الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِلَيْهِ سلمَان: إِن الأَرْض لَا تقدس أحدا، وَإِنَّمَا يقدس الْإِنْسَان عمله وَقد بَلغنِي أَنَّك جعلت طَبِيبا تداوي النَّاس: فَإِن كنت تبرى، فَنعما لَك {وَإِن كنت متطبباً، فاحذر أَن تقتل إنْسَانا، فَتدخل النَّار} وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاء، إِذا قضى بَين إثنين، ثمَّ أدبرا عَنهُ، قَالَ: ارْجِعَا {أُعِيد على قضيتكما متطبباً وَالله} وَيحيى بن سعيد هُوَ الْقَائِل: وليت قَضَاء الْكُوفَة، وَأَنا أرى أَنه لَيْسَ على الأَرْض شَيْء من الْعلم، إِلَّا وَقد سمعته. فَأول مجْلِس جَلَست للْقَضَاء، اخْتصم إِلَيّ رجلَانِ مَا سَمِعت فِيهِ شَيْئا {وَفِي المستخرجة: قَالَ مَالك: قَالَ عمر بن الْحُسَيْن: مَا أدْركْت قَاضِيا استقضى بِالْمَدِينَةِ إِلَّا رَأَيْت كآبة الْقَضَاء وكراهيته فِي وَجهه} . وَفِي الصَّحِيح عَن أبي ذَر: قلت: يَا رَسُول الله، أَلا استعملتني {فَضرب بِيَدِهِ على مَنْكِبي، ثمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَر، إِنَّك ضَعِيف، وَإِنَّهَا أَمَانَة، وَإِنَّهَا يَوْم الْقِيَامَة خزي وندامة، إِلَّا من أَخذهَا بِحَقِّهَا، وَأدّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا} فَلَا يَنْبَغِي أَن يتَقَدَّم على الْعَمَل إِلَّا من وثق بِنَفسِهِ وَتعين لَهُ وأجبره الإِمَام الْعدْل عَلَيْهِ. وَللْإِمَام الْعدْل إِجْبَاره إِذا كَانَ صَالحا، وَله أَن يمْتَنع عَنهُ إِلَّا أَن يتَحَقَّق أَنه لَيْسَ فِي تِلْكَ النَّاحِيَة من يصلح للْقَضَاء سواهُ؛ فَلَا يحل لَهُ الِامْتِنَاع حِينَئِذٍ لتعيين الْفَرْض عَلَيْهِ.
فصل
من الْمَجْمُوع الْمُسَمّى؛ الْمَقْصد الْمَحْمُود: الْقَضَاء محنة وبلية، وَمن دخل فِيهِ، فقد عرض نَفسه للهلاك، لِأَن التَّخَلُّص مِنْهُ عسير؛ فالهروب مِنْهُ وَاجِب، لَا سِيمَا فِي هَذَا الْوَقْت، وَطَلَبه حمق وَإِن كَانَ حسبَة. قَالَه الشّعبِيّ. وَرخّص فِيهِ بعض الشَّافِعِيَّة: إِذا خلصت نِيَّته للحسبة، بِأَن يكون وليه من لَا ترْضى أَحْوَاله؛ وَالْأول أصح لقَوْله عليه الصلاة والسلام {: إِنَّا لَا نستعمل على عَملنَا من أَرَادَهُ. وَفِي إِكْمَال الْمعلم: اخْتلف الْعلمَاء فِي طلب الْولَايَة مُجَردا، هَل يجوز أَو يمْنَع، وَأما إِن كَانَ الرزق يرتزقه، أَو فَائِدَة جَائِز يسْتَحقّهُ، أَو لتضييع الْقَائِم بهَا أَو خَوفه حُصُولهَا فِي غير مستوجبها، وَنِيَّته فِي إِقَامَة الْحق فِيهَا؛ فَذَلِك جَائِز لَهُ. وَقد قَالَ يُوسُف عليه الصلاة والسلام} :" اجْعَلنِي على خَزَائِن الأَرْض ". وَمن الحَدِيث
الصَّحِيح: من ابْتغى الْقَضَاء، واستعان عَلَيْهِ بالشفعاء، وكل إِلَى نَفسه؛ وَمن أكره عَلَيْهِ، أنزل الله عَلَيْهِ ملكا يسدده. وَمِنْه: من مَال إِلَى الْإِمَارَة وكل إِلَيْهَا، وَمَعْنَاهُ: لم يعن على مَا يتعاطاه؛ والمتعاطى أبدا مقرون بِهِ الخذلان؛ فَمن دعِي إِلَى عمل، أَو إِمَامه فِي الدّين، فَقص نَفسه على تِلْكَ الْمنزلَة، وهاب أَمر الله، رزقه الله المعونة. وَهَذَا مَبْنِيّ على من تواضع لله، رَفعه الله. فَمن الْوَاجِب على كل من ابتلى بِالْقضَاءِ أَن يكثر من التذلل لله، والمراقبة لَهُ عِنْد أَمر وَنَهْيه، وَالْأَخْذ بالشفقة على عباده. فقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم {أَنه قَالَ:" اللَّهُمَّ} من ولى من أَمر أمتِي شَيْئا فشق عَلَيْهِم، فأشفق عَلَيْهِ {وَمن ولى من أَمر أمتِي شَيْئا فرفق بهم، فارفق بِهِ} " وكل قَاض مَطْلُوب مِنْهُ أَن يحكم بِالْعَدْلِ على نَفسه وعَلى غَيره، وَأَن يعْتَقد أَنه حَاكم فِي ظَاهره، مَحْكُوم عَلَيْهِ فِي بَاطِنه. روى اللَّيْث بن سعد عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم {أَنه قَالَ: من ولى ولَايَة، فَأحْسن فِيهَا أَو أَسَاءَ، أَتَى بِهِ يَوْم الْقِيَامَة، وَقد غلت يَمِينه إِلَى عُنُقه؛ فَإِن كَانَ عدلا فِي أَحْكَامه، أطلق من أغلاله وَجعل فِي ظلّ عرش الرَّحْمَن؛ وَإِن كَانَ غير عدل فِي أَحْكَامه، غلت شِمَاله إِلَى يَمِينه، فيسبح فِي عرقه حَتَّى يغرق فِي جَهَنَّم. وَلما تقرر من بلَاء الْقَضَاء، فرَّ عَنهُ كثير من الْفُضَلَاء وتغيبوا، حَتَّى تركُوا. وسجن بِسَبَبِهِ عِنْد الِامْتِنَاع آخَرُونَ، مِنْهُم أَبُو حنيفَة، وَهُوَ النُّعْمَان بن ثَابت، دَعَاهُ عمر بن هُبَيْرَة للْقَضَاء؛ فَأبى؛ فحبسه وضربه أَيَّامًا، كل يَوْم عشرَة أسواط، وَهُوَ متماد على ابايته إِلَى أَن تَركه. وَقد نقل عَن عُثْمَان بن عَفَّان أَنه قَالَ لعبد الله بن عمر بن الْخطاب: اقْضِ بَين النَّاس. قَالَ: لَا أَقْْضِي بَين رجلَيْنِ مَا بقيت} قَالَ: لتفعلن {لَا أفعل} فَإِن أَبَاك كَانَ يقْضِي. قَالَ: كَانَ أبي أعلم مني وأنقى! وَمن غَرِيب مَا يحْكى عَن مسلمة بن زرْعَة، وَقد تكلم فِي تباعات الْقَضَاء، أَنه قَالَ رَأَيْت فِي الأندلس قَاضِيا يدعى مهَاجر بن نَوْفَل الْقرشِي، مَا رَأَيْت مثله فِي الْعِبَادَة والورع. وَلَقَد بَلغنِي فِي مَوته أعظم الْعجب. أَخْبرنِي بِهِ ثِقَات من أهل بَلَده. وَذَلِكَ أَنه لما مَاتَ دفن فِي مقبرتهم لَيْلًا، وَأَظنهُ عهد بذلك، فَلَمَّا أهيل التُّرَاب عَلَيْهِ،
سمعُوا من الْقَبْر كلَاما فَاسْتَمعُوا لَهُ؛ فسمعوه يُنَادي: أنذركم ضيق الْقَبْر وعاقبة الْقَضَاء {قَالَ: فكشفوا عَنهُ، وظنوه حَيا؛ فوجدوه مَكْشُوف الْوَجْه، مَيتا، بحالته الَّتِي قبر بهَا رحمه الله وَغفر لنا وَله} وَقَالَ الْحسن بن مُحَمَّد فِي كِتَابه، عِنْد ذكر من عرض عَلَيْهِ الْقَضَاء، فَأبى من قبُوله: اسْتَشَارَ الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة، أول الْخُلَفَاء بالأندلس من بني أُميَّة أَصْحَابه، فِي قَاض يوليه على قرطبة. فَأَشَارَ عَلَيْهِ وَلَده هِشَام، وحاجبه ابْن مغيث، فالمصعب بن عمرَان؛ ووقف الِاخْتِيَار عَلَيْهِ. فَوَقع بِنَفس الْأَمِير، وَأمر بِالْإِرْسَال إِلَيْهِ؛ فَلَمَّا قدم مُصعب، أدخلهُ على نَفسه، بِحَضْرَة وَلَده هِشَام، وحاجبه، وخاصة أَصْحَابه؛ فَعرض عَلَيْهِ الْقَضَاء. فَأبى من قبُوله، وَذكر أعذاراً تعوقه عَنهُ؛ فَردهَا الْأَمِير وَحمله على الْعَزِيمَة، وأصر مُصعب على الإباية الْبَتَّةَ؛ فاغضب الْأَمِير، وهاج غَضَبه، وَأطَال الإطراق؛ ثمَّ رفع رَأسه إِلَى مُصعب وَقَالَ: اذْهَبْ {عَلَيْك العفا وعَلى الَّذين أشاروا بك} وَلما أَرَادَ هِشَام للْقَضَاء بقرطبة زِيَاد بن عبد الرَّحْمَن، وعزم عَلَيْهِ، خرج مِنْهَا فَارًّا بِنَفسِهِ، على مَا حَكَاهُ ابْن حَارِث. فَقَالَ هِشَام عِنْد ذَلِك: لَيْت النَّاس كلهم كزياد، حَتَّى ألغى أهل الرَّغْبَة فِي الدُّنْيَا {وَمِمَّنْ عرض عَلَيْهِ الْقَضَاء من الْفُقَهَاء بالأندلس فَأبى من قبُوله، إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد ابْن بار، دَعَاهُ إِلَيْهِ الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن لقصة رفعت من قدره عِنْده؛ فأباه فَأرْسل إِلَيْهِ بذلك هَاشم بن عبد الْعَزِيز صَاحبه؛ فَامْتنعَ عَلَيْهِ وَلم يجد فِيهِ حِيلَة؛ فَأَعَادَ إِلَيْهِ الْأَمِير هاشماً بِوَصِيَّة يَقُول: إِذا لم تقبل قضاءنا، فَاحْضُرْ مَجْلِسنَا، وَكن أحد الداخلين علينا، الَّذين نشاورهم فِي أمورنا، ونسمع مِنْهُم فِي رعيتنا. فَلَمَّا اسْتمع رسَالَته، قَالَ: يَا أَبَا خَالِد، إِن ألح عَليّ الْأَمِير فِي هَذَا وَمثله، هربت وَالله} بنفسي من بَلَده! فَمَا لي وَله؟ فَأَعْرض عَنهُ الْأَمِير عِنْد ذَلِك، وَعلم أَنه لَيْسَ من صَيْده. وَمِنْهُم أبان بن عِيسَى بن دِينَار، ولاه الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن قَضَاء كورة جيان؛ فَأبى ولح. فَأمر الْأَمِير بإكراهه على الْعَمَل وَأَن يُوكل بِهِ نَفرا من الحرس، يحملونه إِلَى حَضْرَة جيان، فيجلسونه هُنَاكَ مجْلِس الْقَضَاء، ويأخذونه بالحكم بَين
النَّاس. فأنفذ الوزراء أمره، وَسَار بِهِ الحرس، فأقعدوه بجيان؛ فَحكم بَين النَّاس يَوْمًا وَاحِدًا. فَلَمَّا أَتَى اللَّيْل، هرب على وَجهه؛ فَأصْبح النَّاس يَقُولُونَ: هرب القَاضِي {فَرفع الْخَبَر إِلَى الْأَمِير مُحَمَّد؛ فَقَالَ: هَذَا رجل صَالح فر بِدِينِهِ} فليسئل عَن مَكَانَهُ ويؤمن مِمَّا أكره {وَمن أهل سرقسطة، قَاسم بن ثَابت بن عبد الْعَزِيز الفِهري، صَاحب كتاب الدَّلَائِل فِي شرح غَرِيب الحَدِيث. دعِي للْقَضَاء بِبَلَدِهِ؛ فَامْتنعَ من ذَلِك. فَلَمَّا اضطره الْأَمِير وعزم عَلَيْهِ، استمهله ثَلَاثَة أَيَّام، يستخير فِيهَا الله عز وجل} فَمَاتَ خلال تِلْكَ الْمدَّة. فَكَانَ النَّاس يرَوْنَ أَنه دَعَا الله تَعَالَى فِي الاستكفاء؛ فكفاه وستره. وَصَارَ حَدِيثه موعظة فِي زَمَانه. قَالَه أَحْمد بن مُحَمَّد. وَمِمَّنْ عرض عَلَيْهِ الْقَضَاء، فِي عصرنا هَذَا المستأخر، فأباه وَامْتنع من قبُوله، الْفَقِيه أَبُو عِيسَى أَحْمد بن عبد الْملك الإشبيلي، عرضه عَلَيْهِ الْمَنْصُور مُحَمَّد بن أبي عَامر مُدبر أَمر الْخَلِيفَة هِشَام الْمُؤَيد بِاللَّه، عَن أَمر الْخَلِيفَة مرَّتَيْنِ؛ فَلم يجد فِيهِ حِيلَة. أولاهما إِذْ توفّي قَاضِي قرطبة مُحَمَّد بن يبْقى بن زرب، سنة 381؛ أحضرهُ وخاطبه مشافهة بِمحضر الوزراء؛ فَقَالَ لَهُ: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمُؤَيد بِاللَّه اختارك للْقَضَاء، وَرَأى تقديمك مُبَارَكًا لَك فِيهِ. فَقَالَ: أعوذ بِاللَّه من ذَلِك {لست، وَالله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} اتهمَ إِلَى هَذَا وَلَا أقبله الْبَتَّةَ {فَإِنِّي لَا أَسْتَطِيع وَلَا أصلح وَمَا أفتى النَّاس فِي ذَلِك إِلَّا وَأَنا مُضْطَجع أَكثر أوقاتي لكبرى وضعفي. وَوَاللَّه} لقد صدقتك {فَانْظُر للْمُسلمين وانصح لإمامك وَفقه الله} فَتَركه. وَمِمَّنْ جاهر بالإصرار على الإباية من الْقَضَاء، مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الْخُشَنِي، أَرَادَهُ الْأَمِير مُحَمَّد لتقليد الْقَضَاء بجيان؛ وَأمر الوزراء أَن يجلسوه ويلزموه ذَلِك؛ فَفَعَلُوا وأدوا إِلَيْهِ رِسَالَة الْأَمِير. فَأبى عَلَيْهِم وَنَفر نفوراً شَدِيدا؛ فلاطفوه وخوفوه بادرة السُّلْطَان؛ فَلم يزدْ إِلَّا أباء ونفوراً. فَكَتَبُوا إِلَى الْأَمِير مُحَمَّد بلجاجه واعياء الْحِيلَة عَلَيْهِم فِي إجَابَته. فَوَقع الْأَمِير توقيعاً غليظاً مَعْنَاهُ: إِن من عاصانا، فقد أحل بِنَفسِهِ وَدَمه. فَلَمَّا قرأوه على الْخُشَنِي، نزع قلنسوته من رَأسه وَمد عُنُقه وَجعل يَقُول: أَبيت كَمَا أَبَت السَّمَوَات وَالْأَرْض، إباية إشفاق، لَا إباية نفاق!
فَكَتَبُوا إِلَى الْأَمِير بِلَفْظِهِ؛ فَكتب إِلَيْهِم أَن سلمُوا أمره وأخرجوه عَن أَنفسكُم {فَقَالُوا لَهُ: انْصَرف} فَانْطَلق عَنْهُم وَلم يهيجوه بعد. وَقد شدد بعض الْعلمَاء على الفار مِنْهُ، إِذا كَانَ مِمَّن توفرت فِيهِ دواعيه. فَنقل عَن سَحْنُون أَنه قَالَ: إِذا كَانَ الرجل أَهلا لخطة الْقَضَاء، فاستعفى مِنْهَا، عوفى مِنْهَا إِن وجد لَهَا عوض مِنْهُ؛ وَإِن لم يُوجد، أجبر عَلَيْهَا؛ فَإِن أَبى، سجن؛ فَإِن أَبى، ضرب. قَالَ الشَّعْبَانِي: فَإِن لم يُوجد غير وَاحِد مِمَّن يشكل للْقَضَاء، أجبر عَلَيْهِ بالسجن وَالضَّرْب. وَمن جَامع كتاب الِاسْتِغْنَاء: وَإِن كَانَ الدَّاعِي لَهُ إِلَى الْعَمَل غير عدل، لم يجز لأحد إعانته على أُمُوره، لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي فعله؛ فَيجب لَهُ أَن يصبر على الْمَكْرُوه، ويدع الْعَمَل مَعَه؛ وَإِن كَانَ عدلا، جَازَ بِالْعَمَلِ مَعَه، وَيسْتَحب لَهُ إعانته. انْتهى. وَالَّذِي يظْهر من كَلَام مَالك، الْأَخْذ بِالتّرْكِ، والتحذير من الْولَايَة على كل تَقْدِير، فقد روى عَنهُ ابْن وهب فِي الرجل يدعى للْعَمَل، فَيكْرَه أَن يُجيب إِلَيْهِ، وَخَافَ على دَمه، وَجلد ظَهره، وَهدم دَاره. كَيفَ ترى فِي ذَلِك؟ فَقَالَ: أما هدم دَاره وَجلد ظَهره وسجنه، فَإِنَّهُ يصبر على ذَلِك، وَيتْرك الْعَمَل خير لَهُ، وَأما أَن يُبَاح دَمه وَلَا أَدْرِي مَا حد ذَلِك، وَلَعَلَّه فِي سَعَة من ذَلِك إِن عمل. وَقَالَ الْأَبْهَرِيّ: إِن دعِي إِلَى الْعَمَل، فَأبى، وخشي ضرب ظَهره أَو على دَمه أَو سجنه، فَأَما الضَّرْب والسجن، فَإِن صَبر، فَهُوَ أفضل؛ وَأما دَمه، فَإِن عمل، فعله فِي سَعَة أَن يجْرِي الْعدْل والإنصاف؛ وَإِن لم يُمكنهُ، لم يجز لَهُ أَن يتَعَدَّى الْحق، ويصبر على مَا يلْحقهُ من الْمَكْرُوه، إِذْ لَا يجوز لَهُ أَن يبطل حق الْمُسلمين وحريمهم لنَفسِهِ. وَمن كتاب ابْن حَارِث. لما توفّي يحيى بن معن، بَقِي النَّاس بِلَا قَاض نَحوا من سِتَّة أشهر، روى فِيهَا الْأَمِير عبد الرَّحْمَن فِي الإيتاء للْقَضَاء. فقلق النَّاس لذَلِك؛ فَقَالَ: وَالله {مَا يَمْنعنِي من التَّعْجِيل إِلَّا النّظر لَهُم} فَإِنِّي لَا أجد رجلا أرضاه، غير وَاحِد، وَهُوَ لَا يجيبني! فَقَالَ لَهُ أحد جُلَسَائِهِ: فَإِذا أرضيته للْقَضَاء، وأباه، فإلزمه أَن يدلك على سواهُ. فأحضر يحيى بن يحيى وألزمه أَن يُشِير عَلَيْهِ، إِذْ لم يجبهُ. فَامْتنعَ من الْوَجْهَيْنِ مَعًا، الْولَايَة وَالدّلَالَة، وَقَالَ: قد صدقت عَن نَفسِي لمعرفتي بهَا؛ وَلنْ
أتقلد الدّلَالَة على غَيْرِي، فَإِنَّهُ، إِن جَار، شاركته فِي جوره {فاغضب ذَلِك الْأَمِير ولح فِي أَن لَا يعفيه. وألزمه صَاحب رسائل غدابه إِلَى الْمَسْجِد الْجَامِع، فأجلسه مجْلِس الحكم، وَقَالَ للخصوم: هَذَا قاضيكم} فَلبث يحيى على تِلْكَ الْحَال ثَلَاثًا، وَهُوَ لَا يمد يَده لكتاب، وَلَا يتَكَلَّم مَعَ أحد، إِلَى أَن ضَاقَ صَدره؛ فَكتب إِلَى الْأَمِير يُشِير بإبراهيم ابْن الْعَبَّاس؛ فقلده، وكف عَن يحيى. وَمِمَّنْ تخلف عَن قبُول خطة الْقَضَاء، الإِمَام مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي. فراجع أَمِير الْمُؤمنِينَ، عِنْد الْعَزْم عَلَيْهِ فِي التَّوْلِيَة، بِأُمُور مِنْهَا أَن قَالَ لَهُ: إِن هَذَا الْأَمر لَا يصلح لَهُ من يشركك فِي نسبك. وَتوقف عَن الْعَمَل حَتَّى ترك. وَهُوَ الْقَائِل: من ولي الْقَضَاء، وَلم يفْتَقر، فَهُوَ سَارِق؛ وَمن لم يصن نَفسه، لم يَنْفَعهُ الْعلم. وبمثل مقَالَة الشَّافِعِي فِي الِاعْتِذَار عَن قبُول الْقَضَاء، أَشَارَ عبد الْملك بن حبيب على عبد الرَّحْمَن ابْن الحكم، فِي نازلة القَاضِي إِبْرَاهِيم بن الْعَبَّاس الْقرشِي؛ وَهِي النَّازِلَة الَّتِي تنْسب لَهُ. وللفقيه يحيى بن يحيى السُّورَة على الْخَلِيفَة؛ فَقَالَ لَهُ ابْن حبيب وَأما القَاضِي، فَلَا يَنْبَغِي للأمير أعزه الله {أَن يُشْرك فِي عدله من يشركهُ فِي حَسبه. فعزل الْأَمِير الْقرشِي قاضيه، وَذَلِكَ آخر سنة 213. وَولي الْقَضَاء مَكَانَهُ مُحَمَّد بن سعيد. وَعرض أَمِير الْمُؤمنِينَ الرشيد على الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي قَضَاء الْمَدِينَة، وجائزته أَرْبَعَة آلَاف دِينَار. فَامْتنعَ؛ فَأبى الرشيد أَن يلْزمه، فَقَالَ: وَالله} يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ {لِأَن يحنقني الشَّيْطَان أحب إِلَيّ من أَن أَلِي الْقَضَاء} فَقَالَ الرشيد: مَا بعد هَذَا شَيْء {وأعفاه، وَأَجَازَهُ بألفي دِينَار. وَرَأَيْت فِي كتاب تَرْتِيب المدارك تصنيف القَاضِي عِيَاض بن مُوسَى بن عِيَاض وَمن خطه نقلت، وَقد ذكر عبد الله بن فروخ الْفَارِسِي، فَقِيه القيروان فِي وقته؛ فَقَالَ: كَانَ أكره النَّاس فِي الْقَضَاء. وَكَانَ يَقُول: قلت لأبي حنيفَة: مَا مَنعك أَن تلِي الْقَضَاء؟ فَقَالَ لي: يَا ابْن فروخ} الْقُضَاة ثَلَاثَة: رجل يحسن العوم، فَأخذ الْبَحْر طولا، فَمَا عساه أَن يعوم، يُوشك أَن يكل فيغرق؛ وَرجل بعومه، عَام يَسِيرا فغرق؛ وَرجل لَا يحسن العوم، ألْقى بِنَفسِهِ على المَاء، فغرق من سَاعَته. وَمن الْكتاب الْمُسَمّى أَن روح بن حَاتِم أرسل إِلَى ابْن فروخ ليوليه الْقَضَاء فَامْتنعَ؛
فَأمر بِهِ أَن يرْبط ويصعد بِهِ على سقف الْجَامِع؛ فَقيل لَهُ: تقبل؟ فَقَالَ: لَا {فَأخذ لِيطْرَح؛ فَلَمَّا رأى الْعَزْم قَالَ: قبلت. فأجلس فِي الْجَامِع وَمَعَهُ حرس؛ فَتقدم إِلَيْهِ خصمان؛ فَنظر إِلَيْهِمَا وَبكى طَويلا؛ ثمَّ رفع رَأسه، فَقَالَ لَهما: سألتكما بِاللَّه} أَلا أعفيتماني من أنفسكما، وَلَا تَكُونَا أول مشوش عَليّ {فرحماه، وقاما عَنهُ. فَأعْلم الحرس بذلك روحاً؛ فَقَالَ: اذْهَبُوا إِلَيْهِ، فَقولُوا لَهُ يُشِير علينا بِمن نولي أَو مَا قبل. فَقَالَ: إِن يكن، فعبد الله بن غَانِم؛ فَإِنِّي رَأَيْته شَابًّا لَهُ صبَابَة يَعْنِي بمسائل الْقُضَاة. فَعَلَيْك بِهِ} فَإِنَّهُ يعرف مِقْدَار الْقَضَاء. فولى ابْن غَانِم؛ فَكَانَ يشاوره فِي كثير من أُمُوره وَأَحْكَامه؛ فأشفق ابْن فروخ من ذَلِك، وَقَالَ لَهُ: يَا ابْن أخي {لم أقبلها أَمِيرا أقبلها وزيراً} وَخرج إِلَى مصر هرباً من ذَلِك وورعاً، وَمَات هُنَالك. وَمِمَّنْ عرض عَلَيْهِ الْقَضَاء بإفريقية، فَامْتنعَ مِنْهُ، أَبُو ميسرَة أَحْمد بن نزار. فَلَمَّا عرض عَلَيْهِ قَالَ: اللَّهُمَّ {إِنَّك تعلم أَنِّي انْقَطَعت إِلَيْك، وَأَنا ابْن ثَمَانِي عشرَة سنة} فَلَا تمكنهم مني {فَمَا جَاءَ الْعَصْر إِلَّا وَقد توفّي. فَغسل وكفن وَخرج بِهِ. فَوجه إِلَيْهِ الْأَمِير إِسْمَاعِيل الْعَبْدي كفناً وطيباً فِي الأطباق؛ فوافاه الرَّسُول على النعش؛ فَجعل عَلَيْهِ الْكَفَن من فَوق. وَمن غَرِيب مَا حكى عَنهُ أَنه بَينا هُوَ يتهجد لَيْلَة من اللَّيَالِي ويبكي وَيَدْعُو، إِذا بِنور عَظِيم، خرج لَهُ من حَائِط الْمِحْرَاب، وَوجه كَأَنَّهُ الْبَدْر. فَقَالَ: تملأ، يَا أَبَا ميسرَة} من وَجْهي: فَإِنِّي رَبك الْأَعْلَى {فبصق فِي وَجهه وَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ يَا مَلْعُون} يَا شَيْطَان {لعنك الله} قَالَ الْمُؤلف رضي الله عنه {: التَّوْفِيق صحب ابْن نزار عِنْد مشاهدته لما أخبر عَنهُ بحائط محرابه؛ فثبتت الْمعرفَة قدمه، وأنطقت بِالصَّوَابِ لِسَانه. فذات الْقَدِيم سُبْحَانَهُ ذَات مَوْصُوفَة بِالْعلمِ، مدركة بِلَا إحاطة، وَلَا مرءية بالأبصار فِي دَار الدُّنْيَا؛ وَهِي مَوْجُودَة بحقائق الْإِيمَان، من غير حد، وَلَا إحاطة، وَلَا حُلُول؛ فالقلوب تعرفه، والعقول لَا تُدْرِكهُ؛ ينظر إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْآخِرَة بالأبصار، بِغَيْر إحاطة، وَلَا إِدْرَاك نِهَايَة. وَمن بَاب التمنع عَن المسارعة إِلَى الْأُمُور الَّتِي يخَاف من الدُّخُول فِيهَا، السُّقُوط فِي الْفِتْنَة، مَا جرى لجَعْفَر بن الْحسن بن الْحسن الأمدي قَاضِي بلنسية آخر أَيَّام قَضَائِهِ بهَا. وَذَلِكَ أَنه بُويِعَ لمروان بن عبد الْعَزِيز ببلنسية، عِنْد انْقِرَاض الدولة اللمتونية، طلب بِالشَّهَادَةِ فِي بيعَته فَقَالَ: وَالله} لَا أفعل وبيعة تاشفين فِي عنقِي {ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ}