الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والهيئات الَّتِي هِيَ الصّلاح. فَأَما من أَتَى مَا يُوجب حدا مَا قذف مُحصنَة أَو مَا سوى ذَلِك من الْأَشْيَاء الَّتِي توجب الْحُدُود، فَلَا يجب التَّجَافِي عَنهُ، لِأَنَّهُ قد خرج بذلك عَن ذَوي الهيئات وَالصَّلَاح، وَصَارَ من أهل الْفسق؛ فَوَجَبَ إِقَامَة الْحَد عَلَيْهِ، ليَكُون ذَلِك ردعاً لَهُ وَلغيره رزقنا الله الاسْتقَامَة {
ذكر القَاضِي أسلم بن عبد الْعَزِيز
وَمن الْقُضَاة بقرطبة وصدور رجالها، أسلم بن عبد الْعَزِيز. وَكَثِيرًا مَا كَانَ النَّاصِر لدين الله يستخلفه فِي سطح الْقصر، إِذا خرج فِي سَبِيل الْغَزْو، ثِقَة مِنْهُ بِعِلْمِهِ وَدينه وحزمه.
ذكر القَاضِي أَحْمد بن عبد الله بن أبي طَالب
وَمِنْهُم أَحْمد بن عبد الله بن أبي طَالب الأصبحي. قَالَ عَنهُ إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق: وَأَخْبرنِي غير وَاحِد أَنه كَانَ يحلق شَاربه ويستأصله؛ وَكَانَ ذَلِك مذْهبه فِي إحفاء الشَّارِب. وَكَانَ رجلا وقوراً، متثبتاً، متورعاً؛ إِذا سُئِلَ عَن مَسْأَلَة، أخرج الْكتاب الَّذِي فِيهِ تِلْكَ الْمَسْأَلَة بِعَينهَا؛ فقرأها على السَّائِل، وَقَالَ لَهُ: هَذَا مَا قيل فِي هَذَا. فَإِن سُئِلَ عَن فَرِيضَة من الْمَوَارِيث، أفتى السَّائِل فِيهَا بأصلها؛ فَإِذا سَأَلَهُ عَن الْقِسْمَة، قَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى الحاسب}
ذكر القَاضِي أَحْمد بن بَقِي بن مخلد
وَمِنْهُم أَحْمد بن بَقِي بن مخلد. ولي الْقَضَاء سنة 314. وَكَانَ من خير الْقُضَاة، وَأَكْثَرهم رفقا وإشفاقاً، بِحَيْثُ يُقَال إِنَّه لم يقرع أحدا من النَّاس فِي طول مُدَّة قَضَائِهِ بِسَوْط وَكَانَت نَحوا من عشرَة أَعْوَام إِلَّا رجلا وَاحِدًا مجمعا على فسقه. وَكَانَ شَأْنه فِي الْحُكُومَة أَن ينفذ من الْأُمُور الظَّاهِر الْبَين الَّذِي لَا ارتياب فِيهِ، ويتأنى،
ويتمهل فِيمَا خالجه فِيهِ شكّ، حَتَّى تظهر لَهُ الْحَقِيقَة؛ أَو يصل المتخاصمان إِلَى التصالح والتراضي. قَالَ ابْن حَارِث: وَلَقَد قَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه السُّلْطَان فِي كَلَام جرى بَينهمَا: إِنَّا لنعيبك بلين الْجَانِب، والتطويل فِي الْحُكُومَة {فَقَالَ لَهُ ابْن بَقِي: أعوذ بِاللَّه من لين يُؤَدِّي إِلَى ضعف، وَمن شدَّة تبلغ إِلَى عنف} ثمَّ جعل يذكر فَسَاد الزَّمَان، واحتيال الْفجار، وَمَا يُبَاشر من الْأُمُور المشتبهة، الَّتِي لَا تتبين لَهَا حَقِيقَة، وَلَا ينْكَشف لَهَا وَجه، وَقَالَ: قد أسندت على عمر بن الْخطاب رضي الله عنه {وَهُوَ هُوَ، حُكُومَة قوم طَال نظره فِيهَا، والتبس عَلَيْهِ أمرهَا؛ فكره أَن يحكم على الِاشْتِبَاه، وَأمرهمْ بابتداء الْخُصُومَة من أَولهَا} قَالَ: وحَدثني أصبغ بن عِيسَى قَالَ: كنت يَوْمًا مُقبلا مَعَ القَاضِي أَحْمد بن بَقِي، حَتَّى عَن لنا رجل سَكرَان يمشي بَين يَدَيْهِ مخبولاً؛ فَجعل أَحْمد يمسك من عنان دَابَّته، ويترفق فِي سيره، ويرجو أَن يعدل السَّكْرَان عَن طَرِيقه أَو يحبس بِهِ، فينجو بِنَفسِهِ؛ فَلم يكن عِنْده شَيْء من ذَلِك، إِلَّا أَن توقف مُسْتَقْبلا. فَلم يكن للْقَاضِي بُد من الدنو مِنْهُ، وَالنَّظَر إِلَيْهِ. قَالَ أصبغ: وَكنت أعرف لياذه من مثل هَذَا، وكراهيته للانتشاب فِيهِ، ورقة قلبه من أَن يقرع أحدا بِسَوْط. فَقلت فِي نَفسِي: لَيْت شعري كَيفَ تصنع فِي هَذَا، يَا ابْن بَقِي {وَرُبمَا تتخلص مِنْهُ} فَلَمَّا دنونا من السَّكْرَان، ولصقنا بِهِ، مَال إِلَى أَحْمد؛ فَقَالَ: مِسْكين هَذَا الرجل {أرَاهُ مصاباً فِي عقله} فَقلت: نعم {أَيهَا القَاضِي، ببلية عَظِيمَة} فَجعل يستعيذ بِاللَّه من محنته، ويسأله أَن يأجره على الْمُصَاب فِي عقله؛ ومضينا. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: كَانَ أَحْمد بن بَقِي حَلِيمًا، عَاقِلا، وقوراً، مسمتاً، هيناً، لينًا، صليباً فِي بعض أحيانه، غير أَن الْأَغْلَب عَلَيْهِ كَانَ اللين. لم يكن بالأندلس قَاض يُقَارِبه فِي الصمت وَالْوَقار والسكينة. وَكَانَ الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله عَارِفًا بِحقِّهِ، ومجلاً لَهُ، لم يعزله، وَلَا كره شَيْئا من حَاله، إِلَى أَن توفّي سنة 324. وَكَانَ قد ولى الصَّلَاة قبل الْقَضَاء. ثمَّ ولى الْقَضَاء، فَاتخذ لخدمته أعواناً شُيُوخًا، وَأولى سداد، سَأَلَ أَن يرزقوا من بَيت المَال، وَأجِيب إِلَى ذَلِك. وَكَانَ من رسمه إِذا جَاءَهُ الحكم الملبس الَّذِي يخَاف
أَن تدخل عَلَيْهِ فِيهِ دَاخله، طول فِيهِ أبدا، ولواه حَتَّى يصطلح أَهله. وَكَانَ يَقُول: صَاحب الْبَاطِل، إِذا طول عَلَيْهِ ترك طلبه ورضى باليسير فِيهِ. وَقد كثر الْآن شُهُود الزُّور، والتبست الْأُمُور: فَرَأَيْت هَذَا المطل أخْلص لي {وَقد علمت حَدِيث النَّبِي صلى الله عليه وسلم} فِي الْقَتِيل الَّذِي وجدته يهود، وَأَنه، لما أشكل عَلَيْهِ الْأَمر من عِنْده، قَالَ أحد أَصْحَابه مداعباً: أفتنشط أَنْت رَحِمك الله {أَن تُعْطى الصُّلْح من عنْدك، إِذا التبست عَلَيْك الْمَسْأَلَة؟ فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: لَا} إِنَّمَا هَذَا على الإِمَام الَّذِي بِيَدِهِ بَيت المَال؛ لَيْسَ هَذَا عَليّ {وَقَالَ الْحسن: وجدت بِخَط الْخَلِيفَة الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه: سَمِعت القَاضِي أَحْمد بن مخلد يخْطب يَوْمًا؛ فَقَالَ فِي فصل الدُّعَاء مِنْهَا، لما انْتهى إِلَى قَوْله: اخلصوا الله دعاءكم} ثمَّ سكت مَلِيًّا؛ فَلَمَّا ظن النَّاس قد دعوا، انْبَعَثَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ {وَقد دعَاك هَذَا النَّفر من عِبَادك، الساعون لثوابك، المجتمعون ببابك، فَزعًا من عقابك، وَطَمَعًا فِي ثوابك؛ وقبلهم من الذُّنُوب مَا قد أحَاط بِهِ علمك، وأحصاه حفظتك؛ فعد عَلَيْهِم فِي موقفهم هَذَا برحمة توجب لَهُم جنتك، وتجيرهم بهَا من عذابك} آمين {يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ} قَالَ مَالك بن الْقَاسِم: وَكَانَ أَحْمد بن بَقِي شَدِيد الْحِفْظ لِلْقُرْآنِ، كثير التِّلَاوَة لَهُ، يقوم بِهِ آنَاء ليله ونهاره. وَكَانَ على شدَّة حفظه، يلْتَزم تِلَاوَته فِي الْمُصحف على نَحْو مَا كَانَ يلتزمه أَبوهُ بَقِي بن مخلد للفضل من النّظر فِيهِ؛ متقشفاً، دمثاً، صبوراً، يتلَقَّى من أَسَاءَ إِلَيْهِ وَإِلَى أَبِيه قبله بالصفح، وَالْمَغْفِرَة للزلة، وَوضع الْحَسَنَة مَكَان السَّيئَة. وَلما توفّي، صلى عَلَيْهِ وَلَده عبد الرَّحْمَن بإيصاء أَبِيه إِلَيْهِ بذلك، وسنه أَربع وَسِتُّونَ سنة. قَالَ عياص فِي مداركه عِنْد ذكر أَحْمد: مِنْهُم وولاؤهم لامارة من أهل جيان؛ سمع من أَبِيه. وَكَانَ زاهداً، فَاضلا؛ ولى تَفْرِيق الصَّدقَات وَالصَّلَاة؛ ثمَّ قَضَاء الْجَمَاعَة مَقْرُونا بِالْخطْبَةِ.