الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهبك الله وأياي من نعْمَة السوابغ الضوافي {وأوردك من نسمَة الْعَذَاب الصوافي} وَلَا زلت بَصيرًا بمكايد النَّاس، خَبِيرا بِظَاء خدعهم، وَلَو كنت فِي الكناس {فَإِنَّهُم، كَمَا تدريهم، يريشهم الْبَاطِل وَيُرِيهمْ، والعاقل يَعِظهُمْ وَلَا يغريهم. وَمثلك من الإخوان، مِمَّن علم تلون الزَّمَان، وَعرف سير الْعَجم وَالْعرب، وَلم يغب عَنهُ الْفرق بَين السّمع وَالضَّرْب. لَا سِيمَا وَالدُّنْيَا الْآن قد صَارَت مكشوفة، وأخلاق أَهلهَا مفصوحة مَعْرُوفَة، فهناك وَجب أَن يعْذر الْمَرْء أَخَاهُ، وينصر مَا قَصده من وهيه وتوخاه، والولى تكفيه الْإِشَارَة، وَإِن قصرت عَن الْغَرَض الْمَطْلُوب الْعبارَة، وَلَقَد أقسم مَا رفع إِلَى ذَلِك الحضم شَاهدا بِدَعْوَاهُ، وَلَا أَخا ارتدع عَن المسارعة إِلَى مَا قَادَهُ إِلَيْهِ هَوَاهُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّمَا هُوَ دهر ملامات وشؤوم وَابْتِدَاء عَورَة ولدود خصوم، وَقد رفعت، أَيهَا الْأَخ الْأَمر، إِلَى الَّذِي طَال فِي مثل هَذَا الْعَمَل الْعُمر؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ يقْضى بِالْحَقِّ، ويمضي حكمه على جَمِيع الْخلق، لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} وَالسَّلَام. وَأكْثر أَخذه عَن القاضيين أبي الْوَلِيد الْبَاجِيّ، وَأبي الْمطرف الشّعبِيّ. توفّي بعد انْقِطَاعه لِلْعِبَادَةِ، وإيثار الزهادة، وَدفن بِمَسْجِد حكمه، الْمَنْسُوب لَهُ إِلَى هَذَا الْعَهْد، من دَاخل سور مالقة. وَمَشى أَمِير وَطنه فِي جنَازَته على رجله، وَذَلِكَ سنة 542.
ذكر القَاضِي أبي بكر بن الْعَرَبِيّ الْمعَافِرِي
وَمن الْقُضَاة بإشبيلية، مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله بن أَحْمد الْعَرَبِيّ الْمعَافِرِي، المكنى بِأبي بكر، من أَهلهَا. رَحل إِلَى الْمشرق سنة 485، فَدخل الشأم وَلَقي بهَا أَبَا بكر مُحَمَّد بن الْوَلِيد الطرطوشي، وتفقه عِنْده. ورحل إِلَى الْحجاز فِي موسم سنة 489 وَدخل بَغْدَاد مرَّتَيْنِ، وَصَحب أَبَا بكر الشَّاشِي، وَأَبا حَامِد الطوسي الْغَزالِيّ، وَغَيرهمَا من الْعلمَاء والأدباء، وَأخذ عَنْهُم. ثمَّ صدر عَن بَغْدَاد، وَلَقي بِمصْر والإسكندرية جمَاعَة. ثمَّ عَاد إِلَى الأندلس سنة 493. وَكَانَ من أهل التفنن فِي الْعُلُوم، مُتَقَدما فِي المعارف كلهَا، متكلماً فِي أَنْوَاعهَا، حَرِيصًا على نشرها. استقضى بِمَدِينَة إشبيلية؛ فَقَامَ بهَا أجمل قيام.
وَكَانَ من أهل السرابة فِي الْحق، والشدة، وَالْقُوَّة على الظَّالِمين، والرفق بالمساكين. ثمَّ صرف عَن الْقَضَاء وَأَقْبل على نشر الْعلم وبثه. قَالَ الْمُحدث أَبُو الْقَاسِم خلف بن عبد الْملك: قَرَأت عَلَيْهِ بإشبيلية؛ وَسَأَلته عَن مولده؛ فَقَالَ لي: ولدت لَيْلَة الْخَمِيس لثمان بَقينَ من شعْبَان سنة 468. وَتُوفِّي رحمه الله! بالعدوة. وَدفن بِمَدِينَة فاس فِي ربيع الآخر سنة 543. وَفِي تَكْمِلَة الْمُحدث أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن الْأَبَّار، عَن أبي عبد الله بن مُجَاهِد الاشبيلي الزَّاهِد العابد، أَنه لَازم القَاضِي أَبَا بكر بن الْعَرَبِيّ نَحْو ثَلَاثَة أشهر، ثمَّ تخلف عَنهُ. فَقيل لَهُ فِي ذَلِك؛ فَقَالَ: كَانَ يدرس، وَبغلته عِنْد الْبَاب، ينْتَظر الرّكُوب إِلَى السُّلْطَان. وَذكره الْأُسْتَاذ أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن الزبير فِي صلته وَقَالَ فِيهِ: رَحل مَعَ أَبِيه أبي مُحَمَّد، عِنْد انْقِرَاض الدولة العبادية، إِلَى الْحَج سنة 485؛ وَسنة إِذْ ذَاك نَحْو سَبْعَة عشر عَاما. فلقي شُيُوخ مصر وَعدد لنا أُنَاسًا. ثمَّ قَالَ: وَقيد الحَدِيث، وَضبط مَا روى، واتسع فِي الرِّوَايَة، وتقن مسَائِل الْخلاف وَالْأُصُول وَالْكَلَام على أيمة هَذَا الشَّأْن. وَعَاد إِلَى بَغْدَاد بعد دُخُولهَا، وَانْصَرف إِلَى مصر؛ فَأَقَامَ بالإسكندرية؛ فَمَاتَ أَبوهُ بهَا، أول سنة 493. ثمَّ انْصَرف إِلَى الأندلس؛ فسكن بَلَده إشبيلية؛ وشوور فِيهِ، وَسمع، ودرس الْفِقْه وَالْأُصُول، وَجلسَ للوعظ وَالتَّفْسِير، وصنف فِي غير فن تسانيف مليحة حَسَنَة، مفيدة. وَولى الْقَضَاء مُدَّة، أَولهَا رَجَب من سنة 538؛ فنفع الله لصرامته، ونفوذ أَحْكَامه. وَالْتزم الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، حَتَّى أوذي فِي ذَلِك بذهاب كتبه وَمَاله؛ فَأحْسن الصَّبْر على ذَلِك كُله. ثمَّ صرف من الْقَضَاء، وَأَقْبل على نشر الْعلم وبثه. وَكَانَ فصيحاً، حَافِظًا، أديباً، شَاعِرًا، كثير الْملح، مليح الْمجْلس. ثمَّ قَالَ: قَالَ القَاضِي أَبُو الْفضل عِيَاض بن مُوسَى وَقد وَصفه بِمَا ذكرته ثمَّ قَالَ: ولكثرة حَدِيثه وأخباره، وغريب حكاياته ورواياته، أَكثر النَّاس فِيهِ الْكَلَام؛ وطعنوا فِي حَدِيثه. وَتُوفِّي مُنْصَرفه من مراكش؛ من الوجهة الَّتِي توجه مِنْهَا مَعَ أهل بَلَده إِلَى الحضرة؛ بعد دُخُول مَدِينَة إشبيلية؛ فحبسوه بمراكش نَحْو عَام؛ ثمَّ سرحوه؛ فَأَدْرَكته منيته بطريقه على مَقْبرَة من فاس بمرحلة؛ وَحمل مَيتا إِلَى مَدِينَة