الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر القَاضِي أبي البركات الْمَعْرُوف بِابْن الْحَاج البلفيقي
وَمن مشاهير الْقُضَاة الشَّيْخ أَبُو البركات، وَهُوَ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد ابْن خلف السّلمِيّ، من ذُرِّيَّة الْعَبَّاس بن مرداس الْمَعْرُوف فِي بَلَده بِابْن الْحَاج، وَفِي غَيره بالبلفيقي. وبلفيق حصن من عمل مَدِينَة المرية. وبيته بَيت دين وَفضل. ذكر ابْن الْأَبَّار جده الْأَعْلَى أَبَا إِسْحَاق، وَأَطْنَبَ فِي الثَّنَاء عَلَيْهِ بِالْخَيرِ وَالصَّلَاح. وَكَانَ هَذَا الشَّيْخ المترجم عَنهُ مِمَّن نَشأ على طَهَارَة وعفاف؛ واجتهد فِي طلب الْعلم صَغِيرا وكبيراً، وَعبر الْبَحْر إِلَى بجاية؛ فَأدْرك بهَا الْمدرس المعمر أَبَا عَليّ مَنْصُور بن أَحْمد بن عبد الْحق المشدالي، وَحضر مجالسه العلمية، وَأخذ عَنهُ وَعَن غَيره من أَهلهَا؛ ثمَّ إِنَّه أَتَى إِلَى مراكش، وتجول فِيمَا بَينهَا من الْبِلَاد. وأثار السُّكْنَى بسبتة على طَريقَة جده إِبْرَاهِيم الْأَقْرَب إِلَيْهِ، إِذْ كَانَ أَيْضا قد استوطنها. ثمَّ عَاد إِلَى الأندلس؛ فَأَقَامَ مِنْهَا بمالقة، واختص بخطيبها الشَّيْخ الْوَلِيّ أبي عبد الله الطنجالي، وروى عَنهُ وَعَن غَيره، وَقيد الْكثير بِخَطِّهِ، ودام فِي ابْتِدَاء طلبه التَّشْبِيه بِالْقَاضِي أبي بكر بن الْعَرَبِيّ، فِي لِقَاء الْعلمَاء ومصاحبة الأدباء، وَالْأَخْذ فِي المعارف كلهَا، والتكلم فِي أَنْوَاعهَا والإكثار من ملح الحكايات، وطرف الْأَخْبَار، وغرائب الْآثَار، حَتَّى صَار حَدِيثه مثلا فِي الأقطار؛ وَهُوَ مَعَ ذَلِك، على شدَّة انطباعه، وَكَثْرَة ردعته، سريع الْعبْرَة عِنْد ذكر الْآخِرَة، قريب الدمعة. وَكَانَ كثير الضَّبْط لحاله، مهتماً بِالنّظرِ فِي تثمير مَاله، آخِذا فِي نَفَقَته بقول سَحْنُون بن سعيد: مَا أحب أَن يكون عَيْش الرجل إِلَّا على قدر ذَات يَده؛ وَلَا يتَكَلَّف أَكثر مِمَّا فِي وَسعه {وَكَانَ يمِيل إِلَى القَوْل بتفضيل الْغَنِيّ على الْفَقِير، ويبرهن على صِحَة ذَلِك، وَيَقُول: وبخصوص فِي الْبِلَاد الأندلسية، لضيق حَالهَا، واتساع نطاق مدنها، وَلَا سِيمَا فِي حق الْقُضَاة؛ فقد شَرط كثير من الْعلمَاء فِي القَاضِي أَن يكون غَنِيا، لَيْسَ بمديان وَلَا مُحْتَاج. وَمن كَلَامه رحمه الله} من اقْتصر على التعييش من مرافق الْمُلُوك، ضَاعَ هُوَ وَمن لَهُ، وشمله القل، وخامره الذل. اللَّهُمَّ! إِلَّا من كَانَ من الْقُوَّة بِاللَّه قد بلغ من الزّهْد فِي الدُّنْيَا إِلَى الْحَد الَّذِي يكسبه الرَّاحَة بِالْخرُوجِ عَن متاعها، وَترك
شهوتها، قليلها وكثيرها، مَالهَا وجاهها. بِأَمْر آخر {وَمن لنا بالعون على تَحْصِيل هَذَا الْمقَام، وَلَا سِيمَا فِي هَذَا الزَّمَان، وَلم نسْمع مِمَّن قاربه من الْوُلَاة الْمُتَقَدِّمين بالأندلس إِلَّا مَا حكى عَن إِبْرَاهِيم بن أسلم، وَقد أَرَادَ الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه رياضته؛ فَقطع عَنهُ جرايته؛ فَكتب إِلَيْهِ عِنْد ذَلِك: تزيد على الإفلال نَفسِي نزاهة
…
وتأنس بالبلوى وتقوى مَعَ الْفقر فَمن كَانَ يخْشَى صرف دهر فإنني
…
أمنت بِفضل الله من نوب الدَّهْر فَلَمَّا قَرَأَ الحكم بيتيه، أَمر برد الجراية، وَحملهَا إِلَيْهِ. فَأَعْرض عَنْهَا، وتمنع من قبُولهَا، وَقَالَ: إِنِّي، وَالْحَمْد لله} تَحت جراية من إِذا أعصيته، لم يقطع عني جرايته {فَلْيفْعَل الْأَمِير مَا أحب} فَكَانَ الحكم بعد ذَلِك يَقُول: لقد أكسبنا ابْن أسلم بمقالته مخزاة عظم منا موقعها، وَلم يسهل علينا المقارضة بهَا {وَتَوَلَّى الشَّيْخ أَبُو البركات الْقَضَاء فِي بِلَاد عديدة، مِنْهَا مالقة: تقدم بهَا بعد شَيخنَا أبي عَمْرو بن مَنْظُور، وَذَلِكَ صدر عَام 735؛ ثمَّ نقل إِلَى قَضَاء الْجَمَاعَة بِحَضْرَة غرناطة والخطابة بهَا. وَكَانَ مُسْتَوْفيا لشروط الْخطْبَة وجوبا وكمالاً من صُورَة وهيئة، وَطيب نَغمَة، وَكَثْرَة خشوع، وتوسط إنْشَاء. وَشهر بالصرامة فِي أَحْكَامه، والنزاهة أَيَّام نظره. ثمَّ تَأَخّر عَن قَضَاء الحضرة، وَأقَام بهَا مُدَّة، إِلَى أَن صير إِلَى مَدِينَة المرية} ثمَّ أُعِيد إِلَى قَضَاء الْجَمَاعَة، وَاسْتعْمل فِي السفارة بَين الْمُلُوك؛ فصحبه السداد، ورافقه الإسعاد، وَكَانَ فِي أطواره سريع التكوين، طامعاً فِي الْوُصُول إِلَى مقَام التَّمْكِين، كثير الِانْتِقَال من قطر إِلَى قطر، وَمن عمل إِلَى عمل، من غير اسْتِقْرَار منزل أَو مَحل وَاحِد. وَلذَلِك قَالَ فِي أبياته الَّتِي أَولهَا: إِذا تَقول: فدتك النَّفس فِي حَالي
…
يفنى زماني فِي حل وترحال وَكَانَ التَّكَلُّم بالشعر من أسهل شَيْء عَلَيْهِ، فِي كثير مراجعاته، وفنون مخاطباته. وَله مِنْهُ ديوَان كَبِير، يحتوي من ضروب الْأَدَب على جد وهزل، وسمين وجزل، سَمَّاهُ ب العذب والاجاج؛ وَكتاب وسمه ب المؤتمن فِي أنباء من لقِيه من أَبنَاء الزَّمن.
وَاسْتقر أخيراً بِمَدِينَة المرية قَاضِيا وخطيباً، إِلَى أَن توفّي بهَا فِي شهر رَمَضَان عَام 773، عَن بنت من أمته، لَا غير من الْأَوْلَاد، وَأَرْبع زَوْجَات، وعاصب بعيد. وَكَانَ، أَيَّام حَيَاته، مِمَّن اكْتسب المَال الجم، وتمتع من النِّسَاء بِمَا لم يتأت فِي قطره لأمثاله من الْفُقَهَاء. وَهُوَ من أَصْحَابنَا القدماء، الَّذين ورثنا ودهم، وشكرنا عَهدهم رحمه الله وَغفر لَهُ وأرضاه! وَمن شعره فِي المجبنات، وَهُوَ النمط البديع: ومصفرة الْخَدين مطوية الحشا
…
على الْجُبْن والمصفر يُؤذن بالخوف لَهَا بهجة كَالشَّمْسِ عِنْد طُلُوعهَا
…
ولاكنها فِي الْحِين تغرب فِي الْجوف وَقَوله: إِذا مَا كتمت السِّرّ عَمَّن أوده
…
توهم أَن الود غير حقيق وَلم أخف عَنهُ السِّرّ من ضنة بِهِ
…
ولاكنني أخْشَى صديق صديقِ وَقَوله: قَالُوا: تغربت عَن أهل وَعَن وَطن
…
فَقلت: لم يبْق لي أهل وَلَا وَطن مضى الْأَحِبَّة والأهلون كلهم
…
وَلَيْسَ لي بعدهمْ سُكْنى وَلَا سكن أفرغت دمعي وحزني بعدهمْ فَأَنا
…
من بعد ذَلِك لَا دمع وَلَا حزن وَقَوله: رعى الله إخْوَان الْخِيَانَة إِنَّهُم
…
كفونا مؤنات الْبَقَاء على الْعَهْد وَلَو قربوا كُنَّا أُسَارَى حُقُوقهم
…
نراوح مَا بَين النَّسِيئَة والنقد وَقَوله يعْتَذر لبَعض الطّلبَة، وَقد استدبره لبَعض حلق الْعلم بسبتة: إِن كنت أبصرتك لَا أَبْصرت
…
بصيرتي فِي الْحق برهانها لَا غرو إِنِّي لَا أشاهدكم
…
فالعين لَا تبصر إنسانها