الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القَاضِي مُحَمَّد بن زِيَاد على القَوْل بسفك دَمه. وَتَبعهُ فِي ذَلِك من الْفُقَهَاء أَبُو زيد وَعبد الْأَعْلَى وَأَبَان. وَأفْتى بقتْله عبد الْملك بن حبيب، وَأصبغ بن خَلِيل مَعًا. فَأَمرهمْ مُحَمَّد ابْن سليم أَن ينصوا فتواهم على وجوهها فِي صك، ليرفعها إِلَى الْأَمِير، ليرى فِيهَا رَأْيه. وفعلوا. فَلَمَّا تصفح الْأَمِير أَقْوَالهم، اسْتحْسنَ قَول ابْن حبيب وَأصبغ، وَرَأى مَا رَأيا من قَتله. وَأمر الْفَتى حسانا؛ فَخرج إِلَيْهِم؛ فَقَالَ لِابْنِ السَّلِيم: قد قهم الْأَمِير مَا أفتى بِهِ الْقَوْم من أَمر هَذَا الْفَاسِق. وَهُوَ يَقُول لَك: أَيهَا القَاضِي {اذْهَبْ؛ فقد عزلناك. وَأما أَنْت، يَا عبد الْأَعْلَى} فقد كَانَ يحيى يشْهد عَلَيْك بالزندقة؛ وَمن كَانَت هَذِه حَاله، فحرى أَلا تسمع فتواه {وَأما أَنْت، يَا أبان بن عِيسَى} فَإنَّا أردنَا أَن نوليك قَضَاء جيان؛ فَزَعَمت أَنَّك لَا تحسن الْقَضَاء. فَإِن كنت صَادِقا، فَعَلَيْك أَن تتعلم؛ وَإِن كنت كَاذِبًا، فالكاذب لَا يكون أَمينا مفتياً {ثمَّ قَالَ حسان لصَاحب الْمَدِينَة: يَأْمُرك الْأَمِير أَن تخرج الْآن مَعَ هذَيْن الشخصين عبد الْملك وَأصبغ؛ فتأمر لَهما بِأَرْبَعِينَ من الغلمان ينفذون لَهما فِي هَذَا الْفَاسِق مَا رأياه} ثمَّ أخرج الْمَحْبُوس، ووقفا مَعًا حَتَّى رفع فَوق خَشَبَة، وَهُوَ يَقُول لعبد الْملك: يَا أَبَا مَرْوَان {اتَّقوا الله عز وجل} فِي دمي {فَإِنِّي أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَعبد الْملك يَقُول: الْآن وَقد عصيت} حَتَّى طعن. وانصرفا.
نبذ من أَخْبَار سُلَيْمَان بن الْأسود الغافقي
مِنْهَا قَالَ القَاضِي أَبُو عمر بن عبد الْبر: كَانَ القَاضِي سُلَيْمَان بن الْأسود رجلا صَالحا متقشفاً، صليباً فِي حكمه، مهيباً. وَكَانَ السَّبَب فِي تَقْلِيد الْأَمِير مُحَمَّد اياه قصاء قرطبة، حكم أَمْضَاهُ بِمَدِينَة ماردة، وَهُوَ قَاض عَلَيْهَا للأمير عبد الرَّحْمَن وَالِده، وَمُحَمّد أَمِير عَلَيْهَا: وَقد احْتبسَ لرجل يَهُودِيّ من تجار جليقية مَمْلُوكَة أَعْجَبته، واشتط الْيَهُودِيّ فِي سومها، فَدس غلمانه لاختلاسها من الْيَهُودِيّ. وفزع الْيَهُودِيّ إِلَى سُلَيْمَان بمظلمة، وَاسْتشْهدَ بِمن حول دَار الْإِمَارَة مِمَّن عرف خَبَرهَا. فأوصل سُلَيْمَان إِلَى مُحَمَّد، يعرفهُ بِمَا ذكره الْيَهُودِيّ، وَمَا شهد لَدَيْهِ، ويقبح عِنْده سوء الأحدوثة عَنهُ، ويسأله
دفع مملوكته إِلَيْهِ. فَأنْكر مُحَمَّد مَا زَعمه الْيَهُودِيّ، ولواه بِحقِّهِ، فَأَعَادَ القَاضِي إِلَيْهِ الرسَالَة يَقُول لَهُ: إِن هَذَا الْيَهُودِيّ الضَّعِيف لَا يقدر أَن يدعى على الْأَمِير بباطل {وَقد شهد عِنْدِي قوم من التُّجَّار} فليأمر الْأَمِير بإنصافه {فلج مُحَمَّد ولج سُلَيْمَان. فَأرْسل إِلَيْهِ سُلَيْمَان ثَانِيَة، يقسم بِاللَّه الْعَظِيم لَئِن لم يصرف على الْيَهُودِيّ جَارِيَته، ليركبن دَابَّته من فوره، وَيكون طَرِيقه إِلَى الْأَمِير وَالِده، يُعلمهُ الْخَبَر، ويستعفيه من قَضَائِهِ. فَلم يلْتَفت مُحَمَّد إِلَى وَصيته. فَشد سُلَيْمَان على نَفسه، وَركب دَابَّته سائراً إِلَى قرطبة؛ وَكَانَت طَرِيقه على بَاب دَار الْإِمَارَة؛ فَدخل الفتيان إِلَى مُحَمَّد؛ فعرفوه بسيره. فأشفق من ذَلِك، وَأرْسل خَلفه فَتى من ثقاته، يَقُول لَهُ إِن الْجَارِيَة قد وجد خَبَرهَا عِنْد بعض فتيانه، وَقد كَانَ أخفاها بِغَيْر أمره، وَهَا هِيَ حَاضِرَة، ترد إِلَى الْيَهُودِيّ. فَلحقه الرَّسُول على ميل أَو نَحوه من ماردة، وأعلمه. فَقَالَ: وَالله} لَا أنصرف من موضعي رَاجعا، أَو أُوتى بالجارية إِلَى هَذَا الْمَكَان، ويقبضها الْيَهُودِيّ هَا هُنَا {وَإِلَّا مضيت لوجهي} فَأرْسل مُحَمَّد الْجَارِيَة إِلَيْهِ. فَلَمَّا صَارَت بَين يَدَيْهِ، أرسل فِي الْيَهُودِيّ مَوْلَاهَا، وَفِي ثِقَات من ثِقَات أهل الْبَلَد، وَدفعهَا إِلَيْهِ بمحضرهم. وأعجب الْأَمِير مُحَمَّدًا مَا كَانَ مِنْهُ، واسترجحه واعتقد تفضيله. فَلَمَّا ولى الْخلَافَة، وَاحْتَاجَ إِلَى قَاض، ولاه وأعزه. قَالَ أسلم بن عبد الْعَزِيز: سَمِعت أخي هاشماً يَقُول: إِنِّي لقاعد يَوْمًا بَين يَدي الْأَمِير، إِذْ دخل عَلَيْهِ فتاه بدرون الصقلبي وَكَانَ أثيراً لَدَيْهِ باكياً. فَقَالَ لَهُ: مَا دهاك؟ فَقَالَ لَهُ: يَا مولَايَ {عرض لي السَّاعَة مَعَ القَاضِي مَا لم يعرض لي مثله قطّ} ولوددت أَن الأَرْض انضمت عَليّ وَلم أَقف بَين يَدَيْهِ {قَالَ: وَمَا ذَاك؟ قَالَ: دست على امْرَأَة تطالبني فِي دَار فِي يَدي، فأغفل مَا كنت إِذْ جَاءَتْنِي بِطَابع القَاضِي، وَكنت أَنْت أَمرتنِي بِمَا تعلمه؛ فاعتذرت إِلَيْهَا وَقلت: أَنا الْيَوْم مَشْغُول بشغل الْأَمِير أعزه الله} وسأكتب إِلَى القَاضِي، واستعلم مَا يُرِيد. ثمَّ إِنِّي أَقبلت إِلَى الْقصر وَقد أتيت بَاب القنطرة؛ فَإِذا برَسُول من أعوان القَاضِي بَادر إِلَيّ؛ فَضرب على عَاتِقي، وصرفني عَن طريقي إِلَيْهِ؛ فَدخلت عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِد الْجَامِع؛ فَوَجَدته غَضْبَان. فنبهني وَقَالَ: عَصَيْتنِي، وَلم تَأْخُذ طابعي {فَقلت لَهُ: لم أفعل} وَقد عرفت الْمَرْأَة بِوَجْه تأخيري. فَقَالَ لي:
وَرب هَذَا الْبَيْت {لَو صَحَّ عِنْدِي عصيانك، لأدبتك} ثمَّ قَالَ لي: أنصف هَذِه الْمَرْأَة {فَقلت: أوكل من يخاصمها عني} فَأبى عَليّ إِلَّا أَن أَتكَلّم. فَلَمَّا رَأَيْت صعوبة مقَامي، أعطيتهَا بدعواها، ونجوت بنفسي. أفيحسن عنْدك، يَا مولَايَ {أَن يركب مني قاضيك مثل هَذَا؟ ومكاني من خدمتك مَكَاني} قَالَ: فَتغير وَجه الْأَمِير مُحَمَّد، وَقَالَ لَهُ: يَا بدرون {اخْفِضْ عَلَيْك} فمحلك مني تعلمه؛ فسئلنا بِهِ حوائجك، نجبك إِلَيْهَا {مَا خلا مُعَارضَة القَاضِي فِي شَيْء من أَحْكَامه؛ فَإِن هَذَا بَاب قد أغلقناه؛ فَلَا نجيب إِلَيْهِ أحدا من أَبْنَائِنَا، وَلَا من إِخْوَاننَا، وَلَا من أَبنَاء عمنَا، فضلا عَن غَيرهم. وَالْقَاضِي أدرى بِمَا فعل} فَمسح بدرون عَيْنَيْهِ، وَانْصَرف. قَالَ القَاضِي أسلم: وَإِنَّمَا كَانَ يحْتَمل مثل هَذَا من أُولَئِكَ الْقُضَاة. وَأما أمثالنا نَحن فَلَا. وَصدق أسلم رحمه الله {فالقهر بالحكم لَا يحْتَمل فِي الْغَالِب، إِلَّا لمن تخلص نِيَّته فِي الْقَصْد بِهِ وَجه الله. وَمَا تسرع ملامة النَّاس إِلَّا لمن يتقيها ويتخوف عَاقِبَة أَمر أَهلهَا. وَسخط الله أكبر من ملامة الْخلق. ونسأل الله الْهِدَايَة والوقاية} وَكَثِيرًا مَا كَانَ ابْن أسود ينشد: تضحى على وَجل تمسى على وَجل
…
بَين الْأَقَارِب وَالْجِيرَان والخؤل كل التُّرَاب وَلَا تعْمل لَهُم عملا
…
فالشر أجمعه فِي ذَلِك الْعَمَل وَكَانَت فِيهِ دعابة تستحسن وتستظرف، مِنْهَا أَنه كَانَ يعلم شدَّة شَهْوَة إِبْرَاهِيم بن يزِيد فِي الصَّلَاة بِالنَّاسِ، وترشيحه نَفسه لَهَا؛ وتربصه بِهِ الدَّوَائِر ليثبت عَلَيْهَا. فَلم يشْعر سُلَيْمَان غَدَاة يَوْم من بعض الْجمع، وَقد أحب الدعة فِي بَيته، إِذْ اسْتَأْذن عَلَيْهِ إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور. فَذهب إِلَى المداعبة بِهِ، وَقَالَ لغلامه: اخْرُج إِلَيْهِ متباكياً، وَأظْهر الإشفاق عَليّ، وَقل لَهُ: أَحسب مولَايَ فِي الْمَوْت {ثمَّ أدخلهُ} فَدخل، وَقد اضْطجع سُلَيْمَان، وسجى على نَفسه، وَجعل يتنفس تنفس الْهَالِك. فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ؛ ترجع واستغفر. ثمَّ خرج عَنهُ، فَمضى من فوره إِلَى هَاشم بن عبد الْعَزِيز قيم الدولة؛ فَعرفهُ حَال سُلَيْمَان وَأَنه يعالج الْمَوْت، وَمَا أَظُنهُ يبلغ وَقت صَلَاة الْجُمُعَة؛ وَإِن بلغ دماؤه،