الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر القَاضِي أبي الرّبيع سُلَيْمَان الكلَاعِي
وَمن الْقُضَاة بالبلاد الشرقية؛ أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان بن مُوسَى بن سَالم الْحِمْيَرِي الكلَاعِي، من أهل بلنسية. تقدم للْقَضَاء بهَا؛ فَسَار فِي أَحْكَامه بأجمل سيرة، وَأحمد طَريقَة من الْعدْل، والتثبيت وَالْفضل. وَكَانَ حسن الْهَيْئَة والمركب والملبس وَالصُّورَة، كريم النَّفس، يطعم فُقَرَاء الطّلبَة، وينشطهم، ويتحمل مؤنتهم. وَكَانَ قد تجول فِي بِلَاد الأندلس وَالْمغْرب؛ فَأخذ عَن أبي الْقَاسِم حُبَيْش، وَأبي بكر بن الْجد، وَابْن زرقون، وَأبي الْوَلِيد بن أبي الْقَاسِم، وَغَيرهم. قَالَ صَاحب التكملة: وَكَانَ حسن الْخط، لَا نَظِير لَهُ فِي الإتقان والضبط، مَعَ الاستبحار فِي الْأَدَب، والاشتهار بالبلاغة، فَردا فِي إنْشَاء الرسائل؛ خَطِيبًا فصيحاً مفوهاً مدْركا، مَعَ الْإِشَارَة الأنيقة؛ والزي الْحسن. وَكَانَ هُوَ الْمُتَكَلّم عَن الْمُلُوك فِي مجَالِسهمْ، والمبين عَنْهُم لما يريدونه على الْمِنْبَر فِي المحافل. وَولي الْخطْبَة بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع من بلنسية فِي أَوْقَات. وَكَانَ رَئِيسا فِي الحَدِيث وَالْكِتَابَة. وَله تصانيف وتواليف مفيدة شهيرة فِي فنون شَتَّى، مِنْهَا كتاب الِاكْتِفَاء بِمَا تضمنه من مغازي الرَّسُول صلى الله عليه وسلم! وَمَغَازِي الثَّلَاثَة الْخُلَفَاء فِي أَربع مجلدات؛ والمسلسلات من الْأَحَادِيث والْآثَار والإنشاءات وَكتاب نُكْتَة الْأَمْثَال، ونفثة السحر الْحَلَال؛ إِلَى غير ذَلِك. ثمَّ قَالَ: وَإِلَيْهِ كَانَت الرحلة فِي عصره للأخذ عَنهُ، وَالسَّمَاع مِنْهُ. وأنشدنا لنَفسِهِ: إِذا برمت نَفسِي بِحَال احلتها
…
على أمل باد فقرت بِهِ النَّفس وَانْزِلْ أرجاء الرَّجَاء ركائبي
…
إِذا رام إلماماً بساحتي الْيَأْس وَإِن أوحشتني من أماني نبوة
…
فلي بالرضى بِاللَّه وَالْقدر الْأنس مولده بِخَارِج بلنسية، أول لَيْلَة الثُّلَاثَاء مستهل رَمَضَان سنة 565. وسيق إِلَى بلنسية، وَهُوَ ابْن عَاميْنِ اثْنَيْنِ؛ فَنَشَأَ بهَا، إِلَى أَن اسْتشْهد بكائنة أنيشة، على ثَلَاثَة فراسخ مِنْهَا، مُقبلا، غير مُدبر، والراية بِيَدِهِ، وَهُوَ يُنَادي المنهزمين: أعن الْجنَّة تفرون؟
إِلَى أَن قتل، وَذَلِكَ ضحى يَوْم الْخَمِيس الموفى عشْرين لذِي الْحجَّة سنة 634؛ وَهُوَ ابْن سبعين سنة إِلَّا شهرا. وفقد من الْمُسلمين، فِي تِلْكَ الكائنة الشنعاء، عَالم كثير بَين قَتِيل وأسير. وَللْإِمَام أبي عبد الله بن الْأَبَّار، فِي رثاء شَيْخه أبي الرّبيع، وَالْإِشَارَة إِلَى من فقد مَعَه فِي الْوَقْعَة، من الْعلمَاء وَسَائِر الْفُضَلَاء، منظوم بديع أَوله: ألما بأشلاء العلى والمكارم
…
تقد بأطراف القنى والصوارم وعوجا عَلَيْهَا مارباً ومفازة
…
مصَارِع غصت بالطلى والجماجم نحيى وُجُوهًا فِي الحنان وجيهة
…
بِمَا بقيت حمرا وُجُوه الْمَلَاحِم وأجساد إِيمَان كساها نحيفها
…
مجاسد من نسج الظبي واللهاذم مكرمَة حَتَّى عَن الدّفن فِي الثرى
…
وَمَا يكرم الرَّحْمَن غير الأكارم هم الْقَوْم راحوا للشَّهَادَة واغتدوا
…
وَمَا لَهُم فِي فوزهم من مقاوم تساقوا كؤوس الْمَوْت فِي حومة الوغى
…
فمالت بهم ميل الغصون النواعم وَهَان عَلَيْهِم أَن تكون لحودهم
…
متون الروابي أَو بطُون التهائم أَلا بِأبي تِلْكَ الْوُجُوه سواهُمَا
…
وَإِن كن عِنْد الله غير سواهُم عَفا حسنها إِلَّا بقايا مياسم
…
يعز علينا وَطْؤُهَا بالمناسم لَئِن وكفت فِيهَا الْعُيُون سحائبا
…
فَعَن بارقات لحن مِنْهَا لشائم وَيَا بِأبي تِلْكَ الجسوم نواحلا
…
بإجرائها نَحْو الأجور الجسائم تغلغل فِيهَا كل أسمر ذابل
…
فجذل مِنْهَا كل أَبيض ناعم فَلَا يبعد الله الَّذين تقربُوا
…
إِلَيْهِ بإهداء النُّفُوس الكرائم مَوَاقِف أبرار قضوا من جهادهم
…
حقوقاً عَلَيْهِم كالفروض اللوازم أصيبوا وَكَانُوا فِي الْعِبَادَة أُسْوَة
…
شبَابًا وشيباً بالغواشي الغواشم فعامل رمح دق فِي صدر عَامل
…
وقائم سيف قد فِي رَأس قَائِم وَيَا رب صوام الهواجر وَاصل
…
هُنَالك مصروم الْحَيَاة بصارم ومنقذ عانٍ فِي الأداهم راسف
…
ينوء برجلي راسف فِي الأداهم
أضاعهم يَوْم الْخَمِيس حفاظهم
…
وكرهم فِي المأزق المتلاحم سقِِي الله أَشَاء بسفح أنيشة
…
سوافح يزجيها ثقال الغمائم وَصلى عَلَيْهَا أنفساً طَابَ ذكرهَا
…
بِطيب أنفاس الرِّيَاح النواسم لقد صَبَرُوا فِيهَا كراماً وَصَابِرُوا
…
فَلَا غرو إِن فازوا بصفو المكارم وَمَا بذلوا إِلَّا نفوساً نفيسة
…
تحن إِلَى الْأُخْرَى حنين الروائم وَلَا فرقوا وَالْمَوْت يتلع جيده
…
بِحَيْثُ التقي الْجَمْعَانِ صدق العزائم بعيشك طارحني الحَدِيث عَن الَّتِي
…
تعبر عَنْهَا رائحات مآثم جلائل دق الصَّبْر فِيهَا فَلم تطق
…
سوى غض أجفان وغض أباهم أَبيت لَهَا تَحت الظلام كأنني
…
رمى نضال أَو لديغ أراقم أغازل من برح الأسى غير بارح
…
وأصحب من سَام البكا غير سائم وأعقد بِالنَّجْمِ الْمشرق ناظري
…
فيغرب عني ساهراً غير نَائِم وأشكو إِلَى الْأَيَّام سوء صنيعها
…
ولاكنها شكوى إِلَى غير رَاحِم وهيهات هَيْهَات العزاء ودونه
…
قواصم شَتَّى أردفت بقواصم وَمِنْهَا: وَبَين الثنايا والمخارم رمة
…
سرى فِي الثنايا طيبها والمخارم بكتها الْمَعَالِي والمعالم جهدها
…
فلهف الْمَعَالِي بعْدهَا والمعالم كَأَن لم تبت تغشى السراة قبابها
…
ويرعى حماها الصَّيْد رعى الصوائم سفحت عَلَيْهَا الدمع أَحْمَر وارساً
…
كَمَا نثر الْيَاقُوت أَيدي النواظم وسامرت فِيهَا الباكيات نوادبا
…
يؤرقن تَحت اللَّيْل ورق الحمائم وقاسمت فِي حمل الرزية قَومهَا
…
وَلَيْسَ قسيم الْبر غير المقاسم فوا أسفا للدّين أعظم داؤه
…
وأياس من أَسد لمسراه حاسم ووا أسفا للْعلم أذوت ربوعه
…
وَأصْبح مَمْدُود الذرى والدعائم تفرد بالعلياء علما وسؤددا
…
وحسبك من عَال على الشهب عَالم مَتى صادم الْخطب الملم بخطبه
…
كفى صادماً مِنْهُ بأكبر صادم