقال جبريل: إن كان فيهم خمسون لا نعذبهم، فقال إبراهيم: وأربعون؟ قال: وأربعون، قال إبراهيم وثلاثون؟ قال: وثلاثون، وكذلك حتى قال إبراهيم: وعشرة؟ فقال جبريل: وعشرة، فقال إبراهيم: إن هناك لوطاً، فقال جبريل والملائكة: نحن أعلم بمن فيها.

فلما وصلت الملائكة إلى لوط هم قومه أن يلوطوا بهم، فأعماهم جبريل بجناحه، وقال الملائكة للوط:" إن رسل ربك فاسر بأهلك بقطع من الليل، ولا يلتفت منكم أحد "" هود 81 ".

فلما خرج لوط بأهله، قال للملائكة: أهلكوهم الساعة، فقالوا لم نؤمر إلا بالصبح، أليس الصبح بقريب؟ فلما كان الصبح قلبت الملائكة سدوم، وقراها الخمس بمن فيها، وسمعت امرأة لوط الهدة فقالت: واقوماه، فأدركها حجر فقتلها، أمطر الله الحجارة على من لم يكن بالقرى، فأهلكهم.

ذكر إسماعيل بن إبراهيم الخليل‌

‌ عليهما السلام

وولد إسماعيل لإبراهيم لما كان لإبراهيم من العمر ست وثمانون سنة، ولما صار لإسماعيل ثلاث عشر سنة تطهر هو وأبوه إبراهيم، ولما صار لإبراهيم مائة سنة، وولد له إسحاق أخرج إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة بسبب غيرة سارة منها، وقولها: أخرج إسماعيل وأمه إن ابن الأمة لا يرث مع ابني، وسكن مكة مع إسماعيل من العرب قبائل جرهم، وكانوا قبله بالقرب من مكة.

فلما سكنها إسماعيل اختلطوا به، وتزوج إسماعيل امرأة من جرهم، ورزق منها اثني عشر ولداً، ولما أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام ببناء الكعبة، وهي البيت الحرام

ص: 15

سار من الشام، وقدم على ابنه إسماعيل بمكة وقال: يا إسماعيل، إن الله تعالى أمرني أن ابني له بيتاً، فقال إسماعيل: أطع ربك، فقال إبراهيم: وقد أمرك أن تعينني عليه قال: إذن أفعل.

فقام إسماعيل معه وجعل إبراهيم يبنيه، وإسماعيل يناوله الحجارة، وكانا كلما بنيا دعوا فقالا " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " " البقرة: 127 " وكان وقوف إبراهيم على حجر وهو يبني، وذلك الموضع هو مقام إبراهيم، واستمر البيت على ما بناه إبراهيم؛ إلى أن هدمته قريش سنة خمس وثلاثين من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنوه.

وكان بناء الكعبة بعد مضي مائة سنة ونحو ثلاث وتسعين سنة، وأرسل الله إسماعيل إلى قبائل اليمن، وإلى العماليق، وزوج إسماعيل ابنته من ابن أخيه العيص بن إسحاق، وعاش إسماعيل مائة وسبعاً وثلاثين سنة، ومات بمكة ودفن عند قبر أمه هاجر بالحجر وكانت وفاة إسماعيل بعد وفاة أبيه إبراهيم بثمان وأربعين سنة.

‌ذكر إسحاق بن إبراهيم

عليهما السلام

قد تقدم مولد إسحاق عند ذكر أبيه، ثم إن إسحاق تزوج بنت عمه، فولدت له العيص ويعقوب، ويقال ليعقوب إسرائيل، ونكح العيص بنت عمه إسماعيل، ورزق منها جملة أولاد، ونكح يعقوب ليا بنت لابان بن بتويل بن ناحور بن آزروالد إبراهيم الخليل، فولدت لياروبيل وهو أكبر أولاد يعقوب، ثم ولدت شمعون ولاوي ويهود، ثم تزوج يعقوب عليها أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين، وكذلك ولد ليعقوب من سريتين كانتا له ستة أولاد، فكان بنو يعقوب اثني عشر رجلاً، هم آباء الأسباط، وأقام إسحاق بالشام حتى توفي وعمره مائة وثمانون سنة، ودفن عند أبيه إبراهيم الخليل صلوات الله عليهما.

وأما أسماء آباء الأسباط الاثني عشر - أولاد يعقوب - فهم: روبيل ثم شمعون ثم لاوي ثم يهوذا ثم يساخر ثم زبولون ثم يوسف ثم بنيامين ثم دان ثم نفتالي ثم كاذ ثم أشار.

‌ذكر أيوب

عليه السلام

وهو رجل عده المؤرخون من أمة الروم، لأنه من ولد العيص وهو أيوب بن موص بن رازح بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل.

وكان لأيوب زوجة اسمها رحمة، وكان صاحب أموال عظيمة، وكان لأيوب البثنية جميعها من أعمال دمشق ملكاً، فابتلاه الله تعالى بأن أذهب أمواله حتى صار فقيراً، وهو مع ذلك على عبادته وشكره، ثم ابتلاه الله تعالى في جسده حتى تجذم ودود، وبقي مرمياً على مزبلة، لا يطيق أحد أن يشم رائحته.

وكانت زوجته رحمة تخدمه وهي صابرة على حاله، فتراءى لها إبليس، وأراها ما ذهب لهم، وقال لها: اسجدي لي لأرد مالكم إليكم، فاستأذنت أيوب، فغضب وحلف ليضربنها مائة ضربة.

ثم إن الله

ص: 16

تعالى عافى أيوب ورزقه، ورد إلى امرأته شبابها وحسنها، وولدت لأيوب ستة وعشرين ذكراً، ولما عوفي أيوب أمره الله تعالى أن يأخذ عرجوناً من التخل، فيه مائة شمراخ، فيضرب به زوجته ليبر في يمينه، ففعل ذلك. وكان أيوب نبياً في عهد يعقوب في قول بعضهم، وذكر أن أيوب عاش ثلاثاً وتسعين سنة، ومن ولد أيوب ابنه بشر، وبعث الله تعالى بشراً بعد أيوب وسماه ذا الكفل، وكان مقامه بالشام.

‌ذكر يوسف

وولد يعقوب يوسف لما كان ليعقوب من العمر إحدى وتسعون سنة، ولما صار ليوسف من العمر ثماني عشرة سنة كان فراقه ليعقوب، وبقيا مفترقين إحدى وعشرين سنة، ثم اجتمع يعقوب بيوسف في مصر، وليعقوب من العمر مائة وثلاثون سنة، وبقيا مجتمعين سبع عشرة سنة فكان عمر يوسف لما توفي يعقوب ستاً وخمسين سنة وعاش يوسف مائة وعشر سنين، فيكون مولد يوسف لمضي مائتين وإحدى وخمسين سنة من مولد إبراهيم، ويكون وفاته لمضي ثلاثمائة وإحدى وستين سنة من مولد إبراهيم، ويكون وفاة يوسف قبل مولد موسى بأربع وستين سنة محققاً.

وأما قصة فراقه من أبيه فإنه لما كان يوسف من الحسن ومن حب أبيه على ما اشتهر، حسدته أخوته وألقوه في الجب، وكان في الجب ماء وبه صخرة، فأوى إليها وأقام يوسف في الجب ثلاثة أيام، ومرت به السيارة، فأخرجته من الجب، وأخذوه معهم، وجاء يهوذا - أحد أخوته - إلى الجب بطعام ليوسف فلم يجده، ورآه عند تلك السيارة وأخبر يهوذا أخوته بذلك، فأتوا إلى السيارة وقالوا هذا عبدنا أبق منا.

وخافهم يوسف، فلم يذكر حاله، فاشتروه من أخوته بثمن بخس، قيل عشرون درهماً، وقيل أربعون، وذهبوا به إلى مصر فباعه أستاذه، فاشتراه الذي على خزائن مصر، واسمه العزيز. وكان فرعون مصر حينئذ الريان بن الوليد رجلاً من العماليق، والعماليق من ولد عملاق بن سام بن نوح حسبما تقدم ذكره.

ولما اشترى العزيز يوسف هوته امرأته، وكان اسمها راعيل، وراودته عن نفسها، فأبى وهرب منها، ولحقته من خلفه، وأمسكته بقميصه، فانقد قميصه، ووصل أمرهما إلى زوجها العزيز وابن عمها تبيان فظهر لهما براءة يوسف، وأن راعيل هي التي راودته، ثم بعد ذلك ما زالت تشكو إلى زوجها من يوسف، وتقول: إنه يقول للناس: إنني راودته عن نفسه، وقد فضحني بين الناس، فحبسه زوجها، ودام في السجن سبع سنين، ثم أخرجه فرعون مصر بسبب تعبير الرؤيا التي أريها، ثم لما مات العزيز الذي كان اشترى يوسف، جعل فرعون يوسف موضعه على خزائنه كلها، وجعل القضاء إليه، وحكمه نافذاً، ودعا يوسف الريان فرعون مصر المذكور إلى الإيمان، فآمن به، وبقي كذلك إلى أن مات الريان المذكور، وملك بعده مصر قابوس بن مصعب من العمالقة أيضاً، ولم يؤمن، وتوفي يوسف‌

‌ عليه السلام

في ملكه

ص: 17

بعد أن وصل إليه أبوه يعقوب وأخوته جميعهم من أرض كنعان - وهي الشام - بسبب المحل، وعاش معهم مجتمعين سبع عشرة سنة، ومات يعقوب وأوصى إلى يوسف أن يدفنه مع أبيه إسحاق، ففعل يوسف ذلك وسار به إلى الشام، ودفنه عند أبيه، ثم عاد إلى مصر، وكان وفاة يوسف بمصر، ودفن بها، حتى كان من موسى وفرعون ما كان.

فلما سار موسى من مصر ببني إسرائيل إلى التيه نبش يوسف وحمله معه في التيه حتى مات موسى، فلما قدم يوشع ببني إسرائيل إلى الشام، دفنه بالقرب من نابلس، وقيل عند الخليل عليه السلام.

‌ذكر شعيب

ثم الله تعالى شعيباً عليه السلام إلى أصحاب الأيكة وأهل مدين، وقد اختلف في نسب شعيب فقيل: إنه من ولد إبراهيم الخليل، وقيل: من ولد بعض الذين آمنوا بإبراهيم وكانت الأيكة من شجر ملتف، فلم يؤمنوا، فأهلك الله أصحاب الأيكة بسحابة، أمطر عليهم ناراً الظلة، وأهلك الله أهل مدين بالزلزلة.

‌ذكر موسى

عليه السلام

أرسل الله تعالى موسى بن عمران بن قاهاث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام نبياً، بشريعة بني إسرائيل، وكان من أمره أنه لما ولدته أمه كان قد أمر فرعون مصر - واسمه الوليد - بقتل الأطفال، فخافت عليه أمه وألقى الله تعالى في قلبها أن تلقيه في النيل، فجعلته في تابوت، وألقته، والتقطته آسية امرأة فرعون، وربته وكبر، فبينما هو يمشي في بعض الأيام إذ وجد إسرائيلياً وقبطياً يختصمان، فوكز القبطي فقتله، ثم اشتهر ذلك، وخاف موسى من فرعون، فهرب وقصد نحو مدين، واتصل بشعيب وزوجه ابنته واسمها صفورة، وأقام يرعى غنم شعيب عشر سنين.

ثم سار موسى بأهله في زمن الشتاء وأخطأ الطريق، وكانت امرأته حاملاً، فأخذها الطلق في ليلة شاتية، فأخرج زنده ليقدح، فلم يظهر له نار، وأعيا مما يقدح، فرفعت له نار، فقال لأهله:" امكثوا إني آنست ناراً سأتيكم منها بخبر، أو آتيكم بشهاب قبس، لعلكم تصطلون "" النمل: 7 " فلما دنا منه رأى نوراً ممتداً من السماء إلى شجرة عظمية من العوسج، وقيل من العناب، فتحير وخاف ورجع، فنودي منها.

ولما سمع الصوت استأنس وعاد، فلما أتاها نودي من جانب الطور الأيمن من الشجرة: أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين.

ولما رأى تلك الهيبة علم أنه ربه، فخفق قلبه وكل لسانه، وضعفت بنيته، ثم شد الله تعالى قلبه، ولما عاد عقله نودي أن اخلع نعليك إنك بالواد المقدس، وجعل الله عصاه ويده آيتين.

ثم أقبل موسى إلى أهله، فسار بهم نحو مصر، حتى أتاها ليلاً، واجتمع به هارون وسأله: من أنت؟ فقال أنا موسى، فاعتنقا وتعارفا، ثم قال موسى: يا هارون إن الله أرسلنا إلى فرعون، فانطلق معي إليه، فقال هارون سمعاً وطاعة، فانطلقا إليه، وأره موسى عصاه ثعباناً فاغراً فاه حتى خاف منه فرعون، فأحدث

ص: 18

في ثيابه، ثم أدخل يده في جيبه، وأخرجها وهي بيضاء لها نور تكل منه الأبصار، فلم يستطع فرعون النظر إليها، ثم ردها إلى جيبه وأخرجها فإذا هي على لونها الأول.

ثم أحضر لهما فرعون السحرة، وعملوا الحيات، وألقى موسى عصاه فتلقفت ذلك، وآمن به السحرة فقتلهم فرعون عن آخرهم، ثم أراهم الآيات من القمل والضفادع وصيرورة الماء دماً، فلم يؤمن فرعون ولا أصحابه.

وآخر الحال أن فرعون أطلق لبني إسرائيل أن يسيروا مع موسى، وسار موسى ببني إسرائيل ثم ندم فرعون وسار بعسكره حتى لحقهم عند بحر القلزم، فضرب موسى بعصاه البحر، فانشق ودخل فيه هو وبنو إسرائيل، وتبعهم فرعون وجنوده، فانطبق البحر على فرعون وجنوده، وغرقوا عن آخرهم.

ومن جملة المعجزات التي أعطاها الله عز وجل موسى، قضيته مع قارون - من الكامل - قال: وكان قارون ابن عم موسى، وكان الله تعالى قد رزق قارون المذكور مالاً عظيماً يضرب به المثل على طول الدهر، قيل أن مفاتيح خزائنه كانت تحمل على أربعين بغلاً، وبنى داراً عظيمة، وصفحها بالذهب، وجعل أبوابها ذهباً، وقد قيل عن ماله شيء يخرج عن الحصر.

فتكبر هارون بسبب كثرة ماله على موسى، واتفق مع بني إسرائيل على قذفه والخروج عن طاعته، وأحضر امرأة بغياً وهي القحبة، وجعل لها جعلاً وأمرها بقذف موسى بنفسها، واتفق معها على ذلك.

ثم أتى موسى فقال: أن قومك قد اجتمعوا، فخرج إليهم موسى وقال: من سرق قطعناه، ومن افترى جلدناه، ومن زنى رجمناه. فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ قال موسى: نعم وإن كنت أنا. قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة. قال موسى: فادعوها فإن قالت فهو كما قالت.

فلما جاءت، قال لها موسى: أقسمت عليك بالذي أنزل التوراة إلا صدقت، أأنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ قالت: لا، كذبوا، ولكن جعلوا لي جعلاً على أن أقذفك، فأوحى الله تعالى إلى موسى مر الأرض بما شئت تطعك، فقال: يا أرض خذيهم، فجعل قارون يقول: يا موسى ارحمني، وموسى يقول: يا أرض خذيهم، فابتلعتهم الأرض ثم خسف بهم، وبدار قارون.

ولما أهلك الله تعالى فرعون وجنوده، قصد موسى المسير ببني إسرائيل إلى مدينة الجبارين وهي أريحا، فقالت بنو إسرائيل:" يا موسى، إن فيها قوماً جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها "" المائدة: 22 "، يا موسى " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " " المائدة: 24 " فغضب موسى ودعا عليهم فقال: " رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين: " " المائدة: 25 " فقال الله تعالى: " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ". " المائدة: 26 "، فبقوا في التيه، وأنزل الله عليهم المن والسلوى.

ثم أوحى الله تعالى إلى موسى أني متوف هارون، فأت به إلى جبل كذا وكذا، فانطلقا نحوه؛ فإذا هما بسرير، فناما عليه، وأخذ هارون الموت ورفع إلى السماء، ورجع موسى إلى بني إسرائيل، فقالوا له: أنت قتلت هارون لحبنا إياه. قال موسى: ويحكم، أفتروني أقتل أخي.

فلما أكثروا

ص: 19

عليه، سأل الله فأنزل السرير، وعليه هارون، وقال لهم إني مت ولم يقتلني موسى.

ثم توفي موسى، واختلف في صورة وفاته، قيل: كان هو ويوشع يتمشيان فظهرت غمامة سوداء، فخافها يوشع، واعتنق موسى، فانسل موسى من قماشه، وبقي يوشع معتنق الثياب، وعدم موسى، وأتى يوشع بالقماش إلى بني إسرائيل، فقالوا أنت قتلت موسى.

ووكلوا به فسأل يوشع الله تعالى أن يبين براءته، فرأى كل رجل كان موكلا عليه في منامه أن يوشع لم يقتل موسى، فإنا رفعناه إلينا، فتركوه، وقيل: بل تنبأ يوشع وأوحى الله تعالى إليه، وبقي موسى يسأله، فلم يخبره، فعظم ذلك على موسى، وسأل الله الموت فمات، وقيل غير ذلك.

وكان وفاة موسى في التيه في سابع آذار لمضي ألف وستمائة وست وعشرين سنة من الطوفان، في أيام منوجهر الملك، وكان موت موسى بعد هارون أخيه بأحد عشر شهراً، وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين.

وكان مولد موسى لمضي أربعمائة وخمس وعشرين سنة من مولد إبراهيم، وكان بين وفاة إبراهيم ومولد موسى مائتان وخمسون سنة.

وولد موسى لمضي ألف وخمسمائة وست سنين من الطوفان، وكان عمره لما خرج ببني إسرائيل من مصر ثمانين سنة، وأقام في التيه أربعين سنة، فيكون عمر موسى مائة وعشرين سنة، وأما بنو إسرائيل، وكانوا قبل أن يخرجهم موسى تحت حكم فراعنة مصر رعية لهم، وكانوا على بقايا من دينهم الذي شرعه يعقوب ويوسف عيهما السلام، وكان أول قدومهم إلى مصر لمضي تسع وثلاثين سنة من عمر يوسف، فأقاموا في مصر بقية عمر يوسف وهو إحدى وسبعون سنة، لأن عمر يوسف كان مائة وعشر سنين فإذا أنقصنا منها تسعاً وثلاثين سنة بقي إحدى وسبعون سنة، وأقاموا أيضاً مدة ما كان بين وفاة يوسف ومولد موسى، وهو أربع وستون سنة، وأقاموا أيضاً ثمانين سنة من عمر موسى حتى خرج بهم، فيكون جملة مقام بني إسرائيل بمصر حتى أخرجهم موسى مائتين وخمس عشرة سنة.

‌ذكر حكام بني إسرائيل ثم ملوكهم

لما مات موسى عليه السلام، لم يتول على بني إسرائيل ملك، بل كان لهم حكام سدوا مسد الملوك ولم يزالوا على ذلك، حتى قام فيهم طالوت، فكان أول ملوكهم على ما ستقف عليه - إن شاء الله تعالى - وهذا الفصل أعني فصل حكام بني إسرائيل وملوكهم، قد كثر الغلط فيه لبعد عهده، ولكونه باللغة العبرانية، فتعسر النطق بألفاظه على الصحة؛ ولهم أجد في نسخ التواريخ التي وقعت لي في هذا الفن، ما أعتمد على صحته، لأن كل نسخة وقفت عليها في هذا الفن، وجدتها تخالف الأخرى، إما في أسماء الحكام، وإما في عددهم، وإما في مدد استيلائهم. ولليهود الكتب الأربعة والعشرون، وهي عندهم متواترة قديمة، ولم تعرب إلى الآن، بل هي باللغة العبرانية، فأحضرت منها سفري قضاة بني إسرائيل وملوكها، وأحضرت إنساناً عارفاً باللغة العبرانية والعربية، وتركته يقرأها، وأحضرت بها ثلاث

ص: 20

نسخ؛ وكتبت منها ما ظهر عندي صحته، وضبطت الأسماء بالحروف والحركات حسب الطاقة، والله الموفق للصواب.

‌ذكر يوشع

ولما مات موسى عليه السلام، قام بتدبير بني إسرائيل يوشع بن نون بن اليشاماع بن عميهوذ بن لعدان بن تاحن بن تالح بن راشف بن رافح بن بريعا بن أفرايم بن يوسف بن يعقوب، وأقام ببني إسرائيل في التيه ثلاثة أيام، ثم ارتحل يوشع ببني إسرائيل، وأتى بهم إلى الشريعة، وهي النهر الذي بالغور، واسمه الأردن، في عاشر نيسان من السنة التي توفي فيها موسى، فلم يجد للعبور سبيلا، فأمر يوشع حاملي صندوق الشهادة الذي فيه الألواح بأن ينزلوا إلى حافة الشريعة، فوقفت الشريعة حتى انكشف أرضها، وعبر بنو إسرائيل، ثم بعد ذلك عادت الشريعة إلى ما كانت عليه.

ونزل يوشع ببني إسرائيل على أريحا محاصراً لها، وصار في كل يوم يدور حولها مرة واحدة، وفي اليوم السابع أمر بني إسرائيل أن يطوفوا حول أريحا سبع مرات، وأن يصوتوا بالقرون، فعند ما فعلوا ذلك هبطت الأسوار، ورسخت وتساوت الخنادق بها، ودخل بنو إسرائيل أريحا بالسيف، وقتلوا أهلها.

وبعد فراغه من أريحا سار إلى نابلس، إلى المكان الذي بيع فيه يوسف، فدفن عظام يوسف هناك، وكان موسى قد استخرج يوسف من نيل مصر، واستصحبه معه إلى التيه، فبقي معهم أربعين سنة، وتسلمه يوشع، فلما فرغ من سار به ودفنه هناك.

وملك يوشع الشام وفرق عماله فيه، واستمر يوشع يدبر بني إسرائيل نحو ثمان وعشرين سنة، ثم توفي يوشع، ودفن في كفر حارس وله من العمر مائة وعشر سنين. ورأيت في تاريخ ابن سعيد المغربي أن يوشع مدفون في المعرة، فلا أعلم هل نقل ذلك، أم أثبته على ما هو مشهور الآن، أقول: فكانت وفاة يوشع سنة ثمان وعشرين لوفاة موسى، وبعد وفاة يوشع قام بتدبيرهم فيخاس بن العزر بن هارون بن عمران، وكالاب بن يوفنا، وكان فيخاس هو الإمام، وكان كالأب يحكم بينهم، وكان أمرهما في بني إسرائيل ضعيفاً.

ودام بنو إسرائيل على ذلك سبع عشرة سنة، ثم طغوا وعصوا الله، فسلط الله عليهم كوشان ملك الجزيرة، قيل إنها جزيرة قبرس، وقيل بل كان كوشان المذكور ملك الأرمن، وكان من ولد العيص بن إسحاق، فاستولى على بني إسرائيل، واستعبدهم ثماني سنين، فاستغاثوا إلى الله تعالى.

وكان لكالاب أخ من أمه يقال له عثنيال بن قناز، فأقام كالأب المذكور أخاه عثنيال على بني إسرائيل، أقول فكان خلاص بني إسرائيل من كوشان المذكور في سنة اثنتين وخمسين لوفاة موسى عليه السلام، لأن كوشان حكم عليهم ثماني سنين، وفيخاس بفاء مشربة بتاء موحدة ثم ياء مثناه من تحتها ممالة ثم نون ساكنة ثم جاء مهملة ثم آلف ممالة وسين مهملة - ثم قام فيهم

ص: 21

بعد استيلاء كوشان عثنيال بن قناز من سبط يهوذا، وأزال ما كان على بني إسرائيل لصاحب الجزيرة من القطيعة، وأصلح حال بني إسرائيل.

وكان عثنيال رجلا صالحاً واستمر يدبر أمر بني إسرائيل أربعين سنة وتوفي، أقول: فتكون وفاته في أواخر سنة اثنتين وتسعين لوفاة موسى - عثنيال بعين مهملة وثاء مثلثة ساكنة ونون مكسورة وياء مثناه من تحتها مهموزة وألف ولام - ثم من بعد وفاة عثنيال، أكثر بنو إسرائيل المعاصي، وعبدوا الأصنام، فسلط الله عليهم عغلوان ملك موآب من ولد لوط، واستعبد بني إسرائيل، فاستغاثت بنو إسرائيل إلى الله أن ينقذهم من عغلون المذكور، واستمر بنو إسرائيل تحت مضايقة عغلون ثماني عشرة سنة، فيكون خلاصهم منه في أواخر سنة عشر ومائة لوفاة مرسى - عغلون. بفتح العين المهملة وسكون الغين المعجمة وضم اللام وسكون الواو ثم نون -.

‌أهوذ

ثم أقام الله لبني إسرائيل أهوذ من سبط بنيامين، وكف أهوذ عنهم أذية عغلون ومضايقته، وأقام أهوذ يدبرهم ثمانين سنة، فيكون وفاة أهوذ في أواخر سنة تسعين ومائة لوفاة موسى - أهوذ بفتح الهمزة وضم الهاء وسكون الواو ثم ذال معجمة - ولما مات أهوذ قام بتدبيرهم بعده شمكار بن عنوث دون سنة، أقول فتكون ولاية شمكار ووفاته في سنة إحدى وتسعين ومائة لوفاة موسى عليه السلام شمكار بفتح الشين المثلثة وسكون الميم وكاف وألف وراء مهملة - ثم طغى بنو إسرائيل فأسلمهم الله تعالى في يد بعض ملوك الشام، واسمه يابين، فاستعبدهم عشرين سنة، حتى خلصوا منه، فيكون خلاصهم من يابين المذكور في أواخر سنة إحدى عشرة ومائتين لوفاة موسى.

‌باراق بن أبي نعيم

ثم قام فيهم رجل من سبط نعتالي، يقال له: باراق بن أبي نعم، وامرأة يقال لها دبورا، فقهر يابين، ودبرا أمور بني إسرائيل أربعين منه، أقول فيكون انقضاء مدتهما في أواخر سنة إحدى وخمسين ومائتين لوفاة موسى عليه السلام باراق: بباء موحدة من تحتها، وألف وراء مهملة وألف وقاف.

‌كذعون بن يواش

ثم إن بني إسرائيل أخطأوا، وارتكبوا المعاصي لغير مدبر لهم من بني إسرائيل مدة سبع سنين، واستولى عليهم أعداؤهم من أهل مدين في تلك المدة، أقول: فيكون آخر مدة هذه الفترة في أواخر سنة ثمان وخمسين ومائتين من وفاة موسى عليه السلام، فاستغاثوا إلى الله فأقام فيهم كذعون بن يواش، فقتل أعداءهم وأقام منار دينهم، واستمر فيهم كذلك أربعين سنة، أقول فيكون وفاته في أواخر سنة ثمان وتسعين ومائتين لوفاة موسى - كذعون بفتح الكاف وسكون الذال المعجمة وضم العين المهملة وواو ونون - ثم قام فيهم بعد كذعون ابنه‌

‌ أبيمالخ

ثلاث سنين، فيكون وفاته في أواخر سنه إحدى وثلاثمائة لوفاة موسى عليه السلام أبيمالخ بهمزة وباء موحدة من تحتها ثم ياء مثناه من تحتها وميم وألف ولام وخاء معجمة.

أبيمالخ

ثم قام فيهم بعد أبيمالخ المذكور رجل من سبط يشسوخر، يقال له يؤاإير الجرشي، اثنتين وعشرين سنة، فيكون وفاته لمضي ثلاثمائة وثلاث وعشرين

ص: 22

سنة من وفاة موسى - يوءاإير: بضم الياء المثناه من تحتها وهمزة مفتوحة ثم ألف ثم همزة مكسورة وياء مثناه من تحتها وراء مهملة - ثم إن بني إسرائيل أخطأوا وارتكبوا المعاصي، فسلط الله تعالى عليهم بني عمون، وهم من ولد لوط، وكان ملك بني عمون إذ ذاك يقال له: أمونيطو، فاستولى على بني إسرائيل ثماني عشرة سنة، حتى خلصوا منه، فيكون انقضاء مدته في أواخر سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة لوفاة موسى.

‌يفتح الجرشي

ثم استغاث بنو إسرائيل إلى الله تعالى، فأقام فيهم رجلا اسمه يفتح الجرشي من سبط منشا، فكفاهم شر بني عمون، وقتل من بني عمون خلقاً كثيراً، ودبرهم ست سنين، فتكون وفاته في أواخر سنة ثلاثمائة، سبع وأربعين - يفتح بضم الياء المثناة من تحتها وسكون الفاء وضم التاء المثناة من فوق وحاء مهملة.

‌أبصن

ثم قام فيهم من بعد بفتح رجل من سبط يهوذا اسمه أبصن سبع سنين، فتكون وفاته في أواخر سنة أربع وخمسين وثلاثمائة لوفاة موسى عليه السلام أبصن: بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة من تحتهما وضم الصاد المهملة ثم نون.

‌آلون

ثم دبرهم بعد أبصن رجل اسمه آلون من سبط زبولون عشر سنين، فيكون وفاته في سنة أربع وستين وثلاثمائة لوفاة موسى - آلون بهمزة ممدودة ممالة وضم اللام ثم واو ونون.

ثم دبرهم بعد آلون رجل اسمه عبدون بن هلال من سبط أفرايم بن يوسف ثماني سنين، فيكون وفاته في أواخر سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة لوفاة موسى - عبدون بفتح العين المهملة. وسكون الياء الموحدة وضم الدال المهملة ثم واو ونون.

‌شمشون بنمانوح

ثم أخطأوا وعملوا بالمعاصي، فسلط الله أهل فلسطين، واستولوا عليهم أربعين سنة، فيكون آخر استيلاء أهل فلسطين عليهم في أواخر سنة اثنتي عشرة وأربعمائة لوفاة موسى، فاستغاثوا إلى الله عز وجل فأقام فيهم رجلا اسمه شمشون ابن مانوح من سبط دان.

وكان لشمشون المذكور قوة عظيمة، ويعرف بشمشون الجبار، فدافع أهل فلسطين ودبر بني إسرائيل عشرين سنة، ثم غلبه أهل فلسطين، وأسروه، ودخل إلى كنيستهم، وكانت مركبة على أعمدة، فأمسك العواميد، وحركها بقوة، حتى وقعت الكنيسة، فقتلته، وقتلت من كان فيها من أهل فلسطين، وكان منهم جماعة من كبارهم، فيكون انقضاء مدة تدبير شمشون المذكور لهم في أواخر سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة لوفاة موسى - شمشون بفتح الشين المعجمة وسكون الميم شين معجمة مضمومة ثم واو ونون -.

‌إيثامور بن هارون

ثم كانت فترة، وصار بنو إسرائيل بغير مدبر منهم، عشر سنين، فيكون انقضاء مدة الفترة في أواخر سنة اثنتين وأربعين وأربع مائة لوفاة موسى. ثم قام فيهم رجل من ولد إيثامور بن هارون بن عمران اسمه عالي الكاهن، وأصل الكاهن في لغتهم كوهن، ومعناه الإمام، وكان عابي المذكور رجلا صالحاً فدبر بني إسرائيل أربعين سنة، وكان عمره لما ولي ثمانياً وخمسين سنة، فيكون مدة عمره ثمانياً وتسعين سنة.

وفي أول سنة من ولايته، ولد‌

‌ شمويل النبي

بقرية النبي على باب القدس، يقال لهما شيلو،

ص: 23

وفي السنة الثالثة والعشرين من ولاية عالي المذكور ولد‌

‌ داود

النبي عليه السلام. فيكون وفاة عالي المذكور في أواخر سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة لوفاة موسى - عالي بعين مهملة على وزن فاعل -.

شمويل النبي

ثم دبر بني إسرائيل، شمويل النبي، وكان قد تنبأ لما صار له من العمر أربعون سنة، وذلك عند وفاة عالي، فدبر شمويل بني إسرائيل إحدى عشرة سنة، ومنتهى هذه الإحدى عشرة هي آخر سني حكام بني إسرائيل وقضاتهم، فإن جميع من ذكر من حكام بني إسرائيل، كانوا بمنزلة القضاة، وسدوا مسد ملوكهم.

‌طالوت بن قيش

وبعد الإحدى عشرة سنة التي دبرهم شمويل المذكور قام لبني إسرائيل ملوك على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، فيكون انقضاء سني حكامهم في سنة ثلاث وتسعين وأربع مائة لوفاة موسى، ثم حضر بنو إسرائيل إلى شمويل، وسألوه أن يقيم فيهم ملكاً، فأقام فيهم شاول، وهو طالوت بن قيش من سبط بنيامين، ولم يكن طالوت من أعيانهم، قيل: إنه كان راعياً، وقيل: سقاء، وقيل: دباغاً، ملك طالوت سنتين، واقتتل هو وجالوت.

وكان جالوت من جبابرة الكنعانيين، وكان ملكه بجهات فلسطين، وكان من الشدة، وطول القامة، بمكان عظيم.

فلما برز للقتال لم يقدر على مبارزته أحد، فذكر شمويل علامة الشخص الذي يقتل جالوت، فاعتبر طالوت جميع عسكره، فلم يكن فيهم من يوافقه تلك العلامة.

وكان

داود

‌عليه السلام أصغر بني أبيه، وكان يرعى غنم أبيه وأخوته، فطلبه طالوت

، واعتبره شمويل بالعلامة، وهي دهن كان يستدير على رأس من يكون فيه السر وأحضر أيضاً تنور حديد، وقال: الشخص الذي يقتل جالوت يكون ملء هذا التنور؛ فلما اعتبر داود ملء التنور، واستدار الدهن على رأسه؛ ولما تحقق ذلك العلامة، أمره طالوت بمبارزة جالوت، فبارزه، وقتل داود جالوت، وكان عمر داود إذ ذاك ثلاثين سنة.

ثم بعد ذلك مات شمويل، فدفنته بني إسرائيل في الليل، وناحوا عليه، وكان عمره اثنتين وخمسين سنة، وأحب الناس داود، ومالوا إليه، فحسده طالوت، وقصد قتله مرة بعد أخرى، فهرب داود منه، وبقي متحرراً على نفسه، وفي آخر الحال، إن طالوت ندم على ما كان منه من قصد قتل داود، وغير ذلك مما وقع منه، وقصد أن يكفر لله تعالى عنه ذنوبه، بموته في الغزاة، فقصد الفلسطينيين وقاتلهم، حتى قتل هو وأولاده في الغزاة، فيكون موت طالوت في أواخر سنة خمس وتسعين وأربعمائة لوفاة موسى.

ولما قتل طالوت افترقت الأسباط، فملك على أحد عشر سبطاً إيش بوشت بن طالوت، واستمر إيش بوشت ملكاً على الأسباط المذكورين في ثلاث سنين، وانفرد عن إيش بوشت سبط يهوذا فقط، وعلك عليهم داود بن بيشار ابن عوفيد بن بوعز بن سلمون بن نحشون بن عمينوذب بن رم بن حصرون بن بارص يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام، وحزن داود على طالوت، ولعن موضع مصرعه.

وكان مقام داود بحبرون، فلما استوثق له الملك، ودخلت جميع الأسباط تحت طاعته، وذلك في سنة ثمان وثلاثين من عمر داود، انتقل إلى القدس.

ثم إن داود فتح في الشام فتوحات كثيرة من أرض فلسطين، وبلد عمان، ومؤاب وحلب ونصيبين وبلاد الأرمن

ص: 24

وغير ذلك.

ولما أوقع داود بصاحب حلب وعسكره، وكان صاحب حماة إذ ذاك اسمه ثاعو، وكان بينه وبين صاحب حلب عداوة، فأرسل صاحب حماة ثاعو المذكور وزيره بالسلام والدعاء إلى داود، وأرسل معه هدايا كثيرة فرحاً بقتل صاحب حلب.

ولما صار لداود ثمان وخمسون سنة، وهي السنة الثامنة والعشرون من ملكه، كانت قصته مع أوريا وزوجته، وهي واقعة مشهورة، وفي سنة ستين من عمر داود، خرج عليه ابنه ابشولوم بن داود، فقتله بعض قواد بني إسرائيل، وملك داود أربعين سنة.

ولما صار لداود سبعون سنة توفي، فيكون وفاة داود في أواخر سنة خمس وثلاثين وخمس مائة لوفاة موسى، وأوصى داود قبل موته بالملك إلى‌

‌ سليمان

ولده، وأوصاه بعمارة بيت المقدس، وعين لذلك عدة بيوت أموال، تحتوي على جمل كثيرة من الذهب.

سليمان

فلما مات داود ملك سليمان وعمره اثنتا عشرة سنة، وآتاه الله من الحكمة والملك ما لم يؤته لأحد سواه؛ على ما أخبر الله عز وجل به في حكم كتابه العزيز. وفي السنة الرابعة من ملكه، في شهر أيار وهي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة لوفاة موسى، ابتدأ سليمان عليه السلام في عمارة بيت المقدس، حسبما تقدمت به وصية أبيه إليه، وأقام سليمان في عمارة بيت المقدس سبع سنين، وفرغ منه في السنة الحادية عشرة من ملكه، فيكون الفراغ من عمارة بيت المقدس في أواخر سنة ست وأربعين وخمسمائة لوفاة موسى عليه السلام.

وكان ارتفاع البيت الذي عمره سليمان ثلاث ذراعاً، وطوله ستين ذراعاً في عرض عشرين ذراعاً، وعمل خارة البيت سوراً محيطاً به، امتداده خمسمائة ذراع في خمس مائة ذراع.

ثم بعد ذلك شرع سليمان في بناء دار مملكة بالقدس، واجتهد في عمارتها وتشييدها، وفرغ منها في مدة ثلاث عشرة سنة، وانتهت عمارتها في السنة الرابعة والعشرين من ملكه.

وفي السنة الخامسة والعشرين من ملكه جاءته بلقيس ملكة اليمن، ومن معها، وأطاعه جميع ملوك الأرض، وحملوا إليه نفائس أموالهم، واستمر سليمان على ذلك حتى توفي، وعمره اثنتان وخمسون سنة، فكانت مدة ملكه أربعين سنة، فيكون وفاة سليمان عليه السلام، في أواخر سنة خمس وسبعين وخمسمائة لوفاة موسى.

‌رحبعم

ولما توفي سليمان ملك بعده ابنه رحبعم، وكان رحبعم المذكور رديء الشكل، شنيع المنظر، فلما تولى حضر إليه كبراء بني إسرائيل، وقالوا له: إن أباك سليمان كان ثقيل الوطأة علنا، وحملنا أموراً صعبة، فإن أنت خففت الوطأة عنا، وأزلت عنا ما كان أبوك قد قرره علينا، سمعنا لك، وأطعناك، فأخر رحبعم جوابهم إلى ثلاثة أيام، واستشار كبراء دولة أبيه في جوابهم، فأشاروا بتطييب قلوبهم، وإزالة ما يشكونه.

ثم إن رحبعم استشار الأحداث، ومن لم يكن له معرفة، فأشاروا بإظهار الصلابة والتشديد على بني إسرائيل، لئلا يحصل لهم الطمع.

فلما حضروا إلى رحبعم ليسمعوا جوابه، قال لهم: أنا خنصري أغلظ من ظهر أبي وما كنتم تخشونه من أبي، فإنني أعاقبكم بأشد منه، فعند ذلك خرج عن طاعته

ص: 25

عشرة أسباط، ولم يبق مع رحبعم غير سبطي يهوذا وبنيامين فقط، وملك على الأسباط العشرة رجل من عبيد أبيه سليمان، اسمه:

‌ يربعم

.

يربعم

وكان يربعم المذكور فاسقاً كافراً، وافترقت حينئذ مملكة بني إسرائيل، واستقر لولد داود الملك على السبطين فقط، أعني سبطي يهوذا وبنيامين، وصار للأسباط العشرة ملوك تعرف بملوك الأسباط، واستمر الحال على ذلك نحو مائتين وإحدى وستين سنة، وكانت ولد سليمان في بني إسرائيل، بمنزلة الخلفاء للإسلام، لأنهم أهل الولاية، وكانت ملوك الأسباط مثل ملوك الأطراف والخوارج.

وارتحلت الأسباط إلى جهات فلسطين وغيرها بالشام، واستقر ولد داود ببيت المقدس، ونحن نقدم ذكر بني داود إلى حيث اجتمعت لهم المملكة على جميع الأسباط، ثم بعد ذلك نذكر ملوك الأسباط متتابعين إن شاء الله تعالى، فنقول: واستمر رحبعم ملكاً على السبطين حسبما شرح، حتى دخلت السنة الخامسة من ملكه، فيها غزاه فرعون مصر، واسمه شيشاق، ونهب مال رحبعم، المخلف عن سليمان.

واستمر رحبعم على ما استقر له من الملك، وزاد في عمارة بيت لحم، وعمارة غزة وصور وغير ذلك من البلاد، وكذلك عمر أيلة وجددها، وولد لرحبعم ثمانية وعشرون ولداً ذكراً غير البنات، وملك رحبعم سبع عشرة سنة، وكانت مدة عمره إحدى وأربعين سنة، أقول: فيكون وفاة، رحبعم في أواخر سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة لوفاة موسى - رحبعم براء مهملة لم أتحقق حركتها وضم الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة وضم العين المهملة ثم ميم.

‌أفيا

ولما توفي رحبعم، ملك بعده وعلى قاعدته، ابنه أخيا ثلاث سنين، فيكون وفاة أفيا في أواخر سنة خمس وتسعين وخمس مائة لوفاة موسى - وأفيا بفتح الهمزة وكسر الفاء التي هي بين الفاء والذال على مقتضى اللغة العبرانية وتشديد الياء المثناة من تحتها ثم ألف -.

‌أسا

ولما توفي أفيا ملك بعده ابنه أسا إحدى وأربعين سنة، وخرج على أسا عدو فهزم الله العدو، بين يدي أسا، وقيل: إن العدو كان من الحبشة، وقيل: من الهنود، أقول فكانت وفاة أسا في أواخر سنة ست وثلاثين وستمائة لوفاة موسى - أسا بضم الهمزة وفتح السين المهملة ثم ألف

‌يهوشافاط

ثم ملك بعد أسا ابنه: يهوشافاط خمساً وعشرين سنة.

وكان عمر يهوشافاط لما ملك، خمساً وثلاثين سنة، وكان يهوشافاط رجلا صالحاً كثير العناية بعلماء بني إسرائيل، وخرج على يهوشافاط من ولد العيص، وجاءا في جمع عظيم، وخرج يهوشافاط لقتالهم، فألقى الله بين أعدائه الفتنة، واقتتلوا فيما بينهم، حتى انمحقوا وولوا منهزمين، فجمع يهوشافاط منهم غنائم كثيرة، وعاد بها إلى القدس مؤيداً منصوراً، واستمر في ملكه خمساً وعشرين سنة، وتوفي، فتكون وفاته في أواخر سنة إحدى وستين وستمائة - ويهوشافاط بفتح الياء المثناة من تحتها وضم الهاء وسكون الواو وفتح الشين المعجمة وبعدها ألف ثم فاء وألف ثم طاء مهملة.

‌يهورام

ثم ملك بعد يهوشافاط ابنه يهورام وكان عمر يهورام لما ملك اثنتين وثلاثين سنة، وملك ثماني سنين،

ص: 26

فيكون وفاته في أواخر سنة تسع وستين وستمائة - ويهورام بفتح الياء المثناة من تحتها وضم الهاء وسكون الواو وراء مهملة ثم ألف وميم.

‌‌

‌أحز

ياهو

ولما مات يهورام ملك بعده ابنه أحزياهو، وكان عمره لما ملك اثنتين وأربعين سنة، وملك سنتين، فيكون وفاته في أواخر سنة إحدى وسبعين وستمائة، - وأحزياهو بفتح الهمزة والحاء المهملة وسكون الزاي المعجمة ثم مثناة من تحتها ثم ألف وهاء وواو.

‌عثليا هو

ثم كان بعد أحزياهو فترة بغير ملك، وحكمت في الفترة المذكورة امرأة ساحرة، أصلها من جواري سليمان عليه السلام، واسمها عثليا هو وتتبعت بني داود فأفنتهم، وسلم منها طفل أخفوه عنها، وكان اسم الطفل يؤاش بن أحزيو، واستولت عثليا هو كذلك سبع سنين، فيكون آخر الفترة.

‌عثليا هو يؤاش

وعدم عثليا هو في أواخر سنة ثمان وسبعين وستمائة لوفاة موسى عليه السلام، ثم ملك بعد عثليا هو يؤاش وهو ابن سبع سنين، وفي السنة الثالثة والعشرين من ملكه، رمم بيت المقدس، وجدد عمارته، وملك يؤاش أربعين سنة، فيكون وفاته في أواخر سنة ثماني عشرة وسبع مائة لوفاة موسى - ويؤاش: بضم المثناة من تحتها ثم همزة وألف وشين معجمة -.

‌أمصيا

ثم ملك بعد يؤاش ابنه أمصيا هو، وكان عمره لما ملك خمساً وعشرين سنة، وملك تسعاً وعشرين سنة، وقيل: خمس عشرة، وقتل، فيكون موته في أواخر سنة سبع وأربعين وسبعمائة لوفاة موسى عليه السلام وأمصيا هو بفتح الهمزة وفتح الميم وسكون الصاد المهملة ومثناة من تحتها وألف وهاء وواو.

‌عزياهو

ثم ملك بعده عزياهو وكان عمره لما ملك ست عشرة سنة، وملك اثنتين وخمسين سنة، ولحقه البرص، وتنغصت عليه أيامه، وضعف أمره في آخر وقت، وتغلب عليه ولده‌

‌ يوثم

، فيكون وفاة عزياهو في أواخر سنة تسع وتسعين وسبع مائة لوفاة موسى - وعزياهو: بضم العين المهملة وتشديد الزاي المعجمة ثم مثناة من تحتها وألف وهاء وواو.

يوثم

ثم ملك بعد عزياهو ابنه يوثم، وكان عمر يوثم لما ملك خمساً وعشرين سنة، وملك ست عشرة سنة، فيكون وفاته في سنة خمس عشرة وثمانمائة لوفاة موسى - ويوثم: بضم المثناة من تحتها وسكون الواو وقح الثاء المثلثلة ثم ميم - وقيل: إن في أيامه كان يونس النبي عليه السلام على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

آحز

ولما توفي يوثم ملك بعده ابنه آحز، وكان عمر آحز لما ملك - عشرين سنة، وملك ست عشرة سنة. وفي السنة الرابعة من ملكه قصده ملك دمشق، واسمه رصين وكان أشعيا النبي في أيام آحز فبشر آحز أن الله تعالى يصرف رصين بغير حرب، فكان كذلك، فيكون وفاة آحز، في أواخر سنة إحدى وثلاثين وثمان مائة - وآحز بهمزة ممدودة ممالة وحاء مهملة ممالة أيضاً ثم زاي معجمة.

‌حزقيا

ولما توفي آحز المذكور ملك بعده ابنه: حزقيا، وكان رجلا صالحاً مظفراً، ولما دخلت السنة السادسة من ملكه، انقرضت دولة الخوارج، ملوك الأسباط الذين قدمنا ذكرهم عند ذكر رحبعم بن سليمان، ونحن نذكرهم الآن مختصراً من أولهم إلى حين

ص: 27

انتهوا في هذه السنة، أعني: السنة السادسة من ملك حزقيا، ثم إذا فرغنا من ذكرهم، نعود إلى ذكر حزقيا، ومن ملك بعده، فنقول: إن ملوك الأسباط المذكورين، خرجوا - بعد وفاة سليمان - على رحبعم بن سليمان، في أوائل سنة ست وسبعين وخمسمائة، وانقرضوا في سنة سبع وثلاثين وثمانمائة، فيكون مدة ملكهم مائتين وإحدى وستين سنة، وعددهم سبعة عشر ملكاً، وهم: يربعم ونوذب وبعشو وإيلا، وزمري وبني وعمري وآحؤب، وأحزيو وياهورا، وياهو، ويهوياحاز ويؤاش ويربعم آخر وبقحيوء، وياقح وهو شاع، وملك المذكورون في المدة المذكورة أعني مائتين وإحدى وستين سنة تقريباً، وقد ذكر لكل واحد منهم المدة التي هلك فيها، وجمعنا تلك المدد، فلم يطابق ذلك التفصيل هذه الجملة المذكورة، فأضربنا عن ذكر تفصيل مدة ما ملك كل واحد منهم، ونذكر شيئاً من أخباره، فنقول: أما أولهم) فهو يربعم، فكان من عبيد سليمان بن داود، وكان يربعم المذكور كافراً، فلما ملك أظهر الكفر وعبادة الأوثان، وفي السنة الثامنة عشر من ملك يربعم توفي رحبعم بن سليمان.

وأما ثانيهم نؤذب، فهو ابن يربعم المذكور.

وأما ثالثهم بعشو فهو ابن آخيا من سبط يشوخر. وأما رابعهم: إيلا فهو ابن بعشو المذكور، وكان مقدم جيشه زمري، فقتل إيلا وتولى زمري مكانه.

وخامسهم: زمري المذكور، أحرق في قصره. وأما سادسهم تبني: فإنه ولي الملك خمس سنين بشركة عمري. وأما سابعهم عمري: فإنه بعد موت تبني استقل بالملك بمفرده. وعمري المذكور هو الذي بني صبصطية، وجعلها دار ملكه. وأما ثامنهم أحؤب: فهو ابن عمري، وقتل في حرب كانت بينه وبين صاحب دمشق. وأما تاسعهم أحزبو: فهو ابن أحؤب المذكور، وكان موته بأن سقط من روشن له فات. وأما عاشرهم ياهورام: فهو وأخو أحزيو المذكور، وكان في أيامه الغلاء. وأما حادي عشرهم ياهو: فهو ابن نمشي. وأما ثاني عشرهم يهوياحاز: فهو ابن ياهو المذكور. وأما: ثالث عشرهم يؤاش: فهو ابن يهوياحاز. وأما رابع عشرهم يربعم الثاني: فهو ابن يؤاش، وقوي في مدة ملكه، وارتجع عدة من قرى بني إسرائيل، كانت قد خرجت عنهم من حماة إلى كنسر، وعلى عهده كان يونس النبي عليه السلام. وأما خامس عشرهم يقحيوء فإن مدته لم تطل، وأما سادس عشرهم باقح، فعلى أيامه حضر ملك الجزيرة وغزا الأسباط المذكورين، وأخذ منهم جماعة إلى بلده، وأجلى بعضهم إلى خراسان، وأما سابع عشرهم هو شاع، فهو ابن إيلا، ولما تولى أطاع صاحب الجزيرة، واسمه سلمناصر وقيل فلنصر، وبقي هو شاع في طاعته تسع سنين، ثم عصاه، فأرسل صاحب الجزيرة المذكور، وحاصره ثلاث سنين، وفتح بلده صبصطية، وأجلاه وقوه إلى بلد خراسان، وأسكن موضعهم السامرة وكان ذلك في السنة السادسة من ملك حزقيا، فانضم من سلم من الأسباط إلى حزقيا، ودخلوا تحت طاعته.

‌سنحاريب

وملك حزقيا تسعاً وعشرين سنة،

ص: 28

وكان عمره لما ملك عشرين سنة، وكان من الصلحاء الكبار، وكان قد فرغ عمره قبل موته بخمس عشرة سنة، فزاده الله تعالى في عمره خمس عشرة سنة، وأمره أن يتزوج وأخبره بذلك نبي كان في زمانه. وفي أيام ملك حزقيا، قصده سنحاريب ملك الجزيرة، فخذله الله تعالى، ووقعت الفتنة في عسكره فولى راجعاً، ثم قتله اثنان من أولاده في نينوى، وكان أشعيا النبي قد أخبر بني إسرائيل أن الله تعالى يكفيهم شر سنحاريب بغير قتال، ثم إن ولديه اللذين قتلاه في نينوى، هربا إلى جبال الموصل، ثم سار إلى القدس، فأمنا بحزقيا، وكان اسمهما اذرمالخ وشراصر.

‌أسرحدون

وملك بعد سنحاريب ابنه الآخر، واسمه اسرحدون، وعظم بذلك أمر حزقيا، وهادنته الملوك، وملك حسبما ذكرنا تسعاً وعشرين سنة، وتوفي، فيكون وفاة حزقيا في أواخر سنة ستين وثمانمائة لوفاة موسى عليه السلام حزقيا بكسر الحاء المهملة وسكون الزاي المعجمة وكسر القاف وتشديد الياء المثناة من تحتها ثم ألف -.

‌منشا

ثم ملك بعده ابنه

منشا، وكان عمره لما ملك اثنتي عشرة سنة، فعصى لما تملك، وأظهر العصيان والفسق والطغيان مدة اثنتين وعشرين سنة من ملكه، غزاه صاحب الجزيرة.

ثم إن منشا أقلع عما كان منه، وتاب إلى الله توبة نصوحاً حتى مات، وكانت مدة ملكه خمساً وخمسين سنة، فيكون وفاته في أواخر سنة تسعمائة وخمس عشرة - منشا بميم لم يتحقق حركتها ونون مفتوحة وشين معجمة مشددة وألف - ثم ملك بعده ابنه آمون سنتين، فيكون وفاته في أواخر سنة سبع عشرة وتسع مائة لوفاة موسى - آمون بهمزة ممالة وميم مضمومة ثم واو ونون - ثم ملك بعده ابنه يوشيا، ولما ملك أظهر الطاعة والعبادة، وجدد عمارة بيت المقدس، وأصلحه. وملك يوشيا المذكور إحدى وثلاثين سنة، فيكون وفاته في أواخر سنة ثمان وأربعين وتسعمائة - يوشيا بضم المثناة من تحتها وسكون الواو وكسر الشين المعجمة وتشديد المثناة من تحتها ثم ألف.

ثم ملك بعده ابنه

‌يهوياحوز

ولما ملك يهوياحوز، غزاه فرعون مصر وأظنه فرعون الأعرج، وأخذ يهوياحوز أسيراً إلى مصر فمات بها، وكانت مدة ملكه ثلاثة أشهر، فيكون انقضاء مدة ملكه في السنة المذكورة - أعني سنة ثمان وأربعين وتسعمائة أو بعدها بقليل -.

‌يهوياقيم

ولما أسر يهوياحوز، ملك بعده أخوه يهوياقيم، وفي السنة الرابعة من ملكه تولى‌

‌ بخت نصر

على بابل - وهي سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة لوفاة موسى - وذلك على حكم ما اجتمع لنا من مدد ولايات حكام بني إسرائيل، والفترات التي كانت بيتهم، وأما ما اختاره المؤرخون فقالوا: إن من وفاة موسى عليه السلام، إلى ابتداء ملك بخت نصر، تسعمائة وثمانية وسبعين سنة ومائتين وثمانية وأربعين يوماً، وهو يزيد على ما اجتمع لنا من المدد المذكورة فوق ست وعشرين سنة، وهو تفاوت قريب، وكأن هذا النقص إنما حصل من إسقاط اليهود كسورات المدد المذكورة، فإنه من المستبعد أن يملك الشخص عشرين سنة، أو تسع عشرة سنة - مثلا -

ص: 29

بل لا بد من أشهر وأيام مع ذلك.

بخت نصر

فلما ذكروا لكل شخص مدة صحيحة سالمة من الكسر، نقصت جملة السنين القدر المذكور - أعني ستاً وعشرين سنة وكسوراً - وحيث انتهينا إلى ولاية بخت نصر، فنؤرخ منه ما بعده - إن شاء الله تعالى - وكان ابتداء ولاية بخت نصر في سنة تسع وسبعين وتسعمائة لوفاة موسى عليه السلام.

وفي السنة الأولى من ولاية بخت نصر، سار إلى نينوى - وهي مدينة قبالة الموصل، بينهما دجلة - ففتحها وقتل أهلها وخربها.

وفي السنة الرابعة من ملكه - وهي السابعة من ملك يهوياقيم - سار بخت نصر بالجيوش إلى الشام، وغزا بني إسرائيل، فلم يحاربه. يهوياقيم ودخل تحت طاعته، فبقاه بخت نصر على ملكه، وبقي يهوياقيم تحت طاعة بخت نصر ثلاث سنين، ثم خرج عن طاعته، وعصى عليه، فأرسل بخت نصر وأمسك يهوياقيم، وأمر بإحضاره إليه فمات يهوياقيم في الطريق من الخوف، فتكون مدة يهوياقيم نحو إحدى عشرة سنة، ويكون انقضاء ملك يهوياقيم في أوائل سنة ثمان لابتداء ملك بخت نصر - يهوياقيم بفتح المثناة من تحتها وضم الهاء وواو ساكنة وياء مثناة من تحتها وألف وقاف مكسورة، وياء مثناة من تحتها ساكنة وميم.

لما أخذ يهوياقيم المذكور إلى العراق، استخلف مكانه ابنه - وهو يخنيو - فأقام يخنيو موضع أبيه مائة يوم، ثم أرسل بخت نصر من أخذه إلى بابل - يخنيو بفتح المثناة من تحتها وفتح الخاء المعجمة وسكون النون، وضم المثناة من تحتها، ثم واو.

ولما أخذ بخت نصر يخنيو إلى العراق أخذ معه أيضاً جماعة من علماء بني إسرائيل، من جملتهم دانيال وحزقال النبي، وهو من نسل هارون، وحال وصول يخنيو سجنه بخت نصر، ولم يبرح مسجوناً حتى مات بخت نصر، ولما أمسك بخت نصر يخنيو نصب مكانه على بني إسرائيل عم يخنيو المذكور، وهو‌

‌ صدقيا

.

صدقيا

واستمر صدقيا تحت طاعة بخت نصر، وكان إرميا النبي في أيام صدقيا، فبقي يعظ صدقيا وبني إسرائيل، ويهددهم ببخت نصر، وهم لا يلتفتون.

وفي السنة التاسعة من ملك صدقيا عصى على بخت نصر، فسار بخت نصر بالجيوش، ونزل على بارين ورفنية، وبعث الجيوش مع وزيره، واسمه نبو زرذون - بفتح النون وضم الباء الموحدة وسكون الواو وفتح الزاي والراء المهملة وسكون الألف وضم الذال المعجمة وسكون الواو وفي آخرها نون - إلى حصار صدقيا بالقدس، فسار الوزير الكذكور بالجيش وحاصر صدقيا مدة سنتين ونصف، أولها عاشر تموز من السنة التاسعة لملك صدقيا، وأخذ بعد حصاره المدة المذكورة القدس بالسيف، وأخذ صدقيا أسيراً، وأخذ معه جملة كثيرة من بني إسرائيل، وأحرق القدس، وهدم البيت الذي بناه سليمان، وأحرقه وأباد بني إسرائيل قتلا وتشريداً.

فكان مدة ملك صدقيا نحو إحدى عشرة سنة، وهو آخر ملوك بني إسرائيل.

وأما من تولى بعده من بني إسرائيل، بعد إعادة عمارة بيت المقدس - على ما سنذكره - فإنما كان له الرئاسة بيت المقدس فحسب، لا غير ذلك، فيكون انقضاء ملوك بني إسرائيل، وخراب بيت المقدس على يد بخت نصر سنة عشرين من ولاية بخت نصر تقريباً،

ص: 30

وهي السنة التاسعة والتسعون وتسعمائة لوفاة موسى عليه السلام، وهي أيضاً سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة مضت من عمارة بيت المقدس، وهي مدة لبثه على العمارة، واستمر بيت المقدس خراباً سبعين سنة، ثم عمر على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

وإلى هنا انتهى نقلنا عن كتب اليهود المعروفة بالأربعة والعشرين المتواترة عندهم، وقربنا في ضبط هذه الأسماء غاية ما أمكننا، فإن فيها أحرفاً ليست من حروف العربية، وفيها إمالات ومدات لا يمكن أن تعلم بغير مشافهة، لكن ما ذكرناه من الضبط، هو أقرب ما يمكن، فليعلم ذلك.

ومن تجارب الأمم لابن مسكويه قال: إن بخت نصر لما غزا القدس وخربه وأباد بني إسرائيل، هرب من بني إسرائيل جماعة، قاموا بمصر عند فرعون، فأرسل بخت نصر إلى فرعون مصر يطلبهم منه، وقال: هؤلاء عبيدي، وقد هربوا إليك، فلم يسلمهم فرعون مصر، وقال: ليس هم بعبيدك، وإنما هم أحرار، وكان هذا هو السبب لقصد بخت نصر غزو مصر، وهرب منهم جماعة إلى الحجاز، وأقاموا مع العرب.

من كتاب أبي عيسى: إن بخت نصر لما فرغ من خراب القدس وبني إسرائيل، قصد مدينة صور، فحاصرها مدة، وإن أهل صور جعلوا جميع أموالهم في السفن، وأرسلوها في البحر، فسلط الله تعالى على تلك السفن ريحاً، فغرقت أموالهم عن آخرها.

وجد بخت نصر في حصارها، وحصل لعسكره منهم جراحات كثيرة وقتل، وما زال على ذلك حتى ملكها بالسيف، وقتل صاحب صور، لكنه لم يجد فيها من المكاسب ماله صورة.

ثم سار بخت نصر إلى مصر، والتقى هو وفرعون الأعرج، فانتصر بخت نصر عليه، ومتله وصلبه، وحاز أموال مصر وذخائرها، وسبا من كان بمصر من القبط وغيرهم، فصارت مصر بعد ذلك خراباً أربعين سنة، ثم غزا بلاد المغرب، وعاد إلى بلاده ببابل، وسنذكر أخبار بخت نصر ووفاته. مع ملوك الفرس - إن شاء الله تعالى. وأما بيت المقدس فإنه عمر بعد لبثه على التخريب سبعين سنة، وعمره بعض ملوك الفرس - واسمه عند اليهود كيرش - وقد اختلف في كيرش المذكور: من هو؟. فقيل: دارا بن بهمن، وقيل: بل هو بهمن المذكور، وهو الأصح، ويشهد لصحة ذلك كتاب إشعيا على ما سنذكر ذلك عند ذكر أزدشير بهمن المذكور مع ملوك الفرس إن شاء الله تعالى.

ولما عادت عمارة بيت المقدس، تراجعت إليه بنو إسرائيل من العراق وغيره، وكانت عمارته في أول سنة سبعين لابتداء ولاية بخت نصر. ولما تراجعت بنو إسرائيل إلى القدس كان من جملتهم عزير وكان بالعراق، وقدم معه من بني إسرائيل ما يزيد على ألفين من العلماء وغيرهم، وترتب مع عزير في القدس مائة وعشرون شيخاً من علماء بني إسرائيل.

وكانت التوراة قد عدمت منهم إذ ذاك، فمثلها الله تعالى في صدر العزير، ووضعها لبني إسرائيل يعرفونها بحلالها وحرامها، فأحبوه حباً شديداً، وأصلح العزير أمرهم، وأقام بينهم على ذلك.

من كتب اليهود: إن العزير لبث مع بني إسرائيل في القدس يدبر أمرهم، حتى توفي

ص: 31

بعد مضي أربعين سنة لعمارة بيت المقدس. أقول: فيكون وفاة العزير سنة ثلاثين ومائة لابتداء ولاية بخت نصر، واسم العزير بالعبرانية عزرا وهو من ولد فتحاس بن العزر بن هارون بن عمران.

ومن كتب اليهود: إن الذي تولى رئاسة بني إسرائيل ببيت المقدس بعد العزير شمعون الصديق وهو أيضاً من نسل هارون.

من كتاب أبي عيسى إن بني إسرائيل لما تراجعوا إلى القدر بعد عمارته. صار لهم حكام منهم، وكانوا تحت حكم ملوك الفرس، واستمروا كذلك حتى ظهر الإسكندر في سنة أربع مائة وخمس وثلاثين لولاية بخت نصر. وغلبت اليونان على الفرس، ودخلت حينئذ بنو إسرائيل تحت حكم اليونان، وأمام اليونان من بني إسرائيل ولاة عليهم، وكان يقال للمتولي عليهم هرذوس، وقيل هيروذس، واستمر بنو إسرائيل على ذلك حتى خرب بيت المقدس الخراب الثاني، وتشتت منه بنو إسرائيل على ما سنذكره إن شاء الله تعالى ولنرجع إلى ذكر من كان من الأنبياء في أيام بني إسرائيل.

‌ذكر يونس بن متى

‌عليه السلام

ومتى أم يونس عليه السلام، ولم يشتهر نبي بأمه غير عيسى ويونس عليهما السلام. كذا ذكره ابن الأثير في الكامل في ترجمة يونس المذكور، وقد قيل إنه من بني إسرائيل، وإنه من سبط بنيامين، وقيل إن يونس المذكور كانت بعثته بعد يوثم ابن عزياهو أحد ملوك بني إسرائيل المقدم الذكر، وكانت وفاة يوثم في سنة خمس عشرة وثمانمائة لوفاة موسى عليه السلام.

وبعث الله تعالى يونس المذكور في تلك المدة إلى أهل نينوى وهي قبالة الموصل، بينهما دجلة - وكانوا يعبدون الأصنام، فنهاهم وأوعدهم العذاب في يوم معلوم إن لم يتوبوا، وضمن ذلك عن ربه عز وجل.

فلما أظلهم العذاب آمنوا، فكشفه الله عنهم، وجاء يونس لذلك اليوم، ولم ير العذاب حل، ولا علم بإيمانهم، فذهب مغاضباً. قال ابن سعيد المغربي: ودخل في سفينة من سفن دجلة، فوقفت السفينة، ولم تتحرك، فقال رئيسها: فيكم من له ذنب؟ وتساهموا على من يلقونه في البحر، ووقعت المساهمة على يونس، فرموه، فالتقمه الحوت، وسار به إلى الأبلة، وكان من شأنه ما أخبر الله تعالى به في كتابه العزيز.

‌ذكر إرميا

عليه السلام

قد تقدم عند ذكر صدقيا أن إرميا كان في أيامه، وبقي إرميا يأمر بني إسرائيل بالتوبة، ويتهددهم ببخت نصر، وهم لا يلتفتون إليه.

فلما رأى أنهم لا يرجعون عما هم فيه، فارقهم إرميا واختفى حتى غزاهم بخت نصر وخرب القدس حسبما تقدم ذكره.

من تاريخ ابن سعيد المغربي: إن الله تعالى أوحى إلى إرميا إني عامر بيت المقدس، فاخرج إليها، فخرج إرميا وقدم إلى القدس، وهي خراب، فقال في نفسه: سبحان الله، أمرني الله أن أنزل هذه البلدة، وأخبرني أنه عامرها فمتى يعمره؟ ومتى يحييها الله بعد موتها؟ ثم وضع رأسة فنام، ومعه حماره وسلة فيها طعام.

وكان من قصته ما أخبر الله تعالى به في محكم كتابه العزيز في

ص: 32

قوله تعالى " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها. قال أنى يحي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشرها ثم نكسوها لحماً فلما تبين له قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير "" البقرة: 259 " وقد قيل إن صاحب القصة هو العزير والأصح أنه إرميا.

‌ذكر نفل التوراة

وغيرها من كتب الأنبياء من اللغة العبرانية إلى اللغة اليونانية من كتاب أبي عيسى قال: لما ملك الإسكندر، وقهر الفرس، وعظمت مملكة اليونان صار بنو إسرائيل وغيرهم تحت طاعتهم. وتوالت ملوك اليونان بعد الإسكندر، وكان يقال لكل واحد منهم بطلميوس - على ما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى في الفصل الثالث، ولكن نذكر منهم هاهنا ما تدعو الحاجة إلى ذكره فنقول: لما مات الإسكندر، ملك بعده بطليموس بن لاغوس عشرين سنة، ثم ملك بعده بطليموس محب أخيه، وهو الذي نقلت إليه التوراة وغيرها من كتب الأنبياء، من اللغة العبرانية إلى اللغة اليونانية. أقول: فيكون نقل التوراة بعد عشرين سنة مضت لموت الإسكندر. قال أبو عيسى: إن بطلميوس الثاني محب أخيه المذكور، لما تولى وجد جملة من الأسرى، منهم نحو ثلاثين ألف نفس من اليهود، فأعتقهم كلهم، وأمرهم بالرجوع إلى بلادهم، ففرح بنو إسرائيل بذلك، وأكثروا له من الدعاء والشكر، وأرسل رسولا وهدايا إلى بني إسرائيل المقيمين بالقدس، وطلب منهم أن يرسلوا إليه عدة من علماء بني إسرائيل، لنقل التوراة وغيرها إلى اللغة اليونانية، فسارعوا إلى امتثال أمره.

ثم إن بني إسرائيل تزاحموا على الرواح إليه، وبقي كل منهم يختار ذلك، واختلفوا، ثم اتفقوا. على أن يبعثوا إليه من كل سبط من أسباطهم ستة نفر فبلغ عددهم اثنين وسبعين رجلا.

فلما وصلوا إلى بطلميوس المذكور، أحسن قراهم، وصيرهم ستاً وثلاثين فرقة، وخالف بين أسباطهم، وأمرهم فترجموا له ستاً وثلاثين نسخة بالتوراة، وقابل بطلميوس بعضها ببعض، فوجدها مستوية لم تختلف اختلافاً يعتد به، وفرق بطلميوس النسخ المذكورة في بلاده، وبعد فراغهم من الترجمة أكثر لهم الصلات، جهزهم إلى بلدهم.

وسأله المذكورون في نسخة من تلك النسخ، فأسعفهم بنسخة، فأخذها المذكورون، وعادوا بها إلى بني إسرائيل ببيت المقدس.

فنسخة التوراة المنقولة لبطلميوس حينئذ أصح نسخ التوراة وأثبتهما، وقد تقدمت الإشارة إلى هذه النسخة، وإلى النسخة التي بيد اليهود الآن، وإلى نسخة السامرية في مقدمة هذا الكتاب، فأغنى عن الإعادة.

ص: 33

‌ذكر زكريا وابنه يحيى

عليهما السلام

من كتاب ابن سعيد المغربي: زكريا من ولد سليمان بن داود عليهما السلام، وكان نبياً ذكره الله تعالى في كتابه العزيز، قال: وكان نجاراً، وهو الذي كفل مريم أم عيسى، وكانت مريم بنت عمران بن ماتان من ولد سليمان بن داود، وكانت أم مريم اسمها حنة وكان زكريا متزوجاً أخت حنة. واسمها إيساع فكانت زوج زكريا خالة مريم، ولذلك كفل زكريا مريم.

فلما كبرت مريم بنى لها زكريا غرفة في المسجد، فانقطعت مريم في تلك الغرفة للعبادة. وكان لا يدخل على مريم غير زكريا فقط.

وأرسل الله تعالى جيريل فبشر زكريا بيحيى مصدقاً بكلمة من الله، تعني عيسى بن مريم، ثم أرسل الله تعالى جبريل ونفخ في جيب مريم، فحبلت بعيسى، وكانت قد حبلت خالتها إيساع بيحيى، وولد يحيى قبل المسيح بستة أشهر، ثم ولدت مريم عيسى. فلما علمت اليهود أن مريم ولدت من غير بعل اتهموا زكريا بها، وطلبوه، فهرب واختفى في شجرة عظيمة، فقطعوا الشجرة وقطعوا زكريا معها، وكان عمر زكريا حينئذ نحو مائة سنة، وكأن قتله بعد ولادة المسيح، وكانت ولادة المسيح لمضي ثلاثمائة وثلاث سنين للإسكندر، فيكون مقتل زكريا بعد ذلك بقليل.

وأما يحيى ابنه فإنه نبئ صغيراً، ودعا الناس إلى عبادة الله، ولبس يحيى الشعر، واجتهد في العبادة حتى نحل جسمه وكان عيسى بن مريم قد حرم نكاح بنت الأخ؛ وكان لهرذوس وهو الحاكم على بني إسرائيل بنت أخ وأراد أن يتزوجها حسبما هو جائز في دين اليهود فنهاه يحيى عن ذلك، فطلبت أم البنت من هرذوس أن يقتل يحيى، فلم يجبها إلى ذلك، فعاودته، وسألته البنت أيضاً، وألحتا عليه، فأجابهما إلى ذلك وأمر بيحيى، فذبح لديهما.

وكان قتل يحيى قبل رفع المسيح بمدة يسيرة، لأن عيسى‌

‌ عليه السلام

إنما ابتدأ بالدعوة لما صار له ثلاثون سنة؛ ولما أمره الله أن يدعو الناس إلى دين النصارى، غمسه يحيى في نهر الأردن، ولعيسى نحو ثلاثين سنة. وخرج من نهر الأردن، وابتدأ بالدعوة.

وجميع ما لبث المسيح بعد ذلك ثلاث سنين، فذبح يحيى كان بعد مضي ثلاثين سنة من عمر عيسى، وقبل رفعه، وكان رفع عيسى بعد نبوته بثلاث سنين، والنصارى تسمي يحيى المذكور يوحنا المعمدان لكونه عمد المسيح حسبما ذكر.

‌ذكر عيسى بن مريم

عليه السلام

أما مريم فاسم أمها حنة زوج عمران وكانت حنة لا تلد، واشتهت الولد، فدعت بذلك، ونذرت إن رزقها الله ولداً، جعلته من سدنة بيت المقدس، فحبلت حنة، وهلك زوجها عمران، وهي حامل، فولدت بنتا وسمتها مريم، ومعناه: العابدة. ثم حملتها وأتت بها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار وقالت: دونكم هذه المنذورة، فتنافسوا فيها لأنها بنت عمران - وكان من

ص: 34

أئمتهم - فقال زكريا: أنا أحق بها لأن خالتها زوجتي.

فأخذها زكريا، وضمها إلى إيساع خالتها، فلما كبرت مريم أفرد لها زكريا غرفة حسبما تقدم ذكره، وأرسل الله جبريل، فنفخ في مريم فحبلت بعيسى، وولدته في بيت لحم وهي قرية قريبة من القدس سنة أربع وثلاثمائة لغلبة الإسكندر. ولما جاءت مريم بعيسى تحمله، قال لها قومها:" لقد جئت شيئاً فرياً "" مريم 117 " وأخذوا الحجارة ليرجموها، فتكلم عيسى وهو في المهد معلقاً في منكبها - فقال " إني عبد الله آتاني الكتاب، وجعلني نبياً، وجعلني مباركاً أينما كنت "" مريم: 30 - 31 "، فلما سمعوا كلام ابنها تركوها.

ثم إن مريم أخذت عيسى، وسارت به إلى مصر، وسار معه ابن عمها يوسف ابن يعقوب بن ماتان النجار. وكان يوسف المذكور نجاراً حكيماً، ويزعم بعضهم أن يوسف المذكور كان قد تزوج مريم، لكنه لم يقربها، وهو أول من أنكر حملها، ثم علم وتحقق براءتها، وسار معها إلى مصر، وأقاما هناك اثنتي عشرة سنة ثم عاد عيسى وأمه إلى الشام، ونزلا الناصرة وبها سميت النصارى - وأقام بها عيسى حتى بلغ ثلاثين سنة، فأوحى الله تعالى إليه وأرسله إلى الناس.

من كتاب أبي عيسى ولما صار لعيسى ثلاثون سنة، صار إلى الأردن، وهو نهر الغور المسمى بالشريعة فاعتمد، وابتدأ بالدعوة، وكان يحيى بن زكريا هو الذي عمده، وكان ذلك لستة أيام خلت من كانون الثاني لمضي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة للإسكندر. وأظهر عيسى عليه السلام المعجزات، وأحيا ميتاً يقال له عازر بعد ثلاثة أيام من موته، وجعل من الطين طائراً قيل هو الخفاش، وأبرأ الأكمه والأبرص، وكان يمشي على الماء. وأنزل الله تعالى عليه المائدة، وأوحى إليه الإنجيل.

من كتاب أبي عيسى المغربي وكان عيسى عليه السلام يلبس الصوف والشعر، ويأكل من نبات الأرض، وربما تقوت من غزل أمه.

وكان الحواريون الذين اتبعوه اثني عشر رجلاً، وهم شمعون الصفا وشمعون القنابي، ويعقوب بن زندي، ويعقوب بن حلقي، وقولوس، ومارقوس وأندرواس، وتمريلا، ويوحنا، ولوقا، وتوما، ومتى وهؤلاء الذين سألوه نزول المائدة، فسأل عيسى ربه عز وجل، فأنزل عليه سفرة حمراء مغطاة بمنديل؛ فيها سمكة مشوية، وحولها البقول ما خلا الكراث، وعند رأسها ملح، وعند ذنبها خل ومعها خمسة أرغفة على بعضها زيتون، وعلى باقيها رمان وتمر، فأكل منها خلق كثير ولم تنقص، ولم يأكل منها ذو عاهة إلا برئ، وكانت تنزل يوماً وتغيب يوماً أربعين ليلة.

قال ابن سعيد: ولما أعلم الله المسيح أنه خارج من الدنيا، جزع من ذلك فدعا الحواريين، وصنع لهم طعاماً وقال أحضروني الليلة، فإن لي إليكم حاجة، فلما اجتمعوا بالليل عشاهم، وقام يخدمهم، فلما فرغوا من الطعام، أخذ يغسل أيديهم، ويمسحها بثيابه فتعاظموا ذلك فقال: من رد علي شيئاً مما أصنع، فليس مني فتركوه حتى فرغ فقال لهم: إنما فعلت هذا ليكون لكم أسوة بي في خدمة بعضكم بعضاً، وأما حاجتي إليكم؛ فأن تجتهدوا لي في الدعاء

ص: 35

إلى الله أن يؤخر أجلي. فلما أرادوا ذلك ألقى الله عليهم النوم، حتى لم يستطيعوا الدعاء، وجعل المسيح يوقظهم ويؤنبهم فلا يزدادون إلا نوماً وتكاسلاً، وأعلموه أنهم مغلوبون عن ذلك، فقال المسيح: سبحان الله يذهب بالراعي، ويتفرق الغنم، ثم قال لهم: الحق أقول لكم: ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة، ويأكلن ثمني.

وكانت اليهود قد جدت في طلبه، فحضر أحد الحواريين إلى هرذوس الحاكم على اليهود وإلى جماعة من اليهود وقال: ما تجعلون لي إذا دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهماً فأخذها ودلهم عليه فرفع الله تعالى المسيح إليه، وألقى شبهه على الذي دلهم عليه.

قال ابن الأثير في الكامل: وقد اختلفت العلماء في موته قبل رفعه فقيل: رفع ولم يمت، وقيل بل توفاه الله ثلاث ساعات، وقيل: سبع ساعات، ثم أحياه، وتأول قائل هذا قوله تعالى:" إني متوفيك "" آل عمران: 55، ".

ولما أمسك اليهود الشخص المشبه به ربطوه، وجعلوا يقودونه بحبل، ويقولون له: أنت كنت تحيي الموتى، أفلا تخلص نفسك من هذا الحبل؟ ويبصقون في وجهه، ويلقون عليه الشوك وصلبوه على الخشب، فمكث على الخشب ست ساعات ثم استوهبه يوسف النجار من الحاكم الذي كان على اليهود، وكان اسمه فيلاطوس، ولقبه هرذوس، ودفنه في قبر كان يوسف المذكور قد أعده لنفسه ثم أنزل الله المسيح من السماء إلى أمه مريم وهي تبكي عليه، فقال لها: إن الله رفعني إليه ولم يصبني إلا الخير، وأمرها فجمعت له الحواريين، فبثهم في الأرض رسلاً عن الله، وأمرهم أن يبلغوا عنه ما أمر الله به، ثم رفعه الله إليه، وتفرق الحواريون حيث أمرهم وكان رفع المسيح لمضي ثلاثمائة وست وثلاثين سنة من غلبة الإسكندر على دارا.

قال الشهرستاني: ثم إن أربعة من الحواريين وهم: متى ولوقا ومرقس ويوحنا، اجتمعوا وجمع كل واحد منهم إنجيلاً، وخاتمة إنجيل متى أن المسيح قال: إني أرسلتكم إلى الأمم كما أرسلني أبي إليكم، فاذهبوا وادعوا الأمم باسم الأب والابن روح القدس.

وكان بين رفع المسيح ومولد النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة وخمس وأربعون سنة تقريباً، وكانت ولادة المسيح أيضاً لمضي ثلاث وثلاثين سنة من أول ملك أغسطس، ولمضي إحدى وعشرين سنة من غلبته على قلوبطرا لان أغسطس لمضي اثنتي عشرة سنة من ملكه، سار من رومية، وملك ديار مصر، وقتل قلوبطرا ملكة اليونان.

وبعد إحدى وعشرين سنة من غلبته على قلوبطرا ولد المسيح عليه السلام، وقيل غير ذلك، ولكن هذا هو الأقوى، وكانت مدة ملك أغسطس ثلاثاً وأربعين سنه.

وعاش المسيح إلى أن رفع ثلاثاً وثلاثين سنة، فيكون رفع المسيح بعد موت أغسطس بثلاث وعشرين سنة، فيكون رفع المسيح في أواخر السنة الأولى من ملك غانيوس.

وأما أمة عيسى فهم النصارى، وسيذكرون مع باقي الأمم في الفصل الخامس إن

ص: 36

شاء الله تعالى.

وأما مريم أم عيسى، فإنها عاشت نحو ثلاث وخمسين سنة، لأنها حملت بالمسيح، لما صار لها ثلاث عشرة سنة، وعاشت معه مجتمعة ثلاثاً وثلاثين سنة كسراً، وبقيت بعد رفعه ست سنين.

؟؟؟‌

‌ ذكر خراب بيت المقدس

الخراب الثاني

وهلاك اليهود وزوال دولتهم زوالاً لا رجوع بعده قد تقدم ذكر عمارة سليمان بن داود لبيت المقدس، وأن سليمان عمره، وفرغ منه في سنة ست وأربعين وخمسمائة لوفاة موسى عليه السلام، ثم ذكر، ناغز وبخت نصر القدس مرة بعد أخرى، حتى خربه وشتت بني إسرائيل في البلاد، وأن ذلك كان لمضي تسع عشرة سنة من ابتداء ملك بخت نصر وهو لمضي سنة تسعمائة وسبع وتسعين لوفاة موسى عليه السلام، وأن بيت المقدس استمر خراباً سبعين سنة، ثم عمر، فيكون ابتداء عمارته الثانية لمضي ألف وسبع وستين سنة، أعني في سنة ثمان وستين بعد الألف لوفاة موسى، ولمضي تسع وثمانين سنة من ابتداء ملك بخت نصر، فتكون عمارته في سنة تسعين من ملك المذكور والذي عمره هو ملك الفرس أزدشير بهمن، واسم أزدشير بهمن المذكور عند بني إسرائيل كيرش، وقيل: كورش، وقيل: إن كيرش ملك آخر غير أردشير بهمن.

ثم تراجعت إليه بنو إسرائيل، وصاروا تحت حكم الفرس، ثم لما غلبت اليونان. على الفرس صارت بنو إسرائيل تحت حكمهم.

وكان اليونان يولون من بني إسرائيل عليهم نائباً، وكان لقب كل من يتولى على بني إسرائيل هرذوس، وقيل: هيرذوس. واستمرت بنو إسرائيل كذلك حتى قتلوا زكريا بعد ولادة المسيح، حسبما تقدم ذكره.

ثم لما ظهر المسيح، ودعا الناس بما أمره الله به، أراد هرذوس قتله، وكان اسمه هرذوس الذي قصد قتل المسيح فيلاطوس.

فرفع الله عيسى بن مريم إليه، وكان منه ومنهم ما تقدم ذكره، وكانت ولادة المسيح لإحدى وعشرين سنة مضت من غلبة أغسطس على قلوبطرا.

وكانت مدة ملك أغسطس ثلاثاً وأربعين سنة، منها قبل ملك مصر اثنتي عشرة سنه، وبعد ملك مصر إحدى وثلاثين سنة، فيكون عمر المسيح عند موت أغسطس عشر سنين تقريباً، وجملة ما عاشه المسيح إلى أن رفعة الله ثلاثاً وثلاثين سنة وثلاثة أشهر، فيكون رفعه بعد موت أغسطس بنحو ثلاث وعشرين سنة والذي ملك بعد أغسطس طبياريوس وملك طبياريوس اثنتين وعشرين سنة ثم ملك بعد طبياريوس غانيوس فيكون رفع المسيح في السنة الأولى من ملكه، وملك أربع سنين ثم ملك بعده قلوذيوس أربع عشرة سنة، ثم ملك بعده نارون ثلاث عشرة سنة، ثم ملك بعده ملك آخر، قيل اسمه أوسباسيانوس

ص: 37

وقيل أسفشيثوس، عشر سنين، ثم ملك بعده طيطوس.

وفي السنة الأولى من ملكه، قصد بيت المقدس، وأوقع باليهود، وقتلهم، وأسرهم عن آخرهم، إلا من اختفى. ونهب القدس وخربه، وخرب بيت المقدس، وأحرق الهيكل، وأحرق كتبهم وخلا القدس من بني إسرائيل، كأن لم يكن بالأمس.

ولم تعد لهم بعد ذلك رئاسة ولا حكم، وكان ذلك بعد رفع المسيح بنحو أربعين سنة لأن بعد رفع المسيح مضى ثلاث سنين من ملك غانيوس، وأربع عشرة من قلوذيوس، وثلاث عشرة من ملك نارون وعشر من أوسباسيانوس، وجملة ذلك أربعون سنة، فيكون خراب بيت المقدس الخراب الثاني.

وتشتت اليهود التشتت الذي لم يعودوا بعده لأربعين سنة مضت من رفع المسيح، ولثلاثمائة وست وسبعين سنة مضت من غلبة الإسكندر، ولثمانمائة وإحدى عشرة سنة مضت لابتداء ملك بخت نصر، فيكون لبث بيت المقدس على عمارته الأولى إلى حين خربه بخت نصر، أربعمائة وثلاثاً وخمسين سنة، ثم لبثت على التخريب سبعين سنة، ثم عمر ولبث على عمارته الثانية إلى حين خربه طيطوس التخريب الثاني، سبعمائة وإحدى وعشرين سنة.

ثم إني وجدت في كتاب اسمه، العزيزي تصنيف الحسن بن أحمد المهلبي في المسالك والممالك، أن بيت القدس، بعد أن خربه طيطوس التخريب الثاني حسبما ذكر تراجع إلى العمارة قليلا قليلا، واعتنى به بعض ملوك الروم، وسماه إيليا ومعناه بيت الرب، فعمرة ورمم شعثه، واستمر عامراً - وهي عمارته الثالثة - حتى سارت هلانة أم قسطنطين إلى القدس في طلب خشبة المسيح التي تزعم النصارى أن المسيح صلب عليها، ولما وصلت إلى القدس، بنت كنيسة قيامة، على القبر الذي تزعم النصارى أن عيس دفن به، وخربت هيكل بيت المقدس إلى الأرض، وأمرت أن يلقي في موضعه مقامات البلد وزبالته فصار موضع الصخرة مزبلة، وبقي الحال على ذلك حتى قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتح القدس، فدله بعضهم على موضع الهيكل، فنظفه عمر من الزبائل، وبنى به مسجداً، وبقى ذلك المسجد إلى أن تولى الوليد بن عبد الملك الأموي، فهدم ذلك المسجد، وبنى على الأساس القديم المسجد الأقصى، وقبة الصخرة.

وبنى هناك قباباً أيضاً، سمى بعضها قبة الميزان، وبعضها قبة المعراج، وبعضها قبة السلسلة. والأمر على ذلك إلى يومنا هذا. كذا نقله العزيزي والعهدة عليه، أقول: وينبغي أن يخص كلام العزيزي خراب هيكل بيت المقدس بالعمارة التي كانت على الصخرة خاصة، لأن ذكر صفات المسجد الأقصى جاء في حديث معراج النبي صلى الله عليه وسلم.

وخلاصة ما ذكر أن هيكل بيت المقدس عمره سليمان بن داود وبقي عامراً حتى خربه بخت نصر وهو التخريب الأول، ثم عمره كورش، وهي عمارته الثانية، وبقي عامراً حتى خربه طيطوس التخريب الثاني، ثم تراجع للعمارة قليلا قليلا، وبقي عامراً حتى خربتة هلانة أم قسطنطين، وهو التخريب الثالث، ثم

ص: 38

عمره عمر بن الخطاب، وهو عمارته الرابعة، ثم خرب ذلك وعمره الوليد بن عبد الملك، وهي عمارته الخامسة، وهو على ذلك إلى يومنا هذا.

‌الفصل الثاني

ذكر ملوك الفرس

كانت ملوك الفرس من أعظم ملوك الأرض في قديم الزمان، ودولتهم وترتيبهم لا يماثلهم في ذلك غيرهم، وهم أربع طبقات:

‌طبقة أولى

يقال لهم الفيشداذية، لأنه كان يقال لكل واحد منهم فيشداذ، ومعنى هذه اللفظة أول سيرة العدل. وعدد الفيشداذية تسعة وهم: أو شهنج، وطمهورث، وجمشيذ، وبيوراسف، وهو الضحاك - وأفريذون بن أثقيان، ومنوجهر، وفراسياب، وزو، وكرشاسف. وهذه الطبقة قديمة، وقد نقل عن مدد ملكهم وحروبهم أمور يأباها العقل، ويمجها السمع فأضربنا عنها لذلك، وذكرنا ما يقرب إلى الذهن صحته. وطبقه ثانية يقال لهم الكيانية: وهم الذين في أول أسمائهم لفظة كي وفي لفظة للتنوية، قيل معناها الروحاني، وقيل: الجبار، وعدد الكيانية تسعة أيضاً وهم: كيقباذ وكيكاؤوس، وكيخسرو، وكيلهراسف، وكيبشتاسف، وكي أزدشير بهمن، وخماني بنت أزدشير بهمن، ودارا الأول، ودارا الثاني وهو الذي قتله الإسكندر، واستولى على ملكه.

وطبقة ثالثة وهم بعض ملوك الطوائف ويقال لهذه الطبقة الإشغانية. وعددهم أحد عشر، وهم أشغا بن أشغان وويقال أشك بن أشكان، وسابور بن أشغان، وجور بن أشغان، وبيرن الأشغاني، وجوذرز الأشغاني، ونرسي الأشغاني، وهرمز الأشغاني، وأرادوان الأشغاني، وخسرو الأشغاني، وبلاش الأشغاني، وأردوان الأصغر الأشغاني.

وطبقة رابعة وهم الأكاسرة، لأن كل واحد منهم كان يقال له كسرى، ويقال لهم أيضاً الساسانية، نسبة إلى جدهم ساسان، وملك منهم عدة من النساء بعد الهجرة، واستولى عليهم غيرهم من الفرس، وكان أولهم أزدشير بن بابك، وآخرهم يزد جرد، الذي قتل في أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه، على ما سنقف على أخبارهم مفصلا إن شاء الله تعالى.

الطبقة الأولى الفيشداذية من تجارب الأمم وعواقب الهمم لأبي علي أحمد بن مسكويه، قال أوشهنج أول من رتب الملك ونظم الأعمال، ووضع الخراج، ولقبه فيشداذ وتفسيره أول سيرة العدل، وكان ملكه بعد الطوفان بمائتي سنة، كذا ذكر ابن مسكويه. وقال غيره إن أوشهنج ومن ملك بعده إلى الضحاك، كانوا قبل الطوفان، وكذا يقول الفرس ويزعمون أن ملك ملوكهم لم ينقطع، وينكرون الطوفان، ولا يعترفون به.

رجعنا إلى كلام ابن مسكويه قال: وأوشهنج هو الذي بنى مدينتي بابل والسوس، وكان فاضلا محمود السيرة والسياسة، ونزل الهند وتنقل في البلاد، وعقد على رأسه التاج، وجلس على

ص: 39

السرير ثم انقضى ملكه ولم يشتهر بعده غير طهمورث.

وطهمورث من ولد أوشهنج وبينه وبينه عدة آباء، وسلك سيرة جده، وهو أول من كتب بالفارسية، وكان على هيئة الديالم ولباسهم، وهلك ثم ملك بعده جمشيذ - بجيم مفتوحة وميم ساكنة وشين مكسورة منقوطة وياء مثناة من تحتها وذال منقوطة.

وهو أخو طهمورث لأبويه وجم والقمر، وشيذهو الشعاع، أي شعاع القمر وكذلك أيضاً يسمون خورشيد أي شعاع الشمس، لأن خور اسم الشمس، وجمشيذ المذكور ملك الأقاليم السبعة، وسلك السيرة الصالحة المتقدمة، وزاد عليها ورتب الناس على طبقات كالحجاب والكتاب، وأمر أن يلازم كل واحد طبقته ولا يتعداها، وأحدث النيروز وجعله عيداً يتنعم الناس فيه.

من الكامل لابن الأثير ووضع لكل أمر من الأمور خاتماً مخصوصاً به، فكتب على خاتم الحرب الرفق والمداراة، وعلى خاتم الخراج العدل والعمارة، وعلى خاتم البريد والرسل الصدق والأمانة، وعلى خاتم المظالم السياسة والانتصاف، وبقيت رسوم تلك الخواتيم حتى محاها الإسلام. انتهى كلام ابن الأثير.

قال ابن مسكويه: ثم إنه بعد ذلك بدل سيرته الصالحة بأن أظهر التكبر والجبروت على وزرائه وقواده، وآثر اللذات، وترك كثيراً من السياسات التي كان يتولاها بنفسه، وعلم بيوراسب باستيحاش الناس من جمشيذ وتنكر خواصه عليه، فقصده، وهرب جمشيذ وتبعه بيوراسب حتى ظفر به وقتله بأن أشره بمئشار.

ثم ملك بيوراسب وكان يقال له الدهاك، ومعناه عشر آفات، فلما عرب قيل الضحاك، ولما ملك ظهر منه شر شديد، وفجور، وملك الأرض كلها، وسار فيها بالجور والعسف، وبسط يده بالقتل، وسن العشور والمكوس، واتخذ المغنين والملهيين، وكان على منكبيه سلعتان يحركهما إذا شاء، فادعى أنهما حيتان تهويلا على ضعفاء العقول، وكان يسترهما بثيابه، ولما اشتد على الناس جوره، وظلمه، ظهر بأصبهان رجل يقال له كابي، وكان الضحاك قد قتل له ابنين، فأخذ كابي المذكور عصاً، وعلق بطرفها جراباً ويقال: إنه كان حداداً، وإن الذي علقه نطع، كان يتوقى به النار، وصاح في الناس ودعاهم إلى مجاهدة بيوراسب، فأجابه خلق كثير واستفحل أمره.

وبقي ذلك العلم معظماً عند الفرس، ورصعوه بالجواهر، وسموه درفش كابيان، ولما قوي أمر كابي، قصد بيوراسب فهرب منه. وسأل الناس كابي أن يتملك عليهم، فأبى لكونه ليس من بيت الملك، وأمرهم أن يملكوا بعض ولد جمشيذ، وكان أفريذون بن أثفان من أولاد جمشيذ وكان مستخفياً من الضحاك، فوافى بجماعته إلى كابي، فاستبشر الناس به وولوه الأمر، وصار كابي أحد أعوانه، حتى احتوى أفريذون على منازل بيوراسب وأمواله، وتبعه وأسره بدياوند وقتله.

وكان النبي إبراهيم الخليل عليه السلام في أواخر أيام الضحاك، ولذلك زعم قوم أنه نمروذ، وأن نمروذ عامل من عماله، وقد اختلف في الضحاك المذكور اختلافاً كثيراً، فيزعم كل من الفرس واليونان

ص: 40

والعرب أنه منهم. والفرس يجعلونه قبل الطوفان لأنهم لا يعترفون بالطوفان.

ثم ملك أفريذون بن أثفيان، وهم من ولد جمشيذ قيل إنه التاسع من ولده، وكان إبراهيم الخليل في أول ملك أفريذون، وقد قيل إن أفريذون هو ذو القرنين، المذكور في القرآن ولما ملك أفريذون سار في الناس بأحسن سيرة، ورد جميع ما اغتصبه الضحاك على أصحابه، وكان لأفريذون ثلاثة أولاد، فقسم الأرض بينهم أثلاثاً، أحدهم إيرج وجعل له العراق والهند والحجاز، وجعله صاحب التاج والسرير وفوض إليه الولاية على أخويه.

والثاني: شرم وجعل له الروم وديار مصر والمغرب، والثالث طوج، وجعل له الصين والترك والمشرق جميعه، فلما مات أفريذون وثب طوج وشرم على إيرج فقتلاه واقتسما بلاده وملكا الأرض، ثم نشأ ابن لإيرج يقال له: منوجهر - بميم مفتوحة ونون مضمومة وواو ساكنة وجيم بين الجيم والشين مكسورة وهاء ساكنة وراء مهملة - فحقد المذكور على عميه وجمع العساكر وتغلب على ملك أبيه إيرج. ولما قوي منوجهر المذكور سار نحو الترك وطلب بدم أبيه، فقتل طوج، ثم قتل شرم عميه وأدرك ثأره منهما.

ثم نشأ من ولد طوج بن أفريذون المذكور فراسياب بن طوج، وجمع العسكر وحارب منوجهر بن إيرج وحاصره بطبرستان، ثم اصطلح وضربا بينهما حداً لا يتجاوزه واحد منهما، وهو نهر يلخ، وفي أيام منوجهر ظهر موسى عليه السلام، وذكروا أن فرعون موسى وهو الوليد بن الريان كان عاملا لمنوجهر ومطيعاً له، ثم هلك منوجهر فتغلب فراسياب على مملكة فارس، وأكثر الفساد وخرب البلاد.

ثم ظهر زو بن طهماسب وهو من أولاد منوجهر فتسارع الناس إليه وطرد فراسياب عن مملكة فارس حتى رده إلى بلا الترك بعد حروب كثيرة، وسار زو بأحسن سيرة حتى عمر وأصلح ما كان خربه فراسياب، واستخرج للسواد نهر، وسماه الزاب وبنى على حافته مدينة، وكان لزو وزير يقال له: كرشاسف من أولاد طوج بن أفريذون، وقد حكي أنهما اشتركا في الملك. انتهت الفيشداذية.

‌ذكر الطبقة الثانية

الكيانية: ولما هلك كرشاسف ملك بعده كيقباذ بن زو وسلك سيرة أبيه، في الخير وعمارة البلاد، ثم هلك كيقباذ، وملك بعده كيكاؤوس بن كينيه بن كيقباذ المذكور، فتشدد على إعدامه، وقتل خلقاً من عظماء البلاد، وولد له ولد نهاية في الجمال، وكان يفتن بحسنه وسماه سياوش بسين مهملة مكسورة وياء مثناة من تحتها وألف وواو مكسورة وشين منقوطة.

ثم إن أباه كيكاؤوس سلمه إلى رستم الشديد، الذي كان نائباً على سجستان ومملكتها، فربى سياوش كما ينبغي، وأتى به إلى والده وهو نهاية في الأدب والفروسية، ففرح به والده فرحاً عظيماً، وولاه مملكته، وكان لكيكاؤوس زوجة مبدعة في الحسن، فهويت سياوش وأعلمته،

ص: 41

فامتنع ولم تزل تراجعه حتى طاوعها، فعشقها وعشقته عشقاً مبرحاً.

وفي الآخر علم كيكاؤوس بذلك، فمنعِ ولده منْ دخولِ دارِه وضرَبَ الزَّوجة وحبسها ثم ترضاها، وأفرجَ عنها، فأرسلتْ مع بعض الخصيانِ إِلى سياوش تقول: إِنْ عاهْدتَني أنك تتزوج بي قتلتُ أباك، فعرف الخصي كياؤوسَ بذلك، فأسر بحبسها ومنع سياوش من الدخولِ إِليه.

فسأل سياوش رستماً الذي ربّاه أنْ يشفعَ إلى أبيه أنْ يُرسِله إِلى حربِ فراسياب ملك الترك فأرسلَه مع جيش، فصالحه فراسيابُ على ما أراد، فأرسلَ يُعلم بذلك أباهُ كيكاؤوس، فأنكر عليه وقال: لا بدَّ منَ الحرب.

ولم يمكن سياوش الغدر بفراسياب، ولا الرجوع إِلى والده لما ذكر، فهرب سياوشُ إلى فراسياب، فأكرمَهُ وزوّجَهُ ابنته، ثم إِنّ أولادَ فراسيابَ أغروا والدهُم بقتلِ سياوش، وقالوا: لا يكونُ عاقبتُه عليك خيراً، فقتلهُ.

وكانتْ بنت فراسياب حُبْلى منه، فأراد أبوها قتلها، ثم تركها فولدَتْ ابناً. وسمع كيكاؤوس بذلك فقتل زوجتَهُ التي كان هذا الأمر بسببها، وأرسلَ قوماً شطاراً في زي التجارِ بالمالِ، وأمرهم بسرقة ابنِ سياوش وزوجتَه، فسرقوهما وأحضروهما. وكان اسمُ الولدُ المذكورُ كيخسرو، أعني ولد سياوش.

ثم إِن كيكاؤوس قررَ المُلكَ لولد ولده كيخسرو ابن المذكور، ثمَ هلكَ كيكاؤوس واستمر ولد ولدِه كيخسرو المذكًورُ في الملك.

ولمّا مَلكَ كيخسرو وقوي أمرهُ قصدَ جدّهُ أبا أمَّه، وهو فراسيابُ ملكُ التركِ طالباً بثارِ أبيه سياوش، وجرَتْ بينهما حروب كثيرة آخرها أنّ كيخسرو ظفر بفراسياب وأولادِهِ وعسكَرِهِ، فقتلهُمُ ونهبَ أموالهُمُ وبلادَهُمُ آخذاً بثأرِ أبيهٍ سياوش.

ولمّا أدرك كيخسرو ثأره واستقرّ في ملكه تزهّدَ، وخرج عنِ الدنيا، ولما أصر على ذلك سألهُ وجوهُ الدولة في أن يعينَ للملْكَ من يختار، وكان لهراسفَ حاضراً وهو منْ مَرازبته، فجعلهُ وصيهُ وأقبلَ الناسُ عليهَ، وفقد كيخسرو، وكان مدةَ ملك كيخسَرو ستين سنة، ثم ملك لهراسف ويقالُ: إِنَّه ابن أخي كيكاؤوس، فاتخذَ سريراً من ذهب مرصعاً بالجوهرِ، فكانَ يجلسُ عليه، وبنيتُ له بأرض خراسان مدينةَ بَلخ، وسكنها لقتال الترك وكان في زماَن لهراسف بختَ نصر وجعلهُ لهُراسفُ أصبهبذاً على العراقَ والأهواز وعلى الرّومِ من غربيّ دجلة، فأتى دمشقُ وصالحهُ أهلها وصالحهُ بنو إِسرائيَلَ بالقدس ثمّ غدروا به، فسار إِليهم بخُتَ نصرَ راجعاً، وسبى ذريتَهم وخرب بيت المقدسَ، وهربَ من سلم منهم إِلى مصر، فأنفذ بختَ نصر في طلبهم إِلى ملك مصْر وقال: هؤلاءِ عبيدي قد هربوا إِليكَ فابعثْ إِلي بهم: فقال فرعون مصر: إِنما هؤلاءِ أحرارُ، وامتنعَ من تسليمهم إِليه، فسار بختُ نصر إلى مصرَ وقتْل الملِك وسبى أهل مصر، ثم سار المذكور إلى الَمغرب حتى بلغ أقاصيهما، وخرب البلاد وسبى، ثم عاد إِلى فلسطين والأردن، فسبى وقتل، وحضر مع بخت نصر من بني إِسرائيل دانيال النبي، وغيره من أولاد الأنبياء عليهم السلام، وحمل إِلى لهراسف من المغرب والشام وبيت المقدس أموالاً عظيمة، وقد اختلف

ص: 42

المؤرخون في بخت نصر، هل كان ملكاً مستقلاً بنفسه أم كان نائباً للفرس؟ والأصح عند الأكثر أنه كان نائباً للهراسف المذكور، وسار بالجيوش نيابة عنه، وفتح له البلاد، ثم غزا بخت نصر العرب، وكان في زمن معد بن عدنان، فقصده طوائف من العرب مسالمين، فأحسن إِليهم بخت نصر وأنزلهم شاطئ الفرات وبنوا موضع معسكرهم، وسموه الأنبار، واستمروا كذلك مدة حياة بخت نصر.

ومما جرى لبخت نصر رؤياه التي أريها رقد أثبتها اليهود في كتبهم، وكذلك المؤرخون من المسلمين. قالوا: رأى صنماً رأسه من ذهب، وصدره وذراعاه من فضة، وبطنه وفخذاه من نحاس، وساقاه وقدماه من حديد، وأصابع قدميه بعضها حديد وبعضها خزف، وأن حجراً انقطعت من جبل، من غير يد، قاطعة له، وصكت الصنم، فاندق الحديد والنحاس وغيره، وصار جميع ذلك مثل الغبار، وألوت به ريح عاصفة، ثم صارت الحجر التي صكت الصنم جبلا عظيماً امتلأت منه الأرض كلها.

فقال بخت نصر: لا أصدق تعبير ما رأيته إِلا ممن يخبرني بما رأيت، وكتم بخت نصر ذلك، وسأل العلماء والسحرة والكهنة عن ذلك، فلم يطق أحد أن ينبئه بذلك، حتى سأل دانيال، فخبره دانيال بصورة رؤياه كما رآها بخت نصر، ولم يخلط منها بشيء.

ثم عبرها له دانيال، فقال: الرأس ملكك، وأنت بين الملوك بمنزلة رأس الصنم الذهب، والذي يقوم بعدك دونك، بمنزلة الفضة من الذهب، ويكون كل متأخر أقل ممن قبله، مثلما النحاس دون الفضة، والحديد دون النحاس، وأما الأصابع التي بعضها حديد وبعضها خزف، فإن المملكة تصير آخر الوقت مختلطة، مختلفة، بعضها قوي وبعضها ضعيف، ثم إِنّ الله تعالى، يقيم بعد ذلك مملكة لا تبيد إلى آخر الدهر. هذا تعبير رؤياك، فخر بخت نصر ساجداً لدانيال، وأمر له بالخلع وأن يقرب له القرابين.

وقد اختلف في مدة ولاية بخت نصر، والذي اختاره أبو عيسى وأثبته أن بخت نصر تولى أو ملك سبعاً وخمسين سنة، وشهراً وثمانية أيام.

وتفسير بخت نصر بالعربية، عطارد، وهو ينطق، سمي بذلك لتقريبه الحكماء والعلماء، وحبه أهل العلم.

ولما هلك ولي مُلك الفرس بعد بخت نصر، ابنه أولاق سنة واحدة وقتل.

ثم ولي بعده - بلطشاصر سنتين، وبلطشاصر هو ابن ابن بخت نصر، ثم إِنه جلس للشراب، واحتفل بلطشاصر في مجلس عمله، وجمع فيه ألف نفس من أصحابه، وجعل فيه من آنية الذهب ما يفوت الحصر، فرأى على ضوء الشمع يد إنسان تكتب على الحائط، فتغير بلطشاصر لذلك، واضطرب ذهنه، واصطكت ركبتاه، فدعا دانيال وقال له: ما رأى، فقال دانيال: إِنك لما عظَمت الذهب، والفضْة والنحاس والحديد، وليس فيها ما ينصرك، ولم تعظم الإِله، الذي بيده نسمتك، وروحك، وجميع تصاريف أمورك، أرسل كفهُ يداً كتبتَ ما معناه: اكشف واعرى، أي أن مملكتك كشفت وعريت وجعلت لأهل فارس، فقُتل بلطاشاصر في تلك الليلة، وبه انقرضت دولة بني بخت نصر.

ولنرجع إِلى سياقة ملك لهراسف، ثم مَلَك بعده ابنه

ص: 43

كي بشتاسف، وهو الذي يزعمون أنه باق في كنكدز ولما ملك بشتاسف بنى مدينة - فسا، وظهر في أيامه زرادشت بزاي منقوطة مفتوحة، وراء مهملة، وألف، ودال مضمومة، مهملة وشين منقوطة ساكنة، وتاء مثناه من فوقها. وهو صاحب كتاب المجوس.

وتوقفت بشتاسف عن الدخول في دينه، ثم صدقه ودخل فيه، وجرى بين بشتاسف وبين خرزاسف ملك الترك حروب عظيمة، قتل بينهما فيها خلق كثير، بسبب زرداشت، ودخول بشتاسف في دينه، انتصر فيها بشتاسف على خرزاسف ملك الترك.

ثم إِن بشتاسف تنسك، وانقطع للعبادة في جبل يقال له طميذر، ولقراءة كتاب زرادشت، ثم فُقد.

وكان لبشتاسف ولد يقال له إِسفنديار، هلك في حياة أبيه، وخلف ولداً يقال له أزدشير بهمن بن إِسفنديار بن بشتاسف، ولما تزهد بشتاسف وفقد مَلكَ ابن ابنه أزدشير بهمن المذكور وانبسطت يده حتى ملك الأقاليم السبعة، من كتاب أبي عيسى.

وأزدشير بهمن المذكور، اسمه بالعبرانية كورش، ويقال كيرش، وهو الذي أمر بعمارة بيت المقدس بعد أن خربه بخت نصر، فعمره أزدشير وأمر بني إِسرائيل بالرجوع إِليه، ولا دليل على أنّ أزدشير المذكور هو كورش أقوى من كلام أشعيا النبي عليه السلام، فإِنه يقول في الفصل الثاني والعشرين من كتابه، حكاية عن الله تعالى أنا القائل لكورش: داعي الذي يتم جمع محباتي، ويقول لأورشليم عودي مبنية، ولهيكلها كن مزخرفاً، مزيناً، هكذا قال الرب لمسيحه كورش، الذي أخذ بيمينه لتدبير الأمم وتحنى لك ظهور الملوك سائراً، تفتح الأبواب أمامه فلا تغلق، وأسير أنا قدامك، وأسهل لك الوعور، وأكسر أبواب النحاس، وأحبوك بالذخائر التي في الظلمات ولم يكن أحد في ذلك الزمان بهذه الصفة التي ذكرها أشعيا، أعني ملك الأقاليم والحكم على الأمم، وغير ذلك مما ذكره غير أزدشير بهمن، فتعين أن يكون هو كيرش.

وكان أزدشير بهمن كريماً متواضعاً علامته على كتبه بقلمه، من أزدشير بهمن عبد الله وخادم الله والسايس لأمركم.

وغزا رومية في ألف ألف مقاتل وبقي كذلك إِلى أن هلك، وتفسير بهمن بالعربية الحسن النية، وكان بهمن متزوجاً بابنته خماني؛ وذلك حلال على دين المجوس، فتوفي بهمن وهي حامل منه بدارا وكانت قد سألت بهمن ن يعقد التاج على ما في بطنها، ويخرج ابنه ساسان بن بهمن من الملك، فأجابها بهمن وأوصى به أكابر دولته، ففعلوا ذلك، وساست خماني الملك بعده أحسن سياسة، وعظم ذلك على ساسان، فلحق بإِصطخر، وتزهد وتجرد من حلية الملك واتخذ غنماً وتولى بنفسه رعيها، وساسان المذكور هو أبو الأكاسرة.

ثم وضعت خماني ولداً وسمته دارا وهو ابنها وأخوها، ولما اشتد سلمت الملك إِليه وعزلت نفسها، فتولى دارا بن بهمن الملك، فضبطه بشجاعة وحسن سياسة وولد لدارا ابن فسماه دارا باسم نفسه.

ثم هلك دارا وولي الملك ابنه دارا بن دارا، وكان

ص: 44

حقوداً ظالماً، فنفر منه قلوب الخاصة والعامة.

وفي زمان دارا المذكور، تملك الإسكندر المشهور ابن فيلبس، فعرف توحش خواطر أصحاب دارا منه، فقصده بجيشه فلحق بالإسكندر المذكور، لما دنا من دارا كثير من أصحاب دارا وأطلعوه على عور دارا وقووه عليه، وطال بينهما القتال إِلى أن وثب جماعة من أصحاب دارا عليه فقتلوه، وأتوا إِلى الإسكندر فقتلهم عن آخرهم، وصار ملك دارا إِلى الإسكندر.

‌الإسكندر بن فيلبس

كان أبوه أحد ملوك اليونان، وكانوا طوائف، فلما مَلك الإسكندر غزاهم واجتمع له ملكهم، ثم غزا دارا ملك الفرس وقتله، ثم غزا الهند، وتناول أطراف الصين، ثم انصرف الإسكندر يريد الإسكندرية.

وهو الذي بناها، فهلك في ناحية السواد وقيل بشهرزور وكان عصره ستاً وثلاثين سنة، فحمل في تابوت ذهب إِلى أمه، وكان ملكه نحو ثلاث عشرة سنة.

واجتمع بعد ذلك ملك الروم وكان متفرقاً، وافترق مُلْكُ فارس وكان مجتمعاً، وكان مرض الإسكندر الذي مات به الخوانيق، وقيل اغتيل بالسم. وهذا الإسكندر هو صاحب أرسطاطاليس وتلميذه وأرسطو الذي أشار عليه بعدم قتل الفرس، وأن يولي أكابرهم، ومن يصلح للملك كل واحد برأسه مملكة، ليحصل بينهم التباغض والتشاحن ولا يجتمعوا على أحد، فقبل الإسكندر ذلك منه، وولاهم فصار منهم ملوك الطوائف.

وكان الإسكندر أشقر أزرق وكان اليونان قبله طوائفَ، فأول ما تملك غزاهم، وقتل ملوكهم، واجتمع له جميع مملكة اليونان والروم حسبما ذكرناه، ولما اجتمعت له مملكة المغرب بنى الإسكندرية، وسار يريد الشرق، وقتال دارا، ومر الإسكندر في طريقه على بيت المقدس، وأكرم بني إِسرائيل، ثم سار إِلى بلاد فارس واستولى على مُلك الفرس، وقتل دارا، وكان منه ما ذكر وقد قيل عنه إِنه انصرف من المشرق إِلى جهة الَشمال، وبنى السد على يأجوج ومأجوج، والصحيح أن الإسكندر المذكور لم يكن منه ذلك؛ بل ذو القرنين الذي ذكره الله في القرآن، وهو ملك قديم كان على زمن إِبراهيم الخليل عليه السلام. قيل إِنه أفريذون، وقيل غيره، وقد غلط من ظن أن باني السد هو الإسكندر الرومي وكذلك قد استفاض على السنة الناس، أن لقب الإسكندر المذكور ذو القرنين وهو أيضاً غلط، فإِن لفظة ذو لفظة عربية محض، وذو القرنين من ألقاب العرب ملوك اليمن، وكان منهم ذو جدن، وذو كلاع، وذو نواس، وذو شناتر، وذو القرنين، الصعب بن الرايش، واسم الرايش الحارث بن ذي سدد بن عاد بن الماطاط بن سبأ.

وقد قيل إِن ذا القرنين الصعب المذكور هو الذي مكّن الله له في الأرض وعظم ملكه، وبنى السدّ على يأجوج ومأجوج.

ومما نقله ابن سعيد المغربي أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن ذي القرنين الذي ذكره الله في كتابه العزيز فقال: هو مِنْ

ص: 45

حمير، وهذا مما يقوي أنه الصعب المذكور، لأنه كان ملكاً عظيماً، وكان من ولد حمير، ولما مات الإسكندر عرض الملك على ابنه، فأبى واختار النسك، فانقسمت ممالك الإسكندر بين‌

‌ ملوك الطوائف

، وبين ملوك اليونان، على ما سنذكرهم في الفصل الثاني وبين غيرهم.

ملوك الطوائف

وكان من أمرهم أن الإسكندر لما غلب على الفرس، وأسر ملوكهم وكبارهم، قتل منهم جماعة، وأراد قتل الباقين عن آخرهم، واستشار أرسطوطاليس في ذلك فقال له: إِني لا أرى ذلك بل الرأي أنْ تملك منهم عدة على الفرس، فيقع بينهم التشاحن والتباغض، ولا يجتمعون فتأمن اليونان غائلتهم، ولا يبقى لهم على اليونان دماء كثيرة فمال الإسكندر إِلى ذلك وملك من كبار الفرس عشرين ملكاً على لفرس، وهم المسلمون بملوك الطوائف، واستمر بهم الحال على ذلك نحو خمسمائة واثنتي عشرة سنة، حتّى قام أزدشير بن بابك وجمع ملك الفرس، ولم يبق منهم ملك غيره، وكانت عدة ملوك الطوائف تزيد على تسعين ملكاً، ولم يؤرخ في مبتدأ أمرهم أسماؤهم، ولا مُدد ملكهم، فإِنهم كانوا ملوكاً صغاراً في الأطراف، وعظم بعد الإسكندر ملك اليونان، فكان الحكم لهم، فلذلك ذكروا بعد الإسكندر في التواريخ دون ملوك الطوائف. وبقي الأمر على ذلك حتى اشتهرت الملوك الأشغانية من بين ملوك الطوائف.

‌ذكر الطبقة الثالثة

وهم الأشغانية. قال أبو عيسى: وأوّل من اشتهر منهم أشغا بن أشغان. يقال: أشك بن أشكان.

قال وكان أولُ مُلك أشغا المذكور لمضي مائتين وست وأربعين سنة لغلبة الإسكندر، وملك أشغا المذكور عشر سنين. أقول فيكون انقضاء ملكه لمضي مائتين وست وخمسين سنة للإِسكندر.

ثم ملك بعده سابور بن أشغان ستين سنة، وكان مولد المسيح عليه السلام في سنة بضع وأربعين سنة خلت من ملك سابور المذكور، وكان انقضاء ملك سابور مضي ثلاثمائة وست عشرة سنة للإِسكندر.

ثم ملك بعده جور بن أشغان، وقيل جوذرز عشر سنين، وهلك لمضي ثلاثمائة وست وعشرين سنة للإِسكندر.

ثم ملك بيرن الأشغاني إحدى وعشرين سنة وهلك لمضي ثلاثمائة وسبع أربعين سنة، ثم ملك جوذرز الأشغاني تسع عشرة سنة، وهلك لمضي ثلاثمائة ست وستين سنة.

ثم ملك نرسى الأشغاني أربعين سنة، وقال يوم ملك: إِني محب ومكرم من أنقذ أمر، وهلك لمضي أربعمائة وست سنين.

ثم ملك هرمز الأشغاني تسع عشرة سنة، وهلك لمضي أربعمائة وخمس وعشرين سنة، وقال هرمز المذكور يوم ملك: يا معشر الناس؛ اجتنبوا الذنوب، كيلا تذلوا بالمعاذير.

ثم

ص: 46

ملك بعده أردوان الأشغاني اثنتي عشرة سنة، وهلك لمضي أربعمائة وسبع وثلاثين سنة.

ثم ملك خسرو الأشغاني أربعين سنة وقال يوم ملك: لتسطع ناري ما دامت مضطرمة، وهلك لمضي أربعمائة وسبع وسبعين سنة للإِسكندر.

ثم ملك بعده بلاش الأشغاني أربعاً وعشرين سنة. وهلك لمضي خمسمائة وسنة.

ثم ملك بعده أردوان الأصغر، وظهر أمر أزدشير بن بابك، وقتل أردوان المذكور وغيره من الأردوانيين، واجتمع له ملك جميع ملوك الطوائف، فيكون انقضاء ملك أردوان لمضي خمسمائة واثنتي عشرة سنة لغلبة الإسكندر، ويكون ملكه إِحدى عشرة سنة، وقيل إِنّ أردوان المذكور ملك ثلاث عشرة سنة.

‌ذكر الطبقة الرابعة

وهم الأكاسرة الساسانية وأولهم أزدشير بن بابك، وهو من ولد ساسان بن أزدشير بهمن، المقدم الذكر في أخبار أزدشير بهمن، وساسان المذكور هو الذي تزهد، واتخذ غنماً يرعاها، لما أخرجه أبوه بهمن من الملك، وجعله لدارا قبل ولادته حسبما تقدم ذكر ذلك.

وكان أزدشير بن بابك المذكور في أول ملكه، أحد ملوك الطوائف، وكان في أيام الأردوانين، فتغلبّ عليهم، وكان غلبته عليهم لمضي تسعمائة وسبع وأربعين سنة، لابتداء ولاية بخت نصر، ولمضي خمسمائة واثنتي عشرة سنة لغلبة الإسكندر على دارا، وهي مدة ملوك الطوائف، فيكون بين قيام أزدشير وبين الهجرة النبوية، أربعمائة واثنتان وعشرون سنة.

وكان رصد بطلميوس قبل أزدشير المذكور بسبع وسبعين سنة، وهذه مدة يمكن أن يكون بطليموس قد عاشها، أو عاش غالبها، فليس بطليموس ببعيد عن زمن أزدشير، وجميع الأكاسرة الذين كان آخرهم يزد جرد بن شهريار من ولد أزدشير المذكور، ولما تغلب أزدشير وقتل الأردوانيين جميعهم، وضبط الملك، وكان حازماً طويل الفكر وكتب لابنه سابور عهداً ليكون له ولمن بعده من أهل بيته يتضمن حكماً وناموساً لضبط المملكة، وملك أزدشير أربع عشرة سنة وعشرة أشهر، فيكون موته في أواخر سنة خمس مائة وسبع وعشرين لغلبة الإسكندر.

ثم ملك بعده ابنه سابور بن أزدشير إِحدى وثلاثين سنة وستة أشهر وكان جميل الصورة حازماً، وظهر في أيامه ماني الزنديق وادعى النبوة واتبعه خلق كثير وهم المسمون بالمانوية، ولما مضى من ملكه إحدى عشرة سنة سار بعساكره وفتح نصيبين من الروم، ثم سار وتوغل في بلاد الروم، وهم على عبادة الأصنام، وذلك قبل تنصرهم، وافتتح من الشام عدة مدن عنوة، وقتل أهلها، ثم سار إِلى جهة رومية، فصانعه ملك الروم وهو حينئذ غرذيانوس، الذي سنذكره في ملوك الروم، إِن شاء الله تعالى، ودخل تحت طاعة سابور المذكور، وكان لسابور المذكور عناية عظيمة مع كتب الفلسفة

ص: 47

لليونانيين، ونقْلها إِلى اللغة الفارسية، ويقال: إِن في زمانه استخرجت العود، وهي الملهاة التي يغني بها، وكان موت سابور المذكور لمضي أربعة أشهر من سنة تسع وخمسين وخمسمائة للإِسكندر.

ثم ملك بعده ابنه هرمز بن سابور سنة واحدة وستة أشهر، وكان عظيم الخلق شديد القوة، وكان يلقب البطل لشجاعته، وكان موته في أواخر سنة خمسمائة وستين للإسكندر.

ثم ملك ابنه بهرام بن هرمز ثلاث سنين وثلاثة أشهر، واتبع سيرة آبائه في حسن السياسة والرفق بالرعية، وكان موته في أول سنة أربع وستين وخمسمائة بعد مضي شهر منها.

ثم ملك بعده ابنه بهرام بن بهرام سبع عشرة سنة، فيكون موته في أول سنة إحدى وثمانين وخمس مائة للإسكندر.

ثم ملك بعده ابنه بهرام بن بهرام بن بهرام أربع سنين وأربعة أشهر، وسلك سبيل آبائه من العدل والسياسة، ومات في سنة خمس وثمانين وخمسمائة بعد مضي سبعة أشهر منها.

ثم ملك بعده أخوه نرسي بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أزدشير ابن بابك، وملك تسع سنين فيكون موته في سنة أربع وتسعين وخمسمائة، بعد مضي سبعة أشهر منها.

ثم ملك بعده ابنه هرمز بن نرسي تسع سنين أيضاً، فيكون هلاكه لمضي سبعة أشهر من سنة ثلاث وستمائة، ولما مات هرمز لمٍ يكن له ولد، وكانت بعض نسائه حاملاً، فعقدوا التاج على ما في جوفها، فولدت ابناً وسموه سابور.

وهو سابور بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أزدشير بن بابك. وبقي سابور حتى اشتد وظهر منه نجابة عظيمة من صباه، وكان أول ما ظهر منه أنه سمع ضجيج الناس بسبب الزحمة على الجسر الذي على دجلة بالمدائن، فقال: ما هذه الجلبة. فقالوا بسبب زحمة الخارجين والداخلين على الجسر. فأمر أن يعمل إِلى جانب الجسر جسراً آخر ليكون أحد الجسرين للخارجين والآخر للداخلين، فعملوه، فزال ما كان يحصل من الزحام، فاستعجب الناس لنجابته، وفي أيام صباه طمعت العرب في بلاده وخربوها، فلما بلغ سابور المذكور من العمر ست عشرة سنة، انتخب من فرسان عسكره عدة اختارها وسار بهم إِلى العرب، وقتل من وجده منهم، ووصل إِلى الحسا والقطيف، وشرع يقتل ولا يقبل فداء، وورد المشقر وبه أناس من تميم وبكر بن وائل، وعبد القيس، فسفك من دمائهم ما لا يحصى، وكذلك سار إِلى اليمامة وسفك بها، ولم يمر بماء للعرب إلا وغوره، ولا بئر إِلا وطمها، ثم عطف على ديار بكر وربيعة، فيما بين مملكة فارس ومملكة الروم، وصار ينزع أكتاف العرب فسمي سابور ذا الأكتاف، وصار عليه ذلك لقباً، ثم غزا سابور المذكور الروم، وقتل فيهم وسبى، ثم هادنه قسطنطين ملك الروم، واستمر على ذلك حتى توفي قسطنطين في سنة خمس وأربعين مضت من ملك سابور المذكور وعمره، وملكت بنو قسطنطين وهلكوا في مدة ملك سابور المذكور، ثم ملك على الروم لليانوس، وارتد إِلى عبادة الأصنام وقتل النصارى،

ص: 48

وأخرب الكنائس، وأحرق الإنجيل، وسار لليانوس إِلى قتال سابور، واجتمع مع لليانوس العرب، لما كان قد فعله فيهم سابور المذكور، وكان على مقدمة جيش لليانوس بطريق اسمه يونيانوس، وكان يونيانوس يسرُّ دين النصارى، ولم يرتد مع لليانوس إِلى عبادة الأصنام، وبسبب ذلك كان يكره لليانوس، فظفر بكشافة لسابور فأمسكهم وأخبروه بمكان سابور، وكان قد انفرد عن جيشه ليتجسس أخبار الروم، فأرسل يونيانوس يحذر سابور، وأعلمه أنه علم به وكان قادراً على إٍمساكه، فحمده سابور على ذلك ولحق بجيشه، ثم اقتتل لليانوس وسابور فانتصر لليانوس وانهزم سابور وجيشه، وقتلت الروم منهم، واستولى لليانوس على مدينة سابور، وهي طيسفون، وهي المعروفة بالمدائن.

ثم أرسل سابور واستنجد بالعساكر والملوك المجاورين لبلاده، ودفع عن طيفسون، واستمر لليانوس مقيماً ببلاد الفرس، وبقي سابور يسعى في الصلح معه، فبينما لليانوس جالس في فسطاطه، إِذ أصابه سهم غُربُ في فؤاده فقتله، فهال الروم ما نزل بهم من فقد ملكهم في بلاد عدوهم، فقصدوا يونيانوس في أن يتملك عليهم، فأبى ذلك وقال: لا أتملك على قوم يخالفوني في الدين، فقالوا: نحن نعود إلى الملة النصرانية، ونحن عليها، وإنما أظهرنا عبادة الأصنام خوفاً من لليانوس، فملك يونيانوس وصالح سابور، وسار إِليه في عدة يسيرة من أصحابه واجتمع يونيانوس وسابور واعتنقا وانتظم الصلح والمودة بينهما.

وسار يونيانوس بعساكر الروم عائد إِلى بلاده، واستمر سابور على ملكه حتى بعد اثنتين وسبعين سنة، وهي مدة ملكه، ومدة عمره، فيكون موت سابور لمضي سبعة أشهر من سنة خمس وسبعين وستمائة للإِسكندر.

ثم ملك بعده أخوه أزداشير بن هرمز أربع سنين بوصية من سابور له بالملك لأن سابور كان صغيراً، ومات في سنة تسع وسبعين وستمائة للإِسكندر.

ثم ملك بعده سابور بن سابور ذي الأكتاف خمس سنينٍ وأربعة أشهر، وسلك سابور حسن سيرة أبيه، حتى سقط عليه فسطاط كان منصوباً عليه، فمات من ذلك فيكون هلاكه لمضي أحد عشر شهراً من سنة أربع وثمانين وستمائة للإسكندر.

ثم مَلكَ بعده أخوه بهرام بن سابور ذي الأكتاف، وهو الذي يُدعى كرمان شاه، لأنه كان على كرمان، وسلك السيرة الحسنة، وملك إِحدى عشرة سنة ومات مقتولاً، لأن جماعة من الفرس ثاروا عليه، وضربه واحد منهم بسهم فقتله، وكان هلاكه لمضي أحد عشر شهراً من سنة خمس وتسعين وستمائة للإسكندر.

ثم ملك بعده ابنه يزد جرد بن بهرام بن سابور، وكان يقال ليزدجر المذكور الأثيم والخشن، وملك إِحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر، وكان فظاً خشن الجانب لئيم الأخلاق، فسلك أقبح سيرة من الظلم والعسف وسفك الدماء، ورأى الفرس منه من الشر ما لم يعهدوه من آبائه، وصبروا عليه، وطالت

ص: 49

أيامه، وهو لا يزداد إِلا تمادياً في الجور والعسف. فابتهلوا إِلى الله تعالى في هلاكه، فهلك برفسة فرس، فيكون هلاكه لمضي أربعة أشهر من سنة سبع عشرة وسبعمائة.

وكان ليزدجر المذكور ولد اسمه بهرام جور وكان أبوه يزدجر قد أسلمه عند المنذر، ملك العرب ليربيه، بظهر الحيرة، فنشأ بهرام جور هناك وقدم على أبيه قبل هلاكه، وبهرام جور في غاية الأدب والفروسية. فأذاقه أبوه الهوان، ولم يلتفت إليه، ولا رأى منه خيراً، فطلب بهرام جور العود إلى العرب، حيث كان، فأمره بذلك، وعاد بهرام جور إلى المنذر، ومات أبوه وهو عند المنذر.

فاجتمع جميع الفرس على أنهم لا يملّكون أحداً من ولد يزد جرد، لما قاسوه منه، وأيضاً فإن بهرام جور قد انتشأ عند العرب وتخلق بأخلاقهم، فلا يصلح للفرس. وولوا شخصاً يسمّى كسرى من ولد أزدشير، وبلغ ذلك بهرام جور فانتصر بالمنذر وبابنه النعمان ملك العرب، وجرى بين العرب وبهرام جور وبين الفرس في ذلك مراسلات كثيرة، وآخر الأمر أن بهرام جور تملك موضع أبيه يزجرد واستقل بالملك.

ويحكى عنه من الشجاعة والقوة شيء كثير، وآخر أمره أنه هلك بأن طلع إلى الصيد، وأمعن في طرد الوحش حتى توحل في سبخة وعدم، وكان مدة ملكه ثلاثاً وعشرين سنة وأحد عشر شهراً، فيكون هلاك بهرام جور لمضي ثلاثة أشهر من سنة إحدى وأربعين وسبعمائة.

ثم ملك بعده ابنه يزد جرد بن بهرام جور ثمان عشرة سنة وأربعة أشهر، وسار بسيرة أبيه بهرام جور، من قمع الأعداء وعمارة البلاد، ثم هلك يزد جرد لمضى سبعة أشهر من سنة تسع وخمسين وسبعمائة.

وخلّف ابنين، هرمز وفيروز، فتملك هرمز من يزد جرد سبع سنين وظلم الرعية، واحتجب عن الناس، ولما ملك هرمز هرب أخوه فيروز إِلى الهياطلة، وهم أهل البلاد التي بين خراسان وبين بلاد الترك، وهي طخارستان نص عليه أبو الريحان واستعان بملكهم على رد ملك أبيه إليه، واستقلاعه من أخيه هرمز. فانجده، وسار فيروز بجيش طخارستان، وطوائف من عسكر خراسان إلى هرمز، واقتتلا في الري فظفر فيروز بأخيه هرمز، فسجنه، وكانت أمهما واحدة فيكون انقضاء ملك هرمز، في سنة ست وستين وسبعمائة للإسكندر.

ثم ملك فيروز بن يزد جود بن بهرام جور، سبعاً وعشرين سنه، وسلك حسن السيرة وظهر في أيامه غلاء وقحط، وغارت الأعين، ويبس النبات، وهلك الوحش، ودام ذلك مدة سبع سنين، وبعد ذلك أرسل الله تعالى المطر، وعادت الأحوال إلى أحسن حال، وكان ملك الهياطلة حينئذ يسمى الإخشنوار، ووقع بينه وبين فيروز، بسبب أن فيروز خطب ابنة الإخشنوار، فلم يزوجه، فسار فيروز إلى الهياطلة، وذكر سهم ذنوباً، منها أنهم يأتون الذكران، ولم يظفر منهم بشيء، وهلك فيروز بأن تردّى في خندق كان عمله الهياطلة، وغطي فوقع فيه مع جماعته فهلكوا، واحتوى إخشنوار على جميع

ص: 50

ما كان في معسكره، فيكون هلاك فيروز في سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة.

ثم ملك بعده ابنه بلاش بن فيروز أربع سنين، وكان حسن السيرة، ومات في سنة سبع وتسعين وسبعمائة.

ثم ملك بعده أخوه قباذ بن فيروز ثلاثاً وأربعين سنة، منها ست سنين كان فيها قتال بينه وبين أخيه جاماسف، وفي أيام قباذ المذكور، ظهر مردك الزنديق. وادعى النبوة، وأمر الناس بالتساوي في الأموال، وأن يشتركوا في النساء، لأنهم إخوة لأب وأم، أم وحواء، ودخل قباذ في دينه فهلك الناس وعظم ذلك عليهم، وأجمعوا على خلع قباذ.

وخلعوه وولوا أخاه جاماسف بن فيروز، ولحق قباذ بالهياطلة، فأنجده وسار بهم وبعسكر خراسان، والتقى مع أخيه جاماسف، وانتصر عليه وحبس جاماسف، وستمر قباذ في الملك حتى مات في سنة أربعين وثمانمائة لمضي سبعة أشهر من السنة المذكورة.

ثم ملك بعد قباذ ابنه أنوشروان بن قباذ بن فيروز بنْ يزدجر بن بهرام جور ابن يزد جرد الأثيم بن بهرام بن سابور ذي الأكتاف بن هرمز بني نرسي بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أزدشير بن بابك.

وملك أنوشروان ثمانياً وأربعين سنة، ولما تولى الملك كان صغيراً، فلما استقل بالملك وجلس على السرير قال لخواصه: إِني عاهدت الله إن صار الملك إلي على أمرين: أحدهما: أن أعيد آل المنذر إلى الحجرة، وأطرد الحارث عنها، وأما الأمر الثاني: فهو قتل المردكية، الذين قد أباحوا نساء الناس وأموالهم، وجعلوهم مشتركين في ذلك. بحيث لا يختص أحد بامرأة ولا بمال، حتّى اختلط أجناس اللؤماء بعناصر الكرماء، وتسهّل سبيل العاهرات إلى قضاء نهمهن، واتصلت السفلة إِلى النساء الكرائم التي ما كان أمثال أولئك يتجاسرون أن يملؤوا أعينهم منهن، إذا رأوهن في الطريق، فقال له مردك وهو قائم إلى جانب السرير، هل تستطيع أن تقتل الناس جميعاً. هذا فساد في الأرض، والله قد ولاك لتصلح، لا لتفسد.

فقال له أنوشروان: يا ابن الخبيثه، أتذكر وقد سألت قباذ أن يأذن لك في المبيت عند أمي، فأذن لك. فمضيت نحو حجرتها، فلحقت بك وقبلت رجلك، وإن نتن جواربك ما زال في أنفي، منذ ذلك إلى الآن، وسألتك حتى وهبتها لي ورجعت.

قال: نعم فأمر حينئذ أنوشروان بقتل مردك، فقتل بين لديه، وأخرج وأحرقت جيفته، ونادى بإباحة دماء المردكة، فقتل منهم في ذلك اليوم عالم كثير، وأباح دماء المانوية أيضاً، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وثبت ملة المجوسية القديمة، وكتب بذلك إلى أصحاب الولايات، وقوي الملك بعد ضعفه، بإدامه النظر وهجر الملاذ، وترك اللهو، وقوي جنده بالأسلحة والكراع، وعمر البلاد، ورد إلى ملكه كثيراً من الأطراف التي غلبت عليها الأمم بعلل وأسباب شتى.

منها السند والرخج وزابلستان وطخارستان ودروستان وغيرها، وبنى المعاقل والحصون، وقسم أموال المردكية على الفقراء، ورد الأمر التي لها أصحاب إلى أصحابها وكل مولود اختلف فيه ألحقه بالشبه، وإن كان ولداً للمردكية المقتولة،

ص: 51

جعله عبداً لزوج المرأة التي حبلت به من المردكية، وأمر بكل امرأة غلبت على نفسها، أن تعطى من مال المردكي الذي غلبها بقدر مهرها، وأمر بنساء المعروفين اللائي مات من يقوم عليهن، أو تبرأ منهن أهلهن، لفرط الغيرة والأنفة، أن يجمعن وضع أفرده لهن، وأجرى عليهن ما يمونهن، وأمر أن يزوجن من مال كسرى، لك فعل بالبنات اللائي لم يوجد لهن أب، وأما البنون الذين لم يوجد لهم أب فأضافهم إلى مماليكه، ورد المنذر إِلى الحيرة، وطرد الحارث عنها.

وكان من حديث الحارث المذكور: أن العرب كانت قد طمعت في أرض الفرس، أيام قباذ لضعفه عن ضبط المملكة، واستولت كندة على الحيرة، وطردوا اللخميين عنها، وكان ملك اللخميين حينئذ المنذر بن ماء السماء، وملك موضعه الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار ابن عمرو بن معاوية بن ثور وثور هو كندة، ووفق الحارث قباذ على اتباع مردك، فعظمه قباذ وأقامه وطرد المنذر، لذلك فلما استقل أنوشروان بالملك، أعاد المنذر وطرد الحارث عن الحيرة، فهرب، وأرسل المنذر خيلاً في طلب الحارث المذكور، فأمسكوا عدة من أهله فقتلهم، وعدم الحارث، واختلف في صورة عدمه.

وسنذكر ذلك عند ذكر ملوك كندة، في الفصل المتضمن ذكر ملوك العرب إِن شاء الله تعالى.

وأمر أنوشروان بنساء أبيه قباذ أن يخيرن بين المقام في داره وإجراء الأرزاق عليهن، وبين أن يزوجن بالأكفاء من البعولة، وفتح أنوشروان الرها مدينة هرقل، ثم الإسكندرية، وأذعن له قيصر بالطاعة، وغزا الخزر، ثم توجه إِلى نحو عدن، فسكّر هناك ناحية من البحر بين جبلين، بالصخور وعمد الحديد، ثم سار إلى الهياطلة، مطالباً بدم فيروز، وكبس بلادهم، وقتل ملكهم، وخلقاً كثيراً من أصحابه، وتجاوز بلخ ما وراءها.

ثم رجع إلى المدائن وأرسل جيشاً إلى اليمن، وقدّم عليهم وهرز فقتلوا الحبشة المستولين عليها، وأعاد ملك أبا سيف بن ذي يزن عليه، بعد قتل ملك الحبشة مسورق بن أبرهة الأشرم الذي جاء بالفيل ليهدم الكعبة، وغزا برجان وبنى باب الأبواب.

وفي زمانه ولد عبد الله أبو النبي صلى الله عليه وسلم، لأربع وعشرين سنة من ملكه، وكذلك ولد النبي صلى الله عليه وسلم، في السنة الثانية والأربعين من ملك أنوشروان المذكور. ومات أنوشروان في سنة ثمان وثمانين وثمانمائة للإسكندر لمضي سبعة أشهر من السنة المذكورة.

ثم ملك بعده ابنه هرمز بن أنوشروان، وكان عادلاً، يأخذ للأدنى من الشريف، وبالغ في ذلك حتى أبغضه خواصه، وأقام الحقّ على بنيه ومحبيه، وأفرط في العدل والتشديد على الأكابر، وقصر أيديهم عن الضعفاء إِلى الغاية، ووضع صندوقاً في أعلاه خرق، وأمر أن يلقي المتظلم قصته فيه، والصندوق مختوم بخاتمه، وكان يفتح الصندوق وينظر في المظالم خوفاً من أن لا ترسل إِليه الشكاوى، على بطانته وأهله.

ثم طلب أن يعلم بظلم المتظلم ساعة فساعة، فأمر باتخاذ سلسلة من الطريق، وخرق لها في داره إلى موضع

ص: 52

جلوسه وقت خلوته، وجعل فيها جرساً فكان المتظلم يجيء من ظاهر الدار فيحرك السلسلة، فيعلم به فيتقدم بإحضاره وإزالة ظلامته، ثم خرج على هرمز عدة أعداء، منهم شابة ملك الترك في جمع عظيم، وخرج عليه ملك الروم، وخرج عليه ملك العرب في خلق كثير، حتى نزلوا شاطئ الفرات، فأرسل عسكراً إلى ملك الترك، وقدّم عليهم رجلاً من أهل الري يقال له بهرام جوبين بن بهرام خشنش، واقتتل مع الترك، وآخر ذلك أن بهرام جوبين قتل شابة ملك الترك، ونهب عسكره وطردهم، واستولى على أموال جمة، أرسل بها إِلى هرمز.

ثم قام ابن شابة مقام أبيه واصطلح مع بهرام جوبين وتهادنا، ثم أن هرمز أمر بهرام جوبين بالمسير إِلى الترك، وغزوهم في بلادهم، فلم ير بهرام ذلك مصلحة، وخاف من هرمز لكونه لم يمتثل ذلك، فاتفق بهرام والعسكر الذين معه وخلعوا طاعة هرمز، فأنفذ هرمز إِليهم عسكراً فصار أكثرهم مع بهرام جوبين بعد قتال جرى بينهم.

وكان برويز بن هرمز مطروداً عن أبيه، مقيماً بأذربيجان فبلغه ضعف أمر أبيه واتفاق أكابر الدولة والعسكر على خلعه، وخشى من استيلاء بهرام جوبين على الملك، فقصد برويز أباه ولما وصل برويز وثب حالا برويز على هرمز وأمسكاه، وسملا عينيه، ولبس برويز التاج وقعد على سرير الملك، وكان من أول ملك هرمز إِلى استقرار ابنه برويز في الملك نحو ثلاث عشرة سنة ونصف سنة فإِن هرمز بقى معتقلاً مدة ثم خنق.

وجلس برويز على السرير وخالفه بهرام جوبين فإِنه لما جلس برويز على سرير الملك أول مرة أظهر بهرام جوبين عدم طاعته، وانتصر لهرمز، وقصد أن ينتقم من برويز لما فعله في أبيه هرمز، من سمل عينيه، وجرى بين بهرام جوبين وبين برويز مراسلات، لم يرِد فيها بهرام جوبين إِلا ما يسوء برويز، وآخر الحال أن بهرام جوبين تغلب، وخشى برويز أن يقيم أباه الأعمى صورة ويستولي على الملك، فاتفق مع خواصه على قتل أبيه هرمز، فقتلوه ولحق برويز بملك الروم مستنجداً به.

ووصل بهرام جوبين ولبس التاج وقعد على سرير الملك، وقال لعظماء الدولة: إنني وإن لم أكن من بيت الملك فإِنّ الله ملكني اليوم والمُلك بيده، يملّكه من يشاء، ووصل برويز إلى ملك الروم فزوّجه بنته مريم، واًنجده بثمانين ألف فارس، وسار بهم حتى قارب بهرام جوبين فالتقيا وجرى بينهما قتال كثير ولحق ببرويز كثير من الفرس، وولى بهرام جوبين هارباً إلى خراسان ثم لحق بالترك.

ثم تملك برويز بعد طرد بهرام جربين، وفرّق في عسكر الروم أموالاً جليلة، وأعادهم إِلى ملكهم، وكان استقرار برويز في الملك في أثناء سنة اثنتين وتسعمائة للإِسكندر، وملك برويز ثمانياً وثلاثين سنة.

ولما استقر في الملك غزا الروم وسببه أن الملك الرومي الذي عمل مع برويز ما عمله هلك، فطرد الروم ابنه عن الملك، وأقاموا غيره فجرت بين برويز وبين الروم عدة حروب وكسر الروم ووصلت خيله

ص: 53

القسطنطينية، وجمع برويز في مدة ملكه من الأموال ما لم يجتمع لغيره من الملوك، وتزوج شيرين المغنية، وبنى لها قصر شيرين، بين حلوان وخانقيق وكان له ثمانية عشر ابناً، أكبرهم اسمه شهريار، ومنهم شيرويه الذي ملك بعد أبيه. وأم شيرويه مريم بنت ملك الروم، ثم إِن برويز عتا وتجبر واحتقر الأكابر وظلم الرعية، وكان متولي الحبوس زادان فروخ قد أنهى إِليه أنه قد اجتمع في الحبس ستة وثلاثون ألف رجل، وقد ضاقت الحبوس عنهم، وقد عظم نتنهم، فإِن رأى الملك أن يعاقب من يستحق العقوبة، ويقطع من يستحق القطع، ويفرج عنهم.

فقال برويز: بل أقتلهم جميعهم، وأقطع رؤوسهم، وأجعلها قدام باب دار المملكة، فاعتذر زادان فروخ عن ذلك، وسأل الإعفاء عنه، فأكد عليه كسرى برويز وقال: إِن لم تقتلهم فيْ هذا النهار قتلتك قبلهم، وشتمه وأخرجه على ذلك.

فذهب إِليهم زادان فروخ وأعلم المحبسين بذلك فكثر ضجيجهم فقال: إِن أفرجت عنكم تخرجون وتأخذون بأيديكم ما تجدونه في الأسواق من آلات وأخشاب وتكبسون كسرى في داره بغتْة، فحلفوا على ذلك، وأفْرج عنهم ففْعلوا ذلك، ولم يشعر كسرى برويز إِلا بالغلبة والصياح، ولم يقدر حاشيته والذين ببابه في ذلك الوقت على رد المذكورين. فهجموا على كسرى برويز في داره، وهرب فاختبأ في جانب بستان بالدار يعرف بباغْ الهند، فدلهم عليه بعض الحاشية، فأخرجوه ممسكاً إِلى زادان فروخ، فحبسه في دار رجل يقال له مارسفيد وقيده بقيد ثقيل، ووكل به جماعة ومضى إِلى عفر بابل.

فجاء بشيرويه وأجلسه على سرير الملك، وأطاعه الخاصة والعامة، وجرى بين شيرويه وبين أبيه مراسلات وتقريع، وآخر الآمر قال شيرويه لأبيه: لا تعجب إِن أنا قتلتك، فإنني اقتدي بك، في سملك عيني أبيك هرمز وقتله، ولو لم تفعل ذلك مع أبيك، ما أقدم عليك ولدك بمثل ذلك وأرسل شيرويه بعض أولاد الأساورة الذي قتلهم برويز وأمرهم بقتله، فقتلوه.

ولمضي اثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر وخمسة عشر يوماً من ملك بهريز، هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إِلى المدينة وكان هلاك برويز لمضي خمس سنين وستة أشهر وخمسة عشر يوماً للهجرة، لأنه من السنة الثانية والأربعين من ملك أنوشران، وهي سنة مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِلى نصف السنة الثالثة والثلاثين من ملك برويز وهي عام الهجرة، ثلاث وخمسون سنة وبيان ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد في السنة الثانية والأربعين من ملك أنوشروان، وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما كان له من العمر ثلاث وخمسون سنة، فيكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبع سنين في أيام أنوشروان، واثنتا عشرة سنة في أيام هرمز بن أنوشروان، وسنة ونصف بالتقريب في الفترة التي كانت بين إِمساك هرمز وبين استقرار ابنه برويز، واثنتان وثلاثون سنة ونصف بالتقريب من ملك برويز، ومجموع ذلك ثلاث وخمسون سنة.

وعلى ذلك فتكون السنة الثالثة والثلاثون

ص: 54

من ملك برويز، هي السنة الخامسة والثلاثون وتسعمائة للإِسكندر. بالتقريب، وكانت مدة ملك برويز ثمانياً وثلاثين سنة، فيكون هلاك برويز في سنة أربعين وتسعمائة للإِسكندر.

ثم ملك شيرويه وكان رديء المزاج، كثير الأمراض، صغير الخلق، وكان أخوته السبعة عشر كأنهم عوالي الرماح، قد كملوا في حسن الخلق، والأخلاق، والأدب، فلما ولى شيرويه الملك قتل الجميع، ثم ندم علىٍ قتل أخوته، وابتلى بالأسقام فلم يلتذ بشيء من اللذات، وجزع بعد قتلهم جزعاً شديداً، واحترم نوم الليل، وصار يبكي ليلاً ونهاراً ويرمي التاج عن رأسه، ثم هلك على تلك الحال، إن مدة ملكه ثمانية أشهر.

ثم ملك أزدشير بن شيرويه بن برويز، وقيل إِنه كان ابن سبع سنين وحضنه رجل يقال له مهاذر خشنش فأحسن سياسة الملك ثم قتل أزدشير بن شيرويه وكانت مدة ملكه سنة وستة أشهر.

ثم ملك شهريران، وكان من مقدمي الفرس، مقيماً في مقابلة الروم في عسكر عظيم من الفرس، وكان الشام إِقطاعه، وأقبل شهريران بعسكره لما بلغه ملك أزدشير بن شيرويه وصغر سنه، وهاجم مدينة طيسبون ليلاً بعد قتال كثير، وقتل مهاذر خشنش، وقتل أزدشير بن شيرويه، واستولى على الخزائن والأموال ولبس التاج وجلس على سرير الملك، ولم يكن من أهل بيت المملكة، ولما جلس على السرير ودخل الناس للتهنئة، أوجعه بطنه بحيث لم يقدر أن يقوم إِلى الخلاء، فدعا بطست وستارة وتبرز بين يدي السرير، فتطير الناس من ذلك وقالوا: هذا لا يدوم ملكه، وكان من سنة الفرس إِذا ركب الملك أن يقف جماعة حرسه صفين له، وعليهم الدروع والبيض، وبأيديهم السيوف مشهورة والرماح. فإِذا حاذاهم الملك وضع كل منهم ترسه على قربوس سرجه، ثم وضع جبهته عليه كهيئة السجود، ثم يرفعون رؤوسهم ويسيرون من جانبي الملك يحفظونه.

وركب شهريران، فوقف له بسفروخ وأخواه في جملة الحرس، فلما حاذاهم شهريران طعنه المذكورون فألقوه عن فرسه، وحملت عظماء الفرس على أصحابه فقتلوا منهم جماعة، وشدّوا في رجل شهريران حبلاً وجروه إِقبالاً وإدباراً، لكونه تعرض للملك وليس من بيت المملكة.

ثم ولوا المُلك بوران بنت كسرى برويز، فأحسنت السيرة، وردت خشبة الصليب على ملك الروم فعظم موقعها عنده، وأطاعها في كل ما كلفته، وملكت سنة وأربعة أشهر ثم هلكت.

فملك خشنشدة من بني عم كسرى برويز، ولمّا ملك خشنشدة المذكور لم يهتد على تدبير الملك، فكان ملكه أقل من شهر وقتل.

ثم ملكت أرزمي دخت بنت كسرى برويز، ولما ملكت أظهرت العدل والإِحسان، وكان أعظم الفرس حينئذ فرخ هرمز أصبهبذ خراسان، وكانت أرزمي دخت من أحسن النساء صورة، فخطبها فرخ هرمز ليتزوجها، فامتنعت من ذلك، ثم أجابته إِلى الاجتماع به في الليل ليقضي وطره منها،

ص: 55

فحضر بالليل بالشمع والطيب، فأمرت متولي حرسها فقتله.

وكان رستم بن فرخ هرمز، وهو الذي تولى قتل المسلمين فيما بعد، قد جعله أبوه نائبه على خراسان لما توجه بسبب أرزمي دخت، فلما قتلته جَمَعَ رستم المذكور عسكره وقصد أرزمي دخت بنت كسرى برويز، فقتلها آخذاً بثأر أبيه، وكان ملكها ستة أشهر، واختلف عظماء الفرس فيمن يولونه الملك، فلم يجدوا غير رجل من عقب أزدشير بن بابك.

واسمه كسرى بن مهرخشنش فملكوه، ولما ملك المذكور لم يلق به الملك، فقتلوه بعد أيام، فلم يجدوا من يملكونه من بيت المملكة.

فوجدوا رجلاً يقال له فيروز بن خستان، يزعم أنه منٍ نسل أنوشروان، فملكوا فيروز المذكور ووضعوا التاج على رأسه، وكان رأسه ضخماً فلم يسعه التاج، فقال: ما ضيق هذا التاج، فتطير العظماء من افتتاح كلامه بالضيق وقالوا: هذا لا يفلح فقتلوه.

ثم ملك فرخ زاد خسرو من أولاد أنوشروان، وملك ستة أشهر وقتلوه.

ثم ملك يزد جرد بن شهريار بن برويز بن هرمز بن أنوشروان بن قباذ بن فيروز بن يزجرد بن بهرام جور بن يزد جرد بن بهرام بن سابور ذي الأكتاف بن هرمز بن نرسي بهرام بن بهرام آخر بن هرمز بن سابور بن أزْدشير بن بابك.

وكان يزد جرد المذكور مختفياً بإصطخر لما قتل أبوه مع أخوته، حين قتلهم شيرويه حسبما ذكرناه، وكان ملك يزد جرد المذكور كالخيال بالنسبة إِلى ملك آبائه، وكانت الوزراء تدبر ملكه، وضعفت مملكة فارس واجترأ عليهم أعداؤهم، وغزت المسلمون بلادهم بعد أن مضى من ملكه ثلاث أربع سنين، وكان عمر يزد جرد إِلى أن قتل بمرو، عشرين سنة، وكان مقتله في خلافة عثمان رضي الله عنه، في سنة إِحدى وثلاثين للهجرة، وهو آخر من ملك منهم وزال ملكهم بالإسلام زوالاً إِلى الأبد فهذا ترتيب ملوك الفرس من أوشهنج إِلى يزد جرد من كتاب الأمم لابن مسكويه ومن كتاب أبي عيسى.

‌الفصل الثالث

ذكر فراعنة مصر واليونان والروم

ثم ملوك اليونان ثم ملوك الروم أما

‌الفراعنة

فهم ملوك القبط بالديار المصرية، قال ابن سعيد المغربي، ونقله من كتاب صاعد في طبقات الأمم: إن أهل مصر كانوا أهل ملك عظيم في الدهور الخالية والأزمان السالفة، وكانوا أخلاطاً من الأمم ما بين قبطي ويوناني وعمليقي، إلا أن جمهرتهم قبط.

قال: وأكثر ما تملك مصر الغرباء، قال: وكانوا صابئة يعبدون الأصنام، وصار بعد الطوفان بمصر علماء بضروب من العلوم، خاصة بعلم الطلسمات والنيرنجات والكيمياء، وكانت مدينة منف هي كرسي المملكة، وهي على اثني عشر ميلاً من الفسطاط.

قال: ابن سعيد وأسنده إلى الشريف الإِدريسي: إِن أول من ملك مصر بعد الطوفان بيصر بن حام بن نوح، ونزل مدينة منف هو وثلاثون من ولده وأهله، ثم ملكها بعده ابنه مصر بن بيصر،

ص: 56

وسميت البلاد به، لامتداد عمره وطول مدة ملكه، ثم ملك بعده ابنه قفط بن مصر، ثم ملك بعده أخوه أتريب بن مصر، وأتريب المذكور هو الذي بنى مدينة عين شمس وبها الآثار العظيمة، إِلى الآن، ثم ملك بعده أخوه صا وبه سميت مدينة صا وهي مدينة خراب على النيل من أسفله، ثم ملك بعده تذراس، ثم ملك بعده ماْليق بن تذراس ثم ملك بعده ابنه حرابا بن ماليق. ثم ملك بعده كلكلى بن حرابا، وكان ذا حكمه، وهو أول من جمّد الزئبق، وسبك الزجاج. ثم ملك بعده حريبا بن ماليق وكان شديد الكفر. ثم ملك بعده طوليس وهو فرعون إِبراهيم عليه السلام. وهو الذي وهب سارة هاجر، وكان مسكن طوليس بالفرما ثم ملك بعده أخته جورياق. ثم ملك بعدها زلفا بنت مامون، وكانت عاجزة عن ضبط المملكة، وسمعت عمالقة الشام بضعفها فغزوها وملكوا مصر. وصارت الدولة للعمالقة وكان الذي أخذ الملك منها الوليد بن دومغ العملاقي، وكان يعبد البقر، فقتله أسد في بعض متصيداته، وقيل هو أول من تسمى بفرعون، وصار ذلك لقباً لكل من ملك مصر بعده.

ثم ملك بعده ابنه الريان بن الوليد وهو فرعون يوسف، ونزل مدينة عين شمس. ثم ملك بعده ابنه دارم بن الريان، وفي زمانه توفي يوسف الصديق عليه السلام، وتجبر دارم المذكور واشتد كفره، وركب في النيل فبعث الله تعالى عليه ريحاً عاصفة أغرقته بالقرب من حلوان. ثم ملك بعده كاسم بن معدان العمليقي أيضاً، وقصد أن يهدم الهرمين، فقال له حكماء مصر إِن خراج مصر لا يفي بهدمهما، وأيضاً فإنهما قبران لنبيين عظيمين، وهما شيث بن آدم، وهرمس، فأمسك عن هدمهما.

ثم ملك بعده الوليد بن مصعب، وهو فرعون موسى عليه السلام. وقد اختلف فيه فقيل إِنه من العمالقة، وهو الأظهر وقيل إِنه هو فرعون يوسف. وأطال الله تعالى عمره إِلى أيام موسى عليه السلام، قال ابن سعيد، وذكر القرطبي في تاريخ مصر أنّ الوليد المذكور كان من القبط، وكان في أول أمره صاحب شرطة لكاسم العملاقي، وكانت الأقباط قد كثرت، فملكوا الوليد المذكور بعد كاسم وانقرضت من حينئذ دولة العمالقة من مصر، قال: والوليد المذكور هو الذي ادّعى الربوبية. قال: وصنف الناس في سيرته وخلدوا ذكرها، وكانت أرض مصر على أيامه في نهاية من العمارة، فعظمت دولته وكثرت عساكره، وفي مناجاة موسى عليه السلام، يا رب لم أطلت عمر عدوك فرعون يعني الوليد المذكور مع ادعائه ما انفردتَ به من الربوبية، وجحد نعمتك، فقال الله تعالى: أمهلته لأن فيه خصلتين من خصال الإيمان، الجود والحياء، وكان هامان وزير فرعون المذكور، وهو الذي حفر لفرعون خليج السردوسي، ولما أخذ هامان في حفره سأله أهل كل قرية أن يجريه إِليهم، ويعطوه على ذلك مالاً، وكان يأتي به إِلى القرية نحو المشرق، ثم يرده إِلى القرية من نحو المغرب، وكذلك في

ص: 57

الجنوب والشمال، واجتمع لهامان من ذلك نحو مائة ألف دينار، فأتى بها إِلى فرعون وأخبره بالقضية فقال فرعون: ويحك إِنّه ينبغي للسيد أن يعطف على عبيده، ولا يطمع بما في أيديهم، ورد على أهل كل قرية ما أخذ منهم. وأخبر فرعون المذكور المنجمون بظهور موسى عليه السلام، وزوال ملكه على يده، فأخذ في قتل الأطفال حتى قتل تسعين ألف ألف طفل، وسلمّ الله تعالى نبيه موسى عليه السلام منه بأن التقطته زوج فرعون آسية، وحمته منه، وتزعم اليهود أنَّ التي التقطت موسى هي بنت فرعون لا زوجته، والأصح أنها زوجته، حسبما نطق به القرآن العظيم، ولما كان منه ومن موسى ما تقدّم ذكره من أظهار الآيات لفرعون، وهي العصا ويده البيضاء والجراد والقمل والضفادع وصيرورة الماء دماً وغير ذلك، سلمّ فرعون بني إِسرائيل إِلى موسى عليه السلام، ولما أخذهم موسى وسار بهم ندم فرعون على ذلك، وركب بعساكره وتبعهم فلحقهم عند بحر القلزم، وأوحى الله تعالى إِلى موسى عليه السلام، فضرب البحر بعصاه فصار فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبط طريق، فتبعه فرعون فغرق هو وجنوده وكان هلاك فرعون المذكور بعد مضي ثمانين سنة من عمر موسى عليه السلام، وكان قد تملك من قبل ولادة موسى، ولذلك أمر بقتل الأطفال في أيام ولادة موسى عليه السلام فمدة ملك فرعون المذكور تزيد على ثمانين سنة قطعاً.

ولما هلك فرعون المذكور ملكت القبط بعده دلوكة المشهورة بالعجوز، وهي من بنات ملوك القبط، وكان السحر قد انتهى إِليها وطال عمرها حتى عرفت بالعجوز وصنعت على أرض مصر من أول أرضها في حد أسوان إِلى آخرها سوراً متصلاً إِلى هنا انتهى كلام ابن سعيد المغربي ولم يذكر من تولى بعد دلوكة.

ثم إِني وجدت في أوراق قد نقلت من تاريخ ابن حنون الطبري، وهو تاريخ ذكر فيه ملوك مصر في قديم الزمان قال: ثم ملك مصر بعد دلوكة صبي من أبناء أكابر القبط، كان يقال له دركون بن بكتوس، ثم ملك بعده توذس، ثم ملك بعده أخوه لقاش، ثم ملك بعده أخوه مرينا، ثم ملك بعده أستماذس، ثم ملك بعده يلطوس بن ميكاكيل، ثم ملك بعده مالوس ثم ملك بعده مناكيل ثم ملك بعده يولة وهو الذي غزا رحبعم بن سليمان بن داود عليهما السلام، وقد ذكر في كتب اليهود أن فرعون الذي غزا بني إِسرائيل على أيام رحبعم كان اسمه شيشاق وهو الأصح، ثم لم يشتهر بعد شيشاق المذكور، غير فرعون الأعرج، وهو الذي غزاه بخت نصر وصلبه، وكان بين رحبعم بن سليمان عليه السلام وبخت نصر فوق أربعمائة سنة، وكان شيشاق على أيام رحبعم، فشيشاق قبل فرعون الأعرج بأكثر من أربعمائة سنة، ولم يقع لي أسماء الفراعنة الذين كانوا في هذه المدة، عني فيما بين شيشاق وفرعون الأعرج.

ولما قتل بخت نصر فرعون المذكور وغزا مصر وأباد أهلها، بقيت مصر أربعين سنة خراباً.

ومن

ص: 58

كتاب ابن سعيد المغربي قال: وصارت مصر والشام من حين غزاهما بخت نصر تحت ولايته حتى مات بخت نصر، وتوالت الولاة من جهة بني بخت نصر على مصر والشام حتى انقرضت دولة بني بخت نصر فتوالت ولاة الفرس على مصر، فكان منهم كشروس الفارسي باني قصر الشمع، ثم تولى بعده طخارست الطويل قال: وفي أيامه كان بقراط الحكيم، وتوالت بعده نواب الفرس إلى ظهور الإسكندر وغلبته على الفرس.

‌ذكر ملوك اليونان

أما ملوك اليونان، فأول من اشتهر منهم فيلبس والد الإسكندر، وكان مقر ملكه بمقذونية، وهي مدينة حكماء اليونان، وهي مدينة على جانب الخليج القسطنطيني من شرقيه.

وكانت ملوك اليونان طوائف، ولم يشتهر منهم غير فيلبس المذكور، وكان فيلبس المذكور يؤدي الأتاوة لملوك الفرس، فلما مات فيلبس المذكور ملك بعده ابنه الإسكندر بن فيلبس، وقد مرّت أخبار الإسكندر مع ملوك الفرس، وملك الإسكندر نحو ثلاث عشرة سنة ومات الإسكندر في أواخر السنة السابعة من غلبته على ملك الفرس.

ولما مات انقسمت البلاد بين الملوك، فملك بعض الشام والعراق أنطياخس. وملك مقذونية أخو الإسكندر واسمه فيلبس أيضاً باسم أبيه وملك بلاد العجم ملوك الطوائف، الذين رتبهم الإسكندر. وملك مصر وبعض الشام والمغرب البطالسة، وهم ملوك اليونان، وكان يسمى كل واحد منهم بطلميوس، وهي لفظة مشتقة من الحرب معناها أسد الحرب، وكان عدد البطالسة الذي ملكوا بعد الإسكندر ثلاثة عشر ملكاً. وكان آخرهم الملكة قلوبطرا بنت بطلميوس، ولم أعلم أي بطلميوس هو ولا كنيته، وزال ملكهم بملك أغستوس الرومي، وصارت الدولة للروم، وكانت جميع مدة ملك اليونان مائتين وخمساً وسبعين سنة، وكان بين غلبة الإسكندر على ملك فارس وبين غلبة أغستوس، مائتان واثنتان وثمانون سنة. وبقي الإسكندر بعد غلبته على دارا نحو سبع سنين، وإذا أنقصنا سبعاً من مائتين واثنتين وثمانين سنة بقي من موت الإسكندر إِلى غلبة أغستوس مائتان وخمس وسبعون سنة، هي مدة ملك البطالسة.

وأول البطالسة بعد الإسكندر بطلميوس سشوس ابن لاغوس، وكان يلقب المنطقي، وملك المذكور عشرين سنة فيكون موت ابن لاغوس المذكور، لسبع وعشرين سنة مضت من غلبة الإسكندر.

ثم ملك بعده بطلميوس الثاني واسمه فيلوذفوس ومعناه محب أخيه، وملك ثمانياً وثلاثين سنة، وهو الذي نقلت له التوراة من العبرانية إِلى اليونانية، وهو الذي عتق اليهود الذي وجدهم أسرى لما تملك، وقد تقدم ذكر ذلك بعد ذكر بني إِسرائيل. فيكون موت محب أخيه المذكور لخمس وستين سنة مضت من غلبة الإسكندر.

ثم ملك بعده بطلميوس الثالث واسمه أوراخيطس

ص: 59

وملك خمساً وعشرين سنة، وفي أيامه أدى له ملك الشام الأتاوة، فيكون موت أوراخيطس المذكور، لتسعين سنة مضت من غلبة الإسكندر.

ثم ملك بعده بطلميوس الرابع واسمه فيلوبطور ومعناه محب أبيه، وملك سبع عشرة سنة، فيكون موت محب أبيه المذكور، لمضي مائة سنة وسبع سنين من غلبة الإسكندر. ثم ملك بعده بطلميوس الخامس واسمه فيفنوس أربعاً وعشرين سنة، فيكون موت فيفنوس المذكور لمائة وإحدى وثلاثين سنة مضت من غلبة الإسكندر.

ثم ملك بعده بطلميوس السادس واسمه فيلوميطور ومعناه محب أمه، وملك خمساً وثلاثين سنة. فموته لمضي مائة وست وستين سنة لغلبة الإسكندر.

ثم ملك بعده بطلميوس السابع واسمه أوراخيطس الثاني، وملك تسعاً وعشرين سنة فموت لمضي مائة وخمس وتسعين سنة للإسكندر.

ثم ملك بعده بطلميوس الثامن واسمه سوطيرا ست عشرة سنة، فيكون موت سوطيرا المذكور لمضي مائتين وإحدى عشرة سنة لغلبة الإسكندر.

ثم ملك بعد بطلميوس التاسع واسمه سيد يريطس تسع سنين، فيكون موته لمضي مائتين وعشرين سنة لغالبة الإسكندر.

ثم ملك بعده بطلميوس العاشر واسمه إِسكندروس ثلاث سنين فموته لمضي مائتين وثلاث وعشرين سنة للإِسكندر.

ثم ملك بعده بطلميوس الحادي عشر واسمه فيلوذفوس آخر وملك ثمان سنين، فموت فيلوذفوس المذكور لمضي مائتين وإحدى وثلاثين سنة للإِسكندر.

ثم ملك بطلميوس الثاني عشر واسمه دينو سيوس تسعاً وعشرين سنة، فيكون موت المذكور لمضي مائتين وستين سنة للإِسكندر.

ثم ملكت قلوبطرا وهي الثالثهَ عشرة، وملكت المذكورة اثنتين وعشرين سنة، وعند مضي اثنتين وعشرين سنة من ملكها غلبها أغسطس على الملك فقتلت قلوبطرا نفسها وانقرض بذلك ملك اليونان، وانتقلتَ المملكة حينئذ إلى الروم، وهم بنو الأصفر، فموت قلوبطرا وغلبة أغسطس كان لمضي مائتين واثنتين وثمانين سنة لغلبة الإسكندر.

‌ذكر ملوك الروم

ذكر أبو عيسى في كتابه أنّ أول ما ملكت عليهم الروم روملّس وروما ناوس، فبنيا مدينة رومية، واشتقا اسمها من اسمهما، ثم وثب روملس على أخيه روما ناوس فقتله، وملك بعد قتله ثمانياً وثلاثين سنة، وحده، واتخذ روملس بروميه ملعباً عجيباً.

ثم ملك بعده على رومية عدة ملوك ولم يشتهروا ولا وقعت إِلينا أخبارهم. ومن الكامل لابن الأثير، أنّ ملوك الروم كان مقر ملكهم رومية الكبرى، قبل غلبتهم على اليونان، وكان الروم يدينون بدين الصابئين ولهم أ! نام على أسماء الكواكب السبعة يعبدونها، وكان أول من اشتهر من ملوكهم غانيوس ثم ملك بعده يوليوس، ثم ملك بعده أغسطس

ص: 60

بشينين معجمتين. ولكن لما عرب صار بسينين مهملتين، ولقبه قيصر، ومعناه شق عنه لأنّ أمه ماتت قبل أن تلده، فشقوا بطنها وأخرجوه، فلقب قيصر وصار لقباً لملوك الروم بعده.

وخرج أغسطس في السنة الثانية عشرة من ملكه من رومية بعساكر عظيمة، في البر والبحر، وسار إِلى الديار المصرية، واستولى على ملك اليونان، وكانت قلوبطرا هي ملكة اليونان وكان مقامها في الإسكندرية، فلما غلبها أغسطس قتلت قلوبطرا نفسها في السنة الثانية عشرة من ملك أغسطس، ولما ملك أغسطس الرومي على اليونان اضمحل ذكر اليونان ودخلوا في الروم، ولما ملك أغسطس ديار مصر والشام دخلت بنو إِسرائيل تحت طاعته، كما كانوا تحت طاعة البطالسة ملوك اليونان.

فولى أغسطس ببيت المقدس على اليهود والياً منهم وكان يلقب هرذوس حسبما تقدم ذكره، وفي أيام أغسطس ولد المسيح عليه السلام، وقد تقدم ذكره أيضاً، وكانت غلبة أغسطس على ديار مصر وقتل قلوبطرا لمضي مائتين واثنتين وثمانين سنة لغلبة الإسكندر، وكانت مدة ملك أغسطس ثلاثاً وأربعين سنة، منها اثنتا عشرة سنة قبل غلبته على اليونان، وإحدى وثلاثون سنة من غلبته إِلى وفاته، وكان موت أغسطس لمضي ثلاثمائة وثلاث عشرة سنة لغلبة الإسكندر.

ثم ملك بعد أغسطس طبياريوس في أول سنة ثلاثمائة وأربع عشرة سنة لاسكندر، من كتاب أبي عيسى أنّ طبياريوس ملك اثنتين وعشرين سنة، وطبياريوس المذكور هو الذي بنى طبرية بالشام، واشتق اسمها من اسمه، ومات طبياريوس لمضي ثلاثمائة وخمس وثلاثين سنة للإسكندر.

ثم ملك بعد طبياريوس غانيوس قال أبو عيسى وملك غانيوس أربع شين ولمضي السنة الأولى من ملك غانيوس رفع المسيح عيسى بن مريم عليه السلام فيكون رفعه لمضي سنة ست وثلاثين وثلاثمائة للإسكندر، ومات غانيوس لمضي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة للإسكندر.

ثم ملك بعد غانيوس قلوذيوس قال أبو عيسى: وملك قلوذيوس أربع عشرة سنة من القانون وفي أيام قلوذيوس كان سيمون الساحر برومية. من الكامل وفي مدة ملك قلوذيوس المذكور حبس شمعون، ثم خلص وسار إلى إنطاكية، ودعا إلى النصرانية، ثم سار إِلى رومية ودعا أهلها أيضاً فأجابته زوجة الملك، وكان موت قلوذيوس لمضي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة للإسكندر.

ثم ملك بعده نارون من قانون أبي الريحان البيروتي أنه ملك ثلاث عشرة سنة، وهو الذي قتل في آخر ملكه بطرس وبولص برومية، وصلبهما منكسين، وكان موت نارون المذكور في أواخر سنة ست وستين وثلاثمائة للإسكندر.

ثم ملك بعده ساسيانوس قال أبو عيسى وملك ساسيانوس المذكور عشر سنين، فيكون موته في أواخر سنة ست وسبعين وثلاثمائة.

ثم ملك بعده طيطوس من القانون ملك سبع سنين، وهو الذي غزا اليهود

ص: 61

وأسرهم وباعهم وخرب بيت المقدس وأحرق الهيكل، وقد تقدم ذلك عند ذكر خراب بيت المقدس الخراب الثاني، وكان موت طيطوس في أواخر سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة للإسكندر.

ثم ملك بعده ذو مطينوس من القانون ملك خمس عشرة سنة، وتتبع النصارى واليهود وأمر بقتلهم، وكان دينه ودين غيره من الروم عبادة الأصنام حسبما قدّمنا ذكره، وكان موت ذو مطينوس في أواخر سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.

ثم ملك بعده نارواس من كتاب أبي عيسى أنه ملك سنة واحدة وكانت وفاته في أواخر سنة تسع وتسعين وثلاثمائة للإسكندر.

ثم ملك بعده طرايانوس وقيل غراطيانوس من كتاب أبي عيسى، ملك تسع عشرة سنة وقيل تسعاً وعشرين سنة، فيكون موته في أواخر سنة ثماني عشرة وأربعمائة للإسكندر.

ثم ملك بعده أذريانوس من كتاب أبي عيسى، ملك إحدى وعشرين سنة، وكان في أيامه بطلميوس صاحب المجسطي، وقد تقدم أن بطلميوس لقب ملوك اليونان الذين ملكوا بعد الإسكندر. ثم تسمى به الناس، وكان عن جملتهم طلميوس المذكور، قال في الكامل: وبطلميوس صاحب المجسطي المذكور من ولد قلوذيوس، ولهذا قيل له القلوذي، وتجذّم أذريانوس المذكور لمضي ثماني عشرة سنة من ملكه، فسار إِلى مصر يطلب شفاء لجذامه فلم يجد ذلك، وكان موته في أواخر سنة تسع وثلاثين وأربعمائة للإسكندر.

ثم ملك بعده أنطونينوس قال أبو عيسى ملك ثلاثاً وعشرين سنة وكان أحد رصّاد بطلميوس صاحب المجسطي في السنة الثالثة من ملكه، وكان موته في أواخر سنة اثنتين وأربعمائة للإسكندر.

ثم ملك بعده مرقوس وقيل قوموذوس وشركاوه، من القانون ملك تسع عشرة سنة.

ومن الكامل لابن الأثير في أيامه أظهر ابن ديصان مقالته من القول بالاثنين، وكان ابن ديصان أسقفاً بالرها ونسب إلى نهر على باب الرها اسمه ديصان، لأنه بنى على جانب النهر كنيسة.

ثم مات مرقوس في أواخر سنة إحدى وثمانين وأربعمائة للإسكندر.

ثم ملك بعده قوموذوس من القانون، ثلاث عشرة سنة، وفي آخر أيامه خنق نفسه ومات بغتة، كان موته في أواخر سنة أربع وتسعين وأربعمائة للإسكندر.

وقال في الكامل أن جالينوس كان في أيام قوموذوس المذكور، وقد أدرك جالينوس بطلميوس، وكان دين النصارى قد ظهر في أيامه وقد ذكرهم جالينوس في كتابه في جوامع كتاب أفلاطون في سياسة المدن، فقال: إن جمهور الناس لا يمكنهم أن يفهموا سياقة الأقاويل البرهانية، ولذلك صاروا محتاجين إلى رموز ينتفعون بها، يعني بالرموز الأخبار عن الثواب والعقاب في الدار الآخرة، من ذلك أنّا نرى الآن القوم الذين يدعون نصارى، إِنما أخذوا إيمانهم عن الرموز، وقد يظهر منهم أفعال مثل أفعال من تفلسف بالحقيقة، وذاك أن عدم جزعهم من الموت

ص: 62

أمر قد نراه كلنا، وكذلك أيضاً عفافهم عن استعمال الجماع، فإن منهم قوماً رجالاً ونساءً أيضاً قد أقاموا جميع أيام حياتهم ممتنعين عن الجماع، ومنهم قوم قد بلغ من ضبطهم لأنفسهم في التدبير، وشدة حرصهم على العدل، أن صاروا غير مقصرين عن الدين، يتفلسفون بالحقيقة انتهى كلام جالينوس.

ثم ملك بعد قوموذوس المذكور فرطنجوس ستة أشهر، وقتل في رحبة القصر، فيكون موته في منتصف سنة خمس وتسعين وأربعمائة.

ثم ملك بعده سيوارس من القانون ملك ثماني عشرة سنة، وفي أيامه بحثت الأساقفة عن أمر الفصح وأصلحوا رأس الصوم، وهلك سيوارس المذكور في منتصف سنة ثلاث عشرة وخمسمائة.

ثم ملك بعده أنطينينوس الثاني من كتاب أبي عيسى أربع سنين، وقتل ما بين حران والرها، فيكون هلاكه في منتصف سنة سبع عشرة وخمسمائة.

ثم ملك بعده الإسكندروس من كتاب أبي عيسى ثلاث عشرة سنة، فيكون موته في منتصف سنة ثلاثين وخمسمائة.

ثم ملك بعده مكسيمينوس من القانون ثلاث سنين، وشدد في قتل النصارى، وإن موته في منتصف سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة للإسكندر.

ثم ملك بعده غورذيانوس من كتاب أبي عيسى، ست سنين وقتل في حدود فارس، وكان هلاكه في منتصف سنة تسع وثلاثين وخمسمائة للإسكندر.

ثم ملك بعده دقيوس ويقال دقيانوس من كتاب أبي عيسى سنة واحدة، وكان الملك الذي قبله قد تنصّر، فخرج عليه دقيوس وقتله، وأعاد عبادة الأصنام ودين الصابئين، وتتبع النصارى يقتلهم، ومنه هرب الفتية أصحاب الكهف، وكانوا سبعة، وناموا والله أعلم بما لبثوا، كما أخبر الله تعالى، وكان هلاك دقيوس في منتصف سنة أربعين وخمسمائة.

ثم ملك بعده غاليوس من كتاب أبي عيسى وملك ثلاث سنين، ومات في منتصف سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة للإسكندر.

ثم ملك بعده غلينوس وولريانوس من كتاب أبي عيسى ملكاً خمس عشرة سنة. ومن الكامل أن ولريانوس، وقيل اسمه ولوسينوس، انفرد بالملك بعد سنتين من اشتراكهما. فيكون موت المذكور في منتصف سنة ثمان وخمسين وخمسمائة.

ثم ملك بعده قلوذيوس سنة واحدة فيكون هلاكه في منتصف سنة تسع وخمسين وخمسمائة.

ثم ملك بعده أذرفاس وقيل أورليانوس، من كتاب أبي عيسى. ملك ست سنين ومات بصاعقة، فيكون هلاكه في منتصف سنة خمس وستين وخمسمائة.

ثم ملك بعده قرونوس من كتاب أبي عيسى. سبع سنين وهلك في منتصف سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، ثم ملك بعده قاروس وشركته. من كتاب أبي عيسى. سنتين، ومات في منتصف سنة أربع وسبعين وخمسمائة للإسكندر.

ثم ملك بعده دقلطيانوس إحدى وعشرين سنة، ولثلاث عشرة سنة مضت من ملكه عصى

ص: 63

عليه أهل مصر والإسكندرية، فسار إِليهم من رومية وغلبهم وأنكى فيهم، ودقلطيانوس المذكور آخر عبدة الأصنام من ملوك الروم فإنهم تنصروا بعده، وكان هلاك دقلطيانوس في منتصف سنة خمس وتسعين وخمسمائة للإسكندر.

ثم ملك بعده قسطنطين المظفر إحدى وثلاثين سنة من القانون ولثلاث مضت من ملكه، انتقل من رومية إلى قسطنطينية وبنى سورها وتنصر، وكان اسمها البيزنطية فسماها القسطنطينية، وزعمت النصارى أنه بعد ست سنين خلت من ملك قسطنطين المذكور، ظهر له في السماء شبه الصليب، فآمن بالنصرانية وكان قبل ذلك هو ومن تقدمه على دين الصابئة، يعبدون أصناماً على أسماء الكواكب السبعة، ولعشرين سنة مضت من ملك قسطنطين المذكور، اجتمع ألفان وثمانية وأربعون أسقفاً، ثم اختار منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً، فحرموا أريوس الإسكندراني لكونه يقول: إنّ المسيح كان مخلوقاً، واتفقت الأساقفة المذكورون لدى قسطنطين ووضعوا شرائع النصرانية بعد أن لم تكن، وكان رئيس هذه البطارقة بطريق الإسكندرية، وفي إحدى عشرة خلت من ملكه سارت أم قسطنطين واسمها هيلاني إِلى القدس، وأخرجت خشبة الصلبوت وأقامت لذلك عيداً يسمى عيد الصليب، وبنى قسطنطين وأمه عدة كنائس فمنها قيامة بالقدس وكنيسة حمص وكنيسة الرها وكان موت قسطنطين في منتصف سنة ست وعشرين وستمائة للإسكندر، ولما مات قسطنطين انقسمت مملكته بين بنيه الثلاثة، وكان الحاكم عليهم منهم قسطس من القانون وملك قسطس بن قسطنطين أربعاً وعشرين سنة، وكان موته في منتصف سنة خمسين وستمائة.

ثم خرج الملك عن بني قسطنطين وملك لليانوس وارتد إلى عبادة الأصنام، وسار إلى سابور ذي الأكتاف وقهره، ثم قتل في أرض الفرس بسهم غرب، وكان قد انتصر على سابور في الأكتاف حسبما تقدم ذكره مع ذكر سابور ذي الأكتاف في الفصل الثاني، ولما هلك لليانوس اضطرب عسكره وخافوا من الفرس، وكانت مدة ملك لليانوس سنتين، وهلك في سنة اثنتين وخمسين وستمائة للإسكندر.

ثم ملك بعده يونيانوس سنة واحدة من كتاب أبي عيسى ويونيانوس المذكور لما ملك أظهر تنصره، وأعاد ملة النصرانية إلى ما كانت عليه، ولما ملك المذكور على الروم وهم بأرض الفرس، اصطلح يونيانوس مع سابور، ووصل إلى سابور واجتمعا واعتنقا، ثم عاد يونيانوس بالعسكر إِلى بلاده ومات في منتصف سنة ثلاث وخمسين وستمائة للإسكندر.

ثم ملك بعده والنطيانوس من كتاب أبي عيسى ملك أربع عشرة سنة، وكان موته في منتصف سنة سبع وستين وستمائة.

ثم ملك بعده أنونيانوس قال أبو عيسى: وملك ثلاث سنين، فيكون موته في منتصف سنة سبعين وستمائة.

ثم ملك بعده خرطيانوس من كتاب أبي عيسى ملك

ص: 64

ثلاث سنين، فيكون موته في منتصف سنة ثلاث وسبعين وستمائة.

ثم ملك بعده ثاوذوسيوس الكبير من كتاب أبي عيسى. ملك تسعاً وأربعين سنة، فيكن موته في منتصف سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة للإسكندر.

ثم ملك بعده أرقاذيوس بقسطنطينية، وشريكه أونوريوس برومية، من القانون. ملكا ثلاث عشرة سنة، فيكون هلاكهما في منتصف سنة خمس وثلاثين وسبعمائة للإسكندر.

ثم ملك بعدهما ثاوذوسيوس الثاني من كتاب أبي عيسى ملك عشرين سنة، وفي أيامه غزت فارس الروم، وفي أيام ثاوذوسيوس المذكور، انتبه أصحاب الكهف، وكان موت ثاوذوسيوس المذكور في منتصف سنة خمس وخمسين وسبعمائة للإسكندر، وفي مدة ملكه كان المجمع الثالث في أفسس، واجتمع مائتا أسقف وحرموا نسطورس، صاحب المذهب وكان بطركاً بالقسطنطينية، لقول نسطورس أن المسيح جوهران، جوهر لاهوتي وجوهر ناسوتي، وأقنومان، أقنوم لاهوتي وأقنوم ناسوتي، وقد قيل أن ثاوذوسيوس المذكور ملك اثنتين وأربعين سنة.

ثم ملك بعده مرقيانوس من القانون ملك سبع سنين ولسنة خلت من ملكه بنى دير مارون الذي بحمص، وفي أيامه لعن نسطورس ونفي، وكان موت مرقيانوس في منتصف سنة اثنتين وستين وسبعمائة.

ثم ملك بعده والنطيس من كتاب أبي عيسى ملك سنة واحدة، فيكون موته في منتصف سنة ثلاث وستين وسبع مائة.

ثم ملك بعده لاون الكبير من القانون وملك سبع عشرة سنة، وفي أيامه كثر الخسف في إنطاكية بالزلازل، وكان موته في منتصف سنة ثمانين وسبعمائة.

ثم ملك بعده زينون من القانون ملك ثماني عشرة سنة ومات في منتصف سنة ثمان وتسعين وسبعمائة للإسكندر.

ثم ملك بعده أسطيثيانوس من كتاب أبي عيسى وملك سبعاً وعشرين سنة، وهو الذي عمر أسرار مدينة حماة في أول سنة من ملكه، وفرغت عمارتها في مدة سنتين، ولعشر سنين خلت من ملكه أصاب الناس جوع شديد، وانتشر فيهم الجراد، ولاثنتي عشرة سنة من ملكه غزا قواد الفرس آمد وحاصروها وخربوها وكان موت أسطيثيانوس في منتصف سنة خمس وعشرين وثمانمائة.

ثم ملك بعده يسطينينوس من كتاب أبي عيسى وملك يسطينينوس تسع سنين، ومات في منتصف سنه أربع وثلاثين وثمانمائة للإسكندر.

ثم ملك بعده يسطينينوس الثاني من كتاب أبي عيسى وملك ثمانية وثلاثين سنة، وكثرت الحروب في أيامه بين الفرس والروم، وكان في السنة الثامنة من ملكه بينهم مصاف على شط الفرات، قتل منهم خلق عظيم، وغرق من الروم في الفرات بشر كثير، وكان موت يسطينينوس في منتصف سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة للإسكندر.

ثم ملك بعده يسطينينوس آخر من القانون أربع عشرة سنة، ولسبع سنين خلت من ملكه، أقبل ملك الفرس وغزا الشام وأحرق مدينة أفامية، وكان موته في منتصف سنة ست وثمانين وثمانمائة.

ثم ملك بعده طبريوس

ص: 65

الأول من كتاب أبي عيسى ملك ثلاث سنين، وكان موته في منتصف سنة تسع وثمانين وثمانمائة.

ثم ملك بعده طبريوس الثاني، من كتاب أبي عيسى ملك أربع سنين، فيكون هلاكه في منتصف سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة.

ثم ملك بعده ماريقوس، من كتاب أبي عيسى وملك ثمان سنين، فيكون هلاكه في منتصف سنة إحدى وتسعمائة.

ثم ملك بعده مرقوس الثاني، من كتاب أبي عيسى، وملك اثنتي عشر سنة، فيكون موته في منتصف سنة ثلاث عشرة وتسعمائة.

ثم ملك بعده قوقاس ثمان سنين، فيكون موته في منتصف سنة إحدى وعشرين وتسعمائة.

ثم ملك بعده هرقل واسمه بالرومي أرقليس، وكانت الهجرة النبوية في السنة الثانية عشرة من ملكه، فتكون الهجرة لمضي ثلاث وثلاثين وتسعمائة سنة لغلبة الإسكندر على دارا، ولكن قد أثبتنا في الجدول أن بين الهجرة وبين غلبة الإسكندر تسعمائة وأربعاً وثلاثين سنة، وذلك باعتبار التفاوت بين السنين الشمسية والقمرية فيما بين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهجرته، وهو ثلاث وخمسون سنة قمرية، وبالتقريب يكون هو إحدى وخمسين سنة شمسية وثلث سنة.

‌الفصل الرابع

ملوك العرب قبل الإسلام

وأما ما يتعلق بقبائل العرب وأنسابهم، فإنا نذكره عند ذكر كرامة العرب في الفصل الخامس، المشتمل على ذكر الأمم إن شاء الله تعالى، من كتاب ابن سعيد المغربي.

‌ملوك اليمن

إن بعد تبلبل الألسن، وتفرق بني نوح، أول من نزل اليمن قحطان بن عابر ابن شالح المقدم الذكر، وقحطان المذكور أول من ملك أرض اليمن ولبس التاج.

ثم مات قحطان وملك بعده ابنه يعرب بن قحطان، وهو أول من نطق بالعربية على ما ذكر.

ثم ملك بعده ابنه يشحب بن يعرب.

ثم ملك بعده ابنه عبد شمس بن يشحب، ولما ملك أكثر الغزو في أقطار البلاد، فسمي سبا، وهو الذي بنى السد بأرض مأرب، وفجر إليه سبعين نهراً، وساق إليه السيول من أمد بعيد، وهو الذي بنى مدينة مأرب، وعرفت بمدينة سبا، وقيل أن مأرب لقب للملك الذي يلي اليمن، وقيل أن مأرب هو قصر الملك، والمدينة سبا.

وخلف سبأ المذكور عدة أولاد منهم: حمير وعمرو، وكهلان، وأشعر، وغيرهم على ما سنذكره في الفصل الخامس، عند ذكر أمة العرب.

ولما مات سبأ ملك اليمن بعده ابنه حمير بن سبا، ولما ملك أخرج ثمود من اليمن إلى الحجاز.

ثم ملك بعده ابنه واثل بن حمير.

ثم ملك بعده ابنه السكسك بن واثل.

ثم ملك بعده يعفر بن السكسك.

ثم وثب على ملك اليمن ذورياش وهو عامر بن باران بن عوف بن حمير.

ثم نهض من بني واثل النعمان بن يعفر بن السكسك بن واثل بن حمير، واجتمع عليه الناس، وطرد عامر بن باران عن الملك، واستقل النعمان المذكور بملك يمن، ولقب نعمان المذكور بالمعافر لقوله:

ص: 66

إِذا أنت عافرت الأمور بقدرة

بلغت معالي الأقدمين المقاول

والمقاول: لفظة جمع، وهم الذين يلون الجهات الكبار من اليمن.

ثم ملك بعده ابنه أشمح بن نعمان المعافر المذكور.

ثم ملك بعده شداد بن عاد بن ألماطاط بن سبا، واجتمع له الملك، وغزا البلاد إلى أن بلغ أقصى المغرب، وبنى المدائن والمصانع، وأبقى الآثار العظيمة.

ثم ملك بعده أخوه لقمان بن عاد، ثم ملك بعده أخوه ذو سدد بن عاد، ثم ملك بعده ابنه الحارث بن ذي سدد، ويقال له الحارث الرائش، وقيل إن حارث الرائش المذكور، هو ابن قيس بن صيفي بن سبأ الأصغر، وهو تبع الأول. ثم ملك بعده ابنه ذو القرنين، الصعب بن الرائش، وقد نقل ابن سعيد أن ابن عباس سئل عن ذي القرنين الذي ذكره الله تعالى في كتابه العزيز، فقال: هو من حمير وهو الصعب المذكور، فيكون ذو القرنين المذكور في الكتاب العزيز هو الصعب بن الرائش المذكور، لا الإسكندر الرومي.

ثم ملك بعده ابنه ذو المنار أبرهه بن ذي القرنين.

ثم ملك بعده ابنه أفريقس بن أبرهه، ثم ملك بعده أخوه ذو الأذعار عمرو بن ذي المنار.

ثم ملك بعده شرحبيل بن عمرو بن غالب بن المنتاب بن زيد بن يعفر بن السكسك بن واثل بن حمير، فإِن حمير كرهت ذا الأذعار فخلعت طاعته، وقلدت الملك شرحبيل المذكور، وجرى بين شرحبيل وذي الأذعار قتال شديد، قتل فيه خلق كثير، واستقل شرحبيل بالملك.

ثم ملك بعده ابنه الهدهاد بن شرحبيل، ثم ملكت بعده ابنته بلقيس بنت الهدهاد، وبقيت في ملك اليمن عشرين سنة، وتزوجها سليمان بن داود عليهما سلام، ثم ملك بعدها عمها ناشر النعم بن شرحبيل وقيل إن ناشر النعم اسمه مالك بن عمرو بن يعفر بن عمرو، من ولد المنتاب بن زيد الحميري.

ثم ملك بعده شمر يرعش بن ناشر النعم المذكور، وقيل شمر بن أفريقس ابن أبرهه ذي المنار.

ثم ملك بعده ابنه أبو مالك بن شمر، ثم ملك بعده عمران بن عامر الأزدي، وهو عمران بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ.

وانتقل الملك حينئذ من ولد حمير بن سبأ إلى ولد أخيه كهلان بن سبأ، وكان عمران المذكور كاهناً.

ثم ملك بعده أخوه مزيقيا عمرو بن عامر الأزدي، وقيل له مزيقياء لأنه كان يلبس في كل يوم بدلة، فإذا أراد الدخول إلى مجلسه رمى بها فمزقت لئلا يجد أحداً فيها ما يلبسه بعده. انتهى كلام ابن سعيد المغربي.

ومن تاريخ حمزة الأصفهاني، إن الذي ملك بعد أبي مالك بن شمر المذكور، قبل عمران الأزدي، ابنه الأقرن بن أبي مالك، ثم ملك بعده ذو حبشان بن الأقرن، وهو الذي أوقع بطسم وجديس.

ثم ملك بعده أخوه تبع بن الأقرن، ثم ملك بعده ابنه كليكرب بن تبع، ثم ملك بعده أبو كرب أسعد وهو تبع الأوسط، وقتل.

ثم ملك

ص: 67

بعده ابنه حسان بن تبع، وتتبع قتلة أبيه فقتلهم عن آخرهم، ثم قتله أخوه عمرو بن تبع، وملك بعده وتواترت الأسقام بعمرو المذكور، حتى كان لا يمضي إلى الخلاء إلا محمولاً على نعش، فسمي ذا الأعواد لذلك.

ثم ملك بعده عبد كلال بن ذي الأعواد، ثم ملك بعده تبع بن حسان بن كليكرب، وهو تبع الأصغر.

ثم ملك بعده ابن أخيه الحارث بن عمرو، وتهود الحارث المذكور، ثم ملك بعده مرثد بن كلال، ثم تفرق بعده ملك حمير والذي اشتهر بعده أنه ملك وكيعة بن مرتد، ثم ملك أبرهة بن الصباح، ثم ملك صهبان بن محرث، ثم ملك عمرو بن تبع، ثم ملك بعده ذو شناتر ثم ملك بعده ذو نواس، وكان من لا يتهود ألقاه في أخدود مضطرم ناراً، فقيل له صاحب الأخدود.

ثم ملك بعده ذوجدن وهو آخر ملوك حمير، وكان مدة ملكهم على ما قيل ألفين وعشرين سنة، وإنما لم نذكر مدة ما ملكه كل واحد منهم لعدم صحته، ولذلك قال صاحب تواريخ الأمم: ليس في جميع التواريخ، أسقم من تاريخ ملوك حمير، لم يذكر فيه من كثرة عدد سنيهم، مع قلة عدد ملوكهم. فإنهم يزعمون أن ملوكهم ستة وعشرون ملكاً، ملكوا في مدة ألفين وعشرين سنة.

ثم ملك اليمن بعدهم من الحبشة أربع، ومن الفرس ثمانية، ثم صارت اليمن للإسلام من كتاب ابن سعيد المغربي، إن الحبشة استولوا على اليمن بعد ذي جدن الحميري المذكور، وكان أول من ملك اليمن من الحبشة أرباط. ثم ملك بعده أبرهة الأشرم صاحب الفيل، الذي قصد مكة. ثم ملك بعده يكسوم. ثم ملك بعده مسروق بن أبرهة، وهو آخر من ملك اليمن من الحبشة.

ثم عاد ملك اليمن إلى حمير وملكها سيف بن ذي يزن الحميري وهو الذي ملكه كسرى أنوشروان، وأرسل مع سيف المذكور أحد مقدمي الفرس، واسمه وهرز بجيش من العجم، فساروا إلى اليمن وطردوا الحبشة عنها، وقرروا سيف بن ذي يزن في ملك اليمن، ولما استقر سيف في ملك أجداده باليمن وطرد الحبشة عنها، وجلس في غمدان يشرب، وهو قصر كان لأجداده باليمن، فامتدحته العرب بالأشعار، منها ما قاله فيه أمية بن أبي الصلت، ووصف تغرّب سيف بن ذي يزن وقصده قيصرا أولاً ثم كسرى في إعادة ملك آبائه إليه، حتى قدم بالفرس الذي مقدمهم وهرز، فقال في ذلك:

لا يقصد الناس إلا كابن ذي يزن

إذخيم البحر للأعداء أحوالا

وافى هرقل وقد شالت نعامته

فلم يجد عنده النصر الذي سالا

ثم انتحى نحو كسرى بعد عاشرة

من السنين يهين النفس والمالا

حتى أتى ببني الأحرار يقدمهم

تخالهم فوق متن الأرض أجبالا

لله درهم من فتية صبر

ما إن رأيت لهم في الناس أمثالا

بيض مرازبة غلب أساورة

أسد ترتب في الغيضات أشبالا

ص: 68

فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً

برأس غمدان داراً منك محلالا

تلك المكارم لا قعبان من لبن

شيباً بماء فعادا بعد أبوالا

وكان سيف بن ذي يزن المذكور، قد اصطفى جماعة من الحبشان، وجعلهم من خاصته، فاغتالوه وقتلوه، فأرسل كسرى عاملاً على اليمن، واستمرت عمال كسرى على اليمن إلى أن كان آخرهم باذان الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلم، ثم صارت اليمن للإسلام، وانتهى أخبار ملوك اليمن.

‌ملوك العرب الذين كانوا في غير اليمن

وكان أول من ملك على العرب بأرض الحيرة مالك بن فهم بن غنم بن دوس ابن عدنان بن عبد الله بن وهزان بن كعب بن الحارث بن كعب بن مالك بن نصر بن الأزد، والأزد من ولد كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، كان وملكه في أيام ملوك الطوائف قبل الأكاسرة ثم ملك بعده أخوه عمرو بن فهم.

ثم ملك بعده ابن أخيه جذيمة بن مالك بن فهم، وكان به برص فكنوا عنه وقالوا جذيمة الأبرش، وعظم شأن جذيمة المذكور، وكانت له أخت تسمى رقاش فهويت شخصاً من إياد، كان جذيمة قد اصطنعه، وكان يقال له عدي بن نصر بن ربيعة، وهويها عدي المذكور أيضاً، وكان عدي المذكور متسلماً مجلس شراب جذيمة، فاتفقت معه رقاش على أن يخطبها من أخيها جذيمة حال غلبة السكر عليه، ففعل ذلك، وأذن له جذيمة، فدخل عدي برقاش، فلما أصبح جذيمة وعّلم بذلك عظم عليه فهرب عدي المذكور، فقيل أنه ظفر به جذيمة وقتله، وحبلت رقاش من عدي المذكور فقال لها جذيمة:

خبريني رقاش لا تكذبيني

أبحر زنيت أم بهجين

أم بعبد فأنت أهل لعبد

أم بدون فأنت أهل لدون

فقالت: بل من خيار العرب، وجاءت بولد، وربته وألبسته طوقاً، وسمته عمراً وتبنن به جذيمة، ثم عدم الغلام، وتزعم العرب أن الجن اختطفته، ثم وجده شخصان يقال لهما مالك وعقيل، فأحضراه إلى جذيمة ففرح به فرحاً عظيماً، وكان اسم الصبي عمراً فقال جذيمة لمالك وعقيل اللذين أحضراه: اقترحا ما شئتما. فقالا: منادمتك ما بقيت وبقينا. فهما اللذان يضرب بهما المثل فيقال كندماني جذيمة.

وفي أيام جذيمة المذكور، كان قد ملك الجزيرة وأعالي الفرات ومشارق الشام، رجل من العمالقة يقال له عمرو بن الضرب بن حسان العمليقي، وجرى بينه وبين جذيمة حروب، فانتصر جذيمة عليه، وقتل عمرو المذكور.

وكان لعمرو بنت تدعى الزباء، واسمها نائلة، فملكت بعده وبنت على الفرات مدينتين متقابلتين، وأخذت في الحيلة على جذيمة وأطمعته بنفسها حتى اغتر وقدم

ص: 69

إليها فقتلته وأخذت بثأر أبيها.

‌ابتداء ملك اللخميين ملوك الحيرة

وهم المناذرة بنو عدي بن نصر بن ربيعة من ولد لخم بن عدي بن عمرو بن سبا.

ولما قتل جذيمة ملك بعده ابن أخته رقاش عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة، وكان لجذيمة عبد يقال له قصير، فاتفق معه عمرو بن عدي المذكور، وجدع أنف قصير وضربه بالسياط، وحضر قصير على تلك الحالة إلى الزباء على أنه مغاضب لعمرو، فصدقته الزباء وأمنت إليه لما رأت من حاله، وصار قصير يتجر للزباء، ويأخذ المال من مولاه، ويحضره إلى الزباء على أنه كسب متجرها، مرّة بعد أخرى، حتى أتى بقفل نحو ألف حمل من الصناديق، وأقفالها من داخل، وفيها رجال معتدون فلما شاهدت الزباء تلك الأحمال ارتابت منه وقالت:

ما للجمال مشيها وئيدا

أجندلاً يحملن أم حديدا

أم صرفاناً بارداً شديدا

أم الرجال جثماً قعودا

فلما دخلوا إِلى حصن الزباء، خرجت الرجال من الصناديق، وأخذوا المدينة عنوة، وقتلوا الزباء وأخذ قصير بثأر مولاه جذيمة، وطالت مدة ملك عمرو بن عدي المذكور.

ثم مات وملك بعده ابنه امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة اللخمي، وكان يقال لامرئ القيس المذكور البدا، أي الأول.

ثم ملك بعد امرؤ القيس ابنه عمرو بن امرئ القيس وكان ملكه في أيام سابورذي الأكتاف، ثم ملك بعده أوس بن قلام العمليقي، ثم ملك آخر من العماليق، ثم رجع الملك إلى بني عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة اللخميين المذكورين، وملك منهم امرؤ القيس من ولد عمرو بن امرئ القيس المذكور، عرف هذا امرؤ القيس الثاني بالمحرق، لأنه أول من عاقب بالنار، ثم ملك بعده ابنه النعمان الأعور بن امرئ القيس، وهو الذي بنى الخورنق والسدير، وبقي في الملك ثلاثين سنة، ثم تزهد وخرج من الملك في زمن بهرام جور بن يزدجرد، وهو الذي ذكره عدي بن زيد في قصيدته الرائية المشهورة بقوله:

وتدبر رب الخورنق إِذ أش

رف يوماً وللهدى تفكير

سره ماله وكثرة ما يم

لك والبحر معرض والسدير

فارعوى قلبه وقال وما غب

طة جى إِلى الممات بصير

ولما تزهد النعمان الأعور المذكور، ملك بعده ابنه المنذر بن النعمان. وانتهى ملكه في زمن فيزوز بن يزد جرد.

ثم ملك بعده ابنه الأسود بن المنذر، وهو الذي انتصر على غسان، عرب الشام، وأسر عدة من ملوكهم، وأراد الأسود المذكور أن يعفو عنهم، وكان

ص: 70

للأسود المذكور ابن عم يقال له أبو أذينة، قد قتل آل غسان له أخاً في بعض الوقائع، فقال أبو أذينة في ذلك قصيدته المشهورة يغري الأسود بقتلهم منها:

ما كل يوم ينال المرء ما طلبا

ولا يسوغه المقدار ما وهبا

وأحزم الناس من إِنْ فرصة عرضت

لم يجعل السبب الموصول منقضبا

وأنصف الناس في كل المواطن من

سقى المعادين بالكأس الذي شربا

وليس يظلمهم من راح يضربهم

بحد سيف به من قبلهم ضربا

والعفو إِلا عن الأكفاء مكرمة

من قال غيره الذي قد قلته كذبا

قتلت عمراً وتستبقي يزيد لقد

راًيت رأياً يجر الويل والحربا

لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها

إِنْ كنت شهماً فأتبع رأسها الذنبا

هم جردوا السيف فاجعلهم له جزراً

وأوقد النار فاجعلهم لها حطبا

إِن تعف عنهم يقول الناس كلهم

لم يعف حلماً ولكن عفوه رهبا

هم أهلة غسان ومجدهم

عال فإِن حاولوا ملكاً فلا عجبا

وعرضوا بفداء واصفين لنا

خيلاً وِإبلاً تروق العجم والعربا

أيحلبون دماً منّا ونحلبهم

رسلاً لقد شرفونا في الورى حلبا

علام تقبل منهم فدية وهم

لا فضة قبلوا منا ولا ذهبا

ونقلت ذلك من مجموع بخط القاضي شمس الدين بن خلكان، ورأيت في تاريخ ابن الأثير خلاف ذلك، فقال: إِن الأسود قتلته غسان، وانتصرت عليه غسان، ثم قال ابن الأثير وقيل غير ذلك، وانتهى ملك الأسود بن المنذر المذكور في زمن فيروز.

ثم ملك بعده أخوه المنذر بن المنذر بن النعمان الأعور، ثم ملك بعده علقمة الذميلي، وذميل بطن من لخم، ثم ملك بعده امرؤ القيس بن النعمان ابن امرئ القيس المحرق، وهو الذي قتل سنمار الذي بنى لامرئ القيس المذكور قصره، وفيه يقول المتلمس:

جزاني أبو لخم على ذات بيننا

جزاء سنمار وما كان ذا ذنب

ثم ملك بعده ابنه المنذر بن امرئ القيس، وكانت أم المنذر المذكور يقال لها، ماء السماء واشتهر المنذر المذكور بأمه، فقيل له المنذر بن ماء السماء، ولقبت بماء السماء لحسنها، واسمها ماوية بنت عوف بن جشم، وطرد كسرى قباذ المنذر المذكور عن ملك الحيرة، وملك موضعه الحارث بن عمرو بن حجر الكندي، لأن قباذ كان قد دخل في دين مردك، ووافقه الحارث ولم يوافقه المنذر فطرد لذلك، ثم لما تمكن كسرى أنوشروان بن قباذ المذكور في الملك، طرد الحارث وأعاد المنذر بن ماء السماء إِلى ملك الحيرة، وقد تقدم ذكر ذلك مع ذكر أنوشروان، في الفصل الثاني من هذا الكتاب.

ثم ملك بعد المنذر عمرو مضرط الحجارة، وهو ابن المنذر بن ماء السماء، وكان اسم أمه

ص: 71

هند، ويعرف بعمرو بن هند، ولثمان سنين مضت من ملكه، كان مولد النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم ملك بعده أخوه قابوس بن المنذر بن ماء السماء. وقيل إِنه لم يتملك وإنما سمي ملكاً لما كان أبوه وأخوه ملكين، ثم ملك بعده أخوهما المنذر بن المنذر، ثم ملك بعده ابنه النعمان بن المنذر بن المنذر بن ماء السماء، وكنيته أبو قابوس، وهو الذي تنصر، وأمه سلمى بنت وائل بن عطية الصايغ، من أهل فدك، وملك اثنتين وعشرين سنة وقتله كسرى برويز، وبسبب مقتله كانت وقعة ذي قار بين الفرس والعرب.

ثم انتقل الملك في الحيرة بعد النعمان المذكور عن اللخميين إِلى إِياس بن قبيصة الطائي، ولستة أشهر من ملك إِياس بعث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ملك بعد إِياس زاذويه ابن ماهسان الهمذاني.

ثم عاد الملك إِلى اللخميين، ملك بعد زاذويه المنذر بن النجمان بن المنذر بن المنذر بن ماء السماء، وسمته العرب المغرور، واستمر مالكاً للحيرةِ إلى أن قدم إِليه خالد بن الوليد، واستولى على الحيرة، وكانت المناذرة آل نصر بن ربيعة عمالاً للأكاسرة على عرب العراق، مثل ما كان‌

‌ ملوك غسان

عمالا للقياصرة على عرب الشام.

ملوك غسان

وكانوا عمالاً للقياصرة على عرب الشام، وأصل غسان من اليمن، من بني الأزد ابن الغوث بن نبت بن مالك بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبا.

تفرقوا من اليمن بسيل العرم، ونزلوا على ماء بالشام يقال له غسان، فنسبوا إِليه، وكان قبلهم بالشام عرب يقال لهم الضجاعمهَ من سليح، بفتح السين المهلة ثم لام مكسورة وياء مثناه من تحتها ثم حاء مهملة، فأخرجت غسان سليحاً عن ديارهم، وقتلوا ملوكهم، وصاروا موضعهم.

وأول من ملك من غسان جفنة بن عمرو بن ثعلبة بن عمرو بن مزيقيا، وكان ابتداء ملك غسان، قبل الإِسلام بما يزيد على أربعمائة سنة، وقيل أكثر من ذلك، ولما ملك جفنة المذكور وقتل ملوك سليح، دانت له قضاعة ومن بالشام من الروم. وبنى بالشام عدة مصانع ثم هلك.

وملك بعده ابنه عمرو بن جفنة، وبنى بالشام عدة ديورة منها دير حالي ودير أيوب ودير هند.

ثم ملك بعده ابنه ثعلبة بن عمرو وبنى صرح الغدير في أطراف حوران. مما يلي البلقاء، ثم ملك بعده ابنه الحارث بن ثعلبة. ثم ملك ابنه جبلة بن الحارث، وبنى القناطرْ واذرح والقسطل.

ثم ملك بعده ابنه الحارث بن جبلة، وكان مسكنه بالبلقاء فبنى بها الحفير ومصنعه.

ثم ملك بعده ابنه المنذر الأكبر بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة ابن عمرو بن جفنة الأول، ثم هلك المنذر الأكبر المذكور وملك بعدها أخوه النعمان بن الحارث.

ثم ملك بعده أخوه جبلة بن الحارث، ثم ملك بعدهم أخوهم الأيهم بن الحارث،

ص: 72

وبنى دير ضخم، ودير البنوة ثم ملك أخوهم عمرو بن الحارث ثم ملك جفنة الأصغر بن المنذر الأكبر، وهو الذي أحرق الحيرة، وبذلك سموا ولده آل محرق.

ثم ملك بعده أخوه النعمان الأصغر بن المنذر الأكبر، ثم ملك النعمان ابن عمرو بن المنذر، وبنى قصر السويدا، ولم يكن عمرو أبو النعمان المذكور ملكاً، وفي عمرو المذكور يقول النابغة الذبياني:

عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة

لوالده ليست بذات عقارب

ثم ملك بعد النعمان المذكور ابنه جبلة بن النعمان، وهو الذي قاتل المنذر ابن ماء السماء، وكان جبلة المذكور ينزل بصفين.

ثم ملك بعده النعمان بن الأيهم بن الحارث بن ثعلبة، ثم ملك أخوه الحارث بن الأيهم ثم ملك بعده ابنه النعمان بن الحارث، وهو الذي أصلح صهاريج الرصافهَ وكان قد خربها بعض ملوك الحيرة اللخميين.

ثم ملك بعده ابنه المنذر بن النعمان، ثم ملك أخوه عمرو بن النعمان، ثم ملك أخوهما حجر بن النعمان ثم ملك ابنه الحارث بن حجر، ثم ملك ابنه جبلة بن الحارث، ثم ملك ابنه الحارث بن جبلة، ثم ملك ابنه النعمان بن الحارث، وكنيته أبو كرب، ولقبه قطام.

ثم ملك بعده الأيهم بن جبلة بن الحارث، وهو صاحب تدمر، وكان عامله بقال له القين بن خسر، وبنى له بالبرية قصراً عظيماً ومصانع، وأظن أنه قصر برقع.

ثم ملك بعده أخوه المنذر بن جبلة، ثم ملك بعده أخوهما شراحيل بن جبلة، ثم ملك أخوهم عمرو بن جبلة، ثم ملك بعده ابن أخيه جبلة بن الحارث بن جبلة.

ثم ملك بعده جبلة بن الأيهم بن جبلة، وهو آخر ملوك غسان، وهو الذي أسلم في خلافة عمر رضي الله عنه، ثم عاد إِلى الروم وتنصر، وسنذكر ذلك في خلافة عمر إِن شاء الله تعالى، وقد اختلف في مدة ملك الغساسنة، فقيل أربعمائة سنة وقيل ستمائة سنة وبين ذلك.

‌ملوك جرهم

أما جرهم فهم صنفان، جرهم الأولى: وكانوا على عهد عاد، فبادوا ودرست أخبارهم وهم من العرب البائدة. وأما جرهم الثانية: فهم من ولد جرهم بن قحطان. وكان جرهم أخا يعرب بن قحطان. فملك يعرب اليمن وملك أخوه جرهم الحجاز، ثم ملك بعد جرهم ابنه عبد يا ليل بن جرهم، ثم ابنه جرشم بن عبد يا ليل، ثم ابنه عبد المدان بن جرشم، ثم ابنه ثقيلة بن عبد المدان، ثم ابنه عبد المسيح بن ثقيلة، ثم ابنه مضاض بن عبد المسيح، ثم ابنه عمرو بن مضاض، ثم أخوه الحارث بن مضاض، ثم ابنه عمرو بن الحارث، ثم أخوه بشر بن الحارث، ثم مضاض بن عمرو بن مضاض، وجرهم المذكورون هم الذين اتصل

ص: 73

بهم إِسماعيل عليه السلام، وتزوج منهم. وسنذكرهم اًيضاً عند ذكر بني إِسماعيل إِن شاء الله تعالى.

‌ملوك كندة

من الكامل قال: وأول ملوك كندة حجر آكل المرار ابن عمرو، وهو من ولد كندة، وكان اسم كندة نورا وهو ابن عفير بن الحارث من ولد زيد بن كهلان ابن سبأ، وكانت كندة قبل أن يملك حجر عليهم بغير ملك، فأكل القوي الضعيف، فلما ملك حجر سدد أمورهم وساسهم أحسن سياسة، وانتزع من اللخميين ما كان بأيديهم من أرض بكر بن وائل، وبقي حجر آكل المرار كذلك حتى مات. وقيل له احمل المرار لكون امرأته قالت عنه: كأنه جمل قد أكل المرار، لبغضها له، فغلب ذلك لقباً عليه.

ثم ملك بعد حجر المذكور ابنه عمرو بن حجر ويقال لعمرو المذكور المقصور، لأنه اقتصر على ملك أبيه، ثم ملك بعده ابنه الحارث بن عمرو وقوي ملك الحارث المذكور، ووافق كسرى قباذ بن فيروز على الزندقة، والدخول في مذهب مردك، فطرد قباذ المنذر بن ماء السماء اللخمي عن ملك الحيرة، وملك حارث المذكور موضعه، فعظم شأن الحارث، وقد تقدم ذلك في الفصل الثاني، مع ذكر أنوشروان بن قباذ.

فلما ملك أنوشروان أعاد المنذر وطرد الحارث المذكور، فهرب وتبعته تغلب وعدة قبائل؛ فظفروا بأمواله وبأربعين نفساً من بني حجر آكل المرار، ابنان من ولد حارث المذكور، فقتلهم المنذر عن آخرهم في ديار بني مرين وفي ذلك يقول امرؤ القيس بن حجر بن الحارث المذكور:

فآبوا بالنهاب وبالسبايا

وأبناء الملوك مصفدينا

ملوك من بني حجر بن عمرو

يساقون العشية يقتلونا

فلو في يوم معركة أصيبوا

ولكن في ديار بني مرينا

ولم تغسل جماجمهم بغسل

ولكن في الدماء مزملينا

تظل الطير عاكفة عليهم

وتنتزع الحواجب والعيونا

وهرب الحارث إِلى ديار كلب، وبقي بها حتى عُدِمَ، واختلِف في صورة عدمه. وكان الحارث المذكور قد ملك ابنه حجر بن الحارث على بني أسد ابن خزيمة ن مدركة، وملك أيضاً باقي بنيه على قبائل العرب.

فملك ابنه شراحيل بن الحارث على بكر بن وائل، وملك ابنه معدي كرب بن الحارث، وكان يلقب غلفاً لتغليفه رأسه بالطيب، على قيس غيلان، وملك ابنه سلمة على تغلب والنمر.

أما حجر المذكور وهو أبو امرئ القيس الشاعر، فبقي أمره متماسكاً في بني أسد مدة، ثم تنكروا عليه فقاتلهم وقهرهم، وبالغ في نكايتهم، ودخلوا

ص: 74

تحت طاعته، ثم هجموا عليه بغتة وقتلوه غيلة. وفي ذلك يقول ابنه امرؤ القيس بن حجر المذكور أبياتاً منها.

بنو أسد قتلوا ربهم

ألا كل شيء سواه خلل

وكان امرؤ القيس لما سمع بمقتل أبيه بموضع يقال له دمون من أرض اليمن فقال في ذلك:

تطاول الليل على دمون

دمون أنا معشر يمانون

ثم استنجد امرؤ القيس ببكر وتغلب على بني أسد فأنجدوه، وهربت بنو أسد منهم، وتبعهم فلم يظفر بهم، ثم تخاذلت عنه بكر وتغلب، وتطلبه المنذر بن ماء السماء فتفرقت جموع امرئ القيس خوفاً من المنذر، وخاف امرؤ القيس من المنذر، وصار يدخل على قبائل العرب، وينتقل من أناس إِلى أناس، حتى قصد السموءل بن عادياء اليهودي، فأكرمه وأنزله، وأقام امرؤ القيس عند السموءل ما شاء اللهُ، ثم سار امرؤ القيس إِلى قيصر ملك الروم مستنجداً به، وأودع أدراعه عند السموءل بن عادياء المذكور، ومرّ على حماة وشيزر، وقال في مسيرة قصيدته المشهورة التي منها:

سمالك شوق بعد ما كان أقصرا

ومنها:

تقطع أسباب اللبابة والهوى

عشية جاوزنا حماة وشيزرا

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه

والحق أنا لاحقان بقيصرا

فقلت له لا تبك عينيك إِنما

نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا

وكان بامرئ القيس قرحة قد طالت به، وفي ذلك يقول أبياته التي منها:

وبدلت قرحاً دامياً بعد صحة

لعل منايانا تحولن أبؤسا

فمات امرؤ القيس بعد عوده من عند قيصر في بلاد الروم، عند جبل يقال له عسيب. ولما علم بموته هناك قال:

أجارتنا إِن الخطوب تنوب

وإني مقيم ما أقام عسيب

وقد قيل أن ملك الروم سمه في حلة - وهو عندي من الخرافات - ولما مات امرؤ القيس، سار الحارث بن أبي شمر الغساني إلى السموءل وطالبه بأدرع امرئ القيس، وماله عنده، وكانت الأدراع مائة، وكان الحارث قد أسر ابن السموءل فلما امتنع السموءل من تسليم ذلك إِلى الحارث، قال الحارث: إِمّا أن تسلّم الأدراع، وإِما قتلت ابنك، فأبى السموءل أن يسلمّ الأدراع، وقتل ابنه قدامه فقال السموءل في ذلك أبياتاً منها:

وفيت بأدرع الكندي إِني

إِذا ما ذم أقوام وفيت

وأوصى عادياء يوماً بأن لا

تهدم يا سموءل ما بنيت

وقد ذكر الأعشى هذه الحادثة فقال:

كن كالسموءل إِذ طاف الهمام به

في جحفل كسواد الليل جرار

ص: 75

فشك غير طويل ثم قال له

اقتل أسيرك إِني مانع جاري

انتهى الكلام في ملوك كندة.

‌عدة من ملوك العرب

متفرقين فمنهم عمرو بن لحي بن حارثة بن عمرو مزيقيا بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، من ولد كهلان بن سبأ وكان عمرو بن لحي المذكور ملك الحجاز، وكثير الذكر في الجاهلية، وإليه تنسب خزاعة، فيقولون أنهم من ولد كعب بن عمرو المذكور.

قال الشهرستاني: وعمرو بن لحي المذكور، هو أول من جعل الأصنام على الكعبة وعبدها، فأطاعته العرب وعبدوها معه، واستمرت العرب على عبادة الأصنام حتى جاء الإسلام، وكان سبب ذلك أن عمرو المذكور، سار إِلى البلقاء من الشام، فرأى قوماً يعبدون الأصنام، فسألهم عنه، فقالوا له: هذه أرباب اتخذناها على شكل الهياكل العلوية، والأشخاص البشرية، نستنصر بها فننتصر ونستشفي بها فنشفى ونستسقي بها فنسقى، فأعجبه ذلك فطلب منهم صنماً، فدفعوا إِليه هبل، فسار به إِلى مكة ووضعه على الكعبة، واستصحب أيضاً صنمين يقال لهما إِساف ونائلة، ودعى الناس إلى تعظيم الأصنام والتقرب إِليها فأجابوه.

وقد ذكر الشهرستاني أنّ ذلك كان في أيام سابور، كان قبل الإسلام بنحو أربعمائة سنة، إِن كان سابور بن أزدشير بن بابك، وأما إِن كان سابور ذا الأكتاف فهو أبعد عن الصواب، لأنه بعد سابور الأول بمدة كثيرة.

ومن ملوك العرب زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عون بن عذرة الكلبي، وكان يسمى زهير المذكور الكاهن، لصحة رأيه، وعاش عمراً طويلاً، وغزا غزوات كثيرة وكان ميمون النقيبة، واجتمعت عليه قضاعة، فغزا بهم غطفان بسبب أنّ بني نقيص بن ريث بن غطفان بنوا حرماً مثل حرم مكة، وولي سدانته منهم بنو مرة بن عون فلما بلغ زهيراً ذلك قال: والله لا يكون ذلك أبداً، ولا أخلي غطفان تتخذ حرماً، فغزاهم وجرى بينهم قتال شديد، وظفر بهم زهير وأبطل حرمهم، وأخذ أموالهم ورد نساءهم عليهم، وفي ذلك يقول أبياتاً منها:

ولولا الفضل منا ما رجعتم

إِلى عذراء شيمتها الحياء

وكان زهير المذكور قد اجتمع بأبرهة الأشرم الحبشي صاحب الفيل، فأكرمه أبرهة وفضله على غيره من العرب، وأمرّه على بكر وتغلب ابني وائل. واستمر زهير أميراً عليهم حتى خرجوا عن طاعته، فغزاهم أيضاً وقتل فيهم وكذلك أيضاً غزا بني القين، وجرى له مع المذكورين حروب يطول شرحها، وكان الظفر لزهير. ولما أسنَّ زهير المذكور، شرب الخمر صرفاً حتى مات. قال ابن الأثير: وممن شرب الخمر صرفاً حتى مات عمرو بن كلثوم التغلبي، وأبو عامر ملاعب الأسنة العامري.

ومن ملوك العرب أيضاً كليب بن ربيعة بن

ص: 76

الحارث بن زهير بن جشم بن بكر ابن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل، ووائل هو بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة الفرس بن نزار بن معد بن عدنان، وكان كليب المذكور اسمه وائلاً وكليب لقب غلب عليه، وملك كليب على بني معد، وقاتل جموع اليمن وهزمهم، وعظم شأنه وبقي زماناً من الدهر.

ثم داخل كليباً زهو شديد، وبغى على قومه، فصار يحمي عليهم مواقع السحاب، فلا يرعى حماه، ويقول وحش أرض كذا في جواري، فلا يصاد، ولا ترد إبل مع إِبله، ولا توقد نار مع ناره، وبقي كذلك حتى قتله جساس بن مرة بن ذهل ابن شيبان وشيبان من بني بكر بن وائل المذكور.

وكان سبب مقتل كليب أن رجلاً من جرم نزل على خالة جساس وكان اسم خالته المذكورة البسوس بنت منقذ التميمية، وكان للجرمي المذكور ناقة اسمها سراب فوجدها كليب ترعى في حماه، فضر بها بالنشاب وأخرم ضرعها. وجاءت الناقة إِلى الجرمي صاحبها مجروحة، فصرخ بالذل، فلما سمعته البسوس وضعت يدها على رأسها وصاحت: واذلاه، بسبب نزيلها الجرمي المذكور. فاستنصر جساس لخالته، وقصد كليباً وهو منفرد في حماه، فضربه بالرمح فقتله.

ولما قتل كليب قام أخوه مهلهل بن ربيعة بن الحارث المذكور وجمع قبائل تغلب واقتتل مع بني بكر، وجرى بينهم عدة وقائع أولها يوم عنيزة وكانوا في القتال على السواء ثم اتقعوا بماء يقال له النهي، وكان رئيس تغلب مهلهلا، ورئيس بني شيبان بن بكر الحارث بن مرة أخا جساس، وكان النصر لبني تغلب وقتل من بكر جماعة ثم التقوا بالدنائب وهي من أعظم وقائعهم، فانتصر مهلهل وبنو تغلب، وقتل من بني بكر مقتلة عظيمة، وقتل من بني شيبان جماعة، منهم شراحيل بن هشام بن مرة، وهو ابن أخي جساس، وشراحيل المذكور هو جد معن بن زائدة الشيباني، وقتل أيضاً الحارث بن مرة، وهو أخو جساس، كذلك قتل جماعة من رؤساء بني بكر.

ثم التقوا يوم واردات فظفرت تغلب أيضاً، وكثر القتل في بكر، وقتل همام أخو جساس لأبيه وأمه، وجعلت تغلب تطلب جساساً أشد الطلب، فقال له أبو مرة الحق بأخوالك بالشام، وأرسله سراً مع نفر قليل، وبلغ مهلهلاً الخبر فأرسل في طلبه ثلاثين نفراً فأدركوا جساساً واقتتلوا، فلم يسلم من أصحاب مهلهل غير رجلين، وكذلك لم يسلم من البكريين أصحاب جساس غير رجلين، وجرح جساس جرحاً شديداً مات منه، وعاد الذين سلموا فخبروا أصحابهم، وكذلك قتل مهلهل أيضاً بجير بن الحارث البكري، ولما قتله مهلهل قال: بؤبشسع نعل كليب فلما قتل بجير قال أبوه الحارث الأبيات المشهورة التي منها:

قربا مربط النعامة مني

شاب رأسي وأنكرتني رجالي

لم أكن من جناتها علم الل

هـ وإني بحرّها اليوم صالي

والنعامة اسم فرسه، ودامت الحرب بين بني وائل المذكورين كذلك نحو أربعين سنة.

ولما

ص: 77

قتل جساس أرسل أبوه مرة يقول لمهلهل: قد أدركت ثأرك وقتلت جساساً، فاكفف عن الحرب، ودع اللجاج والإِسراف. فلم يرجع مهلهل عن القتال. ولما طالت الحروب بينهم، وأدركت تغلب ما أرادته من بكر، أجابوهم إِلى الكف عن القتال، وعدم مهلهل، واختلف في صورة عدمه، تركنا ذكره للاختصار.

ومن ملوك العرب زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث ابن قطيعة بن عبس. وهو والد الملك قيس بن زهير العبسي، وكان لزهير أتاوة على هوازن يأخذها كل سنة في عكاظ، وهو سوق العرب أيام الموسم بالحجاز، وكان يسوم هوازن الخسف، فكان في قلوبهم منه، ووقعت الحرب بين زهير وبين عامر، فاتفقت هوازن مع خالد بن جعفر بن كلاب وبني عامر على حرب زهير، واقتتلوا معه فاعتنق زهير وخالد وتقاتلا، فقتل زهير وسلم خالد، وكانت الوقعة بالقرب من أرض هوازن، فحملت زهيراً بنوه ميتاً إِلى بلادهم، فقال: ورقة بن زهير أبياتاً في ذلك منها يقول لخالد المذكور:

فَطِر خالد إِن كنت تسطيع طيرة

ولا تقعن إِلا وقلبك حاذر

أتتك المنايا إِنْ بقيت بضربة

تفارق منها العيش والموت حاضرُ

ولما كان من خالد بن جعفر بن كلاب ما كان من قتل زهير، خاف وسار إِلى النعمان بن امرئ القيس اللخمي ملك الحيرة واستجار به، وكان زهير سيد غطفان، فانتدب منهم الحارث بن ظالم المري، وقدم إِلى النعمان في معنى حاجة له، وكان النعمان قد ضرب لخالد قبة، فلما جنَّ الليل، دخل الحارث إلى خالد وقتله في قبته غيلة وهرب وسلم.

ثم جمع الأخوص بن جعفر، وهو أخو خالد، بين عامر وأخذ في طلب الحارث المري، وكذلك أخذ النعمان في طلبه لقتله جاره، وجرى بسبب ذلك حروب وأمور يطول شرحها وكان آخرها يوم شعب جبلة، على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى.

ومن ملوك العرب الملك قيس بن زهير العبسي المذكور، وكان قد جمع لقتال بني عامر أخذاً بثأر أبيه زهير.

ثم نزل قيس بالحجاز، وفاخر قريشاً، ثم رحل عن قريش ونزل على بني بدر الفزاري الذبياني، ونزل على حذيفة بن بدر منهم، وكان قيس قد اشترى من الحجاز حصانه داحساً وفرسه الغبراء، وقد قيل أن الغبراء بنت داحس استولدها قيس من داحس ولم يشترها. وكان لحذيفة بن بدر فرسان يقال لهما الخطار والحنفاء، وقصدان يسابق مع فرسي قيس، داحس والغبراء، فامتنع قيس وكره السباق، وعلم أنه ليس في ذلك خير، فأبى حذيفة إِلا المسابقة، فأجروا الأربعة المذكورة بموضع يقال له ذات الأصاد، وكان الميدان نحو مائة غلوة، والغلوة الرمية بالسهم أبعد ما يمكن، كان الرهن مائة بعير، فسبق داحس سبقاً بيناً والناس ينظرون إِليه، وكان حذيفة قد أكمن في طريق الخيل من يعترض داحساً إِنْ جاءَ سابقاً، فاعترضه ذلك القوم وضربوه على وجهه، فتأخر

ص: 78

داحس.

ثم سبقت الغبراء أيضاً الخطار والحنفاء فأنكر حذيفة ذلك كله وادّعى السبق، فوقع الخلف بين بني بدر وبني قيس، وكان بين الربيع بن زياد وَبين قيس خلف بسبب درع اغتصبها الربيع من قيس، وكان يسوء الربيع اتفاق بني بدر مع قيس، فلما وقع بينهم بسبب السباق سره ذلك، ولما اشتد الأمر بينهم قتل قيس ندبة بن حذيفة، وكان لقيس أخ يقال له مالك بن زهير، وكان نازلا على بني ذبيان، فلما أبلغهم قتل ندبة، قتلوا مالك بن زهير المذكور غيلة، ولما بلغ الربيع بن زياد مقتل مالك غم ذلك عليه جداً، وعطف على قيس وانتصر له وعمل الربيع أبياتاً في مقتل مالك منها:

من كان مسروراً بمقتل مالك

فليأت نسوتنا بوجه نهار

يجد النساء حواسراً يندبنه

ويقمن قبل تبلج الأسحار

ثم اجتمع قيس والربيع واصطلحا وتعانقا، وقال قيس للربيع إِنه لم يهرب منك من لجأ إِليك، ولم يستغن عنك من استعان بك، واجتمع إِلى قيس والربيع بنو عبس، واجتمع إِلى بني بدر بنو فزارة وذبيان، واشتدت الحروب بينهم وهي المعروفة بينهم بحرب داحس فاقتتلوا أولا فقتل عوف بن بدر، وانهزمت فزارة، وقتلت بنو عبس فيهم قتلاً ذريعاً، ثم اتقعوا ثانياً فانتصرت بنو عبس أيضاً، وكانت الدائرة على فزارة، وقتل الحارث بن بدر وطالت الحروب بينهم، وكان آخرها أنهم اتقعوا فانهزمت فزارة، وانفرد حذيفة وحمل أخوه ومعهما جماعة يسيرة وقصدوا جفر الهباة فلحقهم بنو عبس وفيهم قيس والربيع بن زياد وعنترة، وحالوا بين بني بدر وبين خيلهم وقتلوا حذيفة وأخاه حملا ابني بدر، وأكثر الشعراء في ذكر جفر الهباة ومقتل بني بدر عليه، وظهرت في هذه الحروب شجاعة عنترة بن شداد.

ثم أن فزارة بعد مقتل بني بدر ساعدتهم قبائل كثيرة، لأنهم أعظموا قتل بني بدر، فلما قويت فزارة سارت بنو عبس ودخلوا على كثير من أحياء العرب، ولم يطل لهم مقام عند أحد منهم، وآخر الحال أن بني عبس قصدوا الصلح مع فزارة. فأجابتهم شيوخ فزارة إِلى ذلك.

وتم الصلح بينهم، وقيل أن بني عبس لما سارت إِلى بني فزارة واصطلحوا معهم لم يسر معهم الملك قيس، بل انفرد عن بني عبس وتاب وتنصر وساح في الأرض حتى انتهى إِلى عمان، فترهب بها زماناً، وقيل أن قيساً تزوج في النمر بن قاسط لما انفرد عن بني عبس وولد له ولد اسمه فضالة، وبقي فضالة المذكور حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وعقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم على من معه من قومه، وكانوا تسعة وهو عاشرهم.

وكان بين ملوك العرب وقائع في أيام مشهورة فمنها يوم خزار اتقعت فيه بنو ربيعة بن نزار، وهو ربيعة الفرس، وقبائل اليمن، وكانت الدائرة على اليمن، وانتصرت بنو ربيعة عليهم وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وقيل: أن قائد بني ربيعة كان كليب وائل المقدم الذكر، وخزار جبل بين البصرة

ص: 79

إِلى مكة.

ومنها أيام بني وائل بسبب قتل كليب، كانت بين تغلب وقائدهم مهلهل أخو كليب، وبين بكر وقائدهم مرة أبو جساس، فأولها يوم عنيزة وتكافأ فيه الفريقان، ثم كان بينهم يوم واردات وانتصرت فيه تغلب على بكر، ثم يوم الحنو وكان لبكر على تغلب، ثم يوم القصيبات انتصرت فيه تغلب وأصيبت بكر حتى ظنوا أنهم قد بادوا، ثم يوم أقضة ويقال يوم التحالق، كثر فيه القتل في الفريقين، وكان بينهم أيام أخر لم يشتد فيها القتال كهذه الأيام.

ومن أيام العرب يوم عين اباغ وكان بين غسان ولخم، وكان قائد غسان الحارث الذي طلب أدراع امرئ القيس وقيل غيره، وكان قائد لخم المنذر بن ماء السماء بغير خلاف، وقتل المنذر في هذا اليوم، وانهزمت لخم، وتبعتهم غسان إِلى الحيرة، وأكثروا فيهم القتل وعين أباغَ بموضع يقال له ذات الخبار.

ومن أيام العرب يوم مرج حليمة وكان بين غسان ولخم أيضاً، وقعة يوم مرج حليمة من أعظم الوقعات، وكانت الجيوش فيه قد بلغت من الفريقين عدداً كثيراً، وعظم الغبار حتى قيل أنّ الشمس قد انحجبت وظهرت الكواكب التي في خلاف جهة الغبار، واشتد القتال فيه، واختُلِف في النصر لمن كان منهم.

ومنها يوم الكلاب الأول وكان بين الأخوين شراحيل وسلمة ابني الحارث ابن عمرو الكندي، وكان مع شراحيل وهو الأكبر بكر بن وائل وغيرهم، وكان مع سلمة أخيه تغلب وائل وغيرهم، واتقعوا في الكلاب وهو بين البصرة والكوفة، واشتد القتال بينهم، ونادى منادي شراحيل من أتاه برأس أخيه سلمة فله مائة من الإبل، ونادى منادي سلمة من أتاه برأس أخيه شراحيل فله مائة من الإبل، فانتصر سلمة وتغلب على شراحيل وبكر، وانهزم شراحيل وتبعته خيل أخيه ولحقوه وقتلوه وحملوا رأسه إِلى سلمة.

ومنها يوم أوارة وهو جبل، وكان بين المنذر بن امرئ القيس ملك الحيرة ين بكر وائل بسبب اجتماع بكر على سلمة بن الحارث، فظفر المنذر ببكر، وأقسم أنه لا يزال يذبحهم حتى يسيل دمهم من رأس أوارة إِلى حضيضه، فبقي يذبحهم والدم يجمد، فسكب عليه ماء حتى سال الدم من رأس الجبل إِلى حضيضه، وبرت يمينه.

ومنها يوم رحرحان من العقد: قال وكان من أمره، أن الحارث بن ظالم المري ثم الذبياني، لمّا قتل خالد ابن جعفر بن كلاب قاتل زهير، حسبما تقدم - ذكره، عند ذكر مقتل زهير، هرب الحارث من النعمان ملك الحيرة، لكونه قتل خالداً وهو في جيرة النعمان، فلم يجر الحارث المذكور أحد من العرب خوفاً من النعمان، حتى استجار بمعبد بن زرارة فأجاره، فلم يوافقه قومه بنو تميم، وخافوا من ذلك، ووافقه منهم بنو ماوية وبنو دارم فقط، فلما بلغ الأخوص أخا خالد مكان حارث المري من معبد، سار إِليه واقتتلوا بموضع يقال له وادي رحرحان فانهزمت بنو تميم، وأسر معبد بن زرارة، وقصد أخوه لقيط بن زرارة أن يستفكّه، فلم يقدر، وعذبوا معبداً حتى مات.

ومنها يوم شعب جبلة وهو من أعظم أيام العرب، وكان من حديثه: أنه لما انقضت

ص: 80

وقعة رحرحان، استنجد لقيط بن زرارة التميمي ببني ذبيان فنجدته، وتجمعت له بنو تميم، غير بني سعد، وخرجت معه بنو أسد، وسار بهم لقيط إِلى بني عامر وبني عبس في طلب ثأر أخيه معبد، فأدخلت بنو عامر وبنو عبس أموالهم في شعب جبلة، هضبة حمراء بين الشريف والشرف وهما ماآن فحضرهم لقيط فخرجوا عليه من الشعب، وكسوا جمائع لقيط وقتلوا لقيطاً، وأسروا أخاه حاجب ابن زرارة، وانتصرت بنو عامر وبنو عبس نصراً عظيماً، وفي ذلك يقول جرير:

ويوم الشعْبِ قد تركوا لقيطاً

كأنّ عليه حلة أرجوان

وكبّلَ حَاجبٌ بالشامِ حولاً

فحِكم ذا الرقيبة وهو عانِ

وقتل أيضاً من بني ذبيان وبني تميم وبني أسد في يوم شعب جبلة جماعة كثيرة، وقد أكثرت العرب من مراثي المقتولين من القبائل المذكورة، وكان يوم رحرحان قبل يوم شعب جبلة بسنة واحدة، وكان يوم شعب جبلة في العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى النقل من العقد لابن عبد ربه.

ومن أيام العرب المشهورة يوم ذي قار وكان في سنة أربعين من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل في عام وقعة بدر الأول أقوى، وكان من حديثه أنّ كسرى برويز غضب على النعمان بن المنذر وحبسه، فهلك في الحبس، وكان النعمَان قد أودع حلقته، وهي السلاح والدروع، عند هانئ بن مسعود البكري، فأرسل برويز يطلبها من هانئ المذكور فقال: هذه أمانة والحر لا يسلم أمانته، وكان برويز لما أمسك النعمان، قد جعل موضعه في مُلك الحيرة إِياس بن قبيصة الطائي، فاستشار برويز إِياساً المذكور فقال إِياس: المصلحة التغافل عن هانئ بن مسعود المذكور حتى يطمئن، وتتبعه فتدركه، فقال برويز إِنه من أخوالك، ولا نألوه نصحاً، فقال إِياس: رأي الملك أفضل.

فبعث برويز الهرمزان في ألفين من الأعاجم، وبعث ألفا من بهرا، فلما بلغ بكر ابن وائل خبرهم، أتوا مكاناً من بطن ذي قار فنزلوه، ووصلت إِليهم الأعاجم، واقتتلوا ساعة وانهزمت الأعاجم هزيمة قبيحة، وأكثرت العرب الأشعار في ذكر هذا اليوم.

‌الفصل الخامس

ذكر الأمم

من الصحاح: الأمة الجماعة، هو في اللفظ واحد، وفي المعنى جمع، وكل جنس من الحيوان أمة، وفي الحديث " لولا أنّ الكلاب أمة من الأممَ لأمرتُ بقتلها "

‌أمة السريان والصابئين

من كتاب أبي عيسى المغربي

قال: أمة السريان هي أقدم الأمم، وكلام آدم وبنيه بالسرياني، وملتهم هي ملة الصابئين،

ص: 81

ويذكرون أنهم أخذوا دينهم عن شيث وإدريس، ولهم كتاب يعزونه إِلى شيث، ويسمونه صحف شيث، يذكر فيه محاسن الأخلاق، مثل الصدق والشجاعة والتعصب للغريب وما أشبه ذلك، ويأمر به، ويذكر الرذائل ويأمر باجتنابها، وللصابئين عبادات، منها سبع صلوات، منهن خمس توافق صلوات المسلمين، والسادسة صلاة الضحى، والسابعة صلاة يكون وقتها في تمام الساعة السادسة من الليل، وصلاتهم كصلاة المسلمين من النية، وأن لا يخلطها المصلي بشيء من غيرها، ولهم الصلاة على الميت بلا ركوع ولا سجود، ويصومون ثلاثين يوماً وإن نقص الشهر الهلالي صاموا تسعاً وعشرين يوماً، وكانوا يراعون في صومهم الفطر والهلال، بحيث يكون الفطر وقد دخلت الشمس الحمل، ويصومون من ربع الليل الأخير إِلى غروب قرص الشمس، ولهم أعياد عند نزول الكواكب الخمسة المتحيرة بيوت أشرافها، والشمسة المتحيرة: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد. ويعظمون بيت مكة، ولهم بظاهر حران مكان يحجونه، ويعظمون أهرام مصر، ويزعمون أن أحدها قبر شيث بن آدم، والآخر قبر إِدريس، وهو حنوخ، والآخر قبر صابي بن إِدريس الذي ينتسبون إِليه، ويعظمون يوم دخول الشمس برج الحمل، فيتهادون فيه ويلبسون أفخر ملابسهم، وهو عندهم من أعظم الأعياد لدخول الشمس برج شرفها.

قال ابن حزم: والدين الذي انتحله الصابئون أقدم الأديان على وجه الدهر، والغالب على الدنيا، إِلى أن أحدثوا فيه الحوادث، فبعث الله تعالى إِليهم إبراهيم خليله عليه السلام، بالدين الذي نحن عليه الآن. قال الشهرستاني: والصابئون يقاتلون الحنيفية، ومدار مذهبهم التعصب للروحانيين، كما أن مدار مذهب الحنفات التعصب للبشر والجسمانيين.

‌أمة القبط وهم من ولد حام بن نوح

وكان سكناهم بديار مصر، وكانوا أهل ملك عظيم، وعز قديم، واختلط بالقبط طوائف كثيرة، من اليونان والعماليق والروم وغيرهم، وإنما صاروا أخلاطاً لكثرة من تداول عليهم وَمَلَكَ مصر، فإِن أكثر من تملك مصر الغرباء، وكان القبط في سالف الدهر صابئة يعبدون الهياكل والأصنام، وكان منهم علماء بضروب من علم الفلسفة، وخاصة بعلم الطلسمات والنيرنجات والمرائي المحرقة والكيمياء.

وكانت دار ملكهم مدينة منف وهي على جانب النيل من غربيه، وكانت ملوكهم تلقب الفراعنةِ، وقد تقدم ذكرهم.

‌أمّة الفرس

ومساكنهم وسط المعمور

ويقال لها أرض فارس. ومنها: كرمان والأهواز وأقاليم يطول ذكرها، وجميع ما دون جيحون من تملك الجهات يقال له إِيران، وهي أرض الفرس، وأما ما وراء جيحون فيقال له توران، وهو أرض الترك، وقد اختلف في نسب الفرس، فقيل أنهم من ولد فارس بن إِرم بن سام،

ص: 82

وقيل: إِنهم من ولد يافث، والفرس يقولون: إِنهم من ولد كيومرت، وكيومرت عندهم هو الذي ابتدأ منه النسل مثل آدم عندنا، ويذكرون أن الملك لم يزل فيهم من كيومرت، وهو آدم إِلى غلبة الإسلام، خلا تقطع حصل في مدد يسيرة لا يعتد به، مثل تغلب الضحاك وفراسياب التركي.

وملوك الفرس عند الأمم أعظم ملوك العالم، وكان لهم العقول الوافرة والأحلام الراجحة، وكان لهم منٍ ترتيب المملكة ما لم يلحقهم فيه أحد من الملوك، وكانوا يولون ساقط البيت شيئاً من أمور الخاصة.

والفرس فرق كثيرة، فمنهم الديلم، وهم سكان الجبال، ومنهم الجيل وهم يسكنون الوطاة التي لجبال الديلم، وأرضهم هي ساحل بحر طبرستان. ومنهم الكرد، ومنازلهم جبال شهرزور، وقيل: إِن الكرد من العرب، ثم تنبطوا. وقيل: إِنهم أعراب العجم.

وكان للفرس ملة قديمة، وكان يقال للدائنين بها الكيومرتية أثبتوا إِلهاً قديماً وسموه يزدان، وإلهاً مخلوقاً من الظلمة محدثاً، وسموه أهرمن.

ويزدان عندهم هو الله تعالى، وأهرمن هو إِبليس، وكان أصل دينهم مبنياً على تعظيم النور، وهو يزدان، والتحرز من الظلمة وهو أهرمن، ولما عظموا النور عبدوا النيران، وكان الفرس على ذلك حتى ظهر زرادشت.

وكان على أيام بشتاسف فقبل دينه ودخل فيه، ثم صارت الفرس على دينه، وذكر لهم زرادشت كتاباً زعم أن الله تعالى أنزله عليه، وزرادشت من أهل قرية من قرى أذربيجان، ولهم في خلق زرادشت وولادته كلام طويل لا فائدة فيه، فأضربنا عنه، وقال زرادشت بإله يسمى أرمزد بالفارسي وأنه خالق النور والظلمة ومبدعهما، وهو واحد لا شريك له، وأن الخير والشر والصلاح والفساد إِنما حصل من امتزاج النور بالظلمة، ولو لم يمتزجا لما كان وجود للعالم، ولا يزال المزاج حتى يغلب النور الظلمة، ثم يتخلص الخير إِلى عالمه والشر إِلى عالمه، وقُبْلَة زرادشت إِلى المشرق، حيث مطلع الأنوار.

وللفرس أعياد ورسوم فمنها النوروز، وهو اليوم الأول من فروردينماه، واسمه يوم جديد، لكونه غرة الحول الجديد، وبعده أيام خمسة كلها أعياد، ومن أعيادهم التيركان، وهو ثالث عشر تيرماه، ولما وافق اسم اليوم الثالث عشر اسم شهره صار ذلك اليوم عيداً، وهكذا كل يوم يوافق اسمه اسم شهره فهو عيد، ومنها المهرجان وهو سادس عشَر مهرماه، وفيه زعموا أن أفريدون ظفر بالساحر الضحاك بيوراسب، وحبسه في جبل دنياوند، ومنها الفروردجان وهو الأيام الخمسة الأخيرة من أبان ماه، يضع المجوس فيها الأطعمة والأشربة لأرواح موتاهم، على زعمهم، ومنها ركوب الكوسج وهو أنه كان يأتي في أول فصل الربيع رجل كوسج راكب حماراً، وهو قابض على غراب، وهو يتروّح بمروحة ويودع الشتاء، وله ضريبة يأخذها، ومتى وجد بعد ذلك اليوم ضرب، ومنها الذق وهو العاشر من بهسنماه، وليلته، وتوقد في ليلته النيران، ويضرب حولها. ومنها الكنبهارات وهي أقسام لأيام السنة مختلفة في أول كل قسم منها

ص: 83

خمسة أيام هي في الكنبهارات، زعم زرادشت أن في كل يوم خلق الله تعالى نوعاً من الخليقة، من سماء وأرض وماء ونبات وحيوان وإنس، فتم خلق العالم في ستة أيام.

‌أمة اليونان

قال أبو عيسى: المنقول عن أصحاب السير من اليونان، أن اليونان نجموا من رجل اسمه اللن ولد سنة أربع وسبعين لمولد موسى النبي عليه السلام، وكان أميرس الشاعر اليوناني موجوداً، في سنة ثمان وستين وخمسمائة لوفاة موسى عليه السلام، وهو تاريخ ظهور أمة اليونان واشتهارهم، ولم يُعلموا قبل ذلك.

قال: وكانوا أهل شعر وفصاحة، ثم صارت فيهم الفلسفة في زمان بخت نصر. قال: وهذا منقول من كتاب كوولبس الذي رد فيه على لليان الذي ناقض الإنجيل، أقول وقد نقل الشهرستاني أن أبيدقليس كان في زمن داود النبي عليه السلام، وكذلك فيثاغورس كان في زمن سليمان بن داود عليه السلام، وأخذ الحكمة من معدن النبوة، وكانت وفاة سليمان بن داود لمضي خمسمائة وثلاث وسبعين سنة من وفاة موسى، وكان أبيدقليس وفيثاغورس فيلسوفين مشهورين من اليونانيين، فقول أبي عيسى إِن الفلسفة إِنما ظهرت من اليونان في زمن بخت نصر، غير مطابق لما نقله الشهرستاني فإِن بخت نصر بعد سليمان بأكثر من أربعمائة سنة.

ومن كتاب ابن سعيد المغربي: أن بلاد اليونان كانت على الخليج القسطنطيني من شرقيه وغربيه إِلى البحر المحيط، والبحر القسطنطيني هو خليج بين بحر الروم وبحر القرم، واسم بحر القرم في القديم بحر نيطش - بكسر النون وياء مثناة من تحتها ساكنة وطاء مهملة لا أعلم حركتها وشين معجمة - قال: واليونان فرقتان: فرقة يقال لهم الإِغريقيون وهم اليونانيون الأول، والفرقة الثانية يقال لهم اللطينيون.

وقد اختلف في نسب اليونان، فقيل أنهم من ولد يافث، وقيل أنهم من جملة الروم من ولد صوفر بن العيص بن يعقوب بن إِبراهيم الخليل عليهما السلام.

وكانت ملوك اليونان المقدم ذكرهم في الفصل الثالث، من أعظم الملوك، ودولتهم من أفخر الدول، ولم يزالوا كذلك حتى غلبت عليهم الروم، حسبما تقدم في ذكر أغسطس، فدخلت اليونان في الروم ولم يبق لهم ذكر.

قال: وكانت بلادهم في الربع الشمالي الغربي، متوسطها الخليج القسطنطيني، وجميع العلوم العقلية مأخوذة عنهم، مثل العلوم المنطقية والطبيعية والإلهية والرياضية، وكانوا يسمون العلم الرياضي جومطريا، وهو المشتمل على علم الهيئة والهندسة والحساب واللحون والإيقاع وغير فلك، وكان العالم بهذه العلوم يسمى فيلوسوفاً، وتفسيره محب الحكمة، لأن فيلو محب وسوفاً الحكمة.

فمن فلاسفتهم ثاليس الملطي، قال أبو عيسى: كان في زمن بخت نصر ومنهم أبيد قليس وفيثاغورس، اللذين تقدم أنهما كانا في زمن داود وسليمان عليهما

ص: 84

السلام، وفيثاغورس من كبار الحكماء، ويزعم أنه سمع حفيف الفلك، وصل إِلى مقام الملك. وقال: ما سمعت شيئاً ألذ من حركات الأفلاك، ولا رأيت شيئاً أبهى من صورتها.

ومنهم أبقراط الحكيم الطبيب المشهور، ونجم في سنة مائة وست تسعين لبخت نصر، فيكون أبقراط قبل الهجرة بألف ومائة وبضع وسبعين سنة.

ومنهم سقراط، قال الشهرستاني في الملل والنحل: إِنه كان حكيماً فاضلاً زاهداً، واشتغل بالرياضة، وأعرض عن ملاذ الدنيا، واعتزل إِلى الجبل وأقام في غار، ونهى الناس عن الشرك وعبادة الأوثان فثارت عليه العامة، والجأوا ملكهم إِلى قتله فحبسه ثم سقاه سمّاً فمات.

ومنهم أفلاطون الإِلهي، وكان تلميذاً لسقراط المذكور، ولما اغتيل سقراط السم، قام أفلاطون مقامه وجلس على كرسيه.

ومنهم أرسطوطاليس وكان تلميذاً لأفلاطون، وكان أرسطو المذكور في زمن الإسكندر، وبين الإِسكندر والهجرة تسعمائة وأربع وثلاثون سنة، فيكون أفلاطون قبل ذلك بمدة يسيرة، وكذلك يكون سقراط قبل أفلاطون بمدة يسيرة أيضاً، فبالتقريب يكون بين سقراط والهجرة نحو ألف سنة، ويكون بين أفلاطون والهجرة أقل من ألفي سنة.

ومنهم طيماوس وهو من مشايخ أفلاطون، وأما أرسطوطاليس فهو المقدم المشهور، والحكيم المطلق. قال الشهرستاني: ولما صار عمر أرسطو المذكور سبع عشر سنة أسلمه أبوه إِلى أفلاطون فمكث عنده نيفاً وعشرين سنة، ثم صار حكيماً مبرزاً يعتمد عليه.

ومن جملة تلامذة أرسطو الملك الإسكندر، الذي ملك غالب المعمور، من الغرب إِلى الشرق، وأقام الإسكندر يتعلم على أرسطو خمس سنين، وبلغ فيها أحسن المبالغ، ونال من الفلسفة ما لم ينل سائر تلاميذ أرسطو، ولما لحق أباه فيلبس مرض الموت، أخذ ابنه الإسكندر من أرسطو وعهده إِليه بالملك.

ومنهم يرقلس وكان بعد أرسطو وصنف كتاباً ورد فيه شبهاً في قدم العالم.

ومنهم الإسكندر الأفروديسي وكان بعد أرسطو، وهو من كبار الحكماء.

ومما نقلناه من تاريخ ابن القفطي وزير حلب، في أخبار الحكماء قال: فمنهم طيموخارس وهو حكيم رياضي يوناني، عالم بهيئة الفلك رصد الكواكب في زمانه، وقد ذكره بطلميوس في المجسطي؛ وكان وقته متقدماً لوقت بطلميوس بأربعمائة وعشرين سنة.

ومنهم فرفوريوس وكان من أهل مدينة صور على البحر الرومي بالشام، وكان بعد زمن جالينوس الذي سنذكره، وكان فرفوريوس المذكور عالماً بكلام أرسطو، وقد فسر كتبه لمّا شكا إِليه الناس غموضها، وعجزهم عن فهم كلامه.

ومنهم فلوطيس وكان فاضلاً حكيماً يونانياً، وشرح كتب أرسطو ونقلت تصانيفه من الرومي إِلى السرياني قال: ولا أَعلم أن شيئاً منها خرج إِلى العربي.

ومنهمٍ فولس الأجانيطي ويعرف بالقوابلي نسبة إِلى القوابل جمع قابلة وكان خبيراً بطب النساء، كثير المعاناة له، وكان القوابل يأتينه ويسألنه عن الأمور التي تحدث بالنساء عقيب الولادة، فينعم السؤال

ص: 85

لهن ويجيبهن بما يفعلنه، وكان زمنه بعد زمن جالينوس، وكان مقامه بالإسكندرية.

ومنهم لسلون المتعصب، وكان حكيماً يونانياً يقرئ فلسفة أفلاطون وينتصر لها، فسمي لذلك بالمتعصب.

ومنهم مقسطراطيس وكان فيلسوفاً يونانياً شرح كتب أرسطو، وخرجت إلى العربي.

ومنهم منطر الإسكندري وكان إِماماً في علم الفلك، واجتمع هو وأفطيمن بالإسكندرية، وأحكما آلات الرصد، ورصد الكواكب، وحققاها، وكان زمنهما قبل زمن بطلميوس صاحب المجسطي بنحو خمسمائة وإحدى وسبعين سنة.

ومنهم مورطس ويقال مورسطس، حكيم يوناني له رياضة وحيل، وصنف كتاباً في الآلة المسماة بالأرغن، وهي آلة تسمع على ستين ميلاً.

ومنهم مغلس الحمصي من أهل حمص، وكان من تلامذة أبقراط، وله ذكر في زمانه، وله تصانيف منها كتاب البول وغيره.

ومنهم مثرود يطوس ولم يذكر زمانه، بل قال عنه: إِنه كان طبيباً وحكيماً، وهو الذي ركب المعجون المسمى مثرود يطوس، سمّى معجونه باسمه، وكان معتنياً بتجربة الأدوية، وكان يمتحن قواها في شرار الناس الذين قد وجب عليهم القتل، فمنها ما وجده موافقاً للدغة الرتيلاء ومنها ما وجده موافقاً للدغة العقرب، وكذلك غير ذلك، انتهى كلام ابن القفطي.

وأما بطلميوس وجالينوس فإِن زمانهما متأخر عن زمن اليونان، وكانا في زمن الروم وأحدهما قريب من الآخر، وكان بطلميوس متقدماً على جالينوس بقليلا. قال ابن الأثير في الكامل وقد أدرك جالينوس زمن بطلميوس، وكان بطلميوس مصنف المجسطي المذكور في زمن أنطونينوس، ومات أنطونينوس في أول سنة اثنتين وستين وأربعمائة لغلبة الإسكندر، وكان بين رصد بطلميوس ورصد المأمون ستمائة وتسعون سنة، وكان رصد المأمون بعد سنة مائتين للهجرة، فيكون بين الهجرة ورصد بطلميوس أربعمائة وتسعون سنة بالتقريب، وكان جالينوس في أيام قوموذوس الملك، وكان موت قوموذوس في سنة أربع وتسعين وأربعمائة للإسكندر، فيكون بين جالينوس والهجرة أكثر من أربعمائة سنة بقليل، وذلك كله بالتقريب.

ومن حكماء اليونان إِقليدس صاحب كتاب الاستقصات المسمى باسمه، قال أبو عيسى: وكان إِقليدس في أيام ملوك اليونان البطالسة، فلم يكن بعد أرسطو ببعيد قال: وليس هو مخترع كتاب إِقليدس، بل هو جامعه ومحرره ومحققه، ولذلك نسب إليه.

ومنهم ابرخس وكان حكيماً رياضياً، ورصد الكواكب وحققها، ونقل بطلميوس عنه في المجسطي، وكان بين رصد برخس وبين رصد بطلميوس مائتان وخمس وثمانون سنة فارسية بالتقريب.

‌أمة اليهود

قد تقدم ذكر موسى صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك تقدم ذكر بني إسرائيل، وإسرائيل هو يعقوب بن إِسحاق بن إِبراهيم الخليل عليهم السلام. وكان لإسرائيل المذكور اثنا عشر

ص: 86

ابناً وهم روبيل ثم شمعون ثم لاوي ثم يهوذا ثم يساخر ثم زبولون ثم يوسف ثم بنيامين ثم دان ثم نفتالي ثم كاذ ثم أشار أولاد إِسرائيل المذكور. وهؤلاء الإثنا عشر، منهم كانت أسباط بني إسرائيل، وجميع بني إِسرائيل هم أولاد الإِثني عشر المذكورين.

وأمة اليهود أعمّ من بني إِسرائيل، لأن كثيراً من أجناس العرب والروم والفرس وغيرهم صاروا يهوداً، ولم يكونوا من بني إِسرائيل، وإنما بنو إِسرائيل هم الأصل في هذه الملة، وغيرهم دخيل فيها. فلذلك قد يقال لكل يهودي إِسرائيلي.

وقد تقدم ذكر حكام بني إِسرائيل وملوكهم في الفصل الأول، وأما اسم اليهود فقد قال الشهرستاني في الملل والنحل: هاد الرجل أي رجع وتاب، وإنما لزمهم هذا الاسم لقول موسى عليه السلام:" إِنا هدنا إِليك "" الأعراف: 156 " أي رجعنا وتضرعنا.

قال البيروتي في الآثار الباقية: ليس ذلك بشيء، وإنما سميّ هؤلاء باليهود نسبة إِلى يهوذا أحد الأسباط، فإِن الملك استقر في ذريته، وأبدلت الذال المعجمة دالاً مهملة، كما يوجد مثل ذلك في كلام العرب، وكتابهم التوراة، وقد اشتملت على أسفار، فذكر في السفر الأول مبتدأ الخلق، ثم ذكر الأحكام والحدود والأحوال والقصص والمواعظ والأذكار في سفر وأنزل على موسى عليه السلام الألواح أيضاً، وهي شبه مختصر ما في التوراة. انتهى.

كلام الشهرستاني من كتاب خير البشر بخير البشر قال فيه: وليس في التوراة ذكر القيامة ولا الدار الآخرة، ولا فيها ذكر بعث ولا جنة ولا نار، وكل جزاء فيها إِنما هو معجل في الدنيا، فيجزون على الطاعة بالنصر على الأعداء وطول العمر وسعة الرزق ونحو ذلك. ويجزون على الكفر والمعصية بالموت ومنع القطر والحميات والجرب، وأن ينزل عليهم بدل المطر الغبار والظلمة ونحو ذلك، وليس فيها ذم الدنيا ولا الزهد فيها، ولا وظيفة صلوات معلومة بل الأمر بالبطالة والقصف واللهو.

ومما تضمنته التوراة أن يهوذا بن يعقوب في زمان نبوته، زنى بامرأة ابنه، وأعطاها عمامته وخاتمه، رهناً على جدي هو أجرة الزنا، وهو لا يعرفها، فأمسكت رهنه عندها، وأرسل إِليها بالجدي فلم تأخذه وظهر حملها، وأخبر يهوذا بذلك فأمر بها أنْ تحرق، فأنفذت إِليه بالرهن، فعرف يهوذا أنه هو الذي زنى بها فتركها وقال: هي أصدق.

ومما تضمنته أيضاً، أن روبيل بن يعقوب وطئ سرية أبيه، وعرف بذلك أبوه، ومما تضمنته أيضاً أن أولاد يعقوب من أمتيه كانوا يزنون مع نساء أبيهم، وجاء يوسف وعرف أباه بخبر أِخوته القبيح.

ومما تضمنته: أن راحيل أخت ليّا، وكانت الأختان المذكورتان قد جمع بينهما يعقوب في عقد نكاحه، وكان ذلك حلالاً في ذلك الزمان، قال: فاشترت راحيل من أختها وضرتها ليا، مبيت بن ليا، وهو روبيل، عند راحيل ليِطأها، بنوبتها من يعقوب ليبيت عند ليا، وقد تضمنت من نحو ذلك كثيراً أضربنا عنه.

رجعنا إِلى كلام الشهرستاني قال: واليهود تدعَّي أنّ الشريعة لا تكون إِلا واحدة، وهي ابتدأت بموسى وتمت به، وإما ما كان قبل موسى فإِنما كان حدوداً

ص: 87

عقلية وأحكاماً مصلحية، ولم يجيزوا النسخ أصلاً، فلم يجيزوا بعده شريعة أخرى. قالوا: والنسخ في الأوامر بدا ولا يجوز البدا على الله تعالى.

وافترقت اليهود فرقاً كثيرة: فالربانية منهم كالمعتزلة فينا، والقراؤون كالمجبرة والمشبهة فينا، ومن فرق اليهود العانانية نسبوا إِلى رجل منهم يقال له عانان بن داود، وكان رأس جالوسَ، ورأس الجالوت هو اسم للحاكم على اليهود بعد خراب بيت المقدس الخراب الثاني، فاٍنه لما ذهب المُلك منهم بغزو بخت نصر، صار الحاكم عليهم في القدس يسمى هرذوس أو هيروذس، وكان والياً من جهة الفرس ثم صار من جهة اليونان كذلك، ثم صار من جهة أغسطس، ومن بعده من ملوك الروم كذلك، حتى غزاهم طيطوس وأبادهم وخرب بيت المقدس الخراب الثاني، على ما تقدم ذكره، وتفرقت اليهود في البلاد ولم تعد لهم بعد ذلك رياسة يعتد بها، وصار منهم بالعراق وتلك النواحي جماعة، وكانوا يرجعون إِلى كبير منهم، فصار اسم ذلك الكبير الذي يرجعون إِليه رأس الجالوت، فمن مذهب العانانية المذكورين، أنهم يصدقون المسيح في مواعظه وإشاراته، ويقولون أنه لم يخالف التوراة البتة، بل قررها ودعا الناس إِليها، وهو من أنبياء بني إِسرائيل المتعبدين بالتوراة، إِلا أنهم لا يقولون بنبوته، ومنهم من يدعي أن عيسى لم يدعيّ أنه نبي مرسل ولا أنه صاحب شريعة ناسخة لشريعة موسى عليه السلام، بل هو من أَولياء الله المخلصين، وأنّ الإِنجيل ليس كتَاباً منزلاً عليه، وحياً من الله تعالى، بل هو جميع أحواله جمعه أربعة من أصحابه، واليهود ظلموه أولاً، حيث كذبوه، ولم يعرفوا بعد دعواه، وقتلوه آخراً ولم يعلموا محله ومغزاه، وقد ورد في التوراة ذكر المشيحا في مواضع كثيرة وهو المسيح.

وأما السمرة فمنهم فرقة يقال لها الدستانية، وتسمى الدستانية أيضاً الفانية، ومنهم فرقة يقال لها كوشانية والدستانية يقولون: إنما الثواب والعقاب في الدنيا، وأما الكوشانية فيقرون بالآخرة وثوابها وعقابها.

ولليهود أعياد وصيام فمنها الفصح وهو اليوم الخامس عشر من نيسان اليهود، وهو عيد كبير وهو أول أيام الفطير السبعة، ولا يجوز لهم فيها أكل الخمير، لأنهم أمروا في التوراة أن يأكلوا في هذه الأيام فطيراً، وآخر هذه الأيام الحادي والعشرون من الشهر المذكور، والفصح يدور من ثاني عشر آذار إلى خامس عشر نيسان، وسبب ذلك أن بني إِسرائيل لما تخلصوا من فرعون، وحصلوا في التيه اتفق ذلك ليلة الخامس عشر من نيسان اليهود والقمر تام الضوء، والزمان زمان ربيع فأمروا بحفظ هذا اليوم وفي آخر هذه الأيام غرق فرعون في بحر السويس وهو بحر القلزم.

ولهم عيد الّعنصرة وهو بعد الفطير بخمسين يوماً، ويكون في السادس من شيون، وفيه حضر مشايخ بني إسرائيل إِلى طور سيناء مع موسى عليه السلام، فسمعوا كلام الله تعالى من الوعد والوعيد، فاتخذوه عيداً.

ومن أعيادهم عيد الحنكة، وسعناه التنظيف، وهو ثمانية أيام، أولها الخامس

ص: 88

والعشرون من كسليو، يَسْرجون في الليلة الأولى سراجاً، وفي الثانية اثنين، وكذلك حتى يسرجوا في الثامنة ثمانية سرج، وذلك تذكار أصغر ثمانية أخوة، قَتَلَ بعض ملوك اليونان، فإنه كان قد تغلب عليهم ملك من اليونان ببيت المقدس، وكان يفترع البنات قبل الإهداء إِلى أزواجهن، وكان له سرداب قد أخرج منه حبلين عليهما جلجلان، فإن احتاج إلى امرأة حرك الأيمن فتدخل عليه، فإِذا فرغ منها حرك الأيسر فيخلى سبيلها، وكان في بني إِسرائيل رجل له ثمانية بنين وبنت واحدة، فتزوجها إِسرائيلي وطلبها، فقال له أبوها: إِن أهديتها إِليك افترعها هذا الملعون، ووبخ بنيه بذلك، فأنفوا من ذلك، ووثب الصغير منهم فلبس ثياب النساء، وخبأ خنجراً تحت قماشه، وأتى باب الملك على أنه أخته، فلما حُرّك الجرس أدُخِل عليه فحين خلا به قتله وأخذ رأسه، وحرك الحبل الأيسر وخرج خلي سبيله، فلما ظهر قتل الملك، فرح بذلك بنو إسرائيل واتخذوه عيداً في ثمانية أيام تذكاراً للأخوة الثمانية.

ومن أعيادهم المظال وهي سبعة أيام، أولها خامس عشر تشرين الأول، يستظلون فيها بالخلاف والقصب وغير ذلك، وهو فريضة على المقيم دون المسافر، وأمروا بذلك تذكاراً لأظلال الله تعالى إِياهم بالغمام في التيه، وآخر المظال وهو حادي عشرين تشرين، يسمى عرابا وتفسيره شجر الخلاف وغدعرابا، وهو اليوم الثاني والعشرون من تشرين يسمى التبريك وتبطل فيه الأعمال، ويزعمون أن التوراة فيه استتم نزولها، ولذلك يتبركون فيه بالتوراة، وليس في صياماتهم فرض غير صوم الكبور، هو عاشر يوم من تشرين اليهود، وابتداء الصوم من اليوم التاسع قبل غروب الشمس بنصف ساعة، إلى بعد غروبها من اليوم العاشر بنصف ساعة، تمام خمس وعشرين ساعة، وكذلك غيره من صياماتهم النوافل والسنن.

‌أمة النصارى

وهم أمة المسيح

‌عليه السلام

من كتاب الملل والنحل للشهرستاني قال: وللنصارى في تجسد الكلمة مذاهب. فمنهم من قال: أشرقت على الجسد إشراق النور على الجسم المشف، ومنهم من قال: انطبعت فيه انطباع النقش في الشمعة، ومنهم من قال تدرع اللاهوت بالناسوت، ومنهم من قال: مازجت الكلمة جسد المسيح ممازجة اللبن بالماء.

واتفقت النصارى على أن المسيح قتلته اليهود وصلبوه، ويقولون أن المسيح بعد أن قُتل وصلب ومات، عاش فرأى شخصه شمعون الصفا، وكلمه وأوصى إليه، ثم فارق الدنيا وصعد إلى السماء. قال: وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة، وكبارهم ثلاث فرق، الملكانية والنسطورية، واليعقوبية.

أما الملكانية فهم أصحاب ملكا الذي ظهر ببلاد الروم، واستولى عليها، فصار غالب الروم ملكانية، وهم يصرحون بالتثليث وعنهم أخبر الله تعالى بقوله:" لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة "" المائدة: 73 " وصرحت الملكانية

ص: 89

ولهم عيد الصليب وهو مشهور.

ولهم الميلاد ويصومون قبله أربعين يوماً، أولها سادس عشر تشرين الآخر وكان الميلاد في ليلة الرابع والعشرين من كانون الأول: وفي الليلة المذكورة ولدت مريم المسيح في قرية بالقرب من القدس تسمى بيت لحم.

وأما الإنجيل فهو كتاب يتضمن أخبار المسيح عليه السلام، من ولادته إلى وقت خروجه من هذا العالم، كتبه أربعة نفر من أصحابه، وهم متى كتبه بفلسطين بالعبرانية، ومرقوس كتبه ببلاد الروم باللغة الرومية، ولوقا كتبه بالاسكندرية باللغة اليونانية، ويوحناّ كتبه بالإسكندرية باللغة اليونانية أيضاً.

ولهم صوم السليحيين وهو ستة وأربعون يوماً، أولها يوم الاثنين تالي الفنطي قسطي، بعد الفطر الكبير بخمسين يوماً، ولهم فيه خلاف.

ولهم صوم نينوى ثلاثة أيام، أولها يوم الاثنين الذي قبل الصوم الكبير باثنين وعشرين يوماً.

ولهم صوم العذارى وهو ثلاثة أيام أولها يوم الاثنين، يتلو الدنح، وفطره يوم الخميس.

‌الأمم التي دخلت في دين النصارى

فمنها أمة الروم قال أبو عيسى: وهذه الأمة على كثرتها وعظم ملوكها واتساع بلادها، إنما نجمت من بني العيص بن إِسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام، وكان أول ظهورهم في سنة ست وسبعين وثلاثمائة لوفاة موسى عليه السلام، وساروا إلى البلاد المعروفة ببلاد الروم وسكنوها، وحينئذ ابتدأت الروم توجد.

ومن كتاب ابن سعيد المغربي إن الروم يعرفون ببني الأصفر، والأصفر هو روم العيص بن إسحاق على أحد الأقوال من الكامل، وغيره أن الروم كانت تدين بدين الصابئة، ويعبدون أصناماً على أسماء الكواكب، وما زالت الروم ملوكها ورعيتها كذلك حتى تنصر قسطنطين وحملهم على دين النصارى، فتنصروا عن آخرهم ومن أمم النصارى الأرمن وكانت بلادهم أرمينية، وقاعدة مملكتها خلاط فلما ملكها المسلمون صارت الأرمن رعية فيها، ثم تغلبت الأرمن على الثغور وملكوا من المسلمين طرسوس والمصيصة واستولوا على تلك البلاد التي تعرف اليوم ببلاد سليس، وسليس مدينة، ولها قلعة حصينة، وهي كرسي مملكة الأرمن في زماننا هذا.

ومنها الكرج وبلادهم مجاورة لبلاد خلاط، آخذة إلى الخليج القسطنطيني، وممتدة إلى نحو الشمال، ولهم جبال منيعة، والكرج خلق كثير، وقد عليهم دين النصارى، ولهم قلاع حصينة وبلاد متسعة، وهم في زماننا هذا مصالحون للتتر، وبيت الملك عندهم محفوظ متوارث، يليه الرجال والنساء من ذلك البيت.

ومنها الجركس وهم على بحر نيطش من شرقيه، وهم في شظف من العيش، والغالب عليهم دين النصارى. ومنها الروس ولهم بلاد في شمالي بحر نيطش، وهم من ولد يافث، وقد غلب عليهم دين النصارى.

ومنها البلغار منسوبون إِلى المدينة التي يسكنونها، وهي في شرقي بحر نيطش،

ص: 92

وكان الغالب عليهم النصرانية، ثم أسلم منهم جماعة.

ومنها الألمان وهي من أكبر أمم النصارى، يسكنون في غربي القسطنطينية إلى الشمال، وملكهم كثير الجنود، وهو الذي سار إِلى صلاح الدين بن أيوب في مائة ألف مقاتل، فهلك ملك الألمان المذكور، وغالب عسكره في الطريق قبل أن يصلوا إِلى الشام، على ما سنذكر ذلك إِن شاء الله تعالى مع أخبار صلاح الدين المذكور.

ومنها البرجان وهم أيضاً أمة كبيرة، بل أمم كثيرة طاغية، قد فشا فيها التثليث، وبلادهم واغلة في الشمال، وأخبارهم وسير ملوكهم منقطعة عنا لبعدهم. وجفاء طباعهم. ومنها الإفرنج وهم أمم كثيرة، وأصل قاعدة بلادهم فرنجة، ويقال فرنسه، وهي مجاورة لجزيرة الأندلس من شماليها، ويقال لملكهم الفرنسيس، وهو الذي قصد ديار مصر وأخذ دمياط، ثم أسره المسلمون واستنقذوا دمياط منه، ومنوا عليه بالإِطلاق، وكان ذلك بعيد موت الملك الصالح أيوب بن الملك الكامل محمد ابن أبي بكر بن أيوب، على ما سنذكره في سنة ثمان وأربعين وستمائة للهجرة إِن شاء الله تعالى، وقد غلب الفرنج على معظم جزيرة الأندلس، ولهم في بحر الروم جزائر مشهورة مثل صقلية وقبرس وإقريطش وغيرها.

ومنهم الجنوية، منسوبون إِلى جنوة، وهي مدينة عظيمة، وبلاد كثيرة، وهي غربي القسطنطينية على بحر الروم. ومنها البنادقة، وهم أيضاً طائفة مشهورة، ومدينتهم تسمى البندقية، وهي على خليج يخرج من بحر الروم، يمتد نحو سبعمائة ميل في جهة الشمال والغرب، وهي قريبة من جنوة في البر، وبينهما نحو ثمانية أيام، وأما في البحر فبينهما أمد بعيد أكثر من شهرين، لأنهم يخرجون من شعبة البحر التي على طرفها البندقية، وقدرها سبعمائة ميل إِلى بحر الروم مشرقاً، ثم يسيرون فيه مغرباً إلى جنوة، وأما رومية فهي مدينة عظيمة، تقع غربي جنوة والبندقية، وهي مقر خليفتهم، واسمه البابا، وهي شمالي الأندلس بميلة إلى الشرق. ومن أمم النصارى، الجلالقة وهم أشد من الفرنج، وهم أمة يغلب عليهم الجهل والجفاء، ومن زيهم أنهم لا يغسلون ثيابهم، بل يتركونها عليهم إِلى أن تبلى، ويدخل أحدهم دار الآخر بدون استئذان، وهم كالبهائم، ولهم بلاد كثيرة في شمالي الأندلس، ومنها الباشقرد، وهم أمة كثيرة ما بين بلاد الألمان وبلاد إفرنجة، وملكهم وغالبهم نصارى، وفيه أيضاً مسلمون، وهم شرسو الأخلاق.

‌أمم الهند

وهم فرق كثيرة، قال الشهرستاني: ومن فرقهم الباسوية زعموا أن لهم رسولاً ملكاً روحانياً، نزل بصورة البشر، فأمرهم بتعظيم النار والتقرب إِليها بالطيب والذبائح، ونهاهم عن القتل والذبح لغير النار، وسن لهم أن يتوشحوا بخيط، يعقدونه من مناكبهم الأيامن إِلى تحت شمائلهم، وأباح لهم الزناء، وأمرهم بتعظيم البقر والسجود لها حيث رأوها، ويتضرعون في

ص: 93

التوبة إِلى التمسيح بها.

قال ومنهم اليهودية ومن مذهبهم أن لا يعافوا شيئاً، لأن الأشياء جميعها صنع الخالق، ويتقلدون بعظام الناس، ويمسحون رؤوسهم وأجسادهم بالرماد، ويحرمون الذبائح والنكاح، وجمع الأموال، ومنهم عبدة الشمس وعبدة القمر، ومنهم عبدة الأصنام، وهم معظمهم. ولهم أصنام عدّة، كل صنم لطائفة، ويكون لذلك الصنم شكل غير شكل الصنم الآخر، مثل أن يكون أحدها بأيد كثيرة، أو على شكل امرأة ومعه حيات، ونحو ذلك.

ومنهم عبّاد الماء ويقال لهم الجلهكينية، ويزعمون أن الماء ملك، وهو أصل كل شيء، وإذا أراد الرجل عبادة الماء تجرد وستر عورته، ثم دخل الماء حتى يصل إلى وسطه، فيقيم فيه ساعتين أو أكثر، ويأخذ مهما أمكنه من الرياحين فيقطعها صغاراً ويلقيها في الماء وهو يسبح، ويقرأ، وإذا أراد الانصراف، حرّك الماء بيده ثم أخذ منه، فنقّط على رأسه ووجهه، ثم يسجد وينصرف.

ومنهمٍ عباد النار ويقال لهم الإكنواطرية، وصورة عبادتهم لها أن يحفروا في الأرض أخدوداً مربعاً ويؤججوا النار فيه، ثم لا يدعون طعاماً لذيذاً ولا شراباً لطيفاً ولا ثوباً فاخراً ولا عطراً فائحاً ولا جوهراً نفيساً إِلا طرحوه في تلك النار، تقرّباً إِليها. وحرموا إِلقاء النفوس فيها، خلافاً لطائفة أخرى.

ومنهم البراهمة أصحاب الفكرة وهم أهل العلم بالفلك والنجوم، ولهم طريقة في أحكام النجوم تخالف طريقة منجمي الروم، والججم، وذلك أن أكثر أحكامهم باتصالات الثوابت، دون السيارات، وإنما سموا أصحاب الفكرة لأنهم يعظمون أمر الفكرة، ويقولون هو المتوسط بين المحسوس والمعقول، ويجتهدون كل الجهد حتى يصرفوا الفكر عن المحسوسات، فإِذا تجرد الفكر عن هذا العالم، تجلى له ذلك العالم، فربما يخبر عن المغيبات، وربما يوقع الوهم على حي فيقتله، وإنما يصرفون الفكر عن المحسوسات بالرياضة البليغة المجهدة، وبتغميض أعينهم أياماً، والبراهمة لا يقولون بالنبوات وينفونها بالكلية، ولهم على ذلك شبه مذكورة في الملل والنحل لا تليق بهذا المختصر. ومن كتاب ابن سعيد المغربي ونقله عن المسعودي: أنّ الهنود لا يرون إِرسال الريح من بطونهم قبيحاً، والسعال عندهم أقبح من الضراط، والجشاء أقبح من الفساء، ومما نقله عن المسعودي أيضاً: إِن الهنود يحرقون أنفسهم، وإذا أراد الرجل منهم ذلك أتى إِلى باب الملك واستأذنه في إحراق نفسه، فإذا أذن له ألبس ذلك الرجل أنواع الحرير المنقوش، وجعل على رأسه إِكليلاً من الريحان، وضربت الطبول والصنوج بين يديه، وقد أججت له النيران، ويدور كذلك في الأسواق وحوله أهله وأقاربه، حتى إِذا دنا من النار أخذ خنجراً بيده وشق به جوفه، ثم يهوي بنفسه في النار.

قال والزناء فيما بينهم مباح، قال ويعظمون نهر كنك، وهو نهر عظيم يجري في حدود الهند، من الشرق إِلى الغرب، وهو حاد الانصباب، وللهنود رغبة في إتلاف نفوسهم بالتغريق في هذا النهر، ويقتلون أنفسهم على

ص: 94

شطه أيضاً، والهنود تتهادى ماء هذا النهر كما يتهادى المسلمون ماء بئر زمزم، وللهند ممالك فمنها: مملكة المانكير وهي من أعظم ممالك الهند، وهي على بحر اللان الذي عليه السند، ولا يدرك لهذا البحر قعر، وهو أول بحار الهند من جهة الغرب، وهذه المملكة أقرب ممالك الهند إِلى بلاد الإسلام، وهي التي كان يكثر محمود بن سبكتكين غزوها، حتى فتح منها بلاداً كثيرة، ومن مدنها العظام مدينة لهاور، وهي على جانبي نهر عظيم مثل بغداد.

قال: ويلي مملكة المانكير، مملكة القنوح وهي مملكة بلادها الجبال، وهي منقطعة عن البحر، وكل من ملكها يسمى نوده، ولأهل هذه المملكة أصنام يتوارثون عبادتها، ويزعمون أن لها نحو مائتي ألف سنة.

قال ويجاور هذه المملكة مملكة قمار وهي التي ينسب إِليها العود القماري، وهي على البحر، وأهل هذه المملكة يرون تحريم الزناء من بين أهل الهند، قال ابن سعيد ورواه عن المسعودي أن الذي يملكها يسمى زهم، قال ويحاربه من جهة البحر ملك الجزر المعروف بالمهراج.

قال وآخر ممالك الهند من جهة الشرق مملكة بنارس وهي تلي بلاد الصين، وهي مملكة طويلة، وعرضها نحو عشرة أيام، وجزائر بحر الهند في نهاية الكثرة، وهي في البحر قبالة هذه الممالك، ولها ملوك وقد أكثر المصنفون فيها الكلام مما لا يليق بهذا المختصر.

‌أمة السند

وهم غربي الهند، وبلاد السند قسمان، قسم على جانب البحر، ويقال لتلك البلاد اللان، ومن مشاهير مدن هذا القسم المولتمان والمنصورة والدبيل، والمسلمون غالبون على هذا القسم.

والقسم الثاني في البر إِلى جانب الجبل، وبلاده كثيرة الوعر، ويقال للبلاد التي في هذا القسم القشمير، وهي في أيدي الكفار، وأهلها يعبدون الأوثان مثل الهنود، وكل من ملك السند يقال له رتبيل.

‌أمم السودان

وهم من ولد حام

من كتاب ابن سعيد قال: وأديان السودان مختلفة، فمنهم مجوس، ومنهم من يعبد الحيات، ومنهم أصحاب أوثان، قال: وقد روي عن جالينوس، أنهم يختصون بعشر خصال. وهي تفلفل الشعر، وخفة اللحا، وانتشار المنخرين، وغلظ الشفتين، وتحدد الأسنان، ونتن الجلد، وسواد اللون، وتشقق اليدين والرجلين، وطول الذكر، وكثرة الطرب.

فمن أعظم أممهم الحبش، وبلادهم تقابل الحجاز، وبينهما البحر، وهي بلاد طويلة عريضة، وبلادهم في جنوب النوبة وشرقيها، وهم الذين ملكوا اليمن قبل الإسلام، حسبما تقدم خبره عقيب ذكر ملوك اليمن من العرب، وخصيان الحبشة أفخر الخصيان.

ويجاور الحبش من الجنوب الزيلع والغالب عليهم دين الإسلام.

ومن أمم السودان النوبة وهم يجاورون الحبشة من جهة الشمال والغرب،

ص: 95

والنوبة في جنوب حدود مصر، وكثيراً ما يغزوهم عسكر مصر، ويقال: إِن لقمان الحكيم الذي كان مع داود النبي عليه السلام من النوبة، وأنه ولده بأيلة. ومنه ذو النون المصري، وبلال بن حمامة.

ومن أممهم البجا وهم شديدو السواد عراة، ويعبدون الأوثان، وهم أهل أمن، وحسن مرافقة للتجار، في بلادهم الذهب، وهم فوق الحبشة إِلى جهة الجنوب على النيل.

ومن أممهم الدمادم وبلادهم على النيل فوق بلاد الزنج، والدمادم تتر السودان، فإِنهم خرجوا عليهم وقتلوا فيهم كما جرى للتتر مع المسلمين، وهم مهملون في أديانهم، ولهم أوثان وأوضاع مختلفة، وفي بلادهم الزرافات، وفي أرض الدمادم يفترق النمل إلى جهة مصر وإلى الزنج.

ومن أممهم الزنج وهم أشد السودان سواداً، ويحاربون راكبين البقر، ويعبدون الأوثان وهم أهل بأس وقساوة، والنيل ينقصم فوق بلادهم عند جبل المقسم.

ومن أممهم التكرور وهم على غربي النيل، وبلادهم جنوبية غربية، وببلادهم يتكون الذهب، وهم كفار مهملون، ومنهم مسلمون.

ومن أممهم الكانم وأكثرهم مسلمون، وهم على النيل، وهم على مذهب مالك، وأما مدينة غانة فهي من أعظم مدن السودان، وهي في أقصى جنوب المغرب، ويسافر التجار من سجلماسة إِلى غانة، وسجلماسة مدينة بالغرب الأقصى، بعيدة عن البحر، ويسيرون من سجلماسة إلى غانة في مفازة لا يوجد فيها الماء نحو اثني عشر يوماً، ويحملون إِليهما التين والملح والنحاس والودع، ولا يجلبون منها إِلا الذهب العين.

‌أمم الصين

وأما بلاد الصين فطويلة عريضةْ، طولها من المشرق إِلى المغرب أكثر من مسيرة شهرين، وعرضها من بحر الصين في الجنوب إِلى سد يأجوج ومأجوج في الشمال. وقد قيل: إِن عرضها أكثر من طولها، ويشتمل عرضها على الأقاليم السبعة، وأهل الصين أحسن الناس سياسة، وأكثرهم عدلاً، وأحذق الناس في الصناعات، وهم قصار القدود، عظام الرؤوس، وهم أهل مذاهب مختلفة، فمنهم مجوس، وأهل أوثان، وأهل نيران.

قال ومدينتهم الكبرى يقال لها جمدان يشقها نهرها الأعظم. وأهل الصين أحذق خلق الله تعالى بالنقش والتصوير، بحيث يعمل الرجل الصيني بيده ما يعجز عنه أهل الأرض، والصين الأقصى ويقال له صين الصين، هو نهاية العمارة من جهة الشرق، وليس وراءه غير البحر المحيط، ومدينته العظمى يقال لها السيلي، وأخبارها منقطعة عنا.

‌بني كنعان

وهم أهل الشام، قال ابن سعيد: وإِنما سمي الشام شاماً لسكنى سام بن نوح به، وسام اسمه بالعبرانية شام، بشين معجمة، وقيل تشأمت به بنو كنعان، هو ابن مازيغ بن حام بن نوح،

ص: 96

وكان كنعان من جملة الذين اتفقوا على بناء الصرح، فلما بلبل الله تعالى ألسنتهم في أواخر سنة ستمائة وسبعين للطوفان، وتفرقوا، نزل كنعان في الشام ونزل في جهة فلسطين، وتوارثها بنوه، وكان كل من ملك من بني كنعان يلقب جالوت، إِلى أن قتل داود جالوت آخر ملوكهم، وكان اسمه كلياد عن البيروني ذكر ذلك في أواخر كتاب الجواهر، فتفرقت بنو كنعان وسار منهم طائفة إلى المغرب وهم‌

‌ البربر

.

البربر

وقد اختُلِفَ في البربر اختلافاً كثيراً، فقيل: إِنهم من ولد فارق بن بيصر بن حام البربر يزعمون أنهم من ولد قيس غيلان، وصنهاجة من البربر تزعم أنها من ولد إفريقس بن صيفي الحميري، وزناتة منهم تزعم أنها من لخم، والأصح أنهم من ولد كنعان حسبما ذكرنا، وأنه لما قتل ملكهم جالوت، وتفرقت بنو كنعان، قصدت منهم طائفة بلاد المغرب وسكنوا تلك البلاد، وهم البربر، وقبائل البربر كثيرة جداً.

منهم كثامة وبلادهم بالجبال، من الغرب الأوسط، وكثامة الذين أقاموا دولة الفاطميين مع أبي عبد الله الشيعي.

ومنهم صنهاجة ومن صنهاجة ملوك أفريقية بنو بلكين بن زبري.

ومن قبائل البربر زناتة وكان منهم ملوك فاس وتلمسان وسجلماسة، ولهم الفروسية والشجاعة المشهورة.

ومن البربر المصامدة وسكناهم في جبل درن، وهم الذين قاموا بنصر المهدي بن تومرت، وبهم ملك عبد المؤمن وبنوه بلاد المغرب.

وانفرق من المصامدة قبيلة هنتانة، وملك منهم إفريقية والغرب الأوسط، أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص، ثم خطب لولده أبي عبد الله محمد ابن يحيى بالخلافة واستمر على ذلك إلى سنة اثنتين وخمسين وستمائة، على ما سنذكرهم إن شاء الله تعالى.

ومن قبائل البربر المشهورة برغواطة ومنازلهم في نأمسنا وجهات سلا على البحر المحيط، والبربر مثل العرب في سكنى الصحارى، ولهم لسان غير العربي، قال ابن سعيد: ولغاتهم ترجع إِلى أصول واحدة، وتختلف فروعها حتى لا تفهم إِلا بترجمان.

‌أمة عاد

وهم من ولد عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح، وكانت عاد في نهاية من عظم الأجساد والتجبر، ونزل عاد لما تبلبلت الألسن في حضرموت وأرسل الله إِلَى بني عاد هوداً نبياً، حسبما تقدم ذكره في الفصل الأول، فلم يستجيبوا له، وكانوا أهل قوة وبطش وكان لهم في الأرض آثار عظيمة، حتى قال لهم هود " أتبنون بكل ربع آية تعبثون. وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون. وإذا بطشتم بطشتم جبارين " " الشعراء: 28 ا - 129 - 130 " وبلاد عاد يقال لها الأحقاف، وهي

ص: 97

بلاد متصلة باليمن، وبلاد عمان، وصار الملك في بني عاد، وأول من ملك منهم شداد بن عاد، ثم ملك بعده من بنيه جماعة، وقد كثر الاختلاف في ذكرهم، وجميع ما ذكر من ذلك مضطرب غير قريب للصحة فأضربنا عنه.

‌العمالقة

وهم من ولد عمليق بن لاوذ بن سام، ولما تبلبلت الألسن نزلت العمالقة بصنعاء من اليمن، ثم تحولوا إِلى الحرم، وأهلكوا من قاتلهم من الأمم، وكان من العمالقة جماعة بالشام، وهم الذين قاتلهم موسى عليه السلام، ثم يوشع، بعده فأفناهم، وكان منهم فراعنة مصر، وكان منهم من ملك يثرب وخيبر وتلك النواحي.

قال صاحب الأغاني: كان السبب في سكنى اليهود خيبر وغيرها من الحجاز، أن موسى عليه السلام، أرسل جيشاً إِلى قتال العمالقة أصحاب خيبر ويثرب وغيرهما من الحجاز، وأمرهم موسى عليه السلام أن يقتلوهم، ولا يبقوا منهم أحداً، فسار ذلك الجيش وأوقع بالعمالقة، وقتلوهم واستبقوا منهم ابن ملكهم، ورجعوا به إِلى الشام، وقد مات موسى عليه السلام، فقالت لهم بنو إِسرائيل قد عصيتم وخالفتم، فلا نأويكم. فقالوا: نرجع إِلى البلاد التي غلبنا عليها وقتلنا أهلها، فرجعوا إِلى يثرب خيبر وغيرها من بلاد الحجاز واستمرت اليهود بتلك البلاد حتى نزلت عليهم الأوس والخزرج، لما تفرقوا من اليمن بسبب سيل العرم، وقيل إِن اليهود إِنما سكنوا الحجاز لما تفرقوا اليمن حين غزاهم بخت نصر وخرب بيت المقدس والله أعلم.

‌أمم العرب وأحوالهم قبل الإسلام

قال الشهرستاني في الملل والنحل: والعرب الجاهلية أصناف، فصنف أنكروا الخالق والبعث، وقالوا بالطبع المحيي، والدهر المفني، كما أخبر عنهم التنزيل " وقالوا ما هي إِلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا " " الجاثية: 24 " وقوله " وما يهلكنا إِلا الدهر " " الجاثية: 24 " وصنف اعترفوا بالخالق، وأنكروا البعث، وهم الذين أخبر الله عنهم بقوله تعالى " أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد " ق: 15 " وصنف عبدوا الأصنام، وكانت أصنامهم مختصة بالقبائل فكان ود لكلب وهو بدومة الجندل، وسواع لهذيل، ويغوث لذحج، ولقبائِل من اليمن، ونسر لذي الكلاع بأرض حمير، ويعوق لهمذان، واللات لثقيف بالطائف، والعزى لقريش وبني كنانة، ومناة للأوس والخزرج، وهبل أعظم أصنامهم، وكان هبل على ظهر الكعبة، وكان إِساف ونائلة على الصفا والمروة، وكان منهم من يميل إلى اليهود، ومنهم من يميل إِلى النصرانية، ومنهم من يميل إِلى الصابئة، ويعتقد في أنواء المنازل اعتقاد المنجمين في السيارات، حتى لا يتحرك إِلا بنوء من الأنواء. ويقول مطرنا بنوء كذا، وكان منهم من يعبد الملائكة ومنهم من يعبد الجن، وكانت علومهم

ص: 98

علم الأنساب، والأنواء، والتواريخ، وتعبير الرؤيا، وكان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه فيها يد طولى، وكانت الجاهلية تفعل أشياء جاءت شريعة الإسلام بها، فكانوا لا ينكحون الأمهات والبنات، وكان أقبح شيء عندهم الجمع بين الأختين، وكانوا يعيبون المتزوج بامرأة أبيه، ويسمونه الضْيزن، وكانوا يحجون البيت ويعتمرون ويحرمون ويطوفون ويسعون، ويقفون المواقف كلها ويرمون الجمار، وكانوا يكبسون في كل ثلاثة أعوام شهراً، ويغتسلون من الجنابة، وكانوا يداومون على المضمضة والاستنشاق، وفرق الرأس والسواك، والاستنجاء وتقليم الأظافر، ونتف الإبط وحلق العانةْ والختان، وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى.

‌أحياء العرب وقبائلهم

وقد قسمت المؤرخون العرب إلى ثلاثة أقسام بائدة وعاربة ومستعربة.

أما البائدة فهم العرب الأول، الذين ذهبت عنا تفاصيل أخبارهم، لتقادم عهدهم، وهم عاد وثمود وجرهم الأولى، وكانت على عهد عاد، فبادوا ودرست أخبارهم، وأما جرهم الثانية فهم من ولد قحطان، وبهم اتصل إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، ولم يبق من ذكر العرب البائدة إلا القليل، على ما نذكره الآن. وأما‌

‌ العرب العاربة

، فهم عرب اليمن، من ولد قحطان.

وأما العرب المستعربة فهم ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.

‌ما نقل من أخبار العرب البائدة

وهم طسم وجديس، وكانت مساكن هاتين القبيلتين في اليمامة من جزيرة العرب. وكان الملك عليهم في طسم، واستمروا على ذلك برهة من الزمان، حتى انتهى الملك من طسم إلى رجل ظلوم غشوم، قد جعل سنّته أن لا تُهدى بكْر من جديس إلى بعلها حتى يدخل عليها فيفترعها، ولما استمر ذلك على جديس، أنفوا منه واتفقوا على أن دفنوا سيوفهم في الرمل، وعملوا طعاماً للملك، ودعوه إليه، فلما حضر في خواصه من طسم، عمدت جديس إلى سيوفهم، وقتلوا الملك، وغالبوا طسم، فهرب رجل من طسم وشكا إلى تبع ملك اليمن، وقيل هو حسان بن سعد، واستنصر به، وشكا ما فعله جديس بملكهم، فسار ملك اليمن إلى جديس، وأوقع بهم فأفناهم، فلم يبق لطسم وجديس ذكر بعد ذلك.

العرب العاربة

وهم بنو قحطان بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح، فمنهم بنو جرهم بن قحطان، وكانت مساكنهم بالحجاز، ولما اسكن إبراهيم الخليل ابنه إسماعيل عليهما السلام مكة، كانت جرهم نازلين بالقرب من مكة، فاتصلوا بإسماعيل وتزوج منهم، وصار من ولد إسماعيل العرب المستعربة لأن أصل إسماعيل ولسانه كان عبرانياً، ولذلك قيل له ولولده

ص: 99

العرب المستعربة.

وأما ملوك جرهم فقد تقدم ذكرهم في الفصل الرابع مع ملوك العرب.

ومن العرب العاربة بنو سبأ واسم سبأ عبد شمس، فلما أكثر الغزو والسبي سمي سبأ، وهو ابن يشحب بن يعرب بن قحطان، وقد مر نسب قحطان، وكان لسبأ عدّة أولاد، فمنهم حمير وكهلان وعمرو وأشعر.

وعاملة بنو سبأ، وجميع قبائل عرب اليمن وملوكها التبابعة، من ولد سبأ المذكور، وجميع تبابعة اليمن من ولد حمير بن سبأ، خلا عمران وأخيه مزيقيا، فإنهما ابنا عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، والأزد من ولد كهلان بن سبأ، وفي ذلك خلاف، أما التبابعة فقد تقدم ذكرهم في الفصل الرابع مع ملوك العرب، فأغنى عن الإعادة، وأمّا هنا فنذكر أحياء عرب اليمن وقبائلهم المنسوبين إلى سبأ المذكور، ونبدأ بذكر بني حمير بن سبأ، فإذا انتهوا، ذكرنا كهلان بن سبأ، وكذلك حتى نأتي على ذكر بني سبأ إن شاء الله تعالى.

بني حمير بن سبأ من بني حمير التبابعة ملوك اليمن، وقد تقدم ذكرهم في الفصل الرابع، ومنهم: قضاعة، وهو قضاعة بن مالك بن حمير بن سبأ، وقيل قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ، وكان قضاعة المذكور مالكاً لبلاد الشحر، وقبر قضاعة في جبل الشحر.

ومن قضاعة أيضاً كلب وهم بنو كلب بن وبرة بن ثعلبة بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة، وكانت بنو كلب في الجاهلية ينزلون دومة الجندل وتبوك وأطراف الشام. ومن مشاهير كلب زهير بن جباب الكلبي، وقد ذكره صاحب كتاب الأغاني وأورد له شعراً، ومنهم: زهير بن شريك الكلبي وهو القائل:

ألا أصبحت أسماء في الخمر تعذل

وتزعم أني بالسفاه موكل

فقلت لها كفى عتابك نصطبح

وإلا فبيني فالتعزب أمثل

ومنهم: حارثة الكلب، وهو أبو زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد أصاب ابنه زيداً شبي في الجاهلية، فصار إِلى خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فوهبته من النبي عليه السلام، وأنشد ابن عبد البر في كتاب الصحابة لحارثة المذكور يبكي ابنه زيد لما فقده:

بكيت على زيد ولم أدر ما فعل

أحي يرجى أم أتى دونه الأجل

تذكرنيه الشمس عند طلوعها

ويعرض ذكراه إذا قارب الطفل

وإن هبّت الأرواح هيجن ذكره

فيا طول ما حزني عليه ويا وجل

ثم اجتمع بزيد أبوه حارثة، وهو عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخيره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختاره على أبيه وأهله.

ومن قبائل قضاعة بلي ومن قبائل قضاعة

ص: 100

تنوخ، وكان بينهم وبين اللخميين ملوك الحيرة حروب، ومن قضاعة بهرا، ومن قضاعة جهينة وهي قبيلة عظيمة ينسب إليها بطون كثيرة، وكانت منازلها بأطراف الحجاز الشمالي، من جهة بحر جدة.

ومن قبائل قضاعة بنو سليح، وكان لهم بادية الشام، فغلبتهم عليها ملوك غسان، وأبادوا بني سليح.

ومن قبائل قضاعة بنو نهد، رمن مشاهيرهم الصقعب بن عمرو النهدي، وهو أبو خالد بن الصقعب، وكان رئيساً في الإسلام.

ومن قضاعة بنو عذرة، ومنهم عروة بن حزام، وجميل صاحب بثينة.

ومن بطون حمير بنو شعبان، ومنهم الشعبي الفقيه، واسمه عامر. انتهى الكلام في بني حمير بن سبأ بني كهلان بن سبأ وصار من بني كهلان المذكور أحياء كثيرة، والمشهور منها سبعة وهي: الأزد، وطي، ومدحج، وهمذان، وكندة، ومراد، وأنمار، أما الأزد فهم من ولد الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ. ولنذكر قبائل الأزد حتى ينتهوا، ثم نذكر قبائل طي، ثم مذحج، ثم من بعده إلى آخرهم.

أما قبائل الأزد فمنهم: الغساسنة ملوك الشام، وهم بنو عمرو بن مازن بن الأزد، ومن الأزد الأوس والخزرج أهل يثرب، والمسلمون منهم هم الأنصار، رضي الله عنهم،. ومن الأزد: خزاعة وبارق ودوس والعتيك وغافق، فهؤلاء بطون الأزد.

أما خزاعة فإنها لما انخزعت عن غيرها من قبائل اليمن الذين تفرقوا بأيدي سبأ من سيل العرم، ونزلت ببطن مر على قرب من مكة، سميت خزاعة، وحصل لهم سدانة البيت والرياسة ولما أصطلح رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قريش في عام الحديبية، دخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهده، وقد اختلف في نسب خزاعة بين المعدية واليمانية، والأكثر أنها يمانية، والذي تنسب إليه خزاعة هو كعب ابن عمرو بن لحي بن حارثة بن عمرو مزيقياء بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد وقد تقدم ذكر عمرو مزيقياء في الفصل الرابع مع تبابعة اليمن. ما زالت سدانة البيت في خزاعة، حتى انتهت إلى رجل منهم يقال له أبو عبثان، وكان في زمان قصي بن كلاب، فاجتمع مع قصي في الطائف على شرب فأسكره قصي، وخدع أبا عبثان الخزاعي المذكور، واشترى منه مفاتيح الكعبة بزق خمر وأشهد عليه، فتسلم قصي المفاتيح، وأرسل ابنه عبد الدار بن قصي بها إلى مكة، فلما وصل إليها رفع صوته وقال: معاشر قريش، هذه مفاتيح بيت أبيكم إسماعيل عليه السلام، قد ردها الله عليكم من غير عار ولا ظلم فلما صحا أبو لبثان ندم حيث لا ينفعه الندم، فقيل أخسر من أبي عبثان، وأكثرت الشعراء القول في ذلك فمنه:

باعت خزاعة بيت الله إذ سكرت

بزق خمر فبئست صفقة البادي

ص: 101

باعت سدانتها بالنزر وانصرفت

عن المقام وظل البيت والنادي

وجمع قصي أشتات قريش وظهر على خزاعة، وأخرجها عن مكة، إلى بطن مر.

ومن خزاعة: بنو المصطلق الذين غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما بارق: فهم من ولد عمرو مزيقياء الأزدي. نزلوا جبلاً بجانب اليمن يقال له بارق، فسموا به. ومن مشاهيرهم معقر بن حمار البارقي، ذكره صاحب الأغاني، وهو صاحب القصيدة التي من جملتها البيت المشهور:

وألقت عصاها واستقر بها النوى

كما قر عيناً بالإياب المسافر

وأما دوس: فهو ابن عدنان بن عبد الله بن وهزان بن كعب بن الحارث بن كعب بن مالك بن نصر بن الأزد. وسكنت بنو دوس إحدى الشروات المطلة على تهامه، وكانت لهم دولة بأطراف العراق، وأول من ملك منهم: مالك بن فهم بن غنم ابن دوس. وقد تقدم ذكر مالك بن فهم المذكور، ومن ملك بعده في الفصل الرابع، المشتمل على ذكر ملوك العرب.

ومن الدوس أبو هريرة وقد اختلف في اسمه، والأكثر أن اسمه عمير بن عامر، وأمّا العتيك وغافق فقبيلتان مشهورتان في الإسلام، وهم من ولد الأزد.

ومن الأزد أيضاً بنو الجلندى ملوك عمان، والجلندى لقب لكل من ملك منهم عمان، وكان ملك عمان في أيام الإسلام قد انتهى إلى حبقر وعبد ابني الجلندى وأسلما مع أهل عمان على يد عمرو بن العاص. انتهى الكلام في الأزد.

الحي الثاني من بني كهلان وهم قبائل طي، ولما تفرقت اليمن بسبب سيل العرم، نزلت طي بنجد الحجاز، في جبلي أجأ وسلمى، فعرفا بجبلي طي إلى يومنا هذا.

وأما طي فهو أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ.

فمن بطون طي جديلة وتيهان وبولان وسلامان وهني وسدوس بضم السين.

وأمّا سدوس التي في قبائل ربيعة بن نزار، فمفتوحة السين.

ومن سلامان بنو بحتر ومن هني إياس بن قبيصة الذي ملك بعد النعمان، ومن طي عمرو بن المشيح وهو من بني ثعل الطائي، وكان عمرو أرمى وقته، وفيه يقول امرؤ القيس:

رب رام من بني ثعله

مخرج كفيه من ستره

ومن بني ثعل الطائي أيضاً: زيد الخيل، وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير.

ومن طي حاتم طي المشهور بالكرم.

وأما الحي الثالث من بني كهلان، فهم بنو مذحج مالك بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ. ولمذحج بطون كثيرة، فمنها: خولان وجنب، ومن جنب معاوية الخير الجنبي صاحب لواء مذحج في حرب بني وائل، وكان مع تغلب، وكان مذحج أود قبيلة الأفوه الأودي الشاعر، ومن مذحج بنو سعد العشيرة، وسمي بذلك لأنه لم يمت حتى ركب معه من ولده

ص: 102

وولد ولده ثلاثمائة رجل، وكان إذا سئل عنهم يقول: هؤلاء عشيرتي، دفعاً للعين عنهم، فقيل له سعد العشيرة لذلك، ومن بطون سعد العشيرة جعف وزبيد قبيلة عمرو بن معدي كرب ومن بطون مذحج أيضاً النخع ومنهم الأشتر النخعي، واسمه مالك بن الحارث، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن النخع سنان بن أنس قاتل الحسين، ومنهم أيضاً القاضي شريك، ومن مذحج عنس بالنون، وهي قبيلة الأسود الكذاب الذي ادعى النبوة باليمن، وعنس أيضاً رهط عمار بن ياسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما الحي الرابع من بني كهلان وهم همدان فهم من ولد ربيعة بن حيان بن مالك بن زيد بن كهلان، ولهم صيت في الجاهلية والإسلام.

وأما الحي الخامس من بني كهلان وهم كندة، فهم بنو ثور وثور المذكور هو كندة بن عفير بن الحارث من ولد زيد بن كهلان، وسمي كندة لأنه كندابا، أي كفر نعمته، وبلاد كندة باليمن تلي حضرموت، وقد تقدم ذكر ملوك كندة في الفصل الرابع عند ذكر ملوك العرب، ومن كندة حجر بن عدي صاحب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو الذي قتله معاوية صبراً، ومنهم القاضي شريح، ومن بطون كندة السكاسك والسكون بنو شرس بن كندة، فمن السكون معاوية بن خديج قاتل محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما، ومنهم حصين بن نمير السكوني، الذي صار صاحب جيش يزيد بن معاوية بعد مسلم بن عقبة، نوبة وقعة الحرة بظاهر مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وأما الحي السادس من أحياء بني كهلان وهم بنو مراد فبلادهم إلى جانب زبيد، من جبال اليمن، وإليه ينتسب كل مرادي من عرب اليمن.

وأما الحي السابع من أحياء بنو كهلان فهم بنو أنمار بن كهلان ولأنمار فرعان، وهما بجيلة وخثعم، وبجيلة هي رهط جرير بن عبد الله البجلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقال لجرير المذكور يوسف الأمة، لحسنه، وفيه قيل:

لولا جرير هلكت بجيلة

نعم الفتى وبئست القبيلة

انتهى الكلام في بني كهلان بن سبأ.

بني عمرو بن سبأ أما القبائل المنتسبة إلى عمرو بن سبأ فمنهم: لخم بن عدي بن عمرو بن سبأ، ومن لخم بنو الدار رهط تميم الداري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن لخم المناذرة ملوك الحيرة، وهم بنو عمرو بن عدي بن نصر اللخمي، وكانت دولتهم من أعظم دول ملوك العرب. وقد تقدم ذكرهم في الفصل الرابع مع باقي ملوك العرب، فأغنى عن الإعادة، ومن

ص: 103

أن المسيح ناسوت كلي، وهو قديم أزلي من قديم أزلي، وقد ولدت مريم إلهاً أزلياً، والقتل والصلب وقعا على الناسوت واللاهوت معاً، وأطلقوا لفظ الأبوة والبنوة على الله تعالى وعلى المسيح حقيقة، وذلك لما وجدوا في الإنجيل: إنك أنت الابن الوحيد، ولما رووا عن المسيح أنه قال حين كان يصلب: أذهب إلى أبي وأبيكم.

وحرموا أريوس لما قال: القديم هو الله تعالى والمسيح مخلوق، واجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة بالقسطنطينية، بمحضر من قسطنطين ملكهم، وكانوا ثلاثمائة ثلاثة عشر رجلاً، واتفقوا على هذه الكلمة اعتقاداً ودعوة وذلك قولهم: نؤمن بالله الواحد الأب مالك كل شيء وصانع ما يرى وما لا يرى، وبالابن الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد بكر الخلائق كلها، وليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، الذي بيده اتفقت العوالم، وكل شيء الذي من أجلنا وأجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب ودفن ثم قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحق الذي يخرج من أبيه، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسية مسيحية جاثليقية، وبقيام أبداننا، وبالجياة الدائمة أبد الآبدين.

هذا هو الاتفاق الأول على هذه الكلمات، ووضعوا شرائع النصارى واسم الشريعة عندهم الهيمانوت.

وأما النسطورية فهم أصحاب نسطورس، وهم عند النصارى كالمعتزلة عندنا، خالفت النسطورية الملكانية في اتحاد الكلمة، فلم يقولوا بالامتزاج، بل إن الكلمة أشرقت على جسد المسيح كإشراق الشمس في كوة، أو على بلور، وقالت النسطورية أيضاً: إن القتل وقع على المسيح من جهة ناسوته، لا من جهة لاهوته، خلافاً للملكانية.

وأما اليعقوبية وهم أصحاب يعقوب البردغادي وكان راهباً بالقسطنطينية، فقالوا إن الكلمة انقلبت لحماً ودماً، فصار الإله هو المسيح.

قال ابن حزم: واليعقوبية يقولون: إن المسيح هو الله قتل وصلب ومات، وإن العالم بقي ثلاث أيام بلا مدبر، وعنهم أخبر القرآن العزيز بقوله تعالى:" لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم "" المائدة: 72، " ومن كتاب ابن سعيد المغربي قال: البطارقة للنصارى بمنزلة الأئمة أصحاب المذاهب للمسلمين، والمطارنة مثل القضاة، والأساقفة مثل المفتين، والقسيسون بمنزلة القراء، والجاثليق بمنزلة الإمام الذي يؤم في الصلاة، والشمامسة بمنزلة المؤذنين وقومة المساجد، وأما صلوات النصارى فإنها سبع، عند الفجر والضحى والظهر والعصر والمغرب والعشاء ونصف الليل، يقرؤون فيها بالزبور المنزل على داود تبعاً لليهود في ذلك، والسجود في صلاتهم غير محدود، قد يسجدون في الركعة الواحدة خمسين سجدة، ولا يتوضؤون للصلاة، وينكرون الوضوء على المسلمين واليهود، ويقولون الأصل طهارة القلب.

ومما نقلناه من كتاب نهاية الإدراك في دراية الأفلاك للخرقي في الهيئة، أن للنصارى أعياداً وصيامات، فمنها صومهم الكبير، وهو صوم تسعة وأربعين يوماً، أولها يوم الاثنين وهو أقرب اثنين إلى الاجتماع الكائن فيما بين اليوم الثاني من شباط، إلى اليوم الثامن من آذار، فأي اثنين كان أقرب إليه، إما قبل الاجتماع وإما بعده، فهو رأس صومهم، وفطرهم أبداً يكون يوم الأحد الخمسين من هذا الصوم، وسبب تخصيصهم هذا الوقت بالصوم، أنهم يعتقدون أن البعث والقيامة في مثل يوم الفصح، وهو اليوم الذي قام فيه المسيح من قبره بزعمهم.

ومن أعيادهم الشعانين الكبير وهو يوم الأحد الثاني والأربعون من الصوم، وتفسير الشعانين التسبيح، لأن المسيح دخل يوم الشعنينة المذكورة إلى القدس، راكب أتان يتبعها جحش، فاستقبله الرجال والنساء والصبيان وبأيديهم ورق الزيتون، وقرؤوا بين يديه التوراة إلى أن دخل بيت المقدس، واختفى عن اليهود يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء، وغسل في يوم الأربعاء أيدي صحابه الحواريين وأرجلهم، ومسحها في ثيابه، وكذلك يفعله القسيسون بأصحابهم في هذا اليوم، ثم أفصح في يوم الخميس بالخبز والخمر، وصار إلى منزل واحد من أصحابه، ثم خرج المسيح ليلة الجمعة إلى الجبل، فسعى به يهوذا وكان أحد تلامذته إلى كبراء اليهود، وأخذ منهم ثلاثين درهماً رشوة، ودلهم عليه، فألقى الله شبه المسيح على المذكور، فأخذوه وضربوه ووضعوا على رأسه إكليلاً من الشوك، وأنالوه كل مكره وعذبوه بقية تلك الليلة، أعني ليلة الجمعة إلى أن أصبحوا فصلبوه بزعمهم أنه المسيح، على ثلاث ساعات من يوم الجمعة، على قول متى ومرقوس ولوقا، وأما يوحنا فإنه زعم أنه صلب على مضي ست ساعات من النهار المذكور، ويسمى جمعة الصلوب وصلب معه لصان على جبل يقال له الجمجمة واسمه بالعبرانية كاكله وماتوا على ما زعموا في الساعة التاسعة، ثم استوهب يوسف النجار، وهو ابن عم مريم المسيح من قائد اليهود هيروذس، واسمه فيلاطوس، وكان ليوسف المذكور منزلة ومكانة عنده فوهبه إياه فدفنه يوسف في قبر كان أعده لنفسه، وزعمت النصارى أنه مكث في القبر ليلة السبت ونهار السبت وليلة الأحد ثم قام صبيحة يوم الأحد الذي يفطرون فيه، ويسمون النصارى ليلة السبت بشارة الموتى بقدوم المسيح.

ولهم الأحد الجديد وهو أول أحد بعد الفطر، ويجعلونه مبدأ للأعمال وتاريخاً للشروط والقبالات.

ولهم عيد السلاقا ويكون يوم الخمسين، بعد الفطر بأربعين يوماً، وفيه تسلق المسيح مصعداً إِلى السماء، من طور سيناء.

ولهم عيد الفنطي قسطي وهو يوم الأحد بعد السلاقا بعشرة أيام. واسمه مشتق من الخمسين بلسانهم، وفيه تجلى المسيح لتلامذته وهم السليحيون، ثم تفرقت ألسنتهم وتوجهت كل فرقة إلى موضع لغتها.

ولهم الدنح وهو سادس كانون الثاني، وهو اليوم الذي غمس فيه يحيى بن زكريا الميسح في نهر الأردن.

ص: 104

من قصيدته التي منها:

وكنا ولاة البيت من بعد نابت

نطوف بذاك البيت والأمر ظاهر

ومنها:

كأن لم يكن بين الحجون إِلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

إلى نحن كنا أهلها فأبادنا

صروف الليالي والجدود العواثر

ثم ولد لقيذار ابنه حمل بن قيذار، ثم ولد لحمل نبت بن حمل، ويقال له نابت، وقيل نبت بن قيذار، وقيل نبت بن إِسماعيل وفي ذلك خلاف كثير، ثم ولد لنبت سلامان بن نبت، ثم ولد لسلامان الهميسع بن سلامان بن نبت، ثم ولد للهميسع اليسع بن الهميسع، ثم ولد لليسع أدد بن اليسع بن الهميسع، ثم ولد لأدد ابنه أد بن أدد، ثم ولد لأد ابنه عدنان بن أد بن أدد، وقيل عدنان بن أدد، ثم ولد لعدنان معد، ثم ولد لمعد نزار، ثم ولد لنزار أربعة منهم مضر على عمود النسب النبوي وثلاثة خارجون عن عمود النسب، أولهم إِياد، وكان أكبر من مضر، وإلى إِياد بن نزار المذكور يرجع كل إِيادي من بني معد، وفارق إِياد الحجاز وسار بأهله إِلى أطراف العراق، فمن بني إِياد كعب بن مامة الإيادي، وكان يضرب بجوده المثل، وقس بن ساعدة الإيادي، وكان يضرب بفصاحته المثل.

والثاني من بني نزار ربيعة بن نزار، ويعرف بربيعة الفرس، لأنه ورث الخيل من ماله أبيه، وولد لربيعة المذكور أسد وضبيعة ابنا ربيعة، فولد لأسد جديلة وعنزة، ومن جديلة وائل، ومن وائل بكر وتغلب ابنا وائِل، فمن تغلب كليب ملك بني وائِل الذي قتله جساس، فهاجت بسبب قتله الحرب بين بني وائِل وبين بني بكر وبين بني تغلب حسبما تقدم ذكره في الفصل الرابع، ومن بكر بن وائل بنو شيبان، ومن رجالهم مرة وابنه جساس قاتل كليب، وطرفة بن العبد الشاعر، ومن بكر أيضاً المرقشان الأكبر والأصغر، ومن بكر بن وائل أيضاً بنو حنيفة، ومنهم مسيلمة الكذاب.

وأما عنزة بن أسد بن ربيعة المذكور، فمنه بنو عنزة، وهم أهل خيبر، ومن بني عنزة القارظان.

وأما ضبيعة بن ربيعة فمن ولده المتلمس الشاعر، ومن قبائِل ربيعة النمر ولجيم والعجل وبنو عبد القيس، وهو من ولد أسد بن ربيعة، ومن بني ربيعة سدوس واللهازم.

والثالث أنمار بن نزار، ومضى أنمار إلى اليمن فتناسل بنوه بتلك الجهات، وحسبوا من العرب اليمانية، ثم ولد لمضر المقدم الذكر إِلياس بن مضر على عمود النسب، وولد له خارجاً عن عمود النسب قيس عيلان بن مضر، ويقال: قيس بن عيلان بن مضر، وعيلان بالعين المهملة، قيل إِن عيلان فرسه، وقيل كلبه، وقيل بل عيلان هو أخو إِلياس، واسم عيلان إِلياس بن مضر، وولد لعيلان قيس بن عيلان، وقد جعل الله تعالى لقيس المذكور من الكثرة أمراً عظيماً، فمن ولده: قبائل هوازن ومن هوازن

ص: 105

بنو سعد بن بكر بن هوازن الذين كان فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رضيعاً، ومن قبائل قيس بنو كلاب وصار منهم أصحاب حلب، وكان أولهم صالح بن مرادس، ومن قيس قبائل عقيل الذين كان منهم ملوك المَوْصِل، المقلد وقرواش وغيرهما، ومن ولد قيس أيضاً بنو عامر وصعصعة وخفاجة، وما زالت لخفاجة إِمرة العراق من قديم وإلى الآن، ومن هوازن أيضاً بنو ربيعة بن عامر بن صَعْصَعة بن معاوية بنٍ بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان. ومن هوازن أيضاً جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن، ومن جشم دريد ابن الصمة، ومن قيس أيضاً بكر وبنو هلال وثقيف، واسم ثقيف عمرو بن منبه بن بكر بن هوازن، وقد قيل: إِن ثقيفاً من إِياد، وقيل من بقايا ثمود، وهم هل الطائف.

ومن قيس أيضاً بنو نمير وبأهلة ومازن وغطفان، وهو ابن سعد بن قيس عيلان، ومن قيس أيضاً بنو عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان، وكان بين عبس وذبيان حرب داحس المقدم ذكرها في الفصل الرابع، ومن بني عبس أيضاً عنترة العبسي ودعاه أبوه شداد بعد الكبر، ومن قيس أشجع، وهم أيضاً من ولد غطفان. ومن قيس أيضاً قبائل سليم، ومن قيس أيضاً بنو ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان. ومن بني ذبيان المذكورين بنو فزارة، فمنهم حصن بن حذيفة بن بدر الذي يمدحه زهير بقوله شعر:

تراه إِذا ما جئته متهللا

كأنك تعطيه الذي أنت سائله

وأسلم حصن، ثم نافق، وكان بين بني ذبيان وبين عبس الحرب المشهورة بحرب داحس، وهو اسم حصان تسابقوا به واختلفوا بسبب السباق، فثارت الحرب بينهم أربعين عاماً، ومن بني ذبيان أيضاً النابغة الذبياني الشاعر المشهور. ومن قبائل قيس عدوان بن عمرو بن قيس عيلان، وكانوا ينزلون الطائف قبل ثقيف، ومنهَم ذو الإصبع العدواني الشاعر.

انتهى الكلام على قيس بن مضر الخارج عن عمود النسب.

ولنرجع إلى ذكر إلياس بن مضر. وولد لإلياس مدركة على عمود النسب، وولد له خارجاً عن عمود النسب طابخة بن إِلياس، وبعضهم ينسب مدركة وطابخة إِلى أمهما خندف، واسمها ليلى بنت حلوان بن عمران بن إِلحاف بن قضاعة، وجميع ولد إلياس من خندف المذكورة، وإليها ينسبون دون أبيهم، فيقولون بنو خندف، ولا يذكرون إِلياس بن مضر، وصار من طابخة الخارج عن عمود النسب عدة قبائل، فمنهم بنو تميم بن طابخة والرباب وبنو ضبة وبنو مزينة، وهم بنو عمرو بن إِد بن طابخة، نسبوا إِلى أمهم مزينة ابنة كلب بن وبرة، ثم ولد لمدركة ابن إِلياس المذكور خزيمة بن مدركة على عمود النسب، وولد لمدركة خارجاً عن عمود النسب هذيل بن مدركة، ومن هذيل المذكور جميع قبائل الهذليين.

ص: 106

فمنهم عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو ذؤيب الهذلي الشاعر، وغيره، ثم ولد لخزيمة بن مدركة المذكور كنانة بن خزيمة على عمود النسب، وولد له خارجاً عن عمود النسب الهون وأسد ابنا خزيمة، فمن الهون عضل وهي قبيلة أبوهم عضل بن الهون بن خزيمة، ومنه أيضاً الديش بن الهون، وهو أخو عضل، ويقال لهاتين القبيلتين وهما عضل والديش القارة. وأما أسد بن خزيمة فمنه الكاهلية ودودان وغيرهما، وإليه يرجع كل أسدي، ثم ولد لكنانة بن خزيمة المذكور النضر بن كنانة على عمود النسب، وكان للنضر المذكور عدة أخوة ليسوا على عمود النسب، وهم ملكان وعبد مناة وعمرو وعامر ومالك أولاد كنانة، فصار من ملكان بنو ملكان، وصار من عبد مناة عدة بطون وهم: بنو غفار رهط أبي ذر. وبنو بكر، ومن بني بكر الدئل رهط أبي الأسود الدؤلي، ومن بطون عبد مناة أيضاً بنو ليث وبنو الحارثة وبنو مدلج وبنو ضمرة، وصار من عمرو بن كنانة العمريون.

ومن أخيث عامر العامريون. ومن مالك ين كنانة بنو فراس. ومن بطون كنانة الأحابيش، وكان الحليس بن عمرو ريس الأحابيش نوبة أحد، ومن لم يقف على ذلك، إِذا سمع ذكر الأحابيش في نوبة أحد، ظن أنهم من الحبشة، وليس كذلك، بل هم عرب من بني كنانة، كذا ذكره في العقد، وهؤلاء أخوة النضر بن كنانة، وولدهم، وأما النضر المذكور فقد قيل إِنه قريش، والصحيح أن قريشاً هم بنو فهر الذي سنذكره، وولد لنضر المذكور مالك بن النضر على عمود النسب، ولم يشتهر له ولد غيره، ثم ولد لمالك فهر بن مالك على عمود النسب. وفهر المذكور هو قريش، فكل من كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس قرشياً، وقيل سمي قريشاً لشدته، تشبيهاً له بدابة من دواب البحر، يقال لها القرش، تأكل دواب البحر وتقهرهم، وقيل إِن قصي بن كلاب لما استولى على البيت وجمع أشتات بني فهر سموا قُرَيشاً، لأنه قرش بني فهر أي جمعهم حول الحرم، فقيل لهم قريش. - كذا نقله ابن سعيد المغربي - فعلى هذا يكون لفظة قريش، اسماً لبني فهر، لا لفهر نفسه، ولم يولد لمالك غير فهر المذكور على عمود النسب، وولد لفهر غالب على عمود النسب، وولد له خارجاً عن عمود النسب ولدان وهما محارب والحارث ابنا فهر، فمن محارب بنو محارب، ومن الحارث بنو الخلج، ومنهم أبو عبيدة بن الجراح أحد العشرة، رضي اللهّ تعالى عنهم، ثم ولد لغالب لؤي على عمود النسب، وولد له خارجاً عن عمود النسب تيم الأدرم، والأدرم الناقص الذقن. ومن تيم المذكور بنو الأدرم، ثم ولد للؤي المذكور ستة أولاد، وهم كعب على عمود النسب، وأخوته الخمسة خارجون عن عمود النسب، وهم سعد وخزيمة والحارث وعامر وأسامة، أولاد لؤي بن غالب، ولكل منهم ولد

ص: 107

ينسبون إِليه خلا الحارث منهم، ومن ولد عامر بن لؤي عمرو بن عبد ود فارس العرب الذي قتله علي بن أبي طالب، ثم ولد لكعب مرة على عمود النسب، وولد له خارجاً عن عمود النسب، هصيص وعدي ابنا كعب، فمن هصيص بنو جمح ومن مشاهيرهم أمية بن خلف عدو‌

‌ رسول الله

صلى الله عليه وسلم، وأخوه أبي بن خلف، وكان مثله في العداوة. ومن هصيص أيضاً بنو سهم. ومن بني سهم عمرو بن العاص، ومن عدي بن كعب بنو عدي. ومنهم عمر بن الخطاب، وسعيد بن زيد، من العشرة رضي الله عنهما، ثم ولد لمرة على عمود النسب كلاب، وولد له خارجاً عن عمود النسب، تيم ويقظة ابنا مرة، فمن تيم بنو تيم، ومنهم أبو بكر الصديق، وطلحة، من العشرة رضي الله عنهما، ومن يقظة بنو مخزوم، نسب خالد بن الوليد رضي الله عنه، وأبي جهل بن هشام، واسمه عمرو وبن هشامٍ المخزومي، ثم ولد لكلاب قصي بن كلاب على عمود النسب، وولد له خارجاً عن عمود النسب زهرة بن كلاب، ومنه بنو زهرة، ونسب سعد بن أبي وقاص أحد العشرة ونسب آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وقصي المذكور كان عظيماً في قريش، وهو الذي ارتجع مفاتيح الكعبة من خزاعة حسبما تقدم ذكر ذلك، وهو الذي جمع قريشاً وأثل مجدهم، ثم ولد لقصي المذكور عبد مناف بن قصي على عمود النسب، وولد له خارجاً عن عمود النسب عبد الدار وعبد العزى ابنا قصي فمن عبد الدار: بنو شيبة الحجبة. ومن ولد عبد الدار النضر بن الحارث، وكان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبراً، يوم بدر، ومن ولد عبد العزى بن قصي الزبير بن العوام أحد العشرة، ومن ولد عبد العزى أيضاً خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بني عبد العزى أيضاً ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وولد لعبد مناف هاشم على عمود النسب، وولد له خارجاً عن عمود النسب عبد شمس والمطلب ونوفل أولاد عبد مناف، فمن عبد شمس أمية ومنه بنو أمية، ومنهم عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس. ومعاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية، وسعيد بن العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية، وعتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وبنت عتبة المذكور هند أم معاوية، وقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة صبراً يوم بدر، ومن المطلب بن عبد مناف المطلبيون، ومنهم الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى. ومن نوفل النوفليون، ثم ولد لهاشم عبد المطلب على عمود النسب، ولم يعلم لهاشم ولد غيره، وولد لعبد المطلب عبد الله على عمود

النسب، وولد له خارجاً عن عمود النسب جميع أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم حمزة والعباس وأبو طالب وأبو لهب والغيداق، ومنهم من يقول هو حجل الذي سنذكره. والحارث وحجل والمقوم وضرار والزبير وقثم، درج صغيراً وعبد الكعبة، ومنهم من يقول: إِن عبد الكعبة هو المقوم، ثم ولد لعبد الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في عام الفيل. وولد له خارجاً عن عمود النسب جميع أعمام

ص: 108

رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم حمزة والعباس وأبو طالب وأبو لهب والغيداق، ومنهم من يقول هو حجل الذي سنذكره. والحارث وحجل والمقوم وضرار والزبير وقثم، درج صغيراً وعبد الكعبة، ومنهم من يقول: إِن عبد الكعبة هو المقوم، ثم ولد لعبد الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في عام الفيل.

ولنذكر أولاً قصة الفيل، ثم‌

‌ مولده

صلى الله عليه وسلم. من الكامل لابن الأثير قال: إِنّ الحبشة ملكوا اليمن بعد حمير، فلما صار الملك إِلى أبرهة منهم بنى كنيسة عظيمة، وقصد أن يصرف حج العرب إِليها ويبطل الكعبة الحرام، فجاء شخص من العرب وأحدث في تلك الكنيسة، فغضب أبرهة لذلك، وسار بجيشه ومعه الفيل، وقيل كان معه ثلاثة عشر فيلاً ليهدم الكعبة، فلما وصل إِلى الطائف، بعث الأسود بن مقصود إِلى مكة، فساق أموال أهلها وأحضرها إِلى أبرهة، وأرسل أبرهة إِلى قريش وقال لهم: لست أقصد الحرب، بل جئت لأهدم الكعبة، فقال عبد المطلب: والله ما نريد حربه، هذا بيت الله، فإِن منع عنه فهو بيته وحرمه، وإن خلا بينه وبينه، فوالله ما عندنا من دفع، ثم انطلق عبد المطلب مع رسول أبرهة إليه، فلما استؤذن لعبد المطلب قالوا لأبرهة: هذا سيد قريش، فأذن له أبرهة وأكرمه، ونزل عن سريره وجلس معه، وسأله في حاجته، فذكر عبد المطلب أباعره التي أخذت له، فقال أبرهة: إِني كنت أظن أنك تطلب مني أن لا أخرب الكعبة التي هي دينك: فقال عبد المطلب: أنا رب الأباعر فأطلبها، وللبيت رب يمنعه فأمر أبرهة برد أباعره عليه، فأخذها عبد المطلب وانصرف إِلى قريش، ولما قارب أبرهة مكة وتهيأ لدخولها، بقي كلما أقبل فيله مكة، وكان اسم الفيل محموداً ينام ويرمي بنفسه إِلى الأرض، ولم يسر، فإِذا أقبلوه غير مكة قام يهرول، وبينما هم كذلك إذ أرسل الله عليهم طيراً أبابيل، أمثال الخطاطيف، مع كل طائر ثلاثة أحجار في منقاره ورجليه فقذفتهم بها، وهي مثل الحمص والعدس، فلم يصب أحداً منهم، إلا هلك. وليس كلهم أصابت، ثم أرسل الله تعالى سيلاً، فألقاهم في البحر، والذي سلم منهم ولى هارباً مع أبرهة إِلى اليمن يبتدر الطريقَ، وصاروا يتساقطون بكل منهل وأصيب أبرهة في جسده وسقطت أعضاؤه، ووصل إِلى صنعاء كذلك ومات، ولما جرى ذلك خرجت قريش إلى منازلهم، وغنموا من أموالهم شيئاً كثيراً، ولما هلك أبرهة، ملك بعده ابنه يكسوم، ثم أخوه مسروق بن أبرهة، ومنه أخذت العجم اليمن.

انتهى الكلام في الفصل الخامس وهو آخر التواريخ القديمة ومن هنا نشرع في التواريخ الإسلامية.

‌الفصل السادس

التاريخ الإسلامي

رسول الله

مولده

‌صلى الله عليه وسلم وذكر شيء من شرف بيته الطاهر

أما أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عبد الله بن عبد المُطلب المذكور، وكانت

ولادة عَبْد الله المذكور قبل الفيل بخمس وعشرين سنة، وكان أبوه يحبه لأنه كان

ص: 109

أحسن أولاده وأعفهم، وكان أبوه قد بعثه يمتار له، فمر عبد الله المذكور بيثرب فمات بها، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شهران، وقيل كان حملاً، ودفن عبد الله في دار الحارث بن إِبراهيم بن سراقة العدوي، وهم أخوال عبد المطلب، وقيل دفن بدار النابغة ببني النجار. وجميع ما خلفه عبد الله خمسة أجمال وجارية حبشية، اسمها بركة وكنيتها أم أيمن، وهي حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، زوج عبد الله، وأبوه عبد المطلب، وأمّا آمنة أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، وهو قريش، فخطب عبد المطلب من وهب المذكور - وكان وهب حينئذ سيد بني زهرة - ابنته آمنة، لعبد الله، فزوّجه بها، فولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم الاثنين، لعشر خلون من ربيع الأول، من عام الفيل. وكان قدوم الفيل في منتصف المحرّم تلك السنة، وهي السنة الثامنة والأربعون من ملك كسرى أنوشروان، وهي سنة إِحدى وثمانين وثمانمائة لغلبة الإِسكندر على دارا، وهي سنة ألف وثلاثمائة وست عشرة لبخت نصر.

ومن دلائل النبوة للحافظ أبي بكر أحمد البيهقي الشافعي قال: وفي اليوم السابع من ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذبح جده عبد المطلب عنه، ودعا له قريشاً، فلما أكلوا قالوا: يا عبد المطلب، أرأيت ابنك هذا الذي أكرمتنا على وجهه، ما سميته؟ قال: سميته محمداً. قالوا: فيم رغبت به عن أسماء أهل بيته؟ قال: أردت أن يحمده الله تعالى في السماء، وخلقه في الأرض، وروى الحافظ المذكور بإِسناده المتصل بالعباس رضي الله عنه قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختوناً مسروراً. قال: فأعجب جده عبد المطلب، وحظي عنده، وقال: ليكونن لابني هذا شأن.

وذكر الحافظ المذكور إِسناداً ينتهي إلى مخزوم بن هانئ المخزومي عن أبيه قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الَله صلى الله عليه وسلم، ارتجس إِيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان وهو قاضي الفرس في منامه إِبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها، فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك، واجتمع بالموبذان فقص عليه ما رأى، فقال كسرى: أي شيء يكون هذا، فقال الموبذان: وكان عالماً بما يكون، حدث من جهة العرب أمر. فكتب كسرى إِلى النعمان بن المنذر: أما بعد: فوجه إليّ برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه، فوجّه النعمان بعبد المسيح بن عمرو بن حنان الغساني. فأخبره كسرى بما كان من ارتجاس الإِيوان وغيره فقال له: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح. قال كسرى فاذهب إِليه وسله وأتني بتأويل ما عنده. فسار عبد المسيح حتى قدم على سطيح

ص: 110

وقد أشفى على الموت، فسلم عليه وحياه، فلم يحر جواباً فأنشد عبد المسيح يقول:

أصمّ أمْ يسمع غطريف اليمن

أمْ فاد فازلَمَ به شأو العنن

يا فاضِلَ الخطةَ أعيت مَنْ ومَنْ

وكاشِفَ الكُربَة عن وجه الغضن

أتاكَ شيخُ الحيِّ من آل سنن

وأمه من آل ذيب بن حجن

أبيضَ فضفاضِ الرداءِ والبدن

رسول قيلَ العجمُ يسري بالوسن

لا يرهبُ الرعدَ ولا ريبَ الزمنْ

تجوب في الأرض علنِدات شجن

ترفعني وجناً وتهوي بي وجن

قال: ففتح سطيح عينيه ثم قال: عبد المسيح، على جمل مشيح، أتى إِلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إِبلاً صعاباً تقوم خيلاً عراباً، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها. يا عبد المسيح إِذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وخمدت نار فارس، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، فليس الشام لسطيح شاماً، يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت. ثم قضى سطيح مكانه، ثم قدم عبد المسيح على كسرى وأخبره بقول سطيح، فقال: إِلى أن يملك منا أربعة عشر ملكاً كانت أمور فملك منهم عشرة في أربع سنين، وذكر في العقد أن سطيحاً كان على زمن نزار بن معد بن عدنان، وهو الذي قسم الميراث بين بني نزار وهم مضر وأخوته.

وأما شرف النبي‌

‌‌

‌ صلى الله عليه وسلم

، وشرف أهل بيته، فقد روى الحافظ البيهقي المذكور، بإِسناد يرفعه إلى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم. قال: قلت يا رسول الله، إِن قريشاً إِذا التقوا، لقي بعضهم بعضاً بالبشاشة، وإذا لقونا، لقونا بوجوه لا نعرفها. فغضب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، عند ذلك غضباً شديداً، ثم قال:" والذي نفس محمد بيده، لا يدخل قلب رجل الإِيمان، حتى يحبكم لله ولرسوله ".

وذكر في موضع آخر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: إِنا لقعود بفناء رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِذ مرت به امرأة، فقال بعض القوم: هذه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو سُفيان: مثل محمد في بني هشام مثل الريحانة في وسط النتن. فانطلقت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال:" ما بال أقوام تبلغني عن أقوام، إِنَّ الله عز وجل خلق السموات سبعاً، فاختار العُلى منها، فأسكنها من شاء من خلقه، ثم خلق الخلق، فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشاً، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم ".

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه

ص: 111

وسلم قال لي جبرائيل، قلبت الأرض مشارقها ومغاربها، فلم أجد رجلاً أفضل من مُحمد، وقلبت الأرضَ مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم.

‌نسب رسول الله

صلى الله عليه وسلم

قد تقدم في آخر الفصل الخامس ذكر بني إِسماعيل عليه السلام الذين على عمود نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخارجين عن عمود النسب. وأما نسبة عليه السلام سرداً، فهو أبو القاسم، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إِلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

ونسبه صلى الله عليه وسلم إِلى عدنان، متفق عليه من غير خلاف، وعدنان من ولد إِسماعيل ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام من غير خلاف، ولكن الخلاف في عدة الآباء الذين بين عدنان وإسماعيل عليه السلام فعد بعضهم بينهما نحو أربعين رجلاً، وعد بعضهم سبعة، وروي عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عدنان بن أدد بن زيد بن برا بن أعراق الثرى. فقالت أم سلمة: زيد هميسع وبرا نبت وإسماعيل أعراق الثرى.

والذي ذكره البيهقي قال: عدنان بن أدد بن المقوم بن ناحور بن تارح بن يعرب بن يشحب بن نابت بن إِسماعيل بن إِبراهيم الخليل عليهما السلام.

وأما الذي ذكره الجواني النسابة في شجرة النسب وهو المختار: فهو عدنان بن أد بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيذار بن إِسماعيل عليه السلام، وقد تقدم نسب إِسماعيل مع نسب إِبراهيم الخليل عليهما السلام، مستقصى في موضعه من الفصل الأول فأغنى عن الإعادة. قال: البيهقي المذكور وكان شيخنا أبو عبد الله الحافظ يقول نسبة رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة إِلى عدنان وما وراء عدنان فليس فيه شيء يعتمد عليه.

‌رضاع رسول الله

صلى الله عليه وسلم

وأول من أرضعته بعد أمه ثويبة مولاة عمه أبي لهب، وكان لثويبة المذكورة ابن اسمه مسروح، فأرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن ابنها مسموح المذكور، وأرضعت أيضاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن مسروح المذكور، حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا سلمة ابن عبد الأسد المخزومي، فهما أخوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع.

‌رضاعه من حليمة السعدية

صلى الله عليه وسلم من حليمة السعدية كانت المراضع يقدمن من البادية إِلى مكة، يطلبن أن يرضعن الأطفال فقدمت عدة منهن،

ص: 112

وأخذت كل واحدة طفلاً، ولم تجد حليمة طفلاً تأخذه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يتيماً قد مات أبوه عبد الله، فلذلك لم يرغبن في أخذه، لأنهن كن يرجين الخير من أبي الطفل، ولا يرجين أمه، فأخذته حليمة بنت أبي ذؤيب بن الحارث السعدية، وتسلمته من أمه آمنة وأرضعته، ومضت به إِلى بلادها، وهي بادية بني سعد، فوجدت من الخير والبركة ما لم تعهده قبل ذلك، ثم قدمت به إِلى مكة، وهي أحرص الناس على مكثه عندها، فقالت لأمه آمنة: لو تركت ابنك عندي حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وباء مكة، ولم تزل بها حتى تركته معها، فأخذته وعادت به إلى بلاد بني سعد، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك، ولما كان بعض الأيام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخيه. الرضاع، خارجاً عن البيوت، إِذ أتى ابن حليمة أمه وقال لها: ذلك القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه وشقا بطنه، فخرجت حليمة وزوجها نحوه، فوجداه قائماً، فقالا: مالك يا بني فقال: " جاءني رجلان فأضجعاني وشقا بطني. فقال زوج حليمة لها: قد حسبت أن هذا الغلام قد أصيب، فألحقيه بأهله. فاحتملته حليمة وقدمت به على أمه آمنة. فقالت آمنة: ما أقدمك به وكنت حريصة عليه، فأبدت حليمة عذراً لم تقبله آمنة منها، وسألتها عن الصحيح. فقالت حليمة: أتخوف عليه من الشيطان. فقالت أمه آمنة: كلا، والله ما للشيطان عليه من سبيل، إِن لابني شأناً، وأخوة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع، عبد الله وأنيسة وجذامة وهي الشيماء غلب ذلك على اسمها، وأمهم حليمة السعدية، وأبوهم الحارث بن عبد العزى السعدي وهو أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع.

وقدمت حليمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن تزوج بخديجة، وشكت الجدب، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها خديجة، فأعطتها أربعين شاة. ثم قدمت حليمة وزوجها الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النبوة، فأسلمت هي وزوجها الحارث، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم مح أمه آمنة، فلما بلغ ست سنين توفيت أمه بالأبواء، بين مكة والمدينة، وكانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار، تزيره إِياهم فماتت وهي راجعة إِلى مكة، وكفله جده عبد المطلب، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين، توفي جده عبد المطلب، ثم قام بكفالته عمه أبو طالب بن عبد المطلب، وكان أبو طالب شقيق عبد الله أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم خرج به أبو طالب في تجارة إِلى الشام، حتى وصل إِلى بصرى، وعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذ ذاك ثلاث عشرة سنة، وكان بها راهب يقال له بحيرا، فقال لأبي طالب: ارجع بهذا الغلام، واحذر عليه من اليهود، فإِنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فخرج به عمه أبو طالب حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته، وشب رسول الله صلى الله عليه

ص: 113

وسلم حتى بلغ، فكان أعظم الناس مهرة وحلماً، وأحسنهم جواباً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش، حتى صار اسمه في قومه الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة، وحضر مع عمومته حرب الفجار وعمره أربع عشرة سنة؛ وهي حرب كانت بين قريش وكنانة وبين هوازن، وسميت بالفجار لما انتهكت فيها هوازن حرمة الحرم، وكانت الكرة في هذه الحرب أولاً على قريش وكنانة، ثم كانت على هوازن، وانتصر قريش.

‌سفرة رسول الله

‌صلى الله عليه وسلم

إِلى الشام في تجارة لخديجة

كانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب تاجرة ذات شرف ومال، وكانت قريش قوماً تجاراً، فلما بلغها صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمانته، عرضت عليه الخروج في تجارتها إِلى الشام، مع غلام لها يقال له ميسرة، فأجاب إِلى ذلك وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم الشام، ومعه ميسرة، وباع ما كان معه، واشترى عوضه، ثم أقبل قافلاً إِلى مكة، ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال خديجة، وحدثها ميسرة بما شاهده من كرامات النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يشاهد ملكين يظلانه وقت الحر، فعرضت خديجة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم فتزوجها، وأصدقها عشرين بكرة، وهي أول امرأة تزوجها، ولم يتوج غيرها حتى ماتت، وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها خمساً وعشرين سنة، وكان عمرها يومئذ أربعين سنة، وكانت أيماً ولم يترج رسول الله فَي بكراً غير عائشة، وخديجة أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقيت معه بعد مبعثه عشر سنين، وتوفيت قبل الهجرة بثلاث سنين.

‌تجديد قريش عمارة الكعبة

قيل لما مات إِسماعيل عليه السلام ولي البيت بعده ابنه نابت، ثم صارت ولاية البيت إِلى جرهم، قال عامر بن الحارث الجرهمي:

وكنا ولاة البيت من بعد نابت

نطوف بذاك البيت والأمر ظاهر

ومنها:

كأن لم يكن بين الحجون إِلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

إلى نحن كنا أهلها فأبادنا

صروف الليالي والجدود العواثر

ثم إِن جرهماً بغت، واستحلت المحارم، فأبيدوا، وصارت ولاية البيت إِلى خزاعة، ثم صارت من بعدهم إِلى قريش، وكانت الكعبة قصيرة البناء، فأرادت قريش رفعها، فهدموها ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الحجر الأسود، فاختصموا فيه، لأن كل قبيلة أرادت أن ترفعه إِلى موضعه،

ص: 114

ثم اتفقوا على أن يحكّموا أول داخل من باب الحرم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول داخل، فحكموه، فأمرهم أن يضعوا الحجر في ثوب، وأن يمسك كل قبيلة بطرف من أطرافه، وأن يرفعوه إِلى موضعه، ففعلوا ذلك، وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وصوله إِلى موضعه، فوضعه بيده موضعه، ثم أتموا بناء الكعبة، وكانت تكسى القباطي ثم كسيت البرود، وأول من كساها الديباج الحجاج ابن يوسف، وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم حين رضيت قريش بحكمه خمساً وثلاثين سنة قبل مبعثه بخمس سنين.

‌مبعث رسول الله

صلى الله عليه وسلم

ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة، بعثه الله تعالى إِلى الأسود والأحمر، رسولاً ناسخاً بشريعته الشرائع الماضية، فكان أول ما ابتدئ به من النبوة الرؤيا الصادقة، وحبب الله تعالى إليه الخلوة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في جبل حراء من كل سنة شهراً، فلما كانت سنة مبعثه، خرج إِلى حراء في رمضان للمجاورة فيه، ومعه أهله. حتى إِذا كانت الليلة التي أكرمه الله سبحانه وتعالى فيها جاءه جبريل عليه السلام فقال له: اقرأ. قال له فما أقرأ قال: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " العلق: 1 " إِلى قوله " علم الإِنسان ما لم يعلم " " العلق: 5 " فقرأها. ثم إِن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إِلى وسط الجبل، فسمع صوتاً من جهة السماء: يا محمد أنت رسول الله، وأنا جبرائيل، فبقي واقفاً في موضعه يشاهد جبرائيل حتى انصرف جبرائيل، ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم، وأتى خديجة فحكى لها ما رأى، فقالت: أبشر فوالذي نفس خديجة بيده، إنفي لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ثم انطلقت خديجة إِلى ورقة بن نوفل، وهو ابن عمها، وكان ورقة قد نظر في الكتب وقرأها، وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فأخبرته ما أخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ورقة: قدوس، والذي نفس ورقة بيده لئن صدقتني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى بن عمران، وإنه نبي هذه الأمة، فرجعت خديجة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة. ولما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف، طاف بالبيت أسبوعاً، ثم انصرف إِلى منزله، ثم تواتر الوحي إِليه أولاً فأولاً، وكان أول الناس إِسلاماً خديجة، لم يتقدمها أحد، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إِلا أربع: آسية زوجة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد ".

‌أول من أسلم من الناس

لا خلاف في أن خديجة أول من أسلم، واختلف فيمن أسلم بعدها، فذكر صاحب السيرة وكثير من أهل العلم، أن أول الناس إِسلاماً بعدها، علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعمره

ص: 115

تسع سنين، وقيل عشر سنين، وقيل إِحدى عشرة سنة، وكان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل الإسلام، وذلك أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب كثير العيال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس:" إِن أخاك أبا طالب كثير العيال، فأنطلق لنأخذ من بنيه ما يخفف عنه به " فأتيا أبا طالب وقالا: نريد أن نخفف عنك، فقال أبو طالب: اتركا لي عقيلاً واصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، فضمه إِليه، وأخذ العباس جعفراً، فلم يزل علي مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبياً، فصدقه علي، ولم يزل جعفر مع العباس حتى أسلم، من شعر علي في سبقه:

سبقتكم إِلى الإسلام طراً

غلاماً ما بلغت أوان حلمي

وذكر صاحب السيرة، أن الذي أسلم بعد علي زيد بن حارثة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، اشتراه وأعتقه، ثم أسلم بعد زيد أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، وهو عبد الله بن أبي قحافة، واسم أبي قحافة عثمان، وذهب آخرون إِلى أن أول الناس إِسلاماً أبو بكر، ثم أسلم بعد أبي بكر عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وكان إِسلامهم بأن دعاهم أبو بكر إِلى الإسلام، وجاء بهمٍ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنوا به وصدقوه، رضي الله عنهم، فهؤلاء أول الناس إيماناً، ثم أسلم أبو عبيدة، واسمه عامر بن عبد الله بن الجراح، وعبيدة بن الحارث، وسعيد بن زيد بن عمرو، وابن نفيل بن عبد العزى، وهو ابن عم عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر.

وكانت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى الإسلام سراً ثلاث سنين، ثم بعدها أمر الله رسوله بإِظهار الدعوة، ولما نزل " وأنذر عشيرتك الأقربين " " الشعراء: 214 " دعا النبي صلى الله عليه وسلم علياً فقال: " اصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملا لنا عساً من لبن، واجمع لي بني المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به ". ففعل ما أمره ودعاهم، وهم أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس، وأحضر علي الطعام فأكلوا حتى شبعوا. قال علي: لقد كان الرجل الواحد منهم ليأكل جميع ما شبعوا كلهم منه، فلما فرغوا من الأكل، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكلم، بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: أشد ما سحركم صاحبكم، فتفرق القوم، ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: " يا علي قد رأيت كيف سبقني هذا الرجل إِلى الكلام فاصنع لنا في غد كما صنعت اليوم، واجمعهم ثانياً " فصنع علي في الغد كذلك، فلما أكلوا وشربوا اللبن، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أعلم إِنساناً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إِليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيي

ص: 116

وخليفتي فيكم " فأحجم القوم جميعاً. قال علي: فقلت وإني لأحدثهم سناً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً وأنا يا نبي الله أكون وزيرك عليهم. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برقبة علي وقال: " إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا "، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك، وتطيع، واستمر النبي صلى الله عليه وسلم على ما أمره الله، ولم يبعد عنه قومه في أول الأمر، ولم يردوا عليه حتى عاب آلهتهم، ونسب قومه وآباءهم إِلى الكفر والضلال، فأجمعوا على عداوته، إِلا من عصمه الله بالإسلام، وذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب، فجاء رجال من أشراف قريش إِلى أبي طالب، منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد مناف، وأبو سفيان بن أمية بن عبد شمس، وأبو البختري بن هشام ابن الحارث بن أسد، والأسود بن المطلب بن أسد، وأبو جهل بن هشام بن المغيرة، والوليد بن المغيرة المخزومي عم أبي جهل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان، والعاص بن وائِل السهمي، وهو أبو عمرو بن العاص فقالوا: يا أبا طالب إِنّ ابن أخيك قد عاب ديننا وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا فانْهِه عنا، أو خلِّ بيننا وبينه، فردهم أبو طالب رداً حسناً، واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على مَا هو عليه، فعظم عليهم، وأتوا أبا طالب ثانياً وقالوا له ما قالوه أولاً. وقالوا: إِن لم تنهه وإِلا نازلناك وِإياه حتى يهلك أحد الفريقين، فعظم على أبي طالب ذلك، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي، إِنَّ قومك قالوا إِلي كذا وكذا، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، ما تركت هذا الأمر "، ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى وقام، فولى، فناداه أبو طالب أقبل يا ابن أخي وقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبداً، فأخذت كل قبيلة تعذب من أسلم منها، ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب.

إسلام حمزة

‌رضي الله عنه

كان النبي صلى الله عليه وسلم عند الصفا، فمر به أبو جهل بن هشام، فشتم النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكلمه صلى الله عليه وسلم، وكان حمزة في القنص، فلما حضر أنبأته مولاة لعبد الله بن جدعان بشتم أبي جهل لابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم، فغضب حمزة وقصد البيت ليطوف به وهو متوشح قوسه، فوجد ابن هشام قاعداً مع جماعة، فضربه حمزة بالقوس فضجه، ثم قال: أتشتم محمداً وأنا على دينه؟ فقامت رجال من بني مخزوم إِلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل دعوه فإني سببت ابن أخيه سباً قبيحاً، وتم حمزة على إِسلامه، وعلمت قريش أن رسول اَلله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع بإِسلام حمزة.

ص: 117

إِسلام عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى

وكان شديد البأس والعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، فروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب، أو بأبي الحكم بن هشام " وهو أبو جهل، فهدى الله تعالى عمر، وكان قد أخذ سيفه وقصد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيه نعيم بن عبد الله النحام، فقال: ما تريد يا عمر: فأخبره، فقال له نعيم: لأن فعلت ذلك لن يتركك بنو عبد مناف تمشي على الأرض، ولكن اردع أختك وابن عمك سعيد بن زيد وخباب، فإِنهم قد أسلموا، فقصدهم عمر وهم يتلون سورة طه من صحيفة، فسمع شيئاً منها، فلما علموا به أخفوا الصحيفة وسكتوا، فسألهم عما سمعه فأنكروه، فضرب أخته فشجهما وقال: أريني ما كنتم تقرؤونه، وكان عمر قارئاً كاتباً، فخافت أخته على الصحيفة وقالت: تعدمها، فأعطاها العهد على أنَه يردها إِليها، فدفعتها إِليه وقال: ما أحسن هذا وأكرمه، فطمعت في إِسلامه، وكان خباب قد استخفى منه، فلما سمع ذلك خرج إِليه، فسألهم عمر عن موضع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: هو بدار عند الصفا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك، وعنده قريب أربعين نفساً، ما بين رجال ونساء، منهم حمزة وأبو بكر الصديق وعلي ابن أبي طالب، فقصدهم عمر وهو متوشح بسيفه، فاستأذن في الدخول، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل نهض إِليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ بمجمع ردائه، وجبذه جبذة شديدة وقال:" ما جاء بك يا ابن الخطاب، أو ما تزال حتى تنزل بك القارعة " فقال عمر: يا رسول الله جئت لأؤمن بالله وبرسوله، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتم إِسلام عمر.

‌الهجرة الأولى

وهي هجرة المسلمين إِلى أرض الحبشة

ولما اشتد إِيذاء قريش لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمن ليس له عشيرة تحميه، في الهجرة إِلى أرض الحبشة، فأول من خرج اثنا عشر رجلاً، وأربع نسوة، منهم عثمان بن عفان ومعه زوجة رقيه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزبير بن العوام، وعثمان بن مظعون، وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، وركبوا البحر وتوجهوا إِلى النجاشي، وأقاموا عنده، ثم خرج جعفر بن أبي طالب مهاجراً، وتتابع المسلمون أولاً فأولاً، فكان جميع من هاجر من المسلمين إِلى أرض الحبشة ثلاثة وثمانين رجلاً، وثماني عشرة نسوة سوى الصغار، ومن ولد بها، فأرسلت قريش في طلبهم عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وأرسلوا معهما هدية من الأدم إِلى النجاشي، فوصلا وطلبا من النجاشي المهاجرين، فلم يجبهما النجاشي. وقال عمرو بن العاص: سلهم

ص: 118

عما يقولون في عيسى، فسألهم النجاشي فقالوا ما قاله الله تعالى من أنه كلمة الله ألقاها إِلى مريم العذراء، فلم ينكر النجاشي ذلك. فأقام المهاجرون في جوار النجاشي آمنين، ورجع عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة خائبين، بعد أن ردّ النجاشي عليهما الهدية.

ولما رأت قريش ذلك وأن الإسلام قد جعل يفشو في القبائل، تعاهدوا على بني هاشم وبني المطلب، أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، وكتبوا بذلك صحيفة وتركوها في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم، وانحازت بنو هاشم، كافرهم ومسلمهم إلى أبي طالب، ودخلوا معه في شعبه، وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إِلى قريش مظاهراً لهم، وكانت امرأته أم جميل بنت حرب، وهي أخت أبي سفيان، على رأيه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي سماها الله تعالى: حمالة الحطب، لأنها كانت تحمل الشوك، فتضعه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقامت بنو هاشم في الشعب، ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحو ثلاث سنين، وبلغ المهاجرين الذين في الحبشة أن أهل مكة أسلموا، فقدم منهم ثلاثة وثلاثون رجلا، ولما قربوا من مكة، لم يجدوا ذلك صحيحاً، فلم يدخل أحد منهم مكة إلا متخفياً، وكان من الذين قدموا عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعثمان بن مظعون.

‌نقض الصحيفة

روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب: " يا عم إِن ربي سلط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها غير أسماء الله، ونفت منها الظلم والقطيعة ". فخرج أبو طالب إِلى قريش وأعلمهم بذلك وقال: إِن كان ذلك صحيحاً، فانتهوا عن قطيعتنا، وإن كان كذباً دفعت إِليكم ابن أخي، فرضوا بذلك، ثم نظروا فإذا الأمر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزادهم ذلك شراً، فاتفق جماعة من قريش ونقضوا ما تعاهدوا عليه في الصحيفة، من قطيعة بني المطلب.

‌الإسراء

ذكر صاحب السيرة أن الإسراء كان قبل موت أبي طالب، وذكر ابن الجوزي، أنه كان بعد موت أبي طالب، في سنة اثنتي عشرة للنبوة، واختلف فيه فقيل: كان ليلة السبت، لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، في السنة الثالثة عشرة للنبوة، وقيل كان في ربيع الأول، وقيل: كان في رجب، وقد اختلف أهل العلم فيه، هل كان بجسده أم كان رؤيا صادقة، فالذي عليه الجمهور أنه كان بجسده، وذهب آخرون إلى أنه كان رؤيا صادقة، ورووا عن عائشة‌

‌ رضي الله عنها

أنفاً كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أسرى بروحه، ونقلوا عن معاوية أيضاً أنه كان يقول: إِنّ الإسراء كان رؤيا صادقة، ومنهم من جعل الإسراء إِلى بيت المقدس جسدانياً، ومنه إِلى السموات السبع وسدرة المنتهى روحانياً.

ص: 119

‌وفاة أبي طالب

توفي في شوال، سنة عشر من النبوة، ولما اشتد مرضه، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عم قلها استحل لك بها الشفاعة يوم القيامة " يعني الشهادة. فقال له أبو طالب يا ابن أخي لولا مخافة السبة، وأن تظن قريش إِنما قلتها جزعاً من الموت لقلتها، فلما تقارب من أبي طالب الموت، جعل يحرك شفتيه، فأصغى إِليه العباس بأذنه، وقال: والله يا ابن أخي لقد قال الكلمة التي أمرته أن يقولها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الحمد لله الذي هداك يا عم ". هكذا روي عن ابن عباس، والمشهور أنه مات كافراً، ومن شعر أبي طالب مما يدل على أنه كان مصدقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:

ودعوتني وعلمتْ أنك صادق

ولقد صدقت وكنت ثم أمينا

ولقد علمت بأن دين محمد

من خير أديان البرية دينا

والله لن يصلوا إِليك بجمعهم

حتى أوسد في التراب دفينا

وكان عمر أبي طالب بضعاً وثمانين سنة.

‌وفاة خديجة

رضي الله عنها

ثم توفيت خديجة بعد أبي طالب، وكان موتهما قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين. وتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بموتهما المصائب، ونالت منه قريش، خصوصاً أبو لهب بن عبد المطلب، والحكم بن العاص، وعقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية، فإِنهم كانوا جيران النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤذونه بما يلقون عليه وقت صلاته، وفي طعامه من القاذورات.

‌سفره إلى الطائف

ولما نالت قريش من رسول الله بعد وفاة عمه، سافر إلى الطائف يتلمس من ثقيف النصرة، ورجاء أن يقبلوا ما جاء به من الله، فوصل إِلى الطائف، وعمد إلى جماعة من أشراف ثقيف، مثل مسعود وحبيب ابني عمرو، فجلس إِليهم ودعاهم إِلى الله وقال له واحد منهم: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك، وقال الآخر: والله لا أكلمك أبداً، لأنك إِن كنت رسولاً من الله كما تقول، لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك، فقام رسول الله من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، وألجئوه إِلى حائط، ورجع عنه سفهاء ثقيف فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم إِليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، على من تكلني إِن لم تكن علي غضباناً فلا أبالي " ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى مكة، وقومه أشد

ص: 120

مما كانوا عليه من خلافه.

‌عرض رسول الله نفسه على القبائل

صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في مواسم الحج، ويدعوهم إِلى الله، فيقول:" يا بني فلان إِني رسول الله إِليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وأن تخلعوا ما يعبد من دونه، وأن تؤمنوا بي وتصدقوني ".

وعمه أبو لهب ينادي إِنما يدعوكم إِلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه، وكان أبو لهب أحول له غديرتان.

‌ابتداء أمر الأنصار

رضي الله عنهم

ولما أراد الله تعالى إِظهار أمر دينه، وإعزاز نبيه، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في موسم يعرض نفسه على القبائل كما كان يصنع، فبينما هو عند العقبة، إِذ لقي نفراً من الخزرج، من أهل مدينة يثرب، وأهلها قبيلتان، الأوس والخزرج، يجمعهم أب واحد، وهم يمانيون، وبين القبيلتين حروب، وهم حلف قبيلتين من اليهود يقال لهما قريظة والنضير من نسل هارون بن عمران، فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام عليهم، وتلى عليهم القرآن، وكانوا ستة رجال فآمنوا به وصدقوه ثم انصرفوا إِلى يثرب، وذكروا ذلك لقومهم ودعوهم إِلى الإسلام، حتى فشا فيهم فلم تبق دار إلا وفيها ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

بيعة العقبة الأولى ولما كان العام المقبل، وافى الموسم اثنا عشر رجلاً من الأنصار، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة النساء، وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب، وبيعة النساء هي المبايعة على أن لا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، فبعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار ليعلمهم شرائع الإسلام والقرآن. ولما قدم مصعب المدينة، دخل به أسعد بن زرارة وهو أحد الستة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة حائطاً من حوائطم بني ظفر، وكان سعد ابن معاذ سيد الأوس، ابن خالة أسعد بن زرارة، وكان أسيد بن حصين أيضاً سيداً، فأخذ أسيد بن حصين حربته ووقف على مصعب وأسعد، وقال: ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا اعتزلا إِنْ كان لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فجلس أسيد وأسمعه مصعب القرآن، وعرّفه الإسلام، فقال سيد: ما أحسن هذا، كيف تصنعون إِذا أردتم الدخول في هذا الدين، فعلمه مصعب، فأسلم وقال: ورائي رجل إِن اتبعكما، لم يتخلف عنه أحد، وسأرسله إِليكما، يعني سعد بن معاذ، ثم أخذ أسيد حربته

ص: 121

وانصرف إِلى سعد بن معاذ، وبعث به إِلى مصعب وأسعد، فلما أقبل قال أسعد لمصعب: جاءك والله سيد من ورائه، فلما وقف عليهما سعد بن معاذ تهدد أسعد وقال: لولا قرابتك مني ما صبرت على أن تغشانا في دارنا بما نكره، فقال له مصعب: أو ما تسمع، فإِن رضيت أمراً قبلته، وإلا عزلنا عنك ما تكره، فقال: أنصفت. فعرض مصعب عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآنَ. قال فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم. ثم قال: كيف تصنعون إِذا أنتم أسلمتم؟ فعرفاه ذلك فأسلم وانصرف إِلى النادي، حتى وقف عليه ومعه أسيد بن حصين، فلما رآه قومه مقبلاً، قالوا نحلف بالله لقد رجع سعد بغير الوجه الذي ذهب به، فقال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا سيدنا وأفضلنا. قال: فإِن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام، حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فما أمسى في دار بني عبد الأشهل أحد حتى أسلم، ونزل سعد بن معاذ ومصعب في دار أسعد بن زرارة يدعون الناس إِلى الإسلام، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إِلا وبّها مسلمون، إِلا ما كان من دار بني أمية بن زيد.

بيعة العقبة الثانية

وكانت في سنة ثلاث عشرة من المبعث، وذلك أن مصعب بن عمير عاد إِلى مكة ومعه من الذين أسلموا ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، بعضهم من الأوس وبعضهم من الخزرج، مع كفار من قومهم، وهم مستخفون من الكفار، فلما وصلوا إِلى مكة وأعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجتمعوا به ليلاً في أوسط أيام التشريق بالعقبة وجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس وهو مشرك، إِلا أنه أحب أن يتوثق منهم لابن أخيه، فقال العباس: يا معشر الخزرج؛ إِن محمداً منا حيث علمتم، وقد منعناه من قومنا وهو في عز ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إِلا الانحياز إِليكم واللحوق بكم، فإن كنتم تقفون عند ما دعوتموه إِليه؛ وتمنعونه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك. وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه فمن الآن فدعوه. فقالوا: قد سمعنا العباس، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا القرآن ثم قال:" أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأولادكم ". ودار الكلام بينهم؛ واستوثق كل فريق من الآخر، ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إِن قتلنا دونك ما لنا؟ قال: الجنة. قالوا: فابسط يدك، فبسط يده وبايعوه، ثم انصرفوا راجعين إِلى المدينة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إِلى المدينة، فخرجوا أرسالاً، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما.

ص: 122

‌الهجرة النبوية

على صاحبها أفضل الصلاة والسلام

وهي ابتداء التاريخ الإسلامي، أما لفظة التاريخ فإِنه محدث في لغة العرب؛ لأنه معرب من ماه روز، وبذلك جاءت الرواية، روى ابن سليمان عن ميمون بن مهران أنه رفع إِلى عمر بن الخطاب في خلافته رضي الله تعالى عنه صك محله شعبان فقال: أي شعبان؟ أهذا هو الذي نحن فيه؟ أو الذي هو آت؟ ثم جمع وجوه الصحابة وقال: إن الأموال قد كثرت وما قسمنا منها غير موقت، فكيف التوصل إِلى ما نضبط به ذلك؟ فقالوا: نحب أن نتعرف ذلك من رسوم الفرس، فعندها استحضر عمر الهرمزان سأله عن ذلك، فقال: إِن لنا به حساباً نسميه ماه روز، وَمعناه حساب الشهور والأيام، فعربوا الكلمة فقالوا مؤرخ، ثم جعلوا اسمه التاريخ واستعملوه، ثم طلبوا وقتاً يجعلونه أولاً لتاريخ دولة الإسلام، واتفقوا على أن يكون المبدأ سنة هذه الهجرة، وكانت الهجرة من مكة إِلى المدينة شرفهما الله، وقد تصوم من شهور هذه السنة وأيامها المحرم وصفر وثمانية أيام من ربيع الأول. فلما عزموا على تأسيس الهجرة رجعوا القهقري ثمانية وستين يوماً، وجعلوا مبدأ التاريخ أول المحرم من هذه السنة، ثم أحصوا من أول يوم في المحرم إِلى آخر يوم من عمر النبي صلى الله عليه وسلم فكان عشر سنين وشهرين، وأما إِذا حسب عمره من الهجرة حقيقة فيكون قد عاش بعدها تسع سنين وأحد عشر شهراً واثنين وعشرين يوماً وقد وضعنا زايجة تتضمن ما بين الهجرة وبين التواريخ القديمة المشهورة من السنين، وإذا أردت أن تعرف ما بين أي تاريخين شئت منها فانظر إلى ما بينهما وبين الهجرة، وأنقص أقلهما من أكثرهما؛ فمهما بقي يكون ذلك هو ما بينهما مثاله إِذا أردنا أن نعرف ما بين مولد المسيح ومولد رسول الله صلوات الله عليهما وسلامه نقصنا ما بين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الهجرة وهو ثلاث وخمسون سنة وشهران وثمانية أيام من ستمائة وإحدى وثلاثين سنة، يبقى خمسمائة وثمان وسبعون سنة تنقص شهرين وثمانية أيام هي جملة ما بين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مولد المسيح ابن مريم صلوات الله وسلامه عليهما وكذلك أي تاريخين أردت من هذه الدائرة.

ص: 123

التواريخ القديمة المشهورة، من السنين بين الهجرة وبين آدم، على مقتضى التوراة اليونانية، واختيار المؤرخين، ستة آلاف ومائتان وست عشرة سنة، وعلى مقتضى التوراة اليونانية، واختيار المنجمين، حسبما أثبتوا في الزيجات، خمسة آلاف وتسعمائة وسبع وستون سنة، وعلى مقتضى التوراة العبرانية، واختيار المؤرخين، أربعة آلاف وسبعمائة وإحدى وأربعون سنة، وأما على اختيار المنجمين، ينقص عنه مائتان وتسع وأربعون سنة، وعلى مقتضى التوراة السامرية، واختيار المؤرخين، خمسة آلاف ومائة وسبع وثلاثون سنة، وأما على اختيار المنجمين، فينقص ما ذكر، كذلك جاء الأمر في جميع التواريخ إلى قبل بخت نصر.

بين الهجرة وبين الطوفان على اختيار المؤرخين، ثلاث آلاف وتسعمائة وأربع وسبعون سنة، وكان الطوفان لستمائة سنة مضت من عمر نوح، وعاش نوح بعده ثلاثمائة وخمسين

ص: 124

سنة، وعلى اختيار المنجمين، ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وعشرون سنة، حسبما قرره أبو معشر وكوشيار وغيرهما في الزيجات والتقاويم، بين الهجرة وبين تبلبل الألسن على اختيار المؤرخين، ثلاثة آلاف وثلاثمائة وأربع سنين وأما على اختيار المنجمين، فتنقص عنه مائتين وتسعاً وأربعين سنة، حسبما تقدم ذكره.

بين الهجرة وبين مولد إِبراهيم الخليل على اختيار المؤرخين ألفان وثمانمائة وثلاثة وتسعون سنة، وأما على اختيار المنجمين، فتنقص عته مائتين وتسعاً وأربعين سنة بين الهجرة وبين بناء الكعبة على يد إِبراهيم الخليل وولده إِسماعيل، ألفان وسبعمائة ونحو ثلاث وتسعين سنة، وكان ذلك بعد مضي مائة سنة من عمر إبراهيم وهو القريب والله أعلم.

بين الهجرة وبين وفاة موسى عليه السلام، على اختيار المؤرخين، ألفان وثلاثمائة وثمان وأربعون سنة، وأما على اختيار المنجمين فتنقص عنه مائتين وتسعاً وأربعين سنة، بين الهجرة وبين عمارة بيت المقدس على اختيار المؤرخين، ألف وثمانمائة وقريب سنتين وكان فراغه لمضي أحد عشر سنة من ملك سليمان، ولمضي خمسمائة وست وأربعين سنة لوفاة موسى، وأما على اختيار المنجمين، فتنقص عنه مائتين وتسعاً وأربعين سنة.

بين الهجرة وبين ابتداء ملك بختنصر ألف وثلاثمائة وتسع وستون سنة، وليس فيه خلاف، بين الهجرة وبين خراب بيت المقدس ألف وثلاثمائة وخمسون سنة، وكان لمضي تسعهَ عشرة سنة لبختنصر واستمر خراباً سبعين سنة ثم عمر.

بين الهجرة وبين غلبة الإِسكندر على دارا ملك الفرس، تسعمائة وأربع وثلاثون سنة وكانت أيضاً ابتداء ملكه على الفرس. وبقي الإسكندر بعد غلبته على دارا نحو سبع سنين.

بين الهجرة وبين فيلبس تسعمائة وسبع وعشرون سنة، وهو أخو الإسكندر أصغر منه باثني عشر سنة، وملك بعده على مقدونية ذكره ببطلميوس.

بين الهجرة وبين غلبة أغسطس على قلوبطرا ملكة مصر، ستمائة واثنان وخمسون سنة، وكانت بسنة اثنتي عشرة من ملك أغسطس.

بين الهجرة وبين مولد المسيح عليه السلام، ستمائة وإحدى وثلاثون سنة وكان بسنة أربع وثلاثمائة لغلبة الإسكندر، ولإِحدى وعشرين سنة مضت من غلبة أغسطس على قلوبطرا.

بين الهجرة وبين خراب بيت المقدس الثاني، خمسمائة وثمان وخمسون سنة وكان لمضي أربعين سنة من رفع المسيح عليه السلام وهو تاريخ لشتة اليهود إِلى الآن.

بين الهجرة وبين أول ملك أدريانس خمسمائة وسبع سنين. بين الهجرة وبين قيام أزدشير بن بابك، أربعمائة واثنان وعشرون سنة، وهو أيضاً تاريخ انقراض ملوك الطوائف.

بين الهجرة وبين أول ملك دوقلطيانس ثلاثمائة وتسع وثلاثون سنة وهو آخر عبدة الأصنام ملوك الروم.

بين الهجرة وبين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاثة وخمسون سنة وشهرين وثمانية أيام.

بين

ص: 125

الهجرة وبين مبعث رسول الله، ثلاث عشرة سنة وشهران وثمانية أيام.

بين الهجرة وبين وفاة رسول الله، تسع سنين وأحد عشر شهراً واثنان وعشرون يوماً وهي بعد الهجرة.

حديث الهجرة

وأما ما كان من حديث الهجرة، فإِنه لما علمت قريش أنه قد صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنصار، وأن أصحابه بمكة قد لحقوا بهم، خافوا من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة، فاجتمعوا واتفقوا على أن يأخذوا من كل قبيلة رجلاً، ليضربوه بسيوفهم ضربة رجل واحد، ليضيع دمه في القبائل، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر علياً أن ينام على فراشه، وأن يتشح ببرده الأخضر، وأن يتخلف عنه ليؤدي ما كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من الودائع إِلى أربابها، وكان الكفار قد اجتمعوا على باب النبي صلى الله عليه وسلم يرصدونه، ليثبوا عليه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة تراب وتلا أول " يس "، وجعل ذلك التراب على رؤوس الكفار، فلم يروه، فأتاهم آت وقال: إِن محمداً خرج ووضع على رؤوسكم التراب، وجعلوا ينظرون فيرون علياً عليه برد النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون محمد نائم، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام علي فعرفوه. وأقام علي بمكة حتى أدّى ودائع النبي صلى الله عليه وسلم.

وقصد النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من داره، دار أبي بكر رضي الله عنه، وأعلمه بأنّ الله قد أذن بالهجرة، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال الصحبة: فبكى أبو بكر رضي الله عنه فرحاً، واستأجرا عبد الله بن أرقط، وكان مشركاً، ليدلهما على الطريق، ومضى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إِلى غار ثور، وهو جبل أسفل مكة، فأقاما فيه ثم خرجا من الغار بعد ثلاثة أيام، وتوجها إِلى المدينة ومعهما عامر بن فهير مولى أبي بكر الصدّيق، وعبد الله بن أرقط الدليل، وهو كافر.

وجدت قريش في طلبه، فتبعه سراقة بن مالك المدلجي، فلحق النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول الله أدركنا الطلب. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إِن الله معنا، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على سراقة، فارتطمت فرسه إِلى بطنها في أرض صلبة. فقال سراقة: ادع الله يا محمد أن يخلصني، ولك أنْ أرد الطلب عنك، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فخلص، ثم تبعه، فدعا عليه صلى الله عليه وسلم فترطم ثانياً، وسأل الخلاص وأن يرد الطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له، وقال: كيف بك يا سراقة إِذا سورت بسوار كسرى برويز، فرجع سراقة ورد كل من لقيه عن الطلب. أن يقول كفيتم ما هاهنا.

وقدم المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من سنة إِحدى، وذلك يوم الاثنين الظهر، فنزل قباءْ على كلثوم بن الهدم، وأقام بقباء الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجد قباء وهو الذي نزل فيه:

ص: 126

" لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه "" التوبة: 108 " وخرج من قباء يوم الجمعة، فما مر على دار من دور الأنصار إِلا قالوا: هلم يا رسول الله إلى العدد والعدة، ويعترضون ناقته فيقول:" خلوا سبيلها فإِنها مأمورة " حتى انتهت إِلى موضع مسجده صلى الله عليه وسلم، وكان مربداً لسهل وسهيل ابني عمرو، يتيمين في حجر معاذ بن أعفر فبركت هناك ووضعت جرانها، فنزل عنها النبي صلى الله عليه وسلم، واحتمل أبو أيوب الأنصاري رحل الناقة إِلى بيته، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي أيوب الأنصاري حتى بنى مسجده ومساكنه، وقيل بل كان موضع المسجد لبني النجار، وفيه نخل وخرب وقبور المشركين.

‌تزويج النبي بعائشة

صلى الله عليه وسلم بعائشة بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما

وتزوجها قبل الهجرة، بعد وفاة خديجة، ودخل بها بعد الهجرة بثمانية أشهر، وهي ابنة تسع سنين، وتوفي عنها وهي ابنة ثماني عشرة سنة.

‌المؤاخاة بين المسلمين

آخا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتخذ رسول الله، علي بن أبي طالب أخاً، وكان علي يقول على منبر الكوفةِ، أيام خلافته: أنا عبد اللِّه وأخو رسول الله، وصار أبو بكر وخارجة بن زيد بن أبي زهير الأنصاري، أخوين، وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ الأنصاري أخوين، وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك الأنصاري أخوين، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن ربيع الأنصاري أخوين، وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت الأنصاري أخوين، وطلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك الأنصاري أخوين، وسعيد ابن زيد وأبي بن كعب الأنصاري أخوين، وأول مولود ولد للمهاجرين بعد الهجرة، عبد الله بن الزبير، وأول مولود ولد للأنصار النعمان بن بشير.

ثم دخلت سنة اثنتين من الهجرة فيها حولت الصلاة إِلى الكعبة، وكانت الصلاة بمكة، وبعد مقدمه إِلى المدينة بثمانية عشر شهراً، إِلى بيت المقدس، وذلك يوم الثلاثاء منتصف شعبان، فاستقبل الكعبة في صلاة الظهر وبلغَ أهل قباء ذلك، فتحولوا إِلى جهة الكعبة وهم في الصلاة، وفي هذه السنة أعني سنة اثنتين فرض صيام رمضان. وفي هذه السنة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش الأسدي، في ثمانية أنفس إِلى نخلة بين مكة والطائف، ليتعرفوا أخبار قريش فمر بهم عير لقريش فغنموها وأسروا اثنين، وحضروا بذلك إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أول غنيمة غنمها المسلمون. من الأشراف للمسعودي، وفي هذه السنة أري عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري صورة الأذان في النوم، فورد الوحي به.

ص: 127

‌غزوة بدر الكبرى

وهي الغزوة التي أظهر الله بها الدين، وكان من خبرها، أنه لما قدم لقريش قفل من الشام، مع أبي سفيان بن حرب، ومعه ثلاثون رجلاً، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إِليهم، وبلغ أبا سفيان ذلك فبعث إِلى مكة، وأعلم قريشاً أن النبي صلى الله عليه وسلم يقصده، فخرج الناس من مكة سراعاً، ولم يتخلف من الأشراف غير أبي لهب، وبعث مكانه العاص بن هشام، وكانت عدتهم تسعمائة وخمسين رجلاً، فيهم مائة فارس، وخرج محمد عليه السلام من المدينة، لثلاث خلون من رمضان سنة اثنتين للهجرة، ومعه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، منهم سبعة وسبعون من المهاجرين، والباقون من الأنصار، ولم يكن فيهم إِلا فارسان، أحدهما المقداد بن عمرو الكندي، بلا خلاف، والثاني قيل هو الزبير بن العوام، وقيل غيره، وكانت الإِبل سبعين، يتعاقبون عليها، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء، وجاءته الأخبار بأن العير قد قاربت بدراً، وأن المشركين قد خرجوا، ليمنعوا عنها، ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل في بدر، على أدنى ماء من القوم، وأشار سعد بن معاذ ببناء عريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فعمل وجلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر، وأقبلت قريش، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهّم هذه قريش، قد أقبلت بخيلائها وفخرها. تكذّب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، وتقاربوا، وبرز من المشركين عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبارز عبيدة بن الحارث بن المطلب عتبة، وحمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم شيبة، وعلي بن أبي طالب الوليد بن عتبة، فقتل حمزة شيبة، وعلي الوليد، وضرب كل واحد من عبيدة وعتبة صاحبه، وكَّر علي وحمزة على عتبة فقتلاه، واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله ثم مات، وتزاحفت القوم ورسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر على العريش، وهو يدعو ويقول:" اللهم إِن تهلك هذه العصابة، لا تعبد في الأرض، اللهم أنجز لي ما وعدتني " ولم يزل كذلك حتى سقط رداؤه، فوضعها أبو بكر عليه، وخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة، ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر فقد أتى نصر الله، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العريش يحرض الناس على القتال، وأخذ حفنة من الحصباء ورمى بها قريشاً وقال: شاهت الوجوه، ثم قال لأصحابه: شدوا عليهم فكانت الهزيمة، وكانت الوقعة صبيحة الجمعة، لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وحَمَل عبد الله ابن مسعود رأس أبي جهل بن هشام إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسجد شكراً لله تعالى، وقتل أبو جهل وله سبعون سنة، واسم أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكذلك قتل أخو أبي جهل، وهو العاص بن هشام، ونصر الله نبيه بالملائكة. قال الله تعالى: " إِذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إِني ممدكم بألف من

ص: 128

الملائكة " " الأنفال: 9 " وجاء الخبر إِلى أبي لهب بمكة عن مصاب أهل بدر، فلم يبق غير سبع ليال ومات كمداً، وكانت عدة قتلى بدر من المشركين سبعين رجلاً، والأسرى كذلك، فمن القتلى غير من ذكرنا حنظلة بن أبي سفيان بن حرب، وعبيدة بن سعيد بن العاص بن أمية، قتله علي بن أبي طالب، وزمعة بن الأسود قتله حمزة وعلي، وأبو البحتري بن هشام، قتله المجدر بن زياد ونوفل بن خويلد، أخو خديجة، وكان من شياطين قريش، وهو الذي قرن أبا بكر وطلحة بن خويلد لما أسلما في حبل، قتله علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وعمير بن عثمان بن عمر التميمي، قتله علي أيضاً ومسعود بن أبي أمية المخزومي، قتله حمزة، وعبد الله بن المنذر المخزومي، قتله علي بن أبي طالب، ومنبه بن الحجاج السهمي، قتله أبو يسر الأنصاري، وابنه العاص بن منبه، قتله علي بن أبي طالب، وأخوه نبيه بن الحجاج، اشترك فيه حمزة وسعد بن أبي وقاص، وأبو العاص بن قيس السهمي، قتله علي بن أبي طالب.

وكان من جملة الأسرى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وابنا أخويه، عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، ولما انقضى القتال، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسحب القتلى إِلى القليب، وكانوا أربعة وعشرين رجلاً، من صناديد قريش، فقذفوا فيه، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرصة بدر ثلاث ليال، وجميع من استشهد من المسلمين أربعة عشر رجلاً، ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار، ولما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفراء راجعاً من بدر، أمر علياً فضرب عنق النضر بن الحارث، وكان من شدة عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم، إِذا تلا النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، يقول لقريش: ما يأتيكم محمد إِلا بأساطير الأولين، ثم أمر بضرب عنق عقبة بن أبي معيط بن أمية، وكان عثمان بن عفان قد تخلف عن رسول صلى الله عليه وسلم في المدينة بأمره، بسبب مرضِ زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وماتت رقية في غيبة رسول صلى الله عليه وسلم، وكانت مدة غيبة رسول فَي تسعة عشر يوماً.

‌غزوة بني قينقاع من اليهود

وهم أول يهود نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد، فخرج إِليهم في منتصف شوال سنة اثنتين، فتحصنوا، فحاصرهم خمس عشرة ليلة، ونزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتفوا وهو يريد قتلهم، فكلمه عبد الله بن أبي بن أبي سلول الخزرجي المنافق، وكان هؤلاء اليهود خلفاء الخزرج، فأعرض النبي عنه، فأعاد السؤال، فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله أحسن. فقال: " ويحك أرسلني " فقال لا والله حتى تحسن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هم لك " ثم أمر بإِجلائهم، وغنم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون جميع

ص: 129

ووصل العدو إِلى رسول الله عليه السلام، وأصابته حجارتهم حتى وقع، وأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت شفته، وكان الذي أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عتبة بن أبي وقاص، أخو سعد بن أبي وقاص، وجعل الدم يسيل على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إِلى ربهم، فنزل في ذلك قوله تعالى:" ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإِنهم ظالمون "" آل عمران: 128 " ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشجة، ونزع أبو عبيدة بن الجراح إِحدى الحلقتين من وجهه صلى الله عليه وسلم، فسقطت ثنيته الواحدة، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى، فكان أبو عبيدة ساقط الثنيتين، ومص سنان أبو سعيد الخدري الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وازدرده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" من مس دمي دمه لم تصبه النار ". وروى أن طلحة أصابته يومئذ ضربة فشلت يده وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظاهر بين درعين، ومثلت هند وصواحبها بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجدعن الآذان والأنوف، واتخذن منها قلائد، وبقرت هند عن كبد حمزة ولاكتها ولم تسغها، وضرب أبو سفيان زوجها، بزج الرمح شدق حمزة، وصعد الجبل وصرخ بأعلى صوته: الحرب سجال، يوم بيوم بدر، أعل هبل، أي ظهر دينك، ولما انصرف أبو سفيان ومن معه، نادى إِنَّ موعدكم بدراً العام القابل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لواحد قل:" هو بيننا وبينكم ". ثم سار المشركون إِلى مكة، ثم التمس رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة، فوجده وقد بقر بطنه وجدع أنفه وأذناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لئن أظهرني الله على قريش لأمثلن بثلاثين منهم ". ثم قال: " جاءني جبرائيل فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع، حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله " ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة فسجى ببرده، ثم صلى عليه، فكبر سبع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى يوضعون إِلى حمزة، فيصلي عليهم وعليه معهم، حتى صلى عليه اثنتين وسبعين صلاة، وهذا دليل لأبي حنيفة، فإنه يرى الصلاة على الشهيد خلافاً للشافعي رحمهما الله تعالى، ثم أمر بحمزة فدفن، واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إِلى المدينة فدفنوهم بها، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ذلك وقال:" ادفنوهم حيث صرعوا ".

ثم دخلت سنة أربع فيها في صفر قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قوم من عضل والقارة، وطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث معهم من يفقه قومهم في الدين، فبعث معهم ستة نفر، وهم: ثابت بن أبي الأقلح، وخبيب بن عدي، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي، وخالد بن البكير الليثي، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق، وقدم عليهم مرثد بن أبي مرثد.

ص: 132

فلما وصلوا إِلى الرجيع، وهو ماء لهذيل، على أربعة عشر ميلاً من عسفان، غدروا بهم، فقاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل ثلاثة وأسر ثلاثة، وهم زيد بن الدثنة، وخبيب، وعبد الله بن طارق، فأخذوهم إِلى مكة، وانفلت عبد الله بن طارق في الطريق، فقاتل إِلى أن قتلوه بالحجارة، ووصلوا بزيد بن الدثنة، وخبيب إِلى مكة، وباعوهما من قريش فقتلوهما صبراً.

وفي صفر سنة أربع أيضاً قدم أبو برا عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسلم ولم يبعد من الإسلام، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو بعثت من أصحابك رجالاً إِلى أهل نجد يدعونهم، رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أخاف على أصحابي " فقال أبو برا: أنا لهم جار. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، المنذر بن عمر الأنصاري في أربعين رجلا من خيار المسلمين، فيهم عامر بن فهير مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فمضوا ونزلوا بئر معونة على أربع مراحل من المدينة، وبعثوا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى عدو الله عامر بن الطفيل، فقتل الذي أحضر الكتاب، وجمع الجموع وقصد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقاتلوا وقُتلوا عن آخرهم، إِلا كعب بن زيد، فإنه بقي فيه رمق وتوارى بين القتلى، ثم لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم واستشهد يوم الخندق، وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري، ورجل من الأنصار، فرأيا الطيور تحوم حول العسكر فقصدا العسكر، فوجدا القوم مقتولين، فقاتل الأنصاري وقتل، وأما عمرو بن أمية فأخذا أسيراً، وأعتقه عامر ابن الطفيل لكونه من مضر، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بالخبر فشق عليه.

‌غزوة بني النضير من اليهود

وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إِليهم وحاصرهم، في ربيع الأول سنة أربع. ونزل تحريم الخمر، وهو محاصر لهم، فلما مضى ست ليال محاصراً لهم، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُخْليهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إِلا السلاح، فأجابهم إِلى ذلك، فخرجوا ومعهم الدفوف والمزامير، مظهرين بذلك تجلداً، وكانت أموالهم فيئاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يقسمها حيث شاء، فقسمها على المهاجرين دون الأنصار، إِلا أنّ سهل بن حنيفة وأبا دجانة ذكراً فقراً، فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك شيئاً، ومضى إِلى خيبر من بني النضير ناس، وإلى الشام ناس.

‌غزوة ذات الرقاع

ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم نجداً، فلقي جمعاً من غطفان في ذات الرقاع، وسميت بذلك لأنهم رقعوا فيها راياتهم، فتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب، وكان ذلك في جمادى

ص: 133

الأولى، سنة أربع، وفي هذه الغزوة قال رجل من غطفان لقومه: ألا أقتل لكم محمداً؟ قالوا: إلى، وحضر إِلى عند النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد أريد أنظر إِلى سيفك هذا، وكان محّلى بفضة، فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إِليه، فأخذه واستله، ثم جعل يهزه ويهم، ويكبته الله، ثم قال يا محمد: ما تخافني؟ فقال له: لا أخاف منك ثم رد سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم إِليه، فأنزل الله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إِذ هم قوم أن يبسطوا إِليكم أيديهم فكيف أيديهم عنكم "" المائدة: 11 ".

‌غزوة بدر الثانية

وفي شعبان سنة أربع، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لميعاد أبي سفيان، وأتى بدراً وأقام ينتظر أبا سفيان، وخرج أبو سفيان من مكة، ثم رجع من أثناء الطريق إِلى مكة، فلما لم يأت انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة، وفي هذه السنة ولد الحسين بن علي رضي الله عنهما. ثم دخلت سنة خمس.

‌غزوة الخندق

وهي غزوة الأحزاب

وكانت في شوال من هذه السنة، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحزب قبائل العرب، فأمر بحفر الخندق حول المدينة، قيل: إِنه كان بإِشارة سلمان الفارسي، وهو أول مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت للنبي صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق عدة معجزات.

منها: ما رواه جابر قال: اشتدت عليهم كدية أي صخرة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وسلم بماء وتفل فيه ونضحه عليها، فانهالت تحت المساحي، ومنها أن ابنة بشير بن سعد الأنصاري، وهي أخت النعمان بن بشير، بعثتها أمها بقليل تمر غذاء أبيها بشير، وخالها عبد الله بن رواحة، فمرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاها وقال:" هاتي ما معك يا بنية " قالت: فصببت ذلك التمر في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما امتلأتا، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب، وبدد ذلك التمر عليه، ثم قال لإِنسان: اصرخ في أهل الخندق أنْ هلموا إِلى الغداء، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب.

ومنها ما رواه جابر قال: كانت عندي شويهة غير سمينة، فأمرت امرأتي أن تخبز قرص شعير، وأن تشوي تلك الشاة لرسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، وكنا نعمل في الخندق نهاراً، وننصرف إذا أمسينا، فلما انصرفنا من الخندق، قلت: يا رسول الله صنعت لك شويهة ومعها شيئاً من خبز الشعير، وأنا أحب أن تنصرف إِلى منزلي، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يصرخ في الناس، أن انصرفوا مع رسول صلى الله عليه وسلم إِلى بيت جابر، قال جابر: فقلت إِنّا لله وإنّا إِليه راجعون، وكان قصده أن يمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه، وقدّمنا

ص: 134

له ذلك، فبرك وسمى، ثم أكل، وتواردها الناس، كلما صدر عنها قوم جاء ناس، حتى صدر أهل الخندق عنها.

وروى سلمان الفارسي قال: كنت قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أعمل في الخندق، فتغلظ علي الموضع الذي كنت أعمل فيه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة المكان، أخذ المعول وضرب ضربة، فلمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب أخرى فلمعت برقة أخرى، ثم ضرب أخرى فلمعت برقة أخرى، قال: فقلت بأبي أنت وأمي، ما هذا الذي يلمع تحت المعول، فقال:" أرأيت ذلك يا سلمان فقلت: نعم. فقال: " أما الأولى، فإن الله فتح علي بها اليمن، وأما الثانية: فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب، وأما الثالثة: فإن الله فتح علي بها المشرق "، وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، وأقبلت قريش في أحابيشها ومن تبعها من كنانة، في عشرة آلاف وأقبلت غطفان ومن تبعها من أهل نجد، وكان بنو قريظة وكبيرهم كعب بن أسد، قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم فما زال عليهم أصحابهم من اليهود حتى نقضوا العهد، وصاروا مع الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظم عند ذلك الخطب واشتد البلاء، حتى ظن المؤمنون كل الظن، ونجم النفاق، حتى قال معتب بن قشير: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط وأقام المشركون بضعاً وعشرين ليلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقابلهم، وليس بينهم قتال غير المراماة بالنبل، ثم خرج عمرو بن عبد ود من ولد لؤي بن غالب يريد المبارزة، فبرز إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له عمرو: يا ابن أخي والله ما أحب أن أقتلك. فقال علي: لكني والله أحب أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك ونزل عن فرسه فعقره، وأقبل إلى علي وتجاولا وعلا عليهما الغبرة، وسمع المسلمون التكبير، فعلموا أن علياً قتله، وانكشفت الغبرة وعلي على صدر عمرو يذبحه، ثم إن الله تعالى أهب ريح الصبا، كما قال الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها " " الأحزاب: " وكان ذلك في أيام شاتية. فجعلت تكفأ قدورهم، وتطرح أبنيتهم، ورمى الله الاختلاف بينهم، فرحلت قريش مع أبي سفيان، وسمعت غطفان ما فعلت قريش فرحلوا راجعين إلى بلادهم.

‌غزوة بني قريظة

ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، انصرف عن الخندق راجعاً إلى المدينة، ووضع المسلمون السلاح، فلما كان الظهر، أتى جبرائيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي: من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلي العصر إلا ببني قريظة، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب كرم الله وجهه برايته إلى بني قريظة، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على

ص: 135

بئر من آبارهم، وتلاحق الناس، وأتى قوم بعد العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصل أحد العصر إلا ببني قريظة، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك، وحاصر بني قريظة خمساً وعشرين ليلة، وقذف الله في قلوبهم الرعب، ولما اشتد بهم الحصار، نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا حلفاء الأوس، فسأل الأوس رسول الله صلى الله عليه وسلم في إطلاقهم، كما أطلق بني قينقاع، حلفاء الخزرج بسؤال عبد الله بن أبي بن أبي سلول المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ألا ترضون أن يحكم فيهم سعد بن معاذ وهو سيد الأوس "،. فقالوا: إلى، ظناً منهم أن يحكم بإطلاقهم، فأمر بإحضار سعد، وكان به جرح في أكحله من الخندق، فحملت الأوس سعداً على حمار قد وطأوا له عليه بوسادة، وكان رجلاً جسيماً، ثم أقبلوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون لسعد: يا أبا عمرو أحسن إلى مواليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم. والمهاجرون يقولون: إنما أراد صلى الله عليه وسلم الأنصار، والأنصار يقولون: قد عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، فقاموا إليه وقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله قد حكمك في مواليك. فقال سعد: أحكم فيهم، أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة "، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وحبس بني قريظة في بعض دور الأنصار، وأمر فحفر لهم خنادق، ثم بعث بهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، وكانوا سبعمائة رجل يزيدون أو ينقصون عنها قليلاً. ثم قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني قريظة فأخرج الخمس، واصطفى لنفسه ريحانة بنت عمرو، فكانت في ملكه حتى ماتت، ولما انقضى أمر بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ فمات، رضي الله عنه، وجميع من استشهد من المسلمين في حرب الخندق ستة نفر، منهم سعد بن معاذ، ما بعد حرب بني قريظة على ما وصفناه، وكان سعد بن معاذ لما جرح على الخندق، قد سأل الله تعالى أن لا يميته حتى يغزو بني قريظة، لغدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فاندمل جرحه حتى فرغ من غزو بني قريظة كما سأل الله تعالى، ثم انتقض جرحه ومات، رحمه الله تعالى، وفي حرب بني قريظة، لم يستشهد غير رجل واحد، وكانت غزوة بني قريظة في ذي القعدة، سنة خمس، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حتى خرجت السنة.

ثم دخلت سنة ستة فيها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى إلى بني لحيان، طلباً بثأر أهل الرجيع فتحصنوا برؤوس الجبال، فنزل عسفان تخويفاً لأهل مكة، ثم رجع إلى المدينة.

ص: 136

‌غزوة ذي قرد

ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أياماً، فأغار عيينة بن حصين الفزاري على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بالغابة، فخرج رسول الله يوم الأربعاء، حتى وصل إلى ذي قرد، لأربع خلون من ربيع الأول، فاستنقذ بعضها، وعاد إلى المدينة، وكانت غيبته خمس ليال، وذو قرد موضع على ليلتين من المدينة على طريق خيبر.

‌غزوة بني المصطلق

وكانت في شعبان من هذه السنة، أعني سنة ست، وقيل سنة خمس، وكان قائد بني المصطلق الحارث بن أبي ضرار، ولقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ماء لهم يقال له المريسيع، واقتتلوا فهزم الله بني المصطلق، فقتل وسبى وغنم الأموال ووقعت جويرة بنت قائدهم، الحارث بن أبي ضرار، في سهم ثابت بن قيس، فكاتبته على نفسها، فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها، فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتق بتزوجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فكانت عظيمة البركة على قومها، وفي هذه الغزوة قتل رجل من الأنصار، رجلاً من المسلمين خطأ، يظنه كافراً، وكان المقتول من بني ليث بن بكر، واسمه هشام، وكان أخوه مقيس مشركاً، فلما بلغه قتل أخيه خطأ، قدم من مكة مظهراً الإسلام، وأنه يطلب دية أخيه، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كثير ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم رجع إلى مكة مرتداً، وقال من أبيات لعنه الله:

حللت به وترى وأدركت ثورتي

وكنت إلى الأوثان أول راجع

وهو ممن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة، وفي هذه الغزوة ازدحم جهجاه الغفاري، أجير عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وسنان الجهني، حليف الأنصار، على الماء، وتقاتلا، فصرخ الغفاري يا معشر المهاجرين، وصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، فغضب عبد الله بن أُبي بن أبي سلول المنافق، وعنده رهط من قومه، فيه زيد بن أرقم، فقال عبد الله المنافق: لقد فعلوها قد كاثرونا في بلادنا، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة، لنخرجن الأعز منها الأذل، ثم قال لمن حضر من قومه: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، ولو مسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا عنكم، فأخبر زيد بن أرقم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال يا رسول الله: مر به عبد الله بن بشير فليقتله، فقالي النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يتحدث الناس إذن أن محمداً يقتل أصحابه، ثم أمر بالرحيل، في وقت لم يكن ليرحل فيه، ليقطع ما الناس فيه، فلقيه أسيد بن حصين وقال: يا رسول الله، رحت في ساعة لم تكن لتروح فيها، فقال: أوما بلغك ما قاله عبد

ص: 137

الله بن أبي؟ فقال: وماذا قال: فأخبره رسول الله بمقاله. فقال أسيد: أنت والله تخرجه إن شئت، أنت العزيز وهو الذليل، وبلغ ابن عبد الله المنافق، واسمه أيضاً عبد الله وكان حسن الإسلام، مقال أبيه، فقال يا رسول الله: بلغني أنك تريد قتل أبي، فإن كنت فاعلاً فمرني، فأنا أحمل إليك رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل ترفق به وتحسن صحبته.

قصة الإفك ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة، وكان ببعض الطريق، قال أهل الإفك ما قالوا: وهم مسطح بن إثاثة بن عباد بن عبد المطلب، وهو ابن خالة أبي بكر، وحسان بن ثابت، وعبد الله بن أبي بن أبي سلول الخزرجي المنافق، وأم حسنة ابنة جحش فرموا عائشة بالإفك مع صفوان بن المعطل، وكان صاحب الناقة، فلما نزلت براءتها، جلدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانين ثمانين إلا عبد الله بن أبي فإنه لم يجلده.

من الأشراف للمسعودي، وفي هذه الغزوة، أعني غزوة بني المصطلق نزلت آية التيمم.

‌عمرة الحديبية

وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في ذي القعدة، سنة ست، معتمراً لا يريد حرباً بالمهاجرين والأنصار في ألف وأربعمائة، وساق الهدي وأحرم بالعمرة، وسار حتى وصل إِلى ثنية المرار مهبط الحديبية أسفل مكة، وأمر بالنزول فقالوا: لينزل على غير ماء، فأعطى رجلاً سهماً من كنانته، وغرره في بعض تلك القلب في جوفه، فجاش حتى ضرب الناس عنه، وهذا من مشاهير معجزاته صلى الله عليه وسلم، فبعث قريش عروة بن مسعود الثقفي، وهو سيد أهل الطائف، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إِنّ قريشاً لبسوا جلود النمور، وعاهدوا الله أن لا تدخل عليهم مكة عنوة أبداً. ثم جعل عروة يتناول لحية رسول الله وهو يكلمه، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقرع يده ويقول: كف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا ترجع إِليك. فقال له عروة: ما أفظك وأغلظك فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قام عروة، من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرى ما يصنع أصحابه لا يتوضأ إِلا ابتدروا وضوءه ولا يبصق إِلا ابتدروا بصاقه، ولا يسقط من شعره شيء إِلا أخذوه، ورجع إِلى قريش وقال لهم: أني جئت: كسرى وقيصر في ملكهما، فوالله ما رأيت ملكاً في قومه مثل محمد في أصحابه، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إِلى قريش، ليعلمهم بأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأت لحرب، فقال عمر: أني أخاف قريشاً لغلظي عليهم، وعدواتي لهم، فبعث رسول الله عثمان بن عفان إِلى أبي سفيان وأشراف قريش، أنه لم يأت لحرب، إنما جاء زائراً ومعظماً لهذا البيت، فلما وصل إِليهم عثمان

ص: 138

وعرفهم بذلك، قالوا له: إِن أحببت أنك تطوف بالبيت فطف، فقال: ما كنت لأفعله حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمسكوه وحبسوه، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ عثمان قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا نبرح حتى نناجز القوم " ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى البيعة،، فكانت بيعة الرضوان، تحت الشجرة، وكان الناس يقولون بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، وكان جابر يقول: لم يبايعنا إِلا على أننا لا نفر، فبايع رسول الله عليه السلام الناس، ولم يتخلف أحد من المسلمين إِلا الجد بن قيس استتر بناقته، وبايع رسول الله عليه السلام لعثمان في غيبته، فضرب بإِحدى يديه على الأخرى، ثم أتى النبي الخبر أن عثمان لم يقتل.

الصلح بين النبي وقريش

‌صلى الله عليه وسلم وقريش

ثم إِن قريشاً بعثوا سهيل بن عمرو في الصلح، وتكلمّ مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فلما أجاب إِلى الصلح، قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله أو لست برسول الله، أولسنا بالمسلمين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إلى، قال: فعلام نعُطي لبينة في ديننا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا عبد الله ورسوله ولن أخالف أمره، ولن يضيعني " ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن أكتب باسمك اللهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم، ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله، لم أقاتلك، ولكن أكتب اسمك واسم أبيك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، سهيل بن عمرو، على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، وأنّه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأشْهد في الكتاب على الصلح، رجالاً من المسلمين والمشركين، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما خرجوا من المدينة، لا يشكون في فتح مكة، لرؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ما رأوا من الصلح، والرجوع، داخل الناس من ذلك، أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، نحر هديه وحلق رأسه، وقام الناس أيضاً فنحروا وحلقوا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يومئذ " يرحم الله المحلقين "، قالوا والمقصرين يا رسول الله؟ قال:" رحم الله المحلقين حتى أعادوا، وأعاد ذلك ثلاث مرات، ثم قال: " والمقصرين " ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة، وأقام بها حتى خرجت السنة ثم دخلت سنة سبع.

‌غزوة خيبر

ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، في منتصف المحرم من هذه السنة، أعني سنة سبع،

ص: 139

إلى خيبر، وحاصرهم وأخذ الأموال، وفتحها حصناً حصناً، فأول ما فُتح، حصن ناعم، ثم افتتح حصن القموص، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما سبايا، منهن صفية بنت كبيرهم، حيي بن أخطب، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل عتقها صداقها، وهي من خواصه عليه السلام، ثم افتتح حصن المصعب، وما كان بخيبر حصن أكثر طعاماً وودكاً منه، ثم انتهى إِلى الوطيح والسلالم، وكانا آخر حصون خيبر افتتاحاً.

وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ربما كانت تأخذه الشقيقة فيلبث اليوم واليومين لا يخرج، فلما نزل خيبر أخذته، فأخذ أبو بكر الصدّيق الراية، فقاتل قتالاً شديداً، ثم رجع فأخذها عمر بن الخطاب، فقاتل قتالاً أشد من الأول، ثم رجع فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" أما والله لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله. كراراً غير فرار، يأخذها عنوة " فتطاول المهاجرون والأنصار، وكان علي بن أبي طالب غائباً، فجاء وهو أرمد قد عصب عينيه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادن مني، فدنا منه، فتفل في عينيه، فزال وجعهما، ثم أعطاه الراية، فنهض بها، وعليه حلة حمراء، وخرج مرحب صاحب الحصن، وعليه مغفرة، وهو يقول:

قد علمت خيبر أني مرحب

شاكي السلاح بطل مجرب

فقال علي:

أنا الذي سمتني أمي حيدره

أكيلكم بالسيف كيل السندره

فاختلفا بضربتين، فقدت ضربة علي المغفر ورأس مرحب، وسقط على الأرض. وروى ابن إسحاق خلاف ذلك، والذي ذكرنا هو الأصح، وفتحت المدينة على يد علي رضى الله عنه، وذلك بعد حصار بضع عشرة ليلة، وحكى أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خرجنا مع علي رضي الله عنه، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى خيبر، فخرج إِليه أهل الحصن، وقاتلهم علي رضي الله عنه، فضربه رجل من اليهود، فطرح ترس علي من يده، فتناول باباً كان عند الحصن، فتترس به، ولم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده.

فلقد رأيتني في سبعة نُفر أنا ثامنهم، نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه.

وكان فتح خيبر في صفر، سنة سبع للهجرة، وسأل أهل خيبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح، على أن يساقيهم على النصف من ثمارهم، ويخرجهم متى شاء، ففعل ذلك، وفعل ذلك أهل فدك فكانت خيبر للمسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها فتحت بغير إيجاف خيل، ولم يزل يهود خيبر كذلك إِلى خلافة عمر رضي الله عنه، فأجلاهم منها، ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، انصرف إِلى وادي القرى، فحاصره ليلة وافتتحه عنوة، ثم سار إِلى المدينة، ولما قدمها وصل إليه من الحبشة بقية المهاجرين، ومنهم جعفر بن أبي طالب، فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أدري بأيهما أسَر، بفتح خيبر

ص: 140

أم بقدوم جعفر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إِلى النجاشي يطلبهم، ويخطب أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت قد هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش، فتنصر عبيد الله المذكور، وأقام بالحبشة، فزوجها للنبي صلى الله عليه وسلم ابن عمها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية، وكان بالحبشة من جملة المهاجرين، وأصدقها النجاشي عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار، ولما بلغ أباها أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها قال: ذلك الفحل الذي لا يقرع أنفه، فقدمت إِلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، في أن يدخلوا الذين حضروا من الحبشة في سهامهم من مغنم خيبر ففعلوا، وفي غزوة خيبر هدت إِلى النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت الحارث اليهودية شاة مسمومة، فأخذ منها قطعة ولاكها. ثم لفظها، وقال: تخبرني هذه الشاة أنها مسمومة، ثم قال في مرض موته أن أكلة خيبر لم تزل تعاودني، وهذا زمان انقطاع أبهري.

‌رسل النبي إلى الملوك

صلى الله عليه وسلم إِلى الملوك

في هذه السنة أعني سنة سبع، بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتبه ورسله إِلى الملوك، يدعوهم إِلى الإسلام، فأرسل إلى كسرى برويز بن هرمز، عبد الله بن حذافة، فمزَق كسرى كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يكاتبني بهذا وهو عبدي، ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: مزق الله ملكه، ثم بعث كسرى إلى باذان عامله باليمن، أن ابعث إِلى هذا الرجل الذي في الحجاز، فبعث باذان إِلى النبي صلى الله عليه وسلم اثنين، أحدهما يقال له خرخسره، وكتب معهما يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمسير إِلى كسرى، فدخلا على النبي عليه السلام وقد حلقا لحاهما وشواربهما، فكره النبي النظر إِليهما وقال: ويلكما من أمركما بهذا قالا: ربنا. يعنيان كسرى. فقال النبي عليه السلام: لكنّ ربي أمرني أن أعف عن لحيتي وأقص شاربي فأعلماه بما قَدما له وقالا: إِن فعلت، كتب فيك، باذان إِلى كسرى، وإن أبيت فهو يهلكك.

فأخر النبي صلى الله عليه وسلم الجواب إِلى الغد، وأتى الخبر من السماء إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، أنّ الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله. فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرهما بذلك، وقال لهما: " إِن ديني وسلطاني سيبلغ ما يبلغ ملكَ كسرى، فقولا لباذان أسلم، فرجعا إِلى بأذان وأخبراه بذلك، ثم ورد مكاتبةَ شيرويه إِلى باذان بقتل أبيه كسرى، وأن لا يتعرض إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم باذان وأسلم معه ناس من فارس.

فأرسل دحية بن خليفة الكلبي إِلى قيصر ملك الروم، فأكرم قيصر دحية وضع كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مخدة، ورد دحية رداً جميلاً.

وأرسل حاطب بن أبي بلتعة، وهو بالحاء المهملة، إلى صاحب مصر، وهو المقوقس جريج بن متى، فأكرم حاطباً، وأهدى إِلى النبي صلى الله عليه وسلم أربع جوار، وقيل جاريتين، إِحداهما مارية، وولدت من النبي صلى

ص: 141

الله عليه وسلم إِبراهيم ابنه، وأهدى أيضاً بغلة النبي صلى الله عليه وسلم دلدل، وحماره يعفور.

وكان قد أرسل إِلى النجاشي عمرو بن أمية، فقبّل كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب، حيث كان عنده في الهجرة.

وأرسل شجاع بن وهب الأسدي إِلى الحارث بن أبي شمرّ الغساني. فلما قرأ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ها أنا سائر إِليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك:" باد ملكه ".

وأرسل سليط بن عمرو إِلى هوذة بن علي ملك اليمامة، وكان نصرانياً فقال هوذة: إِن جعل الأمر لي من بعده سرت إِليه، وأسلمت، ونصرته، وإلا قصدت حربه.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ولا كرامة، اللهم اكفنيه " فمات بعد قليل.

وكان قد أرسل هوذة رجلاً يقال له الرحال بالحاء، وقيل بالجيم، إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فقدم وأسلم وقرأ سورة البقرة، وتفقه ورجع إِلى اليمامة، وارتد وشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرك معه مسيلمة الكذاب في النبوة.

وأرسل العلاء بن الحضرمي إِلى ملك البحرين وهو المنذر بن ساوي، فأسلم وهو من قبل الفرس، وأسلم جميع العرب بالبحرين.

‌عمرة القضاء

ثم خرج رسول صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة من سنة سبع، معتمراً عمرة القضاء وساق معه سبعين بدنة، ولما قرب من مكة خرجت له قريش عنها، وتحدثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم في عسر وجهد، فاصطفوا له عند دار الندوة، فلما دخل المسجد اضطبع، بأن جعل وسط ردائه تحت عضده الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر، ثم قال رحم الله أمرأ أراهم اليوم قوة ورمل في أربعة أشواط من الطواف، ثم خرج إِلى الصفا والمروة فسعى بينهما، وتزوج في سفره هذا ميمونة بنت الحارث، زوجه إِياها عمه العباس، وذكر أنه تزوجها محرماً، وهي من خواصه، ثم رجع إِلى المدينة ثم دخلت سنة ثمان من الهجرة وهو بالمدينة.

‌إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص

وفي سنة ثمان قدم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص السهمي، وعثمان بن طلحة بن عبد الدار فأسلموا، ثم كانت غزوة مؤتة وهي أول الغزوات بين المسلمِين والروم، وكانت في جمادى الأولى سنة ثمان، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف وأمر عليهم مولاه زيد بن حارثة، وقال:" إِن قتل فأمير الناس جعفر بن أبي طالب فإن قتل فأميرهم عبد الله بن رواحة " ووصلوا إلى مؤتة من أرض الشام وهي قبلي الكرك، فاجتمعت عليهم الروم والعرب المنتصرة في نحو مائة ألف والتقوا بمؤته، وكانت الراية مع زيد فقتل، فأخذها جعفر فقتل، فأخذها عبد اللهّ بن رواحة فقتل، واتفق العسكر على خالد بن الوليد، فأخذ الراية ورجع بالناس وقدم الِمدينة، وكان سبب هذه الغزوة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث

ص: 142

الحارث بن عمير رسولاً إِلى ملك بصرى بكتاب، كما بعث إِلى سائر الملوك، فلما نزل مؤتة عرض له عمرو بن شرحبيل الغساني فقتله، ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم غيره.

‌نقض الصلح وفتح مكة

كان السبب في نقض الصلح، أنّ بني بكر كانوا في عقد قريش. وعهدهم، وخزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، وفي هذه السنة. أعني سنة ثمان، لقيت بنو بكر خزاعة فقتلوا منهم، وأعانهم على ذلك جماعة من قريش فانتقض بذلك عهد قريش، وندمت قريش على نقض العهد، فقدم أبو سفيان بن حرب إِلى المدينة لتجديد العهد، ودخل على ابنته أمّ حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يجلس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فطوته عنه، فقال: يا بنية أرغبت به عني. فقالت: هو فراش رسول الله، وأنت مشرك نجس، فقال: لقد أصابك بعدي شر، ثم أتى للنبي صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد شيئاً وأتى كبار الصحابة مثل أبي بكر الصديق، وعلي رضي الله عنه، فتحدث معهما فأجاباه إلى ذلك، فعاد إِلى مكة وأخبر قريشاً بما جرى، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصد أن يبغت قريشاً بمكة من قبل أن يعلموا به، فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إِلى قريش مع سارة مولاة بني هاشم يعلمهم بقصد النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك. وأرسل علي بن أبي طالب والزبير بن العوام فأدركا سارة، وأخذا منها الكتاب، وأحضرا النبي صلى الله عليه وسلم حاطباً وقال: ما حملك على هذا؟ فقال: والله إني مؤمن ما بدلت ولا غيرت، ولكن لي بين أظهرهم أهل وولد، وليس لي عشيرة فصانعتهم. فقال عمر بن الخطاب دعني أضرب عنقه فإِنه منافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لعشر مضين من رمضان، سنة ثمان، ومعه المهاجرون والأنصار وطوائف من العرب، فكان جيشه عشرة آلاف حتى قارب مكة فركب العباس بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لعلي أجد حطاباً أو رجلاً يعلم قريشاً بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتونه ويستأمنونه، وإلا هلكوا عن آخرهم. قال: فلما خرجت سمعت صوت أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء الخزاعي: قد خرجوا يتجسسون، فقال العباس: أبا حنظلة، يعني أبا سفيان، فقال أبا الفضل قلت نعم، قال لبيك فداك أبي وأمي ما وراءك، فقلت: قد أتاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف من المسلمين. فقال أبو سفيان: ما تأمرني به؟ قلت تركب لأستأمن لك رسول الله وإِلا يضرب عنقك، فردفني وجئت به إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت طريقي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمرو: أبا سفيان الحمد للهّ الذي أمكنني منك بغير عقد ولا عهد، ثم اشتد نحو رسول الله صلى الله

ص: 143

عليه وسلم وأدركته، فقال: يا رسول الله دعني اًضرب عنقه، وسأل العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فقال: النبي صلى الله عليه وسلم قد أمنته، وأحضره يا عباس بالغداة، فرجع به العباس إِلى منزله، وأتى به إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغداة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يا أبا سفيان أما آن أن تعلم أن لا إِله إِلا الله؟ قال إلى: قال: ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله " فقال: بأبي أنت وأمي، أما هذه ففي النفس منها شيء، فقال له العباس: ويحك تشهّد قبل أن تُضرب عنقك، فتشاهد وأسلم معه حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس " اذهب بأبي سفيان إِلى مضيق الوادي ليشاهد جنود الله "، فقال العباس يا رسول الله إِنه يحب الفخر، فاجعل له شيئاً يكون في قومه، فقال:" من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن ". قال: فخرجت به كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت عليه القبائل وهو يسأل عن قبيلة، وأنا أعلمه حتّى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار، لا يبين منهم إِلا الحدق، فقال من هؤلاء. فقلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. فقال: لقد أصبح ملك ابن أخيك ملكاً عظيماً. قال: فقلت ويحك إِنها النبوة، فقال نعم.

ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام أن يدخل ببعض الناس من كداء وأمر

سعد بن عبادة سيد الخزرج أن يدخل ببعض الناس من ثنية كداء، ثم أمر عليّاً أن يأخذ الراية منه فيدخل بها لما بلغه من قول سعد: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة.

وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أسفل مكة في بعض الناس، وكل هؤلاء الجنود لم يقاتلوا، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القتال، إِلا أن خالد بن الوليد لقيه جماعة من قريش، فرموه بالنبل ومنعوه من الدخول، فقاتلهم خالد فقتل من المشركين ثمانية وعشرين رجلاً، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك قال: ألم أنه عن القتال؟ فقالوا: إِن خالد قوتل فقاتل وقُتل من المسلمين رجلان. وكان فتح مكة يوم الجمعة، لعشر بقين من رمضان، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وملكها صلحاً، وإلى ذلك ذهب الشافعي رضي الله عنه، وقال أبو حنيفة إِنها فتحت عنوة، ولما أمكن الله رسوله من رقاب قريش عنوة، قال لهم: ما تروني فاعلاً بكم قالوا له: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، قال " فاذهبوا فأنتم الطلقاء " ولما اطمأن الناس، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إِلى الطواف، فطاف بالبيت سبعاً على راحلته، واستلم الركن بمحجن كان في يده، ودخل الكعبة ورأى فيها الشخوص على صور الملائكة، وصورة إِبراهيم وفي يده الأزلام يستقسم،، فقال: قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام، ما شأن إِبراهيم والأزلام، ثم أمر بتلك الصور فطمست، وصلى في البيت وأهدر دم ستة رجال

ص: 144

وأربع نسوة، أحدهم عكرمة بن أبي جهل، ثم استأمنت له زوجته أم حكيم، فأمنّه فقدم عكرمة فأسلم. وثانيهم هبار بن الأسود، وثالثهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة، فأتى عثمان به النبي صلى الله عليه وسلم وسأله فيه، فصمت النبي صلى الله عليه وسلم طويلاً ثم أمنّه فأسلم، وقال لأصحابه:" إِنما صمت ليقوم أحدكم فيقتله " فقالوا: هلا أومأت إِلينا، فقال:" إِن الأنبياء لا تكون لهم خائنة الأعين " وكان عبد الله المذكور قد أسلم قبل الفتح، وكتب الوحي، فكان يبدل القرآن، ثم ارتد، وعاش إلى خلافة عثمان رضي الله عنه، وولاه مصر.

ورابعهم مقيس بن صبابة لقتله الأنصاري الذي قتل أخاه خطأ، وارتد، وخامسهم عبد الله بن هلال كان قد أسلم ثم قتل مسلماً وارتد. وسادسهم الحويرث بن نفيل، كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهجوه، فلقيه علي بن أبي طالب فقتله. وأما النساء فإِحداهن هند زوج أبي سفيان أم معاوية التي أكلت من كبد حمزة، فتفكرت مع نساء قريش وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما عرفها قالت: أنا هند فاعف عما سلف فعفا، ولما جاء وقت الظهر يوم الفتح، أذن بلال على ظهر الكعبة، فقالت جويرية بنت أبي جهل: لقد أكرم الله أبي حين لم يشهد نهيق بلال فوق الكعبة، وقال الحارث بن هشام ليتني مت قبل هذا، وقال خالد بن أسيد: لقد أكرم الله أبي فلم ير هذا اليوم، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر لهم ما قالوه، فقال الحارث بن هشام أشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد فنقول أخبرك، ومن النساء المهدرات الدم سارة مولاة بني هاشم التي حملت كتاب حاطب.

‌غزوة خالد بن الوليد على بني خزيمة

لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، بعث السرايا حول مكة إِلى الناس يدعوهم إِلى الإسلام، ولم يأمرهم بقتال، وكان بنو خزيمة قد قتلوا في الجاهلية عوفاً أبا عبد الرحمن بن عوف، وعم خالد بن الوليد، كانا أقبلا من اليمن، وأخذوا ما كان معهما، وكان من السرايا التي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى الناس ليدعوهم إِلى الإسلام، سرية مع خالد بن الوليد، فنزل على ماء لبني خزيمة المذكورين، فلما نزل عليه أقبلت بنو خزيمة بالسلاح، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح، فإِن الناس قد أسلموا، فوضعوه، وأمر بهم فكتفوا، ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما فعله خالد، رفع يديه إِلى السماء حتى بان بياض إبطيه وقال:" اللهم إِني أبرأ إِليك مما صنع خالد " ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب بمال، وأمر أن يؤدي لهم الدماء والأموال، ففعل علي ذلك، ثم سألهم هل بقي لكم مال أو دم؟ فقالوا لا، وكان قد فضل مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه قليل مال، فدفعه إليهم زيادة، تطييباً لقلوبهم، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فأعجبه وأنكر عبد الرحمن بن عوف على خالد فعله ذلك، فقال خالد: ثأرتُ أباك. فقال عبد الرحمن: بل

ص: 145

ثأرت عمك الفاكه، وفعلت فعل الجاهلية في الإسلام، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خصامهما فقال: يا خالد دع عنك أصحابي، فوالله لو كان لك أُحدٌ ذَهَبَاً، ثم أنفقته في سبيل الله تعالى ما أدركت غدوة أحدهم ولا روحته.

‌غزوة حنين

وكانت في شوال سنة ثمان، وحنين واد بين مكة والطائف، وهو إِلى الطائف أقرب. لما فُتحت مكة تجمّعت هوازن بحريمهم وأموالهم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومقدمهم مالك بن عوف النضري، وانضمت إِليهم ثقيف، وهم أهل الطائف، وبنو سعد بن بكر، وهم الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم مرتضعاً عندهم، وحضر مع بني جشم دريد ابن الصمة، وهو شيخ كبير قد جاوز المائة، وليس يراد منه التيمن برأيه، وقال رجزاً:

يا ليتني فيها جذع

أخب فيها وأضع

ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماعهم، خرج من مكة لست خلون من شوال ثمان، وكان يقصر الصلاة بمكة، من يرم الفتح إِلى حين خرج للقاء هوازن، وخرج معه اثنا عشر ألفاً، ألفان من أهل مكة، وعشرة آلاف كانت معه، وكان صفوان ابن أمية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافر لم يُسلم، سأل أن يُمهل بالإسلام شهرين، وأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِلى ذلك، واستعار رسول الله صلى الله عليه وسلم منه مائة درع في هذه الغزوة، وحضرها أيضاً جماعة كثيرة من المشركين وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى حنين، والمشركون بأوطاس، فقال دريد بن الصمة: بأي واد أنتم. قالوا: بأوطاس. قال: نعْمَ مجال الخيل، لا حَزن ضرس ولا سهل دَهِس، وركب النبي صلى الله عليه وسلم بغلته الدُلَدُل، وقال رجل من المسلمين لما رأى كثرة جيش النبي صلى الله عليه وسلم:" لن يغلب هؤلاء من قلة " وفي ذلك نزل قوله تعالى: " ويوم حنين إِذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً "" التوبة: 25 " ولما التقوا انكشف المسلمون لا يلوي أحد على أحد، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين في نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته، ولما انهزم المسلمون أظهر أهل مكة ما في نفوسهم من الحقد، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وكانت الأزلام معه في كناتته، وصرخ كلدة: الآن بطل السحر، وكلدة أخو صفوان بن أمية لأمه، وكان صفوان حينئذ مشركاً، فقال له صفوان: اسكت فضّ الله تعالى فاك. قال والله لئن يُربني رجل من قريش أحبّ إِلي من أن يُربني رجل من هوازن، واستمر رسول الله ثابتاً وتراجع المسلمون واقتتلوا قتالاً شديداً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لبغلته الدلدل: البدي البدي فوضعت بطنها على الأرض، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة تراب فرمى بها في وجه المشركين فكانت الهزيمة،

ص: 146

ونَصَر الله تعالى المسلمين، واتبع المسلمون المشركين يقتلونهم ويأسرونهم، وكان في السبي الشيماء بنت الحارث وأمها، حليمة السعدية، وكانت أخت رسول الله من الرضاع، فعرفته بذلك وأرته العلامة، وهي عضة النبي صلى الله عليه وسلم في ظهرها، فعرفها وبسط لها رداءه، وزودها وردها إِلى قومها حسبما سألت.

‌حصار الطائف

ولما انهزمت ثقيف من حنين إِلى الطائف، سار النبي صلى الله عليه وسلم إِليهم، فأغلقوا باب مدينتهم، وحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم نيفاً وعشرين يوماً، وقاتلهم بالمنجنيق، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعناب ثقيف فقطعت، ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل، فرحل عنهم حتى نزل الجعرانة، وكان قد ترك بها غنائم هوازن، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض هوازن ودخلوا عليه، فرد عليهم نصيبه ونصيب بني عبد المطلب، ورد على الناس بناءهم ونساءهم، ثم لحق مالك بن عوف مقدم هوازن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلم وحسن إِسلامه، واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعلى من أسلم من تلك القبائل، وكان عدة السبي الذي أطلعه ستة آلاف رأس، ثم قسم الأموال، وكانت عدة الإبل أربعة وعشرين ألف بعير، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، ومن الفضة أربعة آلاف أوقية، وأعطى المؤلفة قلوبهم مثل: أبي سفيان وابنيه يزيد ومعاوية وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام أخي أبي جهل وصفوان بن أمية وهؤلاء من قريش، وأعطى الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الذبياني وملك بن عوف مقدم هوازن وأمثالهم، فأعطى لكل واحد من الأشراف مائة من الإبل، وأعطى للآخرين أربعين أربعين، وأعطى للعباس بن مرداس السلمي أباعر لهم يرضها، وقال في ذلك من أبيات:

فأصبح نهبي ونهب العبي

د بين عيينة والأقرع

وما كان حصن ولا حابس

يفوقان مرداس في مجمع

وما كنت دون امرئ منهما

ومن يضع اليوم لا يرفع

فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اقطعوا عني لسانه فأعطي حتى رضي. ولما فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم، لم يعط الأنصار شيئاً، فوجدوا في نفوسهم، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهم:" أوجدتم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا ألفت بها قوماً ليسلموا وكلتكم إِلى إِسلامكم، أما ترضون أن يذهب الناس بالبعير والشاة، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، أما والذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً لسلكت شعْب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ".

ولما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة هوازن، وأعطى عيينة بن حصن وأبا سفيان

ص: 147

ابن حرب وغيرهما ما ذكرنا، قال ذو الخويصرة من بني تميم للنبي صلى الله عليه وسلم: لم أرك عدلت، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال:" ويحك إِذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون " فقال عمر: يا رسول الله ألا أقتله؟ قال: " لا، دعوه فإِنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة " وهذه الرواية عن محمد بن إِسحاق.

وروى غيره أن ذا الخويصرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم في وقت قسم الغنيمة المذكورة: لم تعدل، هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيخرج من ضئضئ هذا الرجل قوم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرميّة، لا يجاوز إِيمانهم تراقيهم ". فكان كما قاله صلى الله عليه وسلم، فإِنه خرج من ذي الخويصرة المذكور حرقوص بن زهير البجلي المعروف بذي الثدية، وهو أوّل من بويع من الخوارج بالإمامة، وأول مارق من الدين، وذو الخويصرة تسمية سماه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاد إِلى المدينة، واستخلف على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، وهو شاب لم يبلغ عشرين سنة، وترك معه معاذ بن جبل يفقه الناس، وحج بالناس في هذه السنة عتاب بن أسيد على ما كانت العرب تحج.

وفي ذي الحجة سنة ثمان، ولد إِبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية. وفيها أعني سنة ثمان مات حاتم الطائي، وهو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج من ولد طي بن أدد، وكان حاتم يكنى أبا سفانة وهو اسم ابنته، كني بها، وسفانة المذكورة أتت النبي صلى الله عليه وسلم بعد بعثته، وشكت إِليه حالها، وحاتم المذكور كان يضرب بجرده وكرمه المثل، وكان من الشعراء المجيدين. ثم دخلت سنة تسع والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وترادفت عليه وفود العرب فممن ورد عليه عروة بن مسعود الثقفي، وكان سيد ثقيف، وكان غائباً عن الطائف لما حاصرها النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم وحسن إِسلامه، وقال: يا رسول الله أمضي إِلى قومي بالطائف فأدعوهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:" إِنهم قاتلوك " فاختار المضي فمضى إلى الطائف ودعاهم إِلى الإسلام، فرماه أحدهم بسهم فوقع في أكحله فمات، رحمه الله تعالى، ووفد كعب بن زهير ابن أبي سلمى بعد أن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدته المشهورة وهي:

بانت سعادُ فقلبي اليوم متبول

وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم بردته، فاشتراها معاوية في خلافته من أهل كعب بأربعين ألف درهم، ثم توارثها الخلفاء الأمويون والعباسيون حتى أخذها التتر.

‌غزوة تبوك

وفي رجب من هذه السنة أعني سنة تسع، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز لغزو الروم

وأعلم الناس مقصدهم لبعد الطريق وقوة العدو، وكان قبل ذلك إِذا أراد غزوة ورَّى بغيرها،

ص: 148

وكان الحر شديداً والبلاد مجدبة والناس في عسرة، ولذلك سمي ذلك الجيش جيش العسرة، وكانت الثمار قد طابت، فأحب الناس المقام في ثمارهم، فتجهزوا على كره، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالنفقة، فأنفق أبو بكر جميع ماله، وأنفق عثمان نفقة عظيمة، قيل كانت ثلاثمائة بعير طعاماً. وألف دينار، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا يضر عثمان ما صنع بعد اليوم، وتخلف عبد الله بن أبي المنافق، ومن تبعه من أهل النفاق، وتخلف ثلاثة من عين الأنصار، وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأرجف به المنافقون وقالوا: ما خلفه إِلا استثقالا له، فلما سمع ذلك علي أخذ سلاحه، ولحق النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قال المنافقون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " كذبوا، وإنما خلفتك لما ورائي فارجع فاخلفني في أهلي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إِلا أنه لا نبي بعدي. وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثون ألفاً فكانت الخيل عشرة آلاف فرس، ولقوا في الطريق شدة عظيمة من العطش والحر، ولما وصلوا إِلى الحجر وهي أرض ثمود، نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورود ذلك الماء، وأمرهم إن يريقوا ما استقوه من مائه، وأن يطعموا العجين الذي عجن بذلك الماء الإبل، ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى تبوك وأقام بها عشرين ليلة، وقدم عليه بها يوحنا صاحب أيلة فصالحه على الجزية، فبلغت جزيتهم ثلاثمائة دينار، وصالح أهل أذرج على مائة دنيار في كل رجب، وأرسل خالد بن الوليد إِلى أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل، وكان نصرانياً من كندة، فأخذه خالد وقتل أخاه، وأخذ منه خالد قباء ديباج مخوصاً بالذهب، فأرسله إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل المسلمون يتعجبون منه، وقدم خالد بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحقن دمه وصالحه على الجزية وخلى سبيله، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة، فاعتذر إِليه الثلاثة الذي تخلفوا عنه، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامهم، وأمر باعتزالهم، فاعتزلهم الناس فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وبقوا كذلك خمسين ليلة، ثم أنزل الله تعالى توبتهم، فقال تعالى:" وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إِذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إِلا إِليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إِن الله هو التواب الرحيم "" التوبة: 81 " وكان قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، ولما دخلها قدم عليه وفد الطائف من ثقيف، ثم إِنهم أسلموا، وكان فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم اللات التي كانوا يعبدونها، لا يهدمها إِلى ثلاث سنين، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فغزِلوا إلى شهر واحد فلم يجبهم، وسألوه أن يعفيهم من الصلاة فقال:" لا خير في دين لا صلاة فيه " فأجابوا وأسلموا، وأرسل معهم المغيرة بن شعبة، وأبا سفيان بن حرب، ليهدما اللات، فتقدم

ص: 149

المغيرة فهدمها، وخرج نساء ثقيف حسراً يبكين عليها.

‌حج أبي بكر الصديق

رضي الله عنه بالناس

وبعث النبيِ‌

‌ صلى الله عليه وسلم

أبا بكر الصديق في سنة تسع ليحج بالناس، ومعه عشرون بدنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه ثلاثمائة رجل، فلما كان بذي الحُلَيْفَة، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم في إثره علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأمره بقراءة آيات من أول سورة براءة على الناس، وأن ينادي أن لا يطوف بالبيت بعد السنة عريان، ولا يحج مشرك، فعاد أبو بكر وقال: يا رسول الله أنزل فيّ شيء، قال:" لا ولكن لا يبلغ عني إِلا أنا أو رجل مني ألا ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وصاحبي على الحوض؟ " قال: إلى، فسار أبو بكر رضي الله عنه أميراً على الموسم، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يؤذن براءة يوم الأضحى، وأن لا يحج مشرك ولا يطوف عريان، من الأشراف للمسعودي. وفي ذي القعدة سنة تسع، كانت وفاة عبد الله بن أُبي بن أبي المنافق، ثم دخلت سنة عشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وجاءته وفود العرب قاطبة، ودخل الناس في الدين أفواجاً كما قال الله:" إِذا جاء نصر الله والفتح " النصر: 1 "، وأسلم أهل اليمن وملوك حمير.

‌إرسال علي بن أبي طالب إِلى اليمن

روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علياً كرم الله وجهه إِلى اليمن، فسار إليها وقرأ كتاب رسول الله على أهل اليمن، فأسلمت همذان كلها في يوم واحد، وكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام، وكتب بذلك إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسجد شكراً لله تعالى، ثم أمر علياً بأخذ صدقات نجران وجزيتهم، ففعل وعاد فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة في‌

‌ حجة الوداع

.

حجة الوداع

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً لخمس بقين من ذي القعدة، وقد اختلف في حجه، هل كان قراناً أم تمتعاً أم إِفراداً، والأظهر الذي اشتهر أنه كان قارناً، وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، ولقي علي بن أبي طالب محرماً، فقال:" حل كما حل أصحابك " فقال: إِني أُهللت بما أُهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبقي على إِحرامه، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي عنه، وعلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس مناسك الحج والسنن، ونزل قوله تعالى:" اليوم يئس الذي كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً "" المائدة: 3 " فبكى أبو بكر رضي الله عنه لما سمعها، فكأنه استشعر أنه ليس بمعد الكمال إِلا النقصان، وأنه قد نعيت إِلى النبيَ صلى الله عليه وسلم نفسه، وخطب رسول الله صلى الله

ص: 150

عليه وسلم الناس خطبة، بين فيها الأحكام، منها:" يا أيها الناس إِنما النسيء زيادة في الكفر، فإِن الزمان استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً " وتمم حجته وسميت حجة الوداع، لأنه لم يحج بعدها، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ وأقام بها حتى خرجت السنة. ثم دخلت سنة إِحدى عشَرة.

‌وفاة رسول الله

صلى الله عليه وسلم

لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع، أقام بالمدينة حتى خرجت سنة عشر، والمحرم من سنة إِحدى عشرة، ومعظم صفر، وابتدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه في أواخر صفر، قيل لليلتين بقيتا منه، وهو في بيت زينب بنت جحش، وكان يدور على نسائه، حتى اشتد مرضه وهو في بيت ميمونة بنت الحاِرث، فجمع نساءه واستأذنهن في أن يمرض في بيت إحداهن، فأذن له أن يمرض في بيت عائشة، فانتقل إِليها، كان قد جهز جيشاً مع مولاه أسامة بن زيد، وأكد في مسيره في مرضه، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبي صداع وأنا أقول وارأساه، فقال:" بل أنا والله يا عائشة أقول وارأساه " ثم قال ما ضرك لو متّ قبلي فقمت عليكِ وكفنتك وصليت عليك ودفنتك " قالت: فقلت كأني بك والله لو فعلت ذلك ورجعت إِلى بيتي وتعزيت ببعض. نسائك، فتبسم صلى الله عليه وسلم. وفي أثناء مرضه، وهو في بيت عائشة، خرج بين الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب، حتى جلس على المنبر، فحمد الله ثم قال: " أيّها الناس من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقدمني، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستفد منه، ومن أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخشى الشحناء من قبلي فإِنها ليست من شأني ". ثم نزل وصلى الظهر ثم رجع إِلى المنبر، فعاد إِلى مقالته، فادعى عليه رجل ثلاثة دراهم فأعطاه عوضها، ثم قال: " ألا إِن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة " ثم صلى على أصحاب أُحد واستغفر لهم ثم قال: " إِنّ عبداً خيّره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده " فبكى أبو بكر ثم قال: فديناك بأنفسنا. ثم أوصى بالأنصار فقال: يا معشر المهاجرين أصبحتم تزيدون وأصبحت الأنصار لا تزيد، والأنصار عيبتي التي أويت إِليها فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم. ثم إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أيام مرضه يصلي بالناس، وإنما انقطع ثلاثة أيام، فلما أذن بالصلاة أول ما انقطع فقال:" مروا أبا بكر فليصل بالناس " وتزايد به مرضه حتى توفي يوم الاثنين ضحوة النهار، وقيل نصف النهار، وقالت عائشة رضي الله عنها: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت وعنده قدح فيه ماء، يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول:" اللهم أعني على سكرات الموت ". قالت: وثقل في حجري، فذهبت أنظر في وجهه

ص: 151

يكتب له عثمان بن عفان أحياناً، وعلي بن أبي طالب، وكتب له خالد بن سعيد بن العاص، وأبان بن سعيد، والعلا بن الحضرمي، وأول من كتب له أبي بن كعب، وكتب له زيد بن ثابت، وكتب له عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وارتد ثم أسلم بوم الفتح، وكتب له بعد الفتح معاوية بن أبي سفيان.

سلاحه وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من السلاح سيفه المسمى ذا الفقار؛ غنمه يوم بدر، وكان لمنبه بن الحجاج السهمي، وقيل لغيره، وسمي ذا الفقار لحفر فيه، وغنم من بني قينقاع ثلاثة أسياف، وقدم معه إِلى المدينة لما هاجر سفيان، شهد بأحدهما بدراً، وكان له أرماح ثلاثة وثلاثة قسي، ودرعان غنمهما من بني قينقاع، وكان له ترس فيه تمثال، فأصبح وقد أذهبه الله تعالى.

عدد غزواته وسراياه

صلى الله عليه وسلم

قيل كانت غزواته تسع عشرة، وقيل ستاً وعشرين، وقيل سبعاً وعشرين غزوة، وآخر غزواته غزوة تبوك، ووقع القتال منها في تسع وهي بدر وأحد والخندق وقريظة والمصطلق وخيبر والفتح وحنين والطائف، وباقي الغزوات لم يجر فيها قتال، وأما السرايا والبعوث فقيل خمس وثلاثون وقيل ثمان وأربعون.

أصحابه قد اختلف الناس فيمن يستحق أن يطلق عليه صحابي، فكان سعيد بن المسيب لا يعد الصحابي إِلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة وأكثر، وغزا معه، وقال بعضهم كل من أدرك الحلم وأسلم ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، فهو صحابي، ولو أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة واحدة، وقال بعضهم لا يكون صحابياً إِلا من تخصص به الرسول صلى الله عليه وسلم وتخصص هو بالرسول صلى الله عليه وسلم، بأن يثق رسول الله صلى الله عليه وسلم بسريرته، ويلازم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، والأكثر على أن الصحابي: هو كل من أسلم ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه ولو أقل زمان، وأما عددهم على هذا القول الأخير، فقد روي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سار في عام فتح مكة في عشرة آلاف مسلم، وسار إِلى حنين في اثني عشر ألفاً، وسار إِلى حجة الوداع في أربعين ألفاً وأنهم كانوا عند وفاته صلى الله عليه وسلم مائة ألف، وأربعة وعشرين ألفاً.

وأما مراتبهم فالمهاجرون أفضل من الأنصار على الإِجمال، وأما على التفضيل فسبْاق الأنصار أفضل من متأخري المهاجرين، وقد رتب أهل التواريخ والصحابة على طبقات، فالطبقة الأولى أول الناس إِسلاماً كخديجة وعلي وزيد وأبي بكر الصديق‌

‌ رضي الله عنه

م ومن تلاهم ولم يتأخر إِلى دار الندوة. الطبقة الثانية أصحاب دار الندوة، وفيها أسلم عمر رضي الله عنه. الطبقة الثالثة المهاجرون إلى الحبشة، الرابعة أصحاب العقبة الأولى وهم سباق الأنصار، الخامسة أصحاب العقبة الثانية، السادسة أصحاب العقبة

ص: 154

الثالثة وكانوا سبعين، السابعة المهاجرون الذين وصلوا إِلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته وهو بقباء قبل بناء مسجده، الثامنة أهل بدر الكبرى، التاسعة الذين هاجروا بين بدر والحديبية، العاشرة أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا بالحديبية تحت الشجرة، الحادية عشرة الذين هاجروا بعد الحديبية وقبل الفتح، الثانية عشرة الذين أسلموا يوم الفتح، الثالثة عشرة صبيان أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه، ومن الصحابة أهل الصفة وكانوا أناساً فقراء لا منازل لهم ولا عشائر، ينامون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ويظلون فيه، وكان صفة المسجد مثواهم فنسبوا إِليها، وكان إِذا تعشى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو منهم طائفة يتعشون معه، ويفرق منهم طائفة على الصحابة ليعشوهم، وكان من مشاهيرهم أبو هريرة وواثلة بن الأسقع وأبو ذر رضي الله عنهم.

‌خبر الأسود العنسي

وفي مدة مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل الأسود العنسي، واسمه عيهلة بن كعب، ويقال له ذو الخمار، لأنه كان يقول يأتيني ذو خمار، وكان الأسود المذكور يشعبذُ ويُري الجهال الأعاجيب، ويسبي بمنطقه قلب من يسمعه، وهو ممن ارتد وتنبأ من الكذابين، وكاتبه أهل نجران، وكان هناك من المسلمين عمرو بن حزم وخالد بن سعيد بن العاص، فأخرجهما أهل نجران وسلموهما إِلى الأسود، ثم سار الأسود من نجران إِلى صنعاء فملكها، وصفي له ملك اليمن واستفحل أمره وكان خليفته في مذحج عمرو بن معدي كرب، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بعث رسولاً إلى الأبناء وأمرهم أن يخاذلوا الأسود إما غيلة وإما مصادمة، وأن يستنجدوا رجالاً من حمير وهمذان، وكان الأسود قد تغير على قيس بن عبد يغوث، فاجتمع به جماعة ممن كاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحدثوا معه في قتل الأسود فوافقهم، واجتمعوا بامرأة الأسود، وكان الأسود قد قتل أباها فقالت: والله إِنه لأبغض الناس إليّ، ولكن الحرس محيطون بقصره، فانقبوا عليه البيت، فواعدوها على ذلك ونقبوا عليه البيت، ودخل عليه شخص اسمه فيروز، فقتل الأسود وأحز رأسه فخار خوار الثور، فابتدر الحرس الباب، فقالت زوجته: هذا النبي يوحى إِليه، فلما طلع الفجر، أمروا المؤذن فقال: أشهد أن محمداً رسول الله، وأن عيهلة كذاب، وكتب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فورد الخبر من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأعلم أصحابه بقتل الأسود المذكور، ووصل الكتاب بقتل الأسود في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، فكان كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيها الناس إِني قد رأيت ليلة القدر، ثم انتزعت مني، ورأيت في يدي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا، فأولتهما هذين الكذابين صاحب اليمامة وصاحب صنعاء، ولن تقوم الساعة

ص: 155