الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأجابه إلى ذلك، وكان قيس بن سعد بن عبادة متولياً على مصر من جهة علي، على ما ذكرناه، فقد اعتزل عنه جماعة عثمانية إِلى قرية من بلد مصر يقال لها خربتا، وكان قيس المذكور من دهاة العرب، فرأى من المصلحة مداهنة المذكورين، وكف الحرب عنهم لئلا ينضموا إِلى معاوية، وكتب معاوية إِلى قيس المذكور يستميله، ويبذل له الولايات العظام، فلم يفد فيه، فزور عليه معاوية كتاباً وقرأه على الناس، يوهمهم أن قيساً معه، ولذلك لم يقاتل المعتزلين عنه بخربتا، فبلغ علياً ذلك، فعزل قيساً عن مصر؛ وولى عليها محمد بن أبي بكر، ولحق قيس بالمدينة، ثم وصل إِلى علي وحضر معه حرب صفين، وحكى لعلي ما جرى له مع معاوية، فعلم صحة ذلك، وبقي قيس المذكور مع علي ثم مع الحسن على ذلك، إِلى أن سلم الأمر إِلى معاوية، وأما محمد بن أبي بكر، فوصل إلى مصر وتولى عليها، ووصاه قيس في أنه لا يتعرض إِلى أهل خربتا، فلم يقبل محمد ذلك، وبعث إلى أهل خربتا يأمرهم بالدخول في بيعة علي، أو الخروج من أرض مصر، فأجابوه أن لا نفعل، ودعنا ننظر إلى ما يصير إِليه أمرنا، فأبى عليهم.
وقعة صفين
ولما قدم عمرو على معاوية كما ذكرنا واتفقا على حرب علي، قدم جرير بن عبد الله البجلي على علي، فأعلمه بذلك، فسار علي من الكوفة إِلى جهة معاوية، وقدم عليه عبد الله بن عباس ومن معه من أهل البصرة، فقال علي رضي الله عنه:
لأصبحن العاص وابن العاصي
…
سبعين ألفاً عاقدي النواصي
مجنبين الخيل بالقلاص
…
مستحقبين حلق الدلاص
وحدا بعلي نابغة بني جعد الشاعر فقال:
قد علم المصران والعراق
…
أن علياً فحْلها العتاقُ
أبيض جحجاح له رواقَ
…
إِن الأولى جاروك لا أفاقوا
لكم سباق ولهم سباق
…
قد سلمتْ ذلكم الرفاق
وسار عمر ومعاوية من دمشق بأهل الشام إِلى جهة علي، وتأنى معاوية في مسيره، حتى اجتمعت الجموع بصفين، وخرجت سنة ست وثلاثين والأمر على ذلك.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين والجيشان بصفين، ومضى المحرم ولم يكن بينهم قتال، بل مراسلات يطول ذكرها، لم ينتظم بها أمر، ولما دخل صفر وقع بينهما القتال فيه، وكانت بينهم وقعات كثيرة بصفين، قيل كانت تسعين وقعة، وكان مدة مقامهم بصفين مائة وعشرة أيام، وكانت عدة القتلى بصفين من أهل الشام خمسة وأربعين ألفاً، ومن أهل العراق خمسة وعشرين ألفاً، منهم ستة وعشرون رجلا من أهل بدر، وكان علي قد تقدم إِلى أصحابه أن لا يقاتلوهم حتى يبدؤوا بالقتال، وأن لا يقتلوا مدبراً وألا يأخذوا شيئاً من أموالهم وأن لا يكشفوا عورة. قال معاوية، أردت الانهزام بصفين،
فتذكرت قول ابن الإطنابة فثبت، وكان جاهلياً، والإطنابة مرة وهو قوله:
أبت لي همتي وحياء نفسي
…
وإقدامي على البطل المشيح
وإعطائي على المكروه مالي
…
وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وقولي كلما جاشت وجاشت
…
رويدك تحمدي أو تستريحي
وقاتل عمار بن ياسر رضي الله عنه مع علي قتالاً عظيماً، وكان قد نيف عمره على تسعين سنة، وكانت الحربة في يده ترعد؛ وقال: هذه راية قاتلت بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، وهذه الرابعة، ودعى بقدح من لبن فشرب منه ثم قال: صدق الله ورسوله:
اليوم ألقى الأحبة
…
محمداً وحزبه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن آخر رزقي من الدنيا ضيحة لبن "، والضيحُ: اللبن الرقيق الممزوج. وروي أنه كان يرتجز:
نحن قتلناكم على تأويله
…
كما قتلناكم على تنزيله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله
…
ويذهل الخليل عن خليله
ولم يزل عمار المذكور يقاتل حتى استشهد رضي الله عنه، وفي الصحيح المتفق عليه، أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال:" يقتل عمار الفئة الباغية، قيل: إِن الذي قتله، أبو عادية برمح، فسقط عمار، فجاء آخر فاحتز رأسه "، وأقبلا يختصمان إِلى عمرو ومعاوية، كل منهما يقول: أنا قتلته. فقال عمرو: إِنكما في النار، فلما انصرفا قال معاوية لعمرو: ما رأيت مثل ما رأيت اليوم، صرفت قوماً بذلوا أنفسهم دوننا. فقال عمرو: هو والله ذلك، والله إِنك لتعلمه، ولوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة.
وبعد قتل عمار رضي الله عنه انتدب علي اثني عشر ألفاً، وحمل بهم على عسكر معاوية، فلم يبق لأهل الشام صف إِلا انتقض وعلي يقول:
أقتلهم ولا أرى معاويه
…
الجاحظ العين العظيم الخاويه
ثم نادى: يا معاوية، علام تقتل الناس ما بيننا، هلم أحاكمك إِلى الله، فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور. فقال عمرو: أنصفك ابن عمك، فقال معاوية: ما أنصف، إِنك تعلم أنه لم يبرز إِليه أحد إِلا قتله. فقال عمرو وما يحسن بك ترك مبارزته. فقال معاوية: طمعتَ في الأمر بعدي.
ثم تقاتلوا ليلة الهرير، شبهت بليلة القادسية، وكانت ليلة الجمعة، واستمر القتال إِلى الصبح، وقد روى أن علياً كبر تلك الليلة أربعمائة تكبيرة، وكانت عادته أنه كلما قتل قتيلاً كبر، ودام القتال إِلى ضحى يوم الجمعة.
وقاتل الأشتر قتالاً عظيماً، حتى انتهى إِلى معسكرهم، وأمده علي بالرجال، ولما رأى عمرو ذلك، قال لمعاوية: هلم نرفع المصاحف على الرماح، ونقول هذا كتاب الله بيننا وبينكم، ففعلوا ذلك، ولما رأى، أهل العراق ذلك قالوا لعلي: لا نجيب إِلى كتاب الله؟ فقال علي: امضوا على حقكم وصدقكم في قتال عدوكم، فإِن عمراً ومعاوية وابن أبي معيط وابن أبي سرح والضحاك بن قيس، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وأنا أعرف بهم منكم، ويحكم، والله ما رفعوها إِلا خديعة ومكيدة.
فقالوا: لا تمنعنا أن ندعي إِلى كتاب الله، فنأبى. فقال علي: إِني إِنما
قاتلتهم ليدينوا بحكم كتاب الله، فإِنهم قد عصوا الله فيما أمرهم.
فقال له مسعود بن فدك التميمي، وزيد بن حصين الطائي في عصابة من الذين صاروا خوارج: يا علي أجب إِلى كتاب الله إِذا دعيتُ إِليه، وإلا دفعناك برمتك إِلى القرم، نفعل بك ما فعلنا بابن عفان.
فقال علي: إِن تطيعوني فقاتلوا، وإن تعصوني فافعلوا ما بدا لكم. قالوا فابعث إِلى الأشتر فليأتك، فبعث إِليه يدعوه، فقال الأشتر: ليس هذه الساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي، فرجع الرسول وأخبره بالخبر، وارتفعت الأصوات وكثر الرهج من جهة الأشتر، فقالوا لعلي: ما نراك أمرته إِلا بالقتال؟ فقال: هل رأيتموني ساررت الرسول إِليه، أليس كلمته وأنتم تسمعون؟ فقالوا: فابعث إِليه ليأتك وإلا اعتزلناك فرجع الرسول إِلى الأشتر وأعلمه.
فقال: قد علمت والله أن رفع المصاحف يوقع اختلافاً، وإنها مشورة ابن العاهر فرجع الأشتر إِلى علي وقال: خدعتم فانخدعتم، وكان غالب تلك العصابة الذين نهوا عن القتال قراء، ولما كفوا عن القتال سألوا معاوية: لأي شيء رفعت المصاحف؟ فقال: تنصبوا حكماً منكم وحكماً منا، ونأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله، ثم نتبع ما اتفقا عليه، فوقعت الإجابة من الفريقين إِلى ذلك.
فقال الأشعث بن قيس وهو من أكبر الخوارج: إِنا قد رضينا بأبي موسى الأشعري.
فقال علي: قد عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن. لا أرى أن أولي أبا موسى.
فقالوا: لا نرضى إِلا به.
فقال علي: إِنه ليس بثقة؛ قد فارقني وخذل عني الناس، ثم هرب مني حتى أمنته بعد أشهر، ولكن ابن عباس أولى منه.
فقالوا: ابن عباس ابن عمك، ولا نريد إِلا رجلاً هو منك ومن معاوية سواء.
قال علي: فالأشتر. فأبوا وقالوا: هل أسعرها إِلا الأشتر.
فاضطر علي إِلى إِجابتهم، وأخرج أبا موسى، وأخرج معاوية عمرو بن العاص بن وائل، واجتمع الحكمان عند علي رضي الله عنه، وكتب بحضوره كتاب القصة وهو: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى أمير المؤمنين علي. فقال عمرو: هو أميركم، وأما أميرنا فلا. فقال الأحنف: لا تمح اسم أمير المؤمنين. فقال الأشعث بن قيس امح هذا الاسم فأجاب علي ومحاه.
وقال علي: الله أكبر سنة بسنة، والله إِني لكاتب رسول الله يوم الحديبية، فكتبت محمد رسول الله، فقالوا لست برسول الله، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحو، فقلت: لا أستطيع، فقال: فأرني، فأريته فمحاه بيده، فقال لي:" إِنك ستدعى إِلى مثلها فتجيب ".
فقال عمرو: سبحان الله تشبهنا بالكفار ونحن مؤمنون.
فقال علي رضي الله عنه: يا ابن النابغة، ومتى لم تكن للفاسقين، ولياً وللمؤمنين عدواً.
فقال عمرو: والله لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد اليوم. فقال علي: إني لأرجو أن يطهر الله مجلسي منك، ومن أشباهك.
وكتب الكتاب؛ فمنه: هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، قاضي علي على أهل الكوفة ومن معهم، وقاضي معاوية على أهل الشام ومن معهم أنا ننزل عند حكم الله وكتابه، نحيي ما أحيى، ونميت ما أمات، فما وجد الحكمان في كتاب الله - وهما أبو موسى الأشعري عبد الله
قيس وعمرو بن العاص - عملاً به، وما لم يجدا في كتاب الله فبألسنة العادلة.
وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين المواثيق، أنهما أمينان على أنفسهما وأهلهما، والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وأجلا القضاء إلى رمضان، من هذه السنة، وإن أحبا أن يؤخّرا ذلك أخراه. وكتب في يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين، بدومة الجندل، في رمضان، فإِن لم يجتمعا لذلك، اجتمعا في العام المقبل بإِذرح.
ثم سار علي إلى العراق، وقدم إِلى الكوفة ولم تدخل الخوارج معه إِلى الكوفة؛ واعتزلوا عنه، ثم في هذه السنة، بعث علي للميعاد أربعمائة رجل، فيهم أبو موسى الأشعري وعبد الله بن عباس ليصلي بهم، ولم يحضر علي. وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة رجل، ثم جاء معاوية، واجتمعوا بإِذرح وشهد معهم عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة.
والتقى الحكمان؛ فدعى عمرو أبا موسى إِلى أن تجعل الأمر إِلى معاوية، فأبى وقال: لم أكن لأوليه وأدع المهاجرين الأولين، ودعى أبو موسى عمر، إِلى أن يجعل الأمر إِلى عبد الله بن عمر بن الخطاب، فأبى عمرو، ثم قال عمرو: ما ترى أنت؟ فقال أرى أن نخلع علياً ومعاوية؛ ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، فأظهر لهم عمرو أن هذا هو الرأي؛ ووافقه عليه.
ثم أقبلا إِلى الناس وقد اجتمعوا، فقال أبو موسى: إِن رأينا قد اتفق على أمر نرجو به صلاح هذه الأمة. فقال عمرو: تقدّم فتكلم يا أبا موسى. فلما تقدّم لحقه عبد الله بن عباس وقال: ويحك والله إِني أظن أنه خدعك إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه قبلك. فإِني لا آمن أن يخالفك. فقال أبو موسى: إِنا قد اتفقنا فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس إِنا لم نر أصلح لأمر هذه الأمة من أمر قد اجتمع عليه رأيي ورأي عمرو، وهو أن نخلع علياً ومعاوية، وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر، فيولوا منهم من أحبوا وإِني قد خلعت علياً ومعاوية، فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلاً.
ثم تنحى وأقبل عمرو فقام مقامه: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي فإنه ولي عثمان، والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه. فقال له أبو موسى: ما لك لا وفقك الله غدرت وفجرت.
وركب أبو موسى ولحق بمكة حياء من الناس، وانصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية فسلموا عليه بالخلافة، ومن ذلك الوقت أخذ أمر علي في الضعف، وأمر معاوية في القوة.
ولما اعتزلت الخوارج علياً دعاهم إِلى الحق؛ فامتنعوا وقتلوا كل من أرسله إِليهم، فسار إليهم وكانوا أربعة آلاف، ووعظهم ونهاهم عن القتل، فتفرقت منهم جماعة، وبقي مع عبد الله بن وهب جماعة على ضلالتهم، وقاتلوا فقتلوا عن آخرهم، ولم يقتل من أصحاب علي سوى سبعة أنفس، أولهم يزيد بن نويرة، وهو ممن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة أُحد.
ولما رجع علي