الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اقبضني إِلَيْك {قَالَ ابْن الْأَبَّار فِي تكملته، وَقد ذكره: فَتوفي فِي ليلته وَدفن فِي الْغَد. وَكَانَ رجلا صَالحا. ورعاً، مجاب الدعْوَة. وَكَانَت بيعَة مَرْوَان فِي صفر سنة 540. وَذكر يحيى بن إِسْحَاق أَن هشاماً، لما ولي، قيل لَهُ: لَا يتعدل مَا تُرِيدُ إِلَّا بِولَايَة زِيَاد بن عبد الرَّحْمَن على الْقَضَاء} فَبعث إِلَيْهِ؛ فتمنع؛ فألح عَلَيْهِ هِشَام، وأحضر الوزراء؛ وكلموه فِي ذَلِك عَن الْأَمِير وعرفوه عزمه. فَقَالَ لَهُم: أما إِذْ عزمتم، وأكرهتموني على الْقَضَاء، فأخبركم مَا أبدأ بِهِ على الْمَشْي إِلَى مَكَّة. إِن وليتموني، وَجَاءَنِي أحد متظلماً مِنْكُم، إِلَّا أخرجت من أَيْدِيكُم مَا يَدعِيهِ، ورددته عَلَيْهِ، وكلفتكم الْبَيِّنَة لما أعرف من ظلمكم {فَلَمَّا سمعُوا ذَلِك، عرفُوا صدقه؛ فَعَلمُوا عِنْد الْأَمِير فِي معافاته. فَقيل ليحيى بن يحيى: أهوَ وَجه الْقَضَاء؟ قَالَ: نعم} فِيمَن عرف بالظلم وَالْقُدْرَة!
فصل
هَذِه الْمَسْأَلَة، الَّتِي هِيَ إِخْرَاج مَا يَدعِيهِ الطَّالِب من يَد الْمَطْلُوب الموسوم بالظلم، وَقع من أَمْثَالهَا فِي أُمَّهَات الْكتب نَظَائِر؛ مِنْهَا فِي الْعُتْبِيَّة قَالَ فِي سَماع يحيى: قلت: فقوم عرفُوا بِالْغَصْبِ لأموال النَّاس من ذَوي الاستطالة بالسلطان؛ ثمَّ جَاءَ الله بوال أنصف مِنْهُم وأعدى عَلَيْهِم؛ فَلَا يجد الرجل من يشْهد على مُعَاينَة الْغَصْب، ويجد من يشْهد على حق أَنهم يعرفونه ملك الْمُدَّعِي، ثمَّ رَأَوْهُ بيد هَذَا الظَّالِم، لَا يَدْرُونَ بِمَاذَا صَار إِلَيْهِ إِلَّا أَن الطَّالِب كَانَ يشكو إِلَيْهِم ذَلِك، أَو لَا يشكوه. قَالَ: إِذا كَانَ من أهل القهرة والتعدي وَمن يقدر على ذَلِك، وَالْبَيِّنَة عادلة، فَذَلِك يُوجب للْمُدَّعِي أَخذ حَقه مِنْهُ، إِلَّا أَن يَأْتِ الظَّالِم بِبَيِّنَة عادلة على شِرَاء صَحِيح، أَو علمية لمن كَانَ يَأْمَن ظلمه، أَو يَأْتِ بِوَجْه حق ينظر لَهُ فِيهِ. قَالَ: فَإِن جَاءَ بِبَيِّنَة عادلة على شِرَائِهِ، وَزعم البَائِع أَن ذَلِك البيع عَن فَوق من سطوته، وَهُوَ لَا يقدر عَلَيْهِ؛ قَالَ: يفْسخ البيع إِن ثَبت أَنه من أهل الظُّلم والاستطالة. قَالَ: وَإِن زعم البَائِع أَنه بَاعَ وَقبض مِنْهُ الثّمن ظَاهرا، ثمَّ دس إِلَيْهِ سراق، أَخذه مِنْهُ. وَلَو لم يفعل لَهُ ذَلِك لَقِي مِنْهُ شرا قَالَ: لَا يقبل مِنْهُ هَذَا؛ وَعَلِيهِ دفع الثّمن إِلَيْهِ، بعد أَن يحلف الظَّالِم أَنه مَا ارتجعه، وَلَا أَخذه مِنْهُ بعد أَن دَفعه إِلَيْهِ. قَالَ ابْن رشد: أما مَا ذكره من أَن الظَّالِم، الْمَعْرُوف بِالْغَضَبِ لأموال النَّاس والقهرة لَهُم عَلَيْهِم، لَا ينْتَفع بحيازته مَال الرجل فِي وَجهه، وَلَا يصدق من أجلهَا على مَا يَدعِيهِ من
شِرَاء أَو هبة، أَو صَدَقَة يُرِيد، وَإِن طَال ذَلِك فِي يَده أعواماً: أما إِذا أقرّ بِأَصْل الْملك لمدعيه، وَقَامَت لَهُ بَيِّنَة بذلك، فَهُوَ صَحِيح لَا أعلم فِيهِ اخْتِلَافا، لِأَن الْحِيَازَة لَا توجب الْملك؛ وَإِنَّمَا هِيَ دَلِيل عَلَيْهِ بِوَجْه تَصْدِيق غير الْغَاصِب فِيمَا ادَّعَاهُ من تصييره إِلَيْهِ، لِأَن الظَّاهِر أَنه لَا يجوز أَخذ مَال أحد، وَهُوَ حَاضر لَا يَدعِيهِ وَلَا يَطْلُبهُ، إِلَّا وَقد صَار إِلَى الَّذِي بِيَدِهِ، إِذا حازه فِي وَجهه الْعشْرَة الأعوام وَنَحْوهَا {لقَوْل النَّبِي صلى الله عليه وسلم} : من حَاز شَيْئا عشر سِنِين، فَهُوَ لَهُ {مَعْنَاهُ عِنْد أهل الْعلم بِدَعْوَاهُ مَعَ يَمِينه؛ وَأما الْغَاصِب فَلَا دَلِيل لَهُ فِي كَون المَال بِيَدِهِ؛ وَإِن طَالَتْ حيازته لَهُ فِي وَجه صَاحبه لما يعلم من غصبه لأموال النَّاس والقهرة لَهُم عَلَيْهِم. قَالَ: وَأما إِن أثبت الْغَاصِب الشِّرَاء وَدفع الثّمن، فَادّعى البَائِع أَنه أَخذه مِنْهُ فِي السِّرّ، بعد أَن دفع إِلَيْهِ، فَهُوَ مُدع لَا دَلِيل لَهُ على دَعْوَاهُ، فَوَجَبَ أَن يكون القَوْل قَول الْغَاصِب الْمُدعى عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَة لقَوْله عليه الصلاة والسلام} : الْبَيِّنَة على الْمُدعى، وَالْيَمِين على من أنكر. وَقد روى عَن يحيى بن يحيى أَنه قَالَ: إِذا قَالَ البَائِع إِنَّه أعطَاهُ الثّمن بِالظَّاهِرِ، فَدس عَلَيْهِ من أَخذه مِنْهُ، فَإِنَّهُ ينظر إِلَى المُشْتَرِي؛ فَإِن عرف بالعداء وَالظُّلم والتسلط، فَإِنِّي أرى القَوْل قَول البَائِع، مَعَ يَمِينه لقد دفع المَال إِلَيْهِ قهرة وَغَلَبَة، وَيرد مَاله عَلَيْهِ بِغَيْر أَن يرد إِلَيْهِ الثّمن. وَقَالَهُ ابْن الْقَاسِم. دفع ذَلِك فِي بعض الرِّوَايَات، وَهُوَ إغراق. فَإِذا أقرّ أَنه دفع إِلَيْهِ، ثمَّ أدعى أَنه أَخذه مِنْهُ، وَأما لَو لم يقر أَنه قبض الثّمن؛ وَقَالَ: إِنَّمَا أشهدت لَهُ على نَفسِي بِقَبْضِهِ، تقية وخوفاً مِنْهُ! لَا شبه أَن يصدق فِي ذَلِك مَعَ يَمِينه فِي الْمَعْرُوف بِالْغَصْبِ وَالظُّلم؛ وَإِنَّمَا يكون مَا قَالَ يحيى من تَصْدِيق البَائِع فِيمَا ادَّعَاهُ من أَنه دس إِلَيْهِ فِي السِّرّ من أَخذ الثّمن مِنْهُ، إِذْ أشهد لَهُ أَنه فعل ذَلِك بِغَيْرِهِ. وَنَرْجِع إِلَى مَا كُنَّا بسبيله؛ فَنَقُول: وَمِمَّنْ عرض عَلَيْهِ الْقَضَاء فأباه، الشَّيْخ الصَّالح بَقِي بن مخلد. كَانَت لَهُ خَاصَّة بالأمير الْمُنْذر بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن قبل ولَايَته الْملك؛ وَكَانَ قد قدم إِلَيْهِ فِي حَيَاة وَالِده الْبُشْرَى بالخلافة، لرؤيا قصها عَلَيْهِ. فَلَمَّا ولي الْخلَافَة، ضاعف لَهُ الْبر والكرامة والإعظام والتبجلة، وأحضره وأراده لولاية الْقَضَاء. فَأبى عَلَيْهِ. فَذهب إِلَى استكراهه. فَقَالَ الشَّيْخ بَقِي: مَا هَذَا جَزَاء محبتي وانقطاعي وصاغيتي؟
فَقَالَ لَهُ الْمُنْذر: أما إِذْ أبيته، فأشر عَليّ بقاض ترضاه للْمُسلمين {فَأبى عَلَيْهِ؛ فضايقه، وعزم عَلَيْهِ؛ فَقَالَ: لَا بُد أَن تلى أَو تُشِير} فَقَالَ: أُشير عَلَيْك بِرَجُل من آل زِيَاد، يسكن بَريَّة، يعرف بعامر بن مُعَاوِيَة. فَقبل مِنْهُ، وَأرْسل فِي عَامر؛ فولاه. وَمِنْهُم أَبُو غَالب عبد الرؤوف بن الْفرج بن أبي كنَانَة. كَانَ الْأَمِير عبد الله بن مُحَمَّد بِهِ معجباً، وَله مفضلاً؛ وَكَانَ قد اشْتهى رُؤْيَته من غير أَن يستدعيه؛ فتعرض لذَلِك يَوْم الْجُمُعَة من طاق الساباط: فَرَآهُ عِنْد رَوَاحه إِلَى الْمَسْجِد الْجَامِع، وَأَعْجَبهُ سمته، وَأحب اجتذابه إِلَيْهِ، وَقَالَ: لَا بُد أَن أضمه إِلَى الوزارة أَو الْقَضَاء {فذاكر بِشَأْنِهِ الْوَزير ابْن أبي عَبدة، وَكَانَ صديقا لأبي غَالب؛ فَقَالَ: يَنْبَغِي للأمير أَن لَا يهجم على الرجل بالاستدعاء، حَتَّى يعرف مَا عِنْده فِي ذَلِك. فَقَالَ لَهُ: فَكُن أَنْت الَّذِي يتعرف ذَلِك. قَالَ الْكَاتِب الْمَدْعُو بسكن بن إِبْرَاهِيم: فأرسلني الْوَزير إِلَيْهِ؛ فعرضت عَلَيْهِ مُرَاد الْأَمِير؛ فَتلقى ذَلِك مني بالنطق والتضاحك، حَتَّى أطمعني فِي نَفسه؛ وَجعل يَقُول: كَيفَ كَانَ تنبهكم لنا بعد طول الْغَفْلَة؟ وَمَا نرى هَذَا مِنْكُم عَن صِحَة نِيَّة: فانتم أشح بدنياكم من أَن تعطوا مِنْهَا أحدا شَيْئا، وتشركوا فِيهَا صديقا} قَالَ سكن: فَلَمَّا صرت بِهِ إِلَى الْجد، تنمر لي، وَقَالَ آخر قَوْله: بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ {لَئِن عاودتني أَو غَيْرك، أَو بلغتني فِيهِ عَن الْأَمِير عَزِيمَة، لأخْرجَن عَن الأندلس} فَلَا أعودن إِلَيْهَا آخر الدَّهْر {فَترك عَن ذَلِك. وَقدم للْقَضَاء بالجزيرة الخضراء وَمَا يرجع إِلَيْهَا، عبد الله بن أَحْمد بن الْحسن الجذامي النباهي، وَذَلِكَ بِإِشَارَة شَيْخه الْأُسْتَاذ أبي الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الزُّهْرِيّ الإفليلي، أَيَّام ولَايَته الوزارة للمستكفي بِاللَّه. والمستكفي هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عبيد الله ابْن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر من بني أُميَّة. فَأبى من الْقبُول؛ وَقع الْعَزْم عَلَيْهِ فِي الْعَمَل من الْأَمِير، فنفر، وَقصد الْوَزير وخلابه. وَكَانَ من جملَة مقاله لَهُ: سَأَلتك بِاللَّه} أتعلم أَن الْولَايَة لمثلي أولى من الإباية؟ فأقف عِنْد إشارتك؟ أم تعلم أَن الْأَمر بِخِلَاف ذَلِك؟ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْن أخي! حَاصِل مَا أرَاهُ أَن الْولَايَة فِي الْوَقْت كَرَامَة وَترك الْعَمَل سَلامَة.
فَقَالَ لَهُ ابْن الْحسن: أبقاك الله {أخْتَار السَّلامَة} وَلَيْسَ يجمل بك أَن تكون نتيجة معرفتي بك تكليفي مَا يصعب عَليّ تحمله {فحاول استبداله بِغَيْرِهِ. وَانْقطع هُوَ للاشتغال بإصلاح حَاله، والاقتصاد على التعيش من مَاله. وَقد ذكره خلف بن عبد الْملك فِي صلته لكتاب القَاضِي أبي الْوَلِيد بن الفرضي؛ فَقَالَ فِيهِ بعد اسْمه: يكنى أَبَا مُحَمَّد؛ أَخذ عَن أبي الْقَاسِم بن الإفليلي كثيرا. وَكَانَ عَالما بالآداب واللغات والإشارات؛ وَله رد على أبي مُحَمَّد بن حزم فِيمَا انتقده على ابْن الإفليلي فِي شَرحه لشعر المتنبي؛ أَخذ عَنهُ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سُلَيْمَان شَيخنَا رحمه الله} وَعَن سَحْنُون قَالَ: مَاتَ بعض قُضَاة إفريقية. فَقدم رَسُول الْخَلِيفَة، وَجمع الْعلمَاء، واستشارهم فِي قَاض يوليه، فَقيل لشيخه أبي الْحسن بن زِيَاد: هَذَا رَسُول الْخَلِيفَة، يشتشيرك فِي قاضٍ يوليه. فحول وَجهه إِلَى الْقبْلَة؛ فَقَالَ: وَرب هَذِه الْقبْلَة {مَا أعرف بهَا أحدا يسْتَوْجب الْقَضَاء. قومُوا عني} قَالَ مطرف وَابْن الْمَاجشون وَأصبغ: لَا يستقضي إِلَّا من يوثق بِهِ فِي عفافه، وصلاحه، وفهمه، وَعلمه بِالسنةِ والْآثَار وَوجه الْفِقْه؛ وَلَا يصلح أَن يكون صَاحب حَدِيث لَا فقه لَهُ، أَو فَقِيها لَا حَدِيث عِنْده. وَلَا يُفْتى إِلَّا مَا كَانَ هَذَا وَصفه إِلَّا أَن يخبر بِشَيْء سَمعه؛ وَلَا يَنْبَغِي، وَإِن كَانَ صَالحا عفيفاً. أَن يولي إِلَّا أَن يكون لَهُ علم بِالْقضَاءِ. وَمِمَّنْ عرضت عَلَيْهِ الْولَايَة بمالقة، من أَهلهَا، فَأبى وتمنع مِنْهَا، الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن الجذامي النباهي. وَاعْتذر بِأُمُور، مِنْهَا كَثْرَة وَلَده، وتعدد ذَوي رَحمَه وَقد ورد: لَا يحكم القَاضِي إِلَّا لمن تجوز لَهُ شَهَادَته من قومه؛ واستثقل مَعَ ذَلِك القهرة لأهل بَلَده بالحكم من قبله؛ وَكَانَ قد جرى لوالده مُحَمَّد بن الْحسن، آخر أَيَّام ولَايَته الْقَضَاء بكورة رية، مَا هُوَ مَعْرُوف عِنْد الْكثير، من إِعْمَال الْحِيلَة فِي غدره، والإقدام على قَتله. فَقبل الْأَمِير عِنْد ذَلِك معاذيره، وَترك سَبيله ثمَّ جدد الْعَزْم عَلَيْهِ فِي الْولَايَة. قَالَ ابْن فريد فِي كِتَابه: فاستقضى بغرناطة؛ وَكَانَ من أهل النباهة وَالْجَلالَة، توفّي سنة 473. وَذكره ابْن بشكوال فِي صلته. وَمن الْفُقَهَاء الْمُتَأَخِّرين، الْمُتَقَدِّمين فِي الْعلم وَالدّين، أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَيَّاش الْأنْصَارِيّ ثمَّ الخزرجي، أحد أَشْيَاخ بلدنا مالقة، وفريد عصره بهَا عقلا، وفضلاً،
وورعاً وزهداً؛ استدعاه أَمِير الْمُسلمين أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن إِسْمَاعِيل بن نصر رحمه الله وأرضاه {لحضرته؛ فقلده بهَا قَضَاء الْجَمَاعَة وَالْخطْبَة أَيَّام الْجُمُعَة بِمَسْجِد حمرائها؛ فَخَطب جُمُعَة وَاحِدَة، وَأقَام رسم الْقَضَاء ثَلَاثَة أَيَّام حسبَة، إِذْ كَانَ أَولا قد عزم على تَركه، وَالْخُرُوج عَن عهدته؛ فَلم يقبل كسْوَة، وَلَا أَخذ جراية، وأفصح رَابِع يَوْمه بالاستعفاء عَن خطة الْقَضَاء. وَكَانَ أعلم قُضَاة زَمَانه بِالْأَحْكَامِ، وأحفظهم للمسائل، وأبصرهم بالنوازل؛ لاكنه نَفعه الله بِقَصْدِهِ} هاب أَمر الله، وَأثر مَعَ ذَلِك رَاحَة بدنه، وخلاص نَفسه من تبعاته. وَعلم الْأَمِير صدق مقَالَته، وَصِحَّة عزيمته؛ فأعفاه. وارتحل عِنْد ذَلِك بَقِيَّة يَوْمه إِلَى بَلَده، وَتقدم للخطبة وَالصَّلَاة بالجامع مِنْهُ. وَتَوَلَّى ذَلِك إِلَى وَفَاته، وَلم يَأْخُذ عَلَيْهِ مُرَتبا. مُدَّة حَيَاته. فَكَانَ فِي انقباضه عَن الْولَايَة أشبه النَّاس بمُوسَى بن مُحَمَّد ابْن زِيَاد، إِذْ ولاه الْأَمِير عبد الله من بني أُميَّة الْقَضَاء بقرطبة، وَالصَّلَاة مَعًا بِأَهْلِهَا؛ فصلى بِالنَّاسِ جُمُعَة وَاحِدَة، واستعفى فِي الثَّانِيَة، وَالْتزم الْقعُود بداره والتقوت من فائد عقاره. وَإِضَافَة لفظ الْقَضَاء إِلَى الْجَمَاعَة، جرى الْتِزَامه بالأندلس مُنْذُ سِنِين إِلَى هَذَا الْعَهْد. وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بِالْجَمَاعَة جمَاعَة الْقُضَاة، إِذْ كَانَت ولايتهم قبل الْيَوْم غَالِبا من قبل القَاضِي بالحضرة السُّلْطَانِيَّة، كَائِنا من كَانَ؛ فَبَقيَ الرَّسْم كَذَلِك. وَأما قَاضِي الْخلَافَة، بالبلاد المشرقية، فيدعى بقاضي الْقُضَاة. وَمِمَّنْ دعى بِهَذَا اللقب بالأندلس من قُضَاة قرطبة، وَكتب لَهُ بذلك عِنْد اسْمه فِي السجلات المنعقدة عَلَيْهِ والمخاطبات الموجهة إِلَيْهِ، أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله بن ذكْوَان الْأمَوِي، وَأَبُو بكر يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن وَافد اللَّخْمِيّ؛ وَلم يكن الْأَمر بحدثان ذَلِك كَذَلِك. قَالَ الْحسن بن مُحَمَّد، وَقد ذكر فِي كِتَابه يحيى بن يزِيد اللَّخْمِيّ: لما دخل عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة قرطبة، وَقَامَ بِالْإِمَامَةِ، ألفى فِيهَا يحيى بن يزِيد قَاضِيا؛ فأثبته على الْقَضَاء، وَلم يعزله إِلَى أَن مَاتَ. قَالَ: وَكَانَ يُقَال لَهُ وللقضاة قبله بقرطبة، قَاضِي الْجند. قَالَ مُحَمَّد بن حَارِث: وَقد رَأَيْت سجلاً عقده سعيد بن مُحَمَّد ابْن بشير بقرطبة، يَقُول فِيهِ: حكم مُحَمَّد بن بشير قَاضِي الْجند بقرطبة. قَالَ: وَإِن تَسْمِيَة القَاضِي الْيَوْم بقاضي الْجَمَاعَة اسْم مُحدث، لم يكن فِي الْقَدِيم. هَذَا مَا ظهر لي رسمه صدر هَذَا الْكتاب، من الْكَلَام. وَفِيه، بِحَسب الْغَرَض الْمَقْصُود من الِاخْتِصَار، غنية كَافِيَة لمتأمله بِعَين الْإِنْصَاف. وَالله الْمُوفق للصَّوَاب!