الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر مُحَمَّد بن الْحسن الجذامي النباهي قَاضِي مالقة
ولنذكر الْآن فِي هَذَا الْبَاب نبذاً من أنباء هَذَا القَاضِي، وَكَيْفِيَّة ولَايَته الْقَضَاء، ومحنته. فَنَقُول: هُوَ مُحَمَّد بن الْحسن بن يحيى بن عبد الله بن الْحسن الجذامي النباهي. وَلما عرض عَلَيْهِ الْأَمِير يحيى الْولَايَة، تمنع، وَأظْهر الإباية وَسَأَلَهُ المتاركة بالرحم الَّذِي بَينهمَا. وَاعْتذر بِأُمُور، مِنْهَا صغر سنه، وَأخْبرهُ أَن بِالْمَدِينَةِ من هُوَ أقعد مِنْهُ بِالْقضَاءِ وَأولى بِهِ؛ فَرد عَلَيْهِ اعتذاره، وعزم عَلَيْهِ عزماً أخافه؛ فَإِنَّهُ مد يَده إِلَى سَيْفه وَقَالَ: إِن شِئْت، الْقَضَاء؛ وَإِن شِئْت، هَذَا! مثل مَا فعل الْأَمِير إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب مَعَ ابْن عَمه القَاضِي عبد الله بن طَالب، حِين اخْتَارَهُ للْقَضَاء بإفريقية، فأباه. وَعند مَا شَاهد ابْن الْحسن من عزم المعتلى مَا شَاهده، قبل الْولَايَة على شُرُوط، مِنْهَا أَن يسْتَخْلف عَنهُ من يظْهر لَهُ مَتى احْتَاجَ إِلَى ذَلِك، وَإِن كَانَ مُقيما بقصره؛ وَإِن ينْفَرد يَوْمَيْنِ من كل جُمُعَة برسم تفقد أملاكه، وَالنَّظَر فِي مصَالح نَفسه الْخَاصَّة بِهِ؛ وَأَن يكون لَهُ النّظر على وُلَاة الكورة وَسَائِر المشتغلين بهَا، حَتَّى لَا يجْرِي حيف على أحد، فِي نَاحيَة من نَوَاحِيهَا، وَلَا يَقع فِيهَا نصرف لحَاكم فِي أمرهَا إِلَّا عَن إِذْنه. فأنفذ ذَلِك كُله وأمضاه. وَمَا كَانَ قَصده، على مَا قيل عَنهُ، إِلَّا إبعاده الكلفة عَن نَفسه، وطمعه، عِنْد الِاشْتِرَاط فِي تَركه. وَكَانَ حازماً، صَارِمًا، عدلا فِي أَحْكَامه، جزلاً. وَبَقِي على حَالَته إِلَى أَن قتل الْأَمِير يحيى الملقب بالمعتلى بِظَاهِر قرمونة، وَتَوَلَّى الْأَمر بعده وَلَده حسن؛ وحاجبه بجاء الصقلبي، ووزيره أَبُو مُحَمَّد اللسطيفي؛ فاستعفى ابْن الْحسن من الْقَضَاء، وَذهب إِلَى الْعُدُول عَن طَرِيق الْحَاجِب والوزير، لما رَآهُ فِي الدولة من الِاضْطِرَاب. وَفِي أثْنَاء ذَلِك، توفّي حسن الْأَمِير، وَأَرَادَ نجاء بَقَاء الْأَمِير باسم ابْن صَغِير كَانَ لَهُ؛ فَمَاتَ لحينه. وَيُقَال إِن نجاة قَتله وَأجْمع على نَحْو أَمر الحسنين وَأَن يضْبط هُوَ الْبَلَد لنَفسِهِ؛ فَدَعَا لذَلِك البربر، وهم كَانُوا أَكثر الأجناد؛ فساعدوه فِي الظَّاهِر؛ وَعظم ذَلِك عَلَيْهِم. ثمَّ إِن الْحَاجِب ترك اللسطيفي بمالقة، وَتوجه إِلَى الجزيرة ليملكها؛ فَلم يتَّفق لَهُ ملكهَا؛ فَرجع إِلَى مالقة.
فَلَمَّا كَانَ بقرية فرت بعون، قتل الْجند نجاء، وَقَطعُوا رَأسه؛ وَسبق مِنْهُم فرسَان إِلَى مالقة؛ فَقَالُوا: جِئْنَا للوزير لنأخذ مِنْهُ الْبُشْرَى بِدُخُول نجاء الجزيرة. فَلَمَّا وصلوا إِلَيْهِ، وضعُوا فِيهِ سيوفهم، وقتلوه، وَاسْتَخْرَجُوا إِدْرِيس بن يحيى من محبسه إِذْ كَانَ معتقلاً هُنَالك من قبل الْحَاجِب والوزير. وَبَايَعَهُ النَّاس، وَتسَمى بالعالي بِاللَّه، الظَّاهِر بِأَمْر الله. قَالَ القَاضِي أَبُو عبد الله بن عَسْكَر، وَقد ذكر فِي كِتَابه هَذَا الْأَمِير: وَكَانَت بيعَته يَوْم الثُّلَاثَاء لعشر خلون من جُمَادَى الْأَخِيرَة من سنة 434. وَكَانَ نبيه الْقدر رفيع الذّكر رَحِيم الْقلب يتَصَدَّق كل يَوْم جُمُعَة بِخَمْسِمِائَة دِينَار ورد كل مطرود عَن وَطنه إِلَى مَحَله، وَلم يسمع بغياً فِي أحد من رَعيته. وَكَانَ أديب اللِّقَاء، حسن اللبَاس، يَقُول من الشّعْر الأبيات الحسان. ثمَّ قَالَ ابْن عَسْكَر: قدم للْأَحْكَام بمالقة الْفَقِيه أَبَا عبد الله بن الْحسن. ووقفت على كتاب تَقْدِيمه بأيدي عقبه، ابتداؤه بعد الْبَسْمَلَة: هَذَا كتاب أَمر بِهِ، وأنفذه، وأمضاه من عَهده، وأحكمه الامام أَمِير الْمُسلمين، عبد الله العالي بِاللَّه، الظافر بحول الله، إِدْرِيس بن المعتلى بِاللَّه أَعلَى الله أمره وأعز نَصره {للوزير القَاضِي أبي عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن وَفقه الله} قَلّدهُ بِهِ الْقَضَاء بَين الْمُسلمين بِمَدِينَة مالقة حرسها الله {وأعمالها. وَهُوَ كتاب كَبِير فِي رق، وتاريخه فِي إِحْدَى عشرَة لَيْلَة من ربيع الأول سنة 445؛ وَعَلِيهِ توقيع العالي بِخَط يَده، نَصه: ينفذ هَذَا وَيعْمل عَلَيْهِ} وَالله الْمُوفق {وَهُوَ الْمُسْتَعَان} قَالَ ابْن عَسْكَر: وَكَانَ الْحَاجِب المظفر أَبُو مَسْعُود باديس بن حبوس بن ماكسن ابْن زيري بن مُنَاد الصنهاجى، صَاحب غرناطة، يَدْعُو للعلويين الَّذين بمالقة؛ فَلَمَّا توفّي إِدْرِيس بن يحيى العالي، طمع فِي مالقة، فنزلها بجيشه؛ وَكَانَت بهَا فتنه. ثمَّ دَخلهَا يَوْم الثُّلَاثَاء منسلخ ربيع الآخر سنة 448، فملكها. وَقدم القَاضِي ابْن الْحسن الجذامي، المشتهر عقبه الْآن ببني النباهي للْقَضَاء والوزارة، على مَا كَانَ فِي أَيَّام العالي، ثمَّ إِن باديس خرج عَن ملك مالقة إِلَى وَلَده الملقب بِسيف الدولة بلقين، ورشحه للولاية من بعده، وَحمله على مجاملة القَاضِي بهَا، والمعاهدة لَهُ بسنى إلطافه؛ فَعمل بِحَسب ذَلِك. وَمن جملَة مكتوباته لَهُ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم! هَذَا مَا الْتَزمهُ، واعتقد الْعَمَل وَالْوَفَاء
بِهِ، بلقين بن باديس، للوزير القَاضِي أبي عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن سلمه الله {واعتقد بِهِ إِقْرَاره على خطة الْقَضَاء والوزارة، فِي جَمِيع كورة رية، وَأَن يجْرِي من الترفيع بِهِ، وَالْإِكْرَام لَهُ إِلَى أقْصَى غَايَة، وَأَن يجرى على الْجِزْيَة فِي جَمِيع أملاكه بكورة رية حاضرتها وباديتها، الموروثة مِنْهَا، والمكتسبة الْقَدِيمَة الِاكْتِسَاب والحديثة، وَمَا ابْتَاعَ مِنْهَا من العالي رحمه الله} وَغَيره، لَا يلْزمهَا وَظِيفَة بِوَجْه، وَلَا يُكَلف عَنْهَا كلفة على حَال، وَأَن يجرى فِي قرَابَته، وخوله، وحاشيته، وعامرى ضيَاعه، على الْمُحَافظَة وَالْبر وَالْحريَّة وَأقسم على ذَلِك كُله بلقين بن باديس بِاللَّه الْعَظِيم وَبِالْقُرْآنِ الْحَكِيم. وَأشْهد الله على نَفسه وعَلى الْتِزَامه لَهُ، وَكفى بِاللَّه شَهِيدا! وَكتب بِخَط يَده فِي مستهل شهر رَمَضَان سنة 449. وَالله الْمُسْتَعَان. واستمرت إِمَارَة بلقين بمالقة إِلَى عَام 456؛ فَتوفي بهَا من وجع أَصَابَهُ. وعادت الْمَدِينَة إِلَى مَا كَانَت عَلَيْهِ من إيالة المظفر وَالِده؛ فَزَاد ابْن الْحسن أَثَرَة إِلَى أثرته، وَعرض عَلَيْهِ قَضَاء حَضرته؛ ورام نقلته من عَادَته فِي ترك الجراية المتعارفة لأمثاله من الْقُضَاة؛ فَثَبت على حَالَته، وَلم يَأْخُذ على الْقَضَاء رزقا من بَيت المَال مُدَّة حَيَاته. وَكَانَ عَن التعال بالمرتب فِي غناء، لِكَثْرَة مَاله، وَلما تقدم من إرفاقه بتحرير أملاكه؛ وَكَانَت من الْكَثْرَة بِحَيْثُ ناهز أَمْلَاك صَاحبه القَاضِي بإشبيلية، إِسْمَاعِيل نب مُحَمَّد بن عباد؛ وَرُبمَا زَاد خَارجه، وَلَا سِيمَا فِيمَا يرجع إِلَى النَّفَقَات وَالصَّدقَات: فَإِنَّهُ كَانَ يصنع الدَّعْوَات الواسعة، ويحضرها شُيُوخ وقته من الْفُقَهَاء والأماثل: فيوليهم إِكْرَاما، ويوسعهم إطعاماً. وَكَانَ فِي كل رَمَضَان يحذو حَذْو صهره القَاضِي بقرطبة أَحْمد بن زِيَاد؛ فيدعو بدار لَهُ، تجاور الْمَسْجِد عشرَة من الْفُقَهَاء، فِي طَائِفَة من وُجُوه النَّاس، يفطرون كل لَيْلَة عِنْده، ويتدارسون كتاب الله بَينهم، ويتلونه. وَكَانَ يذهب مَذْهَب الْعَبَّاس بن عِيسَى، أحد أَشْيَاخ أبي مُحَمَّد ابْن أبي زيد، أَن يَنْوِي الْإِنْسَان فِي كل تطوع وَصِيَّة يُوصي بهَا، وَصدقَة برد التَّبعَات المحصولة، لِأَن ردهَا أوجب من التَّطَوُّع؛ وَكَذَلِكَ فِي الصَّلَوَات: إِذا أحب أَن يتَنَفَّل، صلى صَلَاة يَوْم، وَنوى بهَا الْخمس تكون قَضَاء عَمَّا لَا يدْرِي أَنه فرط فِيهِ أَو فسد عَلَيْهِ. وَكَانَ فِي قَضَائِهِ مَاضِيا، مهيباً، صَلِيب الْقَنَاة، قَلِيل المداراة فِي الْحق، لَا يقْضِي على هناة، وَلَا يخَاف لومة لائم.
وَجَرت عَلَيْهِ بِسَبَب ذَلِك عظائم، آخرهَا مَا حَكَاهُ الْأَمِير عبد الله بن بلقين بن باديس بن حبوس فِي كِتَابه الْمُسَمّى: التِّبْيَان عَن الْحَادِثَة الكائنة بدولة بني زيري فِي غرناطة. فَقَالَ عَن جده السُّلْطَان المظفر باديس إِنَّه كَانَ قد ولج إِلَى القَاضِي أبي عبد الله ابْن الْحسن النباهي، فِي أُمُور مالقة، قليلها وكثيرها. وَكَانَ ابْن السقاء صَاحب قرطبة قد نقل إِلَيْهِ عَنهُ أَن المظفر أَرَادَ أَن يوليه قَصَبَة مالقة، لَوْلَا مَا أَشَارَ القَاضِي بِخِلَاف ذَلِك؛ فحقد عَلَيْهِ ذَلِك. وَكَانَ بمالقة رجل غَرِيب، يعرف بِابْن البزلياني، طمع فِي توليه الْقَضَاء، وَقَامَ فِي باله أَنه، لَو فقد النباهي، لم يُوجد للْقَضَاء غَيره. وَكَانَ حسن صَاحب الدبوس أَمينا للمظفر على الذَّخَائِر، قد أشربت نَفسه خوف القَاضِي؛ فاتفق رأىُ جَمِيعهم على قتل عِنْد ابْن الفاسي بقرطبة؛ وَكَانَ الْمَذْكُور يرِيه الصداقة والتخدم لإرادته. وَكَانَت للْقَاضِي ضَيْعَة بقرطبة، كثيرا مَا يتَصَرَّف إِلَيْهَا؛ وَابْن الفاسي يتَوَلَّى إصلاحها. فَلَمَّا أَتَى قدره، مضى على عَادَته لجِهَة قرطبة، وَنزل بقريته؛ فهبط إِلَيْهِ ابْن الفاسي، يَقُول لَهُ: شرفني، يَا سَيِّدي {بالطلوع إِلَيّ، وَالْقَبُول لضيافتي} وَمَا هِيَ إِلَّا من مَالك ومتاعك فِي الْحَقِيقَة! فطلع هُوَ وَمن كَانَ مَعَه من الْفُقَهَاء، مِنْهُم الأديب غَانِم؛ فَلَمَّا تمّ بِالطَّعَامِ، أَرَادَ الِانْصِرَاف؛ وَابْن الفاسي قد هيأ لَهُ سوداناً، متأهبين لأَخذه، فبادروا بِهِ، وخنقوه؛ وَأطلق الأخرين. وَعدد عَلَيْهِ قبل ذَلِك مَا أفْسدهُ من تَوليته مالقة. ويحكى أَن القَاضِي الْمَذْكُور سمع صَوتا، فِي بعض زَوَايَا بَيته، نَهَارا؛ وَلم ير شخصا قبل الَّذِي حل بِهِ من هَاتِف، يَقُول لَهُ بِصَوْت ضَعِيف: قل للوزير القَاضِي النباهي:
…
هَل تَسْتَطِيع دفاع أمره الله؟ فجزع لذَلِك جزعاً شَدِيدا، وَلم يدر من أَيْن يُؤْتى؛ وتكرر عَلَيْهِ الصَّوْت ثَلَاث مَرَّات. ونافق بعد ذَلِك ابْن الفاسي بقرطبة، وَمضى إِلَيْهِ المظفر بِنَفسِهِ، وعبأ أَمْوَاله، وَجمع عسكره، وَنزل عَلَيْهَا؛ فَأحْسن ابْن الفاسي بميل الْجند إِلَى الرئيس، وَخَافَ على نَفسه؛ فَخرج من الْحصن على غَفلَة، وَدخل فِي قِطْعَة من الْبَحْر، وفر بِنَفسِهِ. وَصَارَ المعقل إِلَى الْحَاجِب، وثقفه بعد إِنْفَاق كثير عَلَيْهِ، وامتحن قَضِيَّة القَاضِي؛ فَأعْلم بسعي صَاحب الدبوس فِيهَا؛