الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر مُنْذر بن سعيد ونبذ من أخباره
قَالَ ابْن عفيف: هُوَ مُنْذر بن سعيد بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن قَاسم بن عبد الْملك ابْن نجيح النفري، ثمَّ الكزني. فَأول الْأَسْبَاب فِي مَعْرفَته بالناصر الْخَلِيفَة، وزلفاه لَدَيْهِ، أَن النَّاصِر لدين الله، لما احتفل فِي الْجُلُوس لدُخُول رَسُول ملك الرّوم الْأَعْظَم، صَاحب الْقُسْطَنْطِينِيَّة عَلَيْهِ، بقصر قرطبة، الاحتفال الَّذِي شهد ذكره فِي النَّاس، أحب أَن يُقيم الخطباء وَالشعرَاء بَين يَدَيْهِ بِذكر جلالة مَقْعَده، وَوصف مَا تهَيَّأ لَهُ من توطيد الْخلَافَة فِي دولته. وَتقدم إِلَى الْأَمِير الحكم ابْنه وَولي عَهده بإعداد من يقوم بذلك من الخطباء ويقدمه أَمَام نشيد الشُّعَرَاء فَأمر الحكم صنيعته الْفَقِيه مُحَمَّد بن عبد الْبر من الكسنياني بالتأهب لذَلِك، وإعداد خطْبَة بليغة، يقوم بهَا بَين يَدي الْخَلِيفَة. وَكَانَ يَدعِي من الْقُدْرَة على تأليف الْكَلَام مَا لَيْسَ فِي وَسعه. وَحضر الْمجْلس السلطاني. فَلَمَّا قَامَ يحاول التَّكَلُّم بِمَا رَوَاهُ، بهره هول الْمقَام وابهه الْخلَافَة؛ فَلم يهتد إِلَى لَفظه، بل غشي عَلَيْهِ، وَسقط إِلَى الأَرْض. فَقيل لأبي عَليّ الْبَغْدَادِيّ إِسْمَاعِيل بن الْقَاسِم، صَنِيعَة الْخَلِيفَة وأمير الْكَلَام: قُم {فارقع هَذَا الوهى} فَقَامَ؛ فَحَمدَ الله، وَأثْنى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهله وَصلى على نِيَّته مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم {ثمَّ انْقَطع بِهِ القَوْل؛ فَوقف ساكتاً مفكراً فِي كَلَام يدْخل بِهِ إِلَى ذكر مَا أُرِيد مِنْهُ. فَلَمَّا رأى ذَلِك مُنْذر بن سعيد وَكَانَ مِمَّن حضر فِي زمرة الْفُقَهَاء، قَامَ من ذَاته؛ فوصل افْتِتَاح أبي عَليّ لأوّل خطبَته بِكَلَام عَجِيب، وَفصل مُصِيب، يسحه سَحا، كَأَنَّمَا يحفظه قبل ذَلِك بِمدَّة، وَبَدَأَ من الْمَكَان الَّذِي انْتهى إِلَيْهِ أَبُو عَليّ الْبَغْدَادِيّ. فَقَالَ: أما بعد حمد الله، وَالثنَاء عَلَيْهِ، والتعداد لآلائه، وَالشُّكْر لنعمائه، وَالصَّلَاة على مُحَمَّد صَفيه وَخَاتم أنبيائه، فَإِن لكل حَادِثَة مقَاما، وَلكُل مقَام مقَالا، وَلَيْسَ بعد الْحق إِلَّا الضلال. وَإِنِّي قد قُمْت فِي مقَام كريم، بَين يَدي ملك عَظِيم؛ فأصغوا إِلَيّ معشر الْمَلأ} بأسماعكم وأيقنوا عني بأفئدتكم؛ إِن من الْحق أَن يُقَال للمحق: صدقت؟ وللمبطل: كذبت
وَإِن الْجَلِيل تَعَالَى فِي إسمائه، وتقدس بصفاته وأسمائه {أَمر كليمه مُوسَى صلى الله عليه وسلم وعَلى جَمِيع أنبيائه} أَن يذكر قومه بأيام الله عِنْدهم؛ وَفِيه وفى رَسُول الله مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم {أُسْوَة حَسَنَة} وَإِنِّي أذكركم بأيام الله عنْدكُمْ، وتلافيه لكم بخلافة أَمِير الْمُؤمنِينَ، الَّتِي لمت شعثكم، بعد أَن كُنْتُم قَلِيلا، فكثركم؛ ومستضعفين، فقواكم؛ ومستذلين، فنصركم {ولاه الله رعايتكم، وَأسْندَ إِلَيْهِ إمامتكم، أَيَّام ضربت الْفِتْنَة سرادقها على الْآفَاق، وأحاطت بكم شعل النِّفَاق، حَتَّى صرتم فِي مثل حدقة الْبَعِير، بِضيق الْحَال ونكد الْعَيْش والتقتير} فاستبدلتم بخلافته من الشدَّة بالرخاء، وانتقلتم بيمن سياسته إِلَى تمهيد الْعَافِيَة بعد استيطان الْبلَاء. أنْشدكُمْ الله معاشر الْمَلأ {ألم تكن الدِّمَاء مسفوكة؟ فحنقها} والسبل مخوفة؟ فَأَمَّنَهَا {وَالْأَمْوَال منتهبة؟ فأحرزها وحصنها} ألم تكن الْبِلَاد خراباً؟ فعمرها {وثغور الْمُسلمين مهتضمة؟ فحماها وزهرها} فاذكروا آلَاء الله عَلَيْكُم بخلافته، وتأليفه جمع كلمتكم بعد افتراقها بإمامته، حَتَّى أذهب الله غيظكم، وشفى صدوركم، وصرتم يدا على عَدوكُمْ بعد أَن كَانَ باسكم بَيْنكُم {ناشدكم الله} ألم تكن خِلَافَته قيد الْخلَافَة بعد انطلاقها من عقالها؟ ألم يتلاف صَلَاح الْأُمُور بِنَفسِهِ بعد اضْطِرَاب أحوالها، وَلم يكل ذَلِك إِلَى القواد والاجناد؟ حَتَّى بَاشرهُ بالمهجة وَالْأَوْلَاد، وَاعْتَزل النسوان وهجر الأوطان، ورفض الدعة وَهِي محبوبة، وَترك الركون إِلَى الرَّاحَة وَهِي مَطْلُوبَة، بطوية صَحِيحَة، وعزيمة صَرِيحَة، وبصيرة نَافِذَة ثاقبة، وريح هابة غالبة، ونصرة من الله وَاقعَة وَاجِبَة، وسلطان قاهر، وجد ظَاهر، وسيفٍ مَنْصُور، تَحت عدل منشور، متحملاً للنصب، مُسْتَقْبلا لما نابه فِي جَانب الله من التَّعَب، حَتَّى لانت الْأَحْوَال بعد شدتها، وانكسرت شَوْكَة الْفِتْنَة عِنْد حدتها، وَلم يبْق لَهَا غارب إِلَّا جُبَّة، وَلَا نجم لأَهْلهَا قرن إِلَّا جده! فأصبحتم بِنِعْمَة الله إخْوَانًا، وبلم أَمِير الْمُؤمنِينَ لشعثكم على أعدائكم أعواناً، حَتَّى تَوَاتَرَتْ لديكم الفتوحات، وَفتح الله عَلَيْكُم بخلافته أَبْوَاب البركات، وَصَارَت وُفُود الرّوم وافدة عَلَيْهِ وَعَلَيْكُم، وآمال الأقصين والأدنين مستخدمة إِلَيْهِ وإليكم، يأْتونَ من كل فج عميق، وبلد سحيق، لأخذ حَبل مِنْهُ ومنكم جملَة وتفصيلاً، ليقضى الله أمرا كَانَ مَفْعُولا، وَلنْ يخلف الله
وعده، وَلِهَذَا الْأَمر مَا بعده، وَتلك أَسبَاب ظَاهِرَة بادية، تدل على أُمُور باطنة خافية، دليلها قَائِم، وغيبها عاتم؛ وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليَستَخْلِفنهم فِي الأَرْض كَمَا اسْتخْلف الَّذين من قبلهم الْآيَة؛ وَلَيْسَ فِي تَصْدِيق مَا وعد الله ارتياب، وَلكُل نبأ مُسْتَقر وَلكُل أجل كتاب {فاحمدوا الله، أَيهَا النَّاس، على آلائه، واسألوا الْمَزِيد من نعمائه} فقد أَصْبَحْتُم بَين خلَافَة أَمِير الْمُؤمنِينَ أيده الله بالعظمة والسداد، وألهمه محَاضِر التَّوْفِيق إِلَى سَبِيل الرشاد {أحسن النَّاس حَالا، وأنعمهم بَالا، وأعزهم قرارا، وأمنعم دَارا، وأكثفهم جمعا، وأجلهم صنعا، لَا تهاجون وَلَا تواذون، وَأَنْتُم بِحَمْد الله على أعدائكم ظاهرون. فاستعينوا على صَلَاح أحوالكم، بِالنَّصِيحَةِ لإمامكم، والتزام الطَّاعَة لخليفتكم، فَإِن من نزع يدا من الطَّاعَة، وسعى فِي فرقة الْجَمَاعَة، ومرق من الدّين، فقد " خسر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ذَلِك هُوَ الخسران الْمُبين ". وَقد علمْتُم أَن فِي التَّعَلُّق بعصمتها، والتمسك بعروتها، حفظ الْأَمْوَال وحقن الدِّمَاء، وَصَلَاح الْخَاصَّة والدهماء، وَأَن بقوام الطَّاعَة تُقَام الْحُدُود، وَتوفى العهود، وَبهَا وصلت الْأَرْحَام، وَصحت الْأَحْكَام، وَبهَا سد الله الْخلَل، وآمن السبل، ووطأ الأكناف، وَرفع الِاخْتِلَاف، وَبهَا طَابَ لكم الْقَرار، واطمأنت بكم الدَّار؛ فَاعْتَصمُوا بِمَا أَمركُم الله بِلَا اعتصام بِهِ؛ فَإِنَّهُ تبارك وتعالى} يَقُول: " أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم " الْآيَة وَقد علمْتُم معشر الْمُسلمين {مَا أحَاط بكم فِي جزيرتكم هَذِه من ضروب الْمُشْركين وصنوف الْمُلْحِدِينَ، الساعين فِي شقّ عصاكم، وتفريق ملتكم، الآخذين فِي مخاذلة دينكُمْ، وهتك حريمكم، وتوهين دَعْوَة نَبِيكُم صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ وعَلى جَمِيع النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ} أَقُول هَذَا، وأختمه بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين {وَأَسْتَغْفِر الله الغفور الرَّحِيم: فَهُوَ خير الغافرين} فَخرج النَّاس يتحدثون عَن مقَام مُنْذر، وثبات جنانه، وبلاغة مَنْطِقه. علمْتُم معشر الْمُسلمين {مَا أحَاط بكم فِي جزيرتكم هَذِه من ضروب الْمُشْركين وصنوف الْمُلْحِدِينَ، الساعين فِي شقّ عصاكم، وتفريق ملتكم، الآخذين فِي مخاذلة دينكُمْ، وهتك حريمكم، وتوهين دَعْوَة نَبِيكُم صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ وعَلى جَمِيع النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ} أَقُول هَذَا، وأختمه بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين {وَأَسْتَغْفِر الله الغفور الرَّحِيم: فَهُوَ خير الغافرين} فَخرج النَّاس يتحدثون عَن مقَام مُنْذر، وثبات جنانه، وبلاغة مَنْطِقه. وَكَانَ الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله أَشَّدهم تَعَجبا مِنْهُ، فَأقبل على وَلَده الْأَمِير الحكم يسائله عَنهُ، وَلم يكن يثبت معرفَة عينه، وَقد سمع باسمه. فَقَالَ لَهُ الحكم: هُوَ مُنْذر بن سعيد
البلوطي. فَقَالَ لَهُ: لقد أحسن مَا شَاءَ {فلئن كَانَ حبر خطبَته هَذِه وأعدها، مَخَافَة أَن يَدُور مَا دَار، فيتلافى الوهى، إِنَّه لبديع من قدرته واحتياطه، وَلَئِن كَانَ أَتَى بهَا على البديهة لوقته، إِنَّه لأعجب وَأغْرب} فَكَانَ ذَلِك سَبَب اتِّصَاله بِهِ، واستعماله. وَذكر ابْن أصبغ الْهَمدَانِي عَن مُنْذر القَاضِي أَنه خطب يَوْمًا وَأَرَادَ التَّوَاضُع؛ فَكَانَ من فُصُول خطبَته أَن قَالَ: حَتَّى مَتى؟ وَإِلَى مَتى؟ فكم الَّذِي أعظ وَلَا أتعظ؛ وأزجر وَلَا أزدجر، أدل الطَّرِيق على المستدلين، وَأبقى مُقيما مَعَ الحائرين {كلا إِن هَذَا لَهو الضلال الْمُبين} " إِن هِيَ إِلَّا فتنتك تضل بهَا من تشَاء وتهدي من تشَاء " الْآيَة. اللَّهُمَّ {فرغني لما خلقتني لَهُ} وَلَا تشغلني بِمَا تكفلت لي بِهِ {وَلَا تحرمني وَأَنا أَسأَلك} وَلَا تعذبني وَأَنا أستغفرك {يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ} قَالَ: وَكَانَ الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله كلفاً بعمارة الأَرْض وَإِقَامَة معالمها، وتخليد الْآثَار الدَّالَّة على قُوَّة الْملك وَعز السُّلْطَان؛ فأقضى بِهِ الإغراق فِي ذَلِك إِلَى أَن ابتنى مَدِينَة الزهراء، الْبناء الَّذِي شاع ذكره: استفرغ وَسعه فِي تنميقها، وإتقان قُصُورهَا، وزخرفة مصانعها. فانهمك فِي ذَلِك حَتَّى عطل شُهُود الْجُمُعَة بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع الَّذِي اتَّخذهُ ثَلَاث جمع مُتَوَالِيَة؛ فَأَرَادَ القَاضِي مُنْذر أَن يغض مِنْهُ بِمَا تنَاوله من الموعظة بِفضل الْخطاب وَالْحكمَة والتذكرة بالإنابة وَالرَّجْعَة؛ فَأدْخل فِي خطبَته فصلا مبتدئاً بقوله: أتبنون بِكُل ريع آيَة تعبثون. وتتخذون مصانع لَعَلَّكُمْ تخلدون {وَإِذا بطشتم بطشتم جبارين} فَاتَّقُوا الله وأطيعون {وَاتَّقوا الَّذِي أمدكم بِمَا تَعْمَلُونَ} أمدكم بأنعام وبنين. وجنات وعيون. إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم {وَلَا تَقولُوا " سَوَاء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين " فمتاع الدُّنْيَا قَلِيل، وَالْآخِرَة خير لمن اتَّقى} وَهِي دَار الْقَرار، وَمَكَان الْجَزَاء! وَوصل ذَلِك بِكَلَام جزل، وَقَول فصل، وَمضى فِي ذمّ تشييد الْبُنيان، والاستغراق فِي زخرفته، والإسراف فِي الْإِنْفَاق عَلَيْهِ؛ فَجرى طلقاً؛ وانتزع فِيهِ قَوْله تَعَالَى: " أَفَمَن أسس بُنْيَانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من
أسس بُنْيَانه على شفا جرف هار فانهار بِهِ فِي نَار جَهَنَّم " إِلَى آخر الْآيَة. وأتى بِمَا يشاكل الْمَعْنى من التخويف بِالْمَوْتِ، والتحذير من فَجَاءَتْهُ، وَالدُّعَاء إِلَى الزّهْد فِي هَذِه الدَّار الفانية، والحض على اعتزالها، والرفض لَهَا، وَالنَّدْب إِلَى الْإِعْرَاض مِنْهَا؛ والإقصار عَن طلب اللَّذَّات، وَنهى النُّفُوس عَن اتِّبَاع هَواهَا. فأسهب فِي ذَلِك كُله، وأضاف إِلَيْهِ من آي الْقُرْآن مَا يطابقه، وجلب من الحَدِيث والْآثَار مَا يشاكله، حَتَّى اذكر من حَضَره النَّاس وخشعوا، ورقوا، واعترفوا، وَبكوا، وضجوا، ودعوا، وأعلنوا فِي التضرع إِلَى الله فِي التَّوْبَة، والابتهال فِي الْمَغْفِرَة، وَأخذ خليفتهم من ذَلِك بأوفر حَظّ، وَقد علم أَنه الْمَقْصُود بِهِ؛ فَبكى، وَنَدم على مَا سلف لَهُ، واستعاذ بِاللَّه من سخطه، إِلَّا أَنه وجد على مُنْذر بن سعيد لغلظ مَا تقرعه بِهِ؛ فَشَكا ذَلِك لوَلَده الْأَمِير الحكم بعد انْصِرَافه، وَقَالَ: وَالله {لقد تعمدني مُنْذر بخطبته، وَمَا عَنى بهَا غَيْرِي} فأسرف عَليّ وأفرط فِي تقريعي، وَلم يحسن السياسة فِي وعظي، فزعزع قلبِي، وَكَاد بعصاه يقرعني {واستشاط غيظاً عَلَيْهِ؛ فأقسم أَن لَا يُصَلِّي خَلفه صَلَاة الْجُمُعَة خَاصَّة؛ فَجعل يلْتَزم صلَاتهَا وَرَاء أَحْمد بن مطرف صَاحب الصَّلَاة بقرطبة، ويجانب الصَّلَاة بالزهراء. فَقَالَ لَهُ الحكم: فَمَا الَّذِي يمنعك من عزل مُنْذر عَن الصَّلَاة بك، والاستبدال مِنْهُ إِذْ كرهته؟ فزجره وانتهره، وَقَالَ لَهُ: أمثل مُنْذر بن سعيد فِي فَضله وَعَمله وخيره؟ لَا أم لَك} يعْزل لإرضاء نفس ناكبة عَن الْحق {هَذَا مِمَّا لَا يكون} وَإِنِّي لأَسْتَحي من الله أَن لَا أجعَل بيني وَبَينه فِي صَلَاة الْجُمُعَة شَفِيعًا مثل مُنْذر فِي ورعه وَصدقه {وَلَا كنه أحرجني، فأقسمت. ولوددت أَنِّي أجد سَبِيلا إِلَى كَفَّارَة يَمِيني، بل يُصَلِّي بِالنَّاسِ حَيَاته وحياتنا، إِن شَاءَ الله} وقحط النَّاس آخر مُدَّة النَّاصِر لدين الله عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد. فَأمر القَاضِي مُنْذر ابْن سعيد بالبروز إِلَى الاسْتِسْقَاء بِالنَّاسِ فتأهب لذَلِك، وَصَامَ بَين يَدَيْهِ أَيَّامًا، تنفلاً، وإنابةً، وَرَهْبَة. وَاجْتمعَ لَهُ النَّاس فِي مصلى الربض بقرطبة، بارزين إِلَى الله تَعَالَى فِي جمع عَظِيم. وَصعد الْخَلِيفَة النَّاصِر فِي أَعلَى مصانعه المرتفعة من الْقصر، ليشارف النَّاس، ويشاركهم فِي الْخُرُوج إِلَى الله، والضراعة لَهُ، فَأَبْطَأَ القَاضِي حَتَّى اجْتمع النَّاس، وغصت
بهم ساحة الْمصلى. ثمَّ خرج نحوهم مَاشِيا، متضرعاً، مخبتاً، متخشعاً؛ وَقَامَ ليخطب. فَلَمَّا رأى بدار النَّاس إِلَى ارتقابه، واستكانتهم من خُفْيَة الله، وإخباتهم لَهُ، وابتهالهم إِلَيْهِ، رقت نَفسه، وغلبته عَيناهُ؛ فَاسْتَغْفر، وَبكى حينا؛ ثمَّ افْتتح خطبَته بِأَن قَالَ: سَلام عَلَيْكُم {ثمَّ سكت، ووقف شبه الْحصْر، وَلم يكن من عَادَته. فَنظر النَّاس بَعضهم بِبَعْض، لَا يَدْرُونَ مَا عراه، وَلَا مَا أَرَادَ بقوله. ثمَّ انْدفع تالياً بقوله: سَلام عَلَيْكُم} كتب ربكُم على نَفسه الرَّحْمَة أَنه من عمل مِنْكُم سوءا بِجَهَالَة ثمَّ تَابَ من بعده وَأصْلح فَأَنَّهُ غَفُور رَحِيم {وَاسْتَغْفرُوا ربكُم، وتوبوا إِلَيْهِ، وتزلفو بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَات لَدَيْهِ} قَالَ: فهاج النَّاس بالبكاء، وجأروا بِالدُّعَاءِ، وَمضى على تَمام خطبَته؛ فقرع النُّفُوس بوعظه، وانبعث الْإِخْلَاص بتذكيره؛ فَلم ينْقض النَّهَار حَتَّى أرسل الله السَّمَاء بِمَاء منهمر، روى الثرى، وطرد الْمحل، وَسكن الْأَزَل. وَالله لطيف بعباده {وَكَانَ لَهُ فِي خطب الاسْتِسْقَاء استفتاح عَجِيب؛ وَمِنْه أَن قَالَ يَوْمًا، وَقد سرح طرفه فِي مَلأ النَّاس، عِنْد مَا شخصوا إِلَيْهِ بِأَبْصَارِهِمْ؛ فَهَتَفَ بهم كالمنادي: يَا أَيهَا النَّاس وكررها عَلَيْهِم، مُشِيرا بِيَدِهِ فِي نواحيهم أَنْتُم الْفُقَرَاء إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيّ الحميد. إِن يَشَأْ يذهبكم وَيَأْتِ بِخلق جَدِيد. وَمَا ذَلِك على الله بعزيز} فَاشْتَدَّ وَجل النَّاس، وَانْطَلَقت أَعينهم بالبكاء، وَمضى فِي خطبَته. وَمن أَخْبَار المحفوظة مَعَ الْخَلِيفَة عبد الرَّحْمَن، فِي إِنْكَاره عَلَيْهِ الْإِسْرَاف فِي الْبناء، أَن النَّاصِر كَانَ قد اتخذ، لسقف القبيبة المصغرة الِاسْم للخصوصية الَّتِي كَانَت مماثلة على الصرح الممرد الْمَشْهُور شَأْنه بقصر الزهراء، قراميد مغشاة ذَهَبا وَفِضة، أنْفق عَلَيْهَا مَالا جسيماً، وقرمد سقفها بهَا، تشَتت الْأَبْصَار بأشعة أنوارها. وَجلسَ فِيهَا يَوْمًا، اثر تَمامهَا، لأهل مَمْلَكَته، فَقَالَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُم من الوزراء وَأهل الْخدمَة، مفتخراً بِمَا صنعه من ذَلِك: هَل رَأَيْتُمْ أَو سَمِعْتُمْ ملكا كَانَ قبلي فعل مثل فعلي هَذَا أَو قدر عَلَيْهِ؟ فَقَالُوا: لَا {يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ} وَإنَّك لوَاحِد فِي شَأْنك كُله، وَمَا سَبَقَك إِلَى مبتدعاتك هَذِه ملك رَأَيْنَاهُ، وَلَا انْتهى إِلَيْنَا خَبره! فابهجه
قَوْلهم وسره. وبينما هُوَ كَذَلِك، إِذْ دخل عَلَيْهِ القَاضِي مُنْذر بن سعيد، واجماً ناكس الرَّأْس؛ فَلَمَّا أَخذ مَجْلِسه، قَالَ لَهُ كَالَّذي قَالَ لوزرائه من ذكر السّقف الْمَذْهَب، واقتداره على إبداعه؛ فَأَقْبَلت دموع القَاضِي تنحدر على لحيته، وَقَالَ لَهُ: وَالله {يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، مَا ظَنَنْت أَن الشَّيْطَان لَعنه الله} يبلغ مِنْك هَذَا الْمبلغ، وَلَا أَن تمكنه من قبلك هَذَا التَّمْكِين، مَعَ مَا آتاك الله من فَضله وَنعمته، وفضلك بِهِ على الْعَالمين، حَتَّى ينزلك منَازِل الْكَافرين {قَالَ: فانفعل عبد الرَّحْمَن لقَوْله، وَقَالَ لَهُ: انْظُر مَا تَقول} وَكَيف أنزلتني مَنْزِلَتهمْ؟ فَقَالَ لَهُ: نعم {أَلَيْسَ الله تَعَالَى يَقُول: وَلَوْلَا أَن يكون النَّاس أمة وَاحِدَة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضَّة ومعارج عَلَيْهَا يظهرون. فَوَجَمَ الْخَلِيفَة، وأطرق مَلِيًّا، ودموعه تتساقط خشوعاً لله سُبْحَانَهُ، ثمَّ أقبل على مُنْذر وَقَالَ لَهُ: جَزَاك الله، يَا قَاضِي} عَنَّا وَعَن نَفسك خيرا {وَعَن الدّين وَالْمُسْلِمين أجل جَزَائِهِ} وَكثر فِي النَّاس أمثالك {فَالَّذِي قلت هُوَ الْحق} وَقَامَ عَن مَجْلِسه ذَلِك، وَأمر بِنَقْض سقف الْقبَّة، وَأعَاد قرمودها تُرَابا على صفة غَيرهَا. وَكَانَ هَذَا القَاضِي على متانته وَشدَّة جزالته، حسن الْخلق، خَفِيف الوطاة، سهل الْجَانِب، كثير الدعابة، منطلق الْبشر، حَتَّى أَنه رُبمَا استراب بباطنه من لَا يعرفهُ إِذا شَاهد استرساله؛ فَإِذا دَامَ أحد أَن يُصِيب من دينه، ثار ثورة اللَّيْث. وَمن ذَلِك مَا حَكَاهُ عَنهُ أَبُو عمر بن لَبِيب، أَنه حضر عِنْد الْخَلِيفَة الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه يَوْمًا، فِي خلْوَة لَهُ، وَهُوَ فِي الْبُسْتَان على بركَة، فِي زمَان صيف شَدِيد الْحر والوهج، وَذَلِكَ منصرف القَاضِي من صَلَاة الْجُمُعَة، فَشَكا إِلَى الْخَلِيفَة من قُوَّة الْحر جهداً؛ فَأمره بخلع ثِيَابه، وَالتَّخْفِيف عَن جِسْمه؛ فَفعل؛ فَلم يطف ذَلِك مَا بِهِ، فَقَالَ لَهُ الحكم: من الصَّوَاب أَن تنغمس فِي هَذَا الصهريج انغماسة تبرد جسمك وتعدله. فَقُمْ {فَلَيْسَ هَا هُنَا من تحتشمه} وَإِنَّمَا كَانَ مَعَهُمَا جَعْفَر الصقلبي أثير الْخلَافَة، لَا رَابِع لَهُم؛ فَكَأَنَّهُ استحيى من ذَلِك، وانقبض عَنهُ وقاراً. فَأمر الحكم حَاجِبه جعفراً بسبقه إِلَى النُّزُول فِي الصهريج، ليسهل الْأَمر فِيهِ على القَاضِي؛ فبادر جَعْفَر إِلَى ذَلِك، وأتزر، وَألقى بِنَفسِهِ
فِي المَاء؛ وَكَانَ يحسن السباحة. فَلم يسع القَاضِي عِنْد ذَلِك إِلَّا إِنْفَاذ أَمر الْخَلِيفَة؛ فَقَامَ وأتزر وتجرد، وَألقى بِنَفسِهِ خلف جَعْفَر، ولاذ بالقعود فِي درج الصهريج متبرداً؛ فَلم ينشط فِي السباحة، وجعفر يجول فِيهِ مجاله، مصعداً فِي الصهريج ومصوباً، فَدَسَّهُ الحكم على القَاضِي، فَهُوَ يَدعُوهُ إِلَى المساجلة فِي العوم، ويعجزه فِي إخلاده إِلَى الْقعُود، ويباغيه بإلقاء المَاء عَلَيْهِ، والرش لَهُ، وَالْآخر لَا ينبعث، وَلَا بفارق مَكَانَهُ إِلَى أَن كَلمه الحكم وَقَالَ لَهُ: مَا لَك أَيهَا القَاضِي؟ لَا تساعد الْحَاجِب فِي فعله وتعوم مَعَه {فَمن أَجلك تبذل فِيمَا تبذل فِيهِ} فَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي، الْحَاجِب سلمه الله مُطلق، لَا هوجل مَعَه {وَأَنا بالهوجل الَّذِي معي، يعقلني ويمنعني من الأعماق فِي الصهريج} يُرِيد بمقالته أنثييه وَأَن جعفراً مجبوب. فاستفرغ الحكم ضحكاً من نادرته، ولطف تعريضه فَخَجِلَ الْحَاجِب من قَوْله، وسبه سبّ الْأَشْرَاف. وخرجا من المَاء. فَأمر لَهما الْخَلِيفَة رحمه الله بكسوة تشاكل كلا مِنْهُمَا، ووصلهما بصلَة سنية. قَالَ الْحسن بن مُحَمَّد فِي كِتَابه: وَذكر أَن الْخَلِيفَة الحكم قَالَ لقاضيه مُنْذر يَوْمًا، فِي بعض مَا جاوبه: بَلغنِي أَنَّك لَا تجتهد للأيتام، وَأَنَّك تقدم عَلَيْهِم أوصياء سوء، يَأْكُلُون أَمْوَالهم {قَالَ نعم} وَإِن أمكنهم نيك أمهاتهم، لم يعفوا عَنْهُن {فَقَالَ لَهُ: وَكَيف تقدم مثل هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: لست أجد غَيرهم، ولاكن أحلني على الْفَقِيه اللؤْلُؤِي، وَأبي إِبْرَاهِيم، وأمثالهما لأقدمهم، فَإِن أَبَوا، أجبرتهم بالسجن وَالضَّرْب، ثمَّ لَا تسمع إِلَّا خيرا. وَإِلَّا، فدع الْأُمُور تمْضِي كَمَا هِيَ} فَالله بالمرصاد {وَكَانَ شَيخنَا القَاضِي أَبُو عبد الله بن عَيَّاش الخزرجي يستحسن من كَلَامه قَوْله فِي التَّزْكِيَة: اعْلَم أَن الْعَدَالَة من أَشد الْأَشْيَاء تَفَاوتا وتبايناً، وَمَتى حصلت ذَلِك عرفت حَالَة الشُّهُود، لِأَن بَين عَدَالَة أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم} وعدالة التَّابِعين رضي الله عنهم {بون عَظِيم، وتباين شَدِيد، وَبَين عَدَالَة أهل زَمَاننَا، وعدالة أُولَئِكَ، مثل مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض} وعدالة أهل زَمَاننَا، على مَا هِيَ عَلَيْهِ،
بعيدَة التباين أَيْضا. وَالْأَصْل فِي هَذَا عِنْدِي وَالله الْمُوفق للصَّوَاب {أَن من كَانَ الْخَيْر أغلب عَلَيْهِ من الشَّرّ، وَكَانَ متنزهاً عَن الْكَبَائِر، فَوَاجِب أَن تعْمل شَهَادَته؛ فَإِن الله تَعَالَى قد أخبرنَا بِنَصّ الْكتاب أَن: " من ثقلت مَوَازِينه فَهُوَ فِي عيشة راضية. " وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: " فَأُولَئِك هم المفلحون} " فَمن ثقلت مَوَازِين حَسَنَاته بِشَيْء، لم يدْخل النَّار؛ وَمن اسْتَوَت حَسَنَاته وسيآته، لم يدْخل الْجنَّة فِي زمرة الداخلين أَولا؛ وهم أَصْحَاب الْأَعْرَاف، فَذَلِك عُقُوبَة لَهُم، إِذْ تخلفوا أَن تزيد حسناتهم على سيآتهم. فَهَذَا حكم الله فِي عباده. وَنحن إِنَّمَا كلفنا الحكم بِالظَّاهِرِ؛ فَمن ظهر لنا أَن خَيره أغلب عَلَيْهِ من شَره، حكمنَا لَهُ بِحكم الله بعباده؛ وَلم نطلب لَهُ على الْبَاطِن. وَلَا كلفه مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم! فقد ثَبت عَنهُ أَنه قَالَ: إِنَّمَا أَنا بشر، وَأَنْتُم تختصمون إِلَيّ؛ ولقل بَعْضكُم أَن يكون ألحق بحجته من بعض؛ فأحكم لَهُ على نَحْو مَا أسمع بِأَحْكَام الدُّنْيَا على ماظهر، وَأَحْكَام الْآخِرَة على مَا بطن، لِأَن الله تَعَالَى يعلم الظَّاهِر وَالْبَاطِن، وَنحن لَا نعلم إِلَّا الظَّاهِر. وَلأَهل كل بلد قوم قد تراضى عَلَيْهِم عامتهم؛ فبهم تَنْعَقِد مناكحهم وبيوعهم؛ وَقد قدموهم فِي مَسَاجِدهمْ، ولجمعهم وأعيادهم؛ فَالْوَاجِب على من استقضى فِي مَوضِع، أَن يقبل شَهَادَة أماثلهم، وفقهائهم وَأَصْحَاب صلواتهم، وَإِلَّا ضَاعَت حُقُوق ضعيفهم وقويهم، وَبَطلَت أحكامهم. وَيجب عَلَيْهِ أَن يسْأَل إِن استراب فِي بَعضهم فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن عَنْهُم؛ فَمن لم يثبت عِنْده عَلَيْهِ اشتهار فِي كَبِيرَة، فَهُوَ على عَدَالَة ظَاهِرَة، حَتَّى يثبت غير ذَلِك. انْتهى. وَسَماهُ مُحَمَّد بن حُسَيْن الزبيدِيّ فِي مُصَنفه فِي طَبَقَات النَّحْوِيين واللغويين؛ فَقَالَ: أَبُو الحكم مُنْذر بن سعيد القَاضِي، سمع بالأندلس من عبيد الله بن يحيى ونظرائه، ثمَّ رَحل حَاجا سنة 308؛ فَسمع بِمَكَّة من مُحَمَّد النَّيْسَابُورِي كِتَابه الْمُؤلف فِي اخْتِلَاف الْعلمَاء الْمُسَمّى ب الْأَشْرَاف. وروى بِمصْر كتاب الْعين للخليل، عَن أبي الْعَبَّاس ابْن ولاد، وَعَن أبي جَعْفَر بن النّحاس. وَكَانَ متفنناً فِي ضروب الْعلم. وَغلب عَلَيْهِ التفقه بِمذهب أبي سُلَيْمَان دَاوُود بن عَليّ الإصبهاني الْمَعْرُوف بالظاهري؛ فَكَانَ يُؤثر مذْهبه، وَيجمع كتبه، ويحتج بمقالته، وَيَأْخُذ بهَا لنَفسِهِ، فَإِذا جلس مجْلِس الْحُكُومَة، قضى