الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَذكر ابْن حَيَّان، عَمَّن حَدثهُ أَن الطاغية وعد القَاضِي أَبَا بكر بالاجتماع مَعَه فِي محفل من محافل النَّصْرَانِيَّة، ليَوْم سَمَّاهُ. فَحَضَرَ أَبُو بكر، وَقد احتفل الْمجْلس، وبولغ فِي زينته. فأدناه الْملك، وألطف سُؤَاله، وَأَجْلسهُ على كرْسِي دون سَرِيره بِقَلِيل، وَالْملك فِي أبهته؛ وخاصته وَرِجَال مَمْلَكَته على مَرَاتِبهمْ. وَجَاء البطرك، قيم ديانتهم، آخر النَّاس، وَحَوله أَتْبَاعه يَتلون الأناجيل ويبخرون بِالْعودِ الرطب، فِي زِيّ حسن. فَلَمَّا توَسط الْمجْلس، قَامَ الْملك وَرِجَاله، تَعْظِيمًا لَهُ؛ فقضوا حَقه، ومسحوا أعطافه. وَأَجْلسهُ إِلَى جنبه، وَأَقْبل على القَاضِي أبي بكر؛ فَقَالَ لَهُ: يَا فَقِيه {البطرك قيم الدّيانَة، وَولي النحلة} فَسلم القَاضِي عَلَيْهِ أحفل سَلام، وَسَأَلَهُ أحفى سُؤال، وَقَالَ لَهُ: كَيفَ الْأَهْل وَالْولد؟ فَعظم قَوْله هَذَا عَلَيْهِ وعَلى جَمِيعهم وطبقوا على وُجُوههم، وأنكروا قَول أبي بكر عَلَيْهِ. فَقَالَ: يَا هَؤُلَاءِ {تستعظمون لهَذَا الْإِنْسَان اتِّخَاذ الصاحبة وَالْولد، وتربون بِهِ عَن ذَلِك، وَلَا تستعظمونه لربكم عز وَجهه} فتضيفون إِلَيْهِ ذَلِك سدة لهَذَا الرَّأْي {مَا أبين غلطه} فَسقط فِي أَيْديهم، وَلم يردوا جَوَابا، وتداخلتهم لَهُ هَيْبَة عَظِيمَة، وانكسروا. ثمَّ قَالَ الْملك للبطرك: مَا ترى فِي أَمر هَذَا الرجل؟ قَالَ: تقضى حَاجته، وتلاطف صَاحبه، وَتخرج هَذَا الْعِرَاقِيّ عَن بلدك، من يَوْمك إِن قدرت؛ وَإِلَّا لم تأمن الْفِتْنَة على النَّصْرَانِيَّة مِنْهُ! فَفعل الْملك ذَلِك، وَأحسن جَوَاب عضد الدولة وهداياه، وَعجل تَسْرِيح الرَّسُول. وَبعث مَعَه عدَّة من أسرى الْمُسلمين، ووكل بِهِ من جنده من يحفظه حَتَّى يصل إِلَى مأمنه. قَالَ غَيره: وَكَانَ سير القَاضِي إِلَى ملك الرّوم سنة نَيف وَثَمَانِينَ وثلاثمائة.
ذكر القَاضِي عبد الْوَهَّاب
وَمن أَعْلَام الْعلمَاء، وصدور الْقُضَاة الروَاة، الشَّيْخ الْفَقِيه الْمَالِكِي، أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَهَّاب بن نصر بن أَحْمد بن الْحُسَيْن بن هَارُون الْبَغْدَادِيّ. ولي الْقَضَاء بمواضع مِنْهَا الدينور. فسما قدره، وشاع فِي الْآفَاق ذكره. قَالَ الشِّيرَازِيّ فِي تَعْرِيفه:
أَدْرَكته وَسمعت كَلَامه فِي النّظر. وَكَانَ قد رأى أَبَا بكر الْبَصْرِيّ إِلَّا أَنه لم يسمع مِنْهُ شَيْئا. وَكَانَ فَقِيها متأدباً. وَخرج فِي آخر عمره إِلَى مصر؛ فَحصل لَهُ بهَا حَال من الدُّنْيَا. قَالَ عِيَاض بن مُوسَى: قَوْله لم أيسمع من أبي بكر غير صَحِيح، بل: قد حدث عَنهُ، وَأَجَازَهُ، وتفقه على كبار أَصْحَابه كَأبي الْحسن بن الْقصار، وَأبي الْقَاسِم بن الْجلاب. ودرس الْفِقْه وَالْكَلَام وَالْأُصُول على القَاضِي أبي بكر الباقلاني الْمُتَقَدّم الذّكر وَصَحبه وَألف فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف وَالْأُصُول تواليف بديعة مفيدة، مِنْهَا كتاب التَّلْقِين، وَكتاب شَرحه، وَكتاب شرح الرسَالَة والنصرة، لمَذْهَب دَار الْهِجْرَة، وَكتاب المعونة وأوائل الْأَدِلَّة، فِي مسَائِل الْخلاف بَين فُقَهَاء الْملَّة، وَكتاب الإشراف، على نكت مسَائِل الْخلاف، وَكتاب الإفادة فِي أصُول الْفِقْه، وَكتاب التَّلْخِيص فِيهِ، وَغير ذَلِك. وَعَلِيهِ تفقه أَبُو عمر وَأَبُو الْفضل الدِّمَشْقِي؛ وروى عَنهُ هَارُون الْفَقِيه، والمازري الْبَغْدَادِيّ، وَأَبُو بكر الْخَطِيب، وَجَمَاعَة من أهل الأندلس، مِنْهُم القَاضِي ابْن شماخ الغافقي، وَصَاحبه مهْدي بن يُوسُف، وَغير من ذكر. وَسبب خُرُوجه عَن حَضْرَة بَغْدَاد، كَلَام نقل عَنهُ أَنه قَالَه فِي الشَّافِعِي؛ وَطلب لأَجله؛ فَعجل بالفرار مِنْهَا، خَائفًا على نَفسه. قَالَ الشِّيرَازِيّ: وَأنْشد بعد ارتحاله عَنْهَا: سَلام على بَغْدَاد فِي كل موطن
…
وَحقّ لَهَا مني السَّلَام المضاعف لعمرك مَا فارقتها عَن قلي لَهَا
…
وَإِنِّي بشطي جانبيها لعارف ولاكنها ضَاقَتْ عَليّ برحبها
…
وَلم تكن الأرزاق فِيهَا تساعف فَكَانَت كخل كنت أَهْوى دنوه
…
وأخلاقه تنأى بِهِ وتخالف وَنسب لَهُ بَعضهم: وقائلةٍ لَو كَانَ ودك صَادِقا
…
لبغداد لم ترحل فَكَانَ. جوابيا يُقيم الرِّجَال الموسرون بأرضهم
…
وَتَرْمِي القوى بالمفترين المراميا وَمَا هجروا أوطانهم عَن ملاحظ
…
وَلَا كن حذاراً من شمات الأعاديا