المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر عود الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى ملك مصر ثالث مرة - النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة - جـ ٩

[ابن تغري بردي]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء التاسع]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 710]

- ‌ذكر عود الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى ملك مصر ثالث مرّة

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 711]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 712]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 713]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 714]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 715]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 716]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 717]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 718]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 719]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 720]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 721]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 722]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 723]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 724]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 725]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 726]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 727]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 728]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 729]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 730]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 731]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 732]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 733]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 734]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 735]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 736]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 737]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 738]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 739]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 740]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 741]

- ‌استدراكات

- ‌باب سعادة

- ‌حوض ابن هنس

- ‌مسجد الأمير بكتوت الخازندار

- ‌دار الأمير آقوش الموصلى

- ‌مدارس وجوامع أخرى

الفصل: ‌ذكر عود الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى ملك مصر ثالث مرة

[الجزء التاسع]

بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحابته والمسلمين الجزء التاسع من كتاب النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة

[ما وقع من الحوادث سنة 710]

‌ذكر عود الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى ملك مصر ثالث مرّة

وقد تقدّم ذكر نزوله عن الملك وتوجّهه إلى الكرك وخلع نفسه وما وقع له بالكرك من مجىء نوغاى ورفقته، ومكاتباته إلى نوّاب الشام وخروجه من الكرك إلى الشام، طالبا ملك مصر إلى أن دخل إلى دمشق؛ كلّ ذلك ذكرناه مفصّلا فى ترجمة الملك المظفر بيبرس الجاشنكير. ونسوق الآن ذكر دخوله إلى مصر فنقول:

لمّا كانت الثانية من نهار الثلاثاء السادس عشر من شهر رمضان سنة تسع وسبعمائة، وهى الساعة التى خلع الملك المظفر بيبرس نفسه فيها من ملك مصر بديار مصر، خرج الملك الناصر محمد بن قلاوون من دمشق يريد الديار المصرية، فانظر إلى هذا الاتّفاق العجيب، وإقبال سعد الناصر وإدبار سعد المظفّر! وسار الملك الناصر يريد الديار المصريّة وصحبته نوّاب البلاد الشاميّة بتمامهم وكمالهم والعساكر الشامية وخواصّه ومماليكه.

ص: 3

وأمّا أمر الديار المصرية فإنّ الملك المظفّر بيبرس لمّا خلع نفسه وخرج من مصر إلى الإطفيحيّة جلس الأمير سلّار بقاعة النيابة من قلعة الجبل وجمع من بقى من الأمراء واهتم بحفظ القلعة، وأخرج المحابيس الذين كانوا فيها من حواشى الملك الناصر محمد وغيرهم، وركب ونادى فى الناس: ادعوا لسلطانكم الملك الناصر، وكتب إلى الملك الناصر بنزول المظفّر عن الملك وفراره إلى إطفيح «1» ، وسيّر بذلك أصلم الدّوادار ومعه النّمجاه «2» ، وكان قد توجّه قبل ذلك من القاهرة الأمير بيبرس المنصورىّ الدّوادار، والأمير بهادر آص فى رسالة المظفّر بيبرس أنّه قد ترك السلطنة وأنّه سأل: إمّا الكرك وإمّا حماة وإما صهيون، واتّفق يوم وصولهما إلى غزّة قدوم الملك الناصر أيضا إليها، وقدوم الأمير سيف الدين شاطى السّلاح دار فى طائفة من الأمراء المصريّين إليها أيضا. ثم قدمت العربان وقدم الأمير مهنّا بجماعة كثيرة من آل فضل، فركب السلطان إلى لقائه. ثم قدم الأمير برلغى الأشرفى مقدّم عساكر المظفّر بيبرس وزوج ابنته، والأمير آقوش الأشرفىّ نائب الكرك، فسرّ الملك الناصر بقدومهما، فإنّهما كانا عضدى المظفّر. قال الأمير بيبرس الدّوادار المقدّم ذكره فى تاريخه- رحمه الله:

«وأمّا نحن فإنّا تقدّمنا على البريد فوصلنا إلى السلطان يوم نزوله على غزّة فمثلنا بين يديه وأعدنا المشافهة عليه، وطالعناه بنزول الرّكن عن السلطنة والتماسه مكانا من بعض الأمكنة، فاستبشر لحقن دماء المسلمين وخمود الفتنة، واتّفق فى ذلك النهار ورود الأمير سيف الدين برلغى والأمير عزّ «3» الدين البغدادىّ ومن معهما من الأمراء

ص: 4

والمقدّمين، واجتمعنا جميعا بالدّهليز المنصور، وقد شملنا الابتهاج، وزال عنّا الازعاج، وأفاض السلطان على الأمراء التشاريف الجليلة على طبقاتهم، والحوائص «1» الذهب الثمينة لصلاتهم، فلم يترك أميرا إلّا وصله، ولا مقدّما حتى شرّفه بالخلع وجمّله، وجدّدنا استعطاف السلطان، فيما سأله الركن من «2» الأمان، وكلّ من الأمراء لحاضرين بين يديه يتلطّف فى سؤاله، ويتضرّع فى مقاله؛ حتّى أجاب، وعدنا بالجواب. ورحل السلطان على الأثر قاصدا الديار المصرية؛ فوصلنا إلى القلعة يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر رمضان، واجتمعنا بالأمير سيف الدين سلّار ووجدنا الجاشنكير قد تجاوز موضع الميعاد، وأخذ فى الإصعاد، وحمله الإجفال على الإبعاد، ولم يدعه الرّعب يستقرّ به قرار، ولا تلقّته معه أرض ولا دار؛ فاقتضى الحال أن أرسلنا إليه الكتب الشريفة الواردة على أيدينا، وعدت أنا وسيف الدين بهادر آص إلى الخدمة السلطانية، فوجدنا الدّهليز على منزلة السعيدية» . «3» انتهى كلام بيبرس الدوادار باختصار.

قلت: ولمّا تكاملت العساكر بغزّة سار الملك الناصر يريد الديار المصريّة، فوافاه أصلم دوادار سلّار بالنّمچاه، ثم وصل «4» رسلان الدّوادار فسّر السلطان بنزوله.

وسار حتى نزل بركة الحجّاج «5» فى سلخ شهر رمضان، وقد جهّز إليه الأمير سلّار الطلب

ص: 5

السلطانى والأمراء والعساكر، ثم خرج الأمير سلّار إلى لقائه، وصلّى السلطان صلاة العيد بالدّهليز ببركة الحاج فى يوم الأربعاء مستهلّ شوّال، وخرج الناس إلى لقاء السلطان الملك الناصر. وأنشد الشعراء مدائحهم بين يديه؛ فمن ذلك ما أنشده الشيخ شمس الدين محمد بن على بن موسى الداعى أبياتا منها:

الملك عاد إلى حماه كما بدا

ومحمد بالنصر سرّ محمدا

وإيابه كالسيف عاد لغمده

ومعاده كالورد عاوده النّدى

الحقّ مرتجع إلى أربابه

من كفّ غاصبه وإن طال المدى

ومنها:

يا وارث الملك العقيم تهنّه

واعلم بأنك لم تسد فيه سدى

عن خير أسلاف ورثت سريره

فوجدت منصبه السّرىّ ممهّدا

يا ناصرا من خير منصور أتى

كمهنّد خلف الغداة مهنّدا

آنست ملكا كان قبلك موحشا

وجمعت شملا كان منه مبدّدا

ومنها:

فالناس أجمع قد رضوك مليكهم

وتضرّعوا ألا تزال مخلّدا

وتباركوا بسناء غرّتك التى

وجدوا على أنوار بهجتها هدى

الله أعطاك الذي لم يعطه

ملكا سواك برغم آناف العدا

لا زلت منصور اللّواء مؤيّد ال

عزمات ما هتف الحمام وغرّدا

ثم قدّم الأمير سلّار سماطا جليلا بلغت النفقة عليه اثنى عشر ألف درهم؛ وجلس عليه السلطان والأمراء والأكابر والعساكر، فلما انقضى عزم السلطان على المبيت هناك والركوب بكرة النهار يوم الخميس، فبلغه أن الأمير برلغى والأمير آقوش نائب الكرك قد اتّفقا مع البرجية على الهجوم عليه وقتله، فبعث السلطان إلى الأمراء

ص: 6

عرّفهم بما بلغه وأمرهم بالركوب، فركبوا وركبت المماليك ودقت الكوسات وسار وقت الظهر من يوم الأربعاء، وقد احتفّت به مماليكه كى لا يصل إليه أحد من الأمراء حتى وصل إلى القلعة، وخرج الناس بأجمعهم إلى مشاهدته. فلما وصل بين العروستين «1» ترجّل سلّار عن فرسه، وترجّل سائر الأمراء ومشوا بين يديه إلى باب السّرّ «2» من القلعة، وقد وقف جماعة من الأمراء بمماليكهم وعليهم السّلاح، حتى عبر السلطان إلى القلعة، ثم أمر السلطان الأمراء بالانصراف إلى منازلهم، وعيّن جماعة من الأمراء الذين يثق بهم أن يستمرّوا على ظهور خيولهم حول القلعة

ص: 7

طول الليل فباتوا على ذلك، وأصبحوا من الغد وفد جلس السلطان الملك الناصر على كرسىّ الملك وهو يوم الخميس ثانى شوّال. وحضر الخليفة أبو الربيع سلمان والقضاة والأمراء وسائر أهل الدولة للهناء «1» ، فقرأ الشيخ شمس الدين محمد بن علىّ ابن موسى الداعى:«قل اللهمّ مالك الملك تؤتى الملك من تشاء» الآية. وأنشد بعض الشعراء هذه الأبيات:

تهنّأت الدنيا بمقدمه الذي

أضاءت له الآفاق شرقا ومغربا

وأمّا سرير الملك فاهتز رفعة

ليبلغ فى التشريف قصدا ومطلبا

وتاق إلى أن يعلو الملك فوقه

كما قد حوى من قبله الأخ والأبا

وكان ذلك بحضرة الأمراء والنوّاب والعساكر، ثم حلّف السلطان الجميع على طبقاتهم ومراتبهم الكبير منهم والصغير.

ولمّا تقدّم الخليفة ليسلّم على السلطان نظر إليه وقال له: كيف تحضر وتسلّم على خارجىّ؟ هل كنت أنا خارجيّا؟ وبيبرس من سلالة بنى العباس؟ فتغيّر وجه الخليفة ولم ينطق.

قلت: والخليفة هذا، كان الملك الناصر هو الذي ولّاه الخلافة بعد موت أبيه الحاكم بأمر الله.

ثم التفت السلطان إلى القاضى علاء الدين علىّ بن عبد الظاهر الموقّع وكان هو الذي كتب عهد المظفّر بيبرس عن الخليفة، وقال له: يا أسود الوجه، فقال ابن عبد الظاهر من غير توقّف: يا خوند، أبلق خير من أسود. فقال السلطان:

ويلك! حتّى لا تترك رنكه «2» أيضا، يعنى أنّ ابن عبد الظاهر كان ممّن ينتمى

ص: 8

إلى سلّار، وكان رنك سلّار أبيض وأسود. ثم التفت السلطان إلى قاضى القضاة بدر الدين [محمد «1» ] بن جماعة وقال له: يا قاضى، كنت تفتى المسلمين بقتالى؟ فقال: معاذ الله! أن تكون الفتوى كذلك، وإنّما الفتوى على مقتضى كلام المستفتى. ثم حضر الشيخ صدر الدين محمد بن عمر [بن مكّى بن عبد الصمد «2» الشهيربا] ن المرحّل وقبّل يد السلطان، فقال له السلطان: كنت تقول فى قصيدتك:

ما للصبىّ وما للملك يكفله

فخلف ابن المرحّل بالله ما قال هذا، وإنّما الأعداء أرادوا إتلافى فزادوا فى قصيدتى هذا البيت، والعفو من شيم الملوك فعفا عنه. وكان ابن المرحّل قد مدح المظفّر بيبرس بقصيدة عرّض فيها بذكر الملك الناصر محمد، من جملتها:

ما للصّبىّ وما للملك يكفله

شأن الصبىّ بغير الملك مألوف

ثم استأذن شمس الدين «3» محمد بن عدلان للدخول على السلطان، فقال السلطان للدّوادار، قل له: أنت أفتيت أنّه خارجىّ وقتاله جائز، مالك عنده دخول، ولكن عرّفه هو وأبن المرحّل يكفيهما ما قال الشّارمساحىّ «4» فى حقّهما، وكان من خبر ذلك أن الأديب شهاب الدين أحمد بن عبد الدائم الشّارمساحىّ الماجن مدح السلطان الملك الناصر بقصيدة يهجو فيها المظفّر بيبرس ويعرّض لصحبته ابن المرحّل وابن عدلان، منها «5» :

ص: 9

ولّى المظفّر لمّا فاته الظّفر

وناصر «1» الحقّ وافى وهو منتصر

وقد طوى الله من بين الورى فتنا

كادت على عصبة الإسلام تنتشر

فقل لبيبرس إنّ الدهر ألبسه

أثواب عارية فى طولها قصر

لمّا تولّى تولّى الخير عن أمم

لم يحمدوا أمرهم فيها ولا شكروا

وكيف تمشى به الأحوال فى زمن

لا النّيل وافى ولا وافاهم مطر

ومن يقوم ابن عدلان بنصرته

وابن المرحّل قل لى كيف ينتصر

وكان المطر لم يقع فى تلك السنة بأرض مصر وقصّر النيل، وشرقت البلاد وارتفع السعر. واتّفق أيضا يوم جلوس السلطان الملك الناصر أنّ الأمراء لمّا اجتمعوا قبل خروج السلطان إليهم بالإيوان، أشار الأفرم نائب الشام لمنشد يقال له مسعود أحضره معه من دمشق، فقام مسعود وأنشد أبياتا لبعض عوام القاهرة، قالها عند توجّه الملك الناصر من الديار المصرية إلى الكرك: منها:

أحبّة قلبى إنّنى لوحيد

أريد لقاكم والمزار بعيد

كفى حزنا أنّى مقيم ببلدة

ومن شفّ» قلبى بالفراق فريد

أجول بطرفى فى الديار فلا أرى

وجوه أحبّائى الذين أريد

فتواجد الأفرم وبكى وحسر عن رأسه [ووضع «3» ] الكلفتاة على الأرض، فأنكر الأمراء ذلك، وتناول الأمير قراسنقر الكلفتاة ووضعها بيده على رأس الأفرم، ثم خرج السلطان فقام الجميع، وصرخ الجاويشية فقبّل الأمراء الأرض وجرى ما ذكرناه، وانقضت الخدمة، ودخل السلطان إلى الحريم.

ص: 10

ثم بعد الخدمة قدّم الأمير سلّار النائب عدّة من المماليك والخيول والجمال وتعابى «1» القماش ما قيمته مائتا ألف درهم، فقبل السلطان شيئا وردّ الباقى. وسأل سلّار الإعفاء من الإمرة والنيابة وأن ينعم عليه بالشّوبك فأجيب إلى ذلك، بعد أن حلف أنّه متى طلب حضر، وخلع السلطان عليه، وخرج سلّار من مصر عصر يوم الجمعة ثالث شوّال مسافرا إلى الشّوبك، فكانت مدّة نيابة سلّار على مصر إحدى عشرة سنة، وكانت الخلعة التى خلعها السلطان عليه بالعزل عن النيابة أعظم من خلعة الولاية؛ وأعطاه حياصة من الذهب مرصّعة، وتوجّه معه الأمير نظام الدين آدم مسفّرا له، واستمرّ أمير علىّ بن سلّار بالقاهرة، وأعطاه السلطان إمرة عشرة بمصر. ثم فى خامس شوّال قدم رسول المظفّر بيبرس يطلب الأمان فأمّنه السلطان.

وفيه خلع السلطان على الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورىّ باستقراره فى نيابة دمشق، عوضا عن الأمير آقوش الأفرم بحكم عزله. وخلع على الأمير سيف الدين قبجق المنصورىّ بنيابة حلب عوضا عن قراسنقر. وخلع على أسندمر كرجى بنيابة حماة عوضا عن قبجق، وخلع على الحاج بهادر الحلبىّ بنيابة طرابلس عوضا عن أسندمر كرجى. وخلع على قطلوبك المنصورىّ بنيابة صفد عوضا عن بكتمر الجوكندار. واستقرّ [سنقر «2» ] الكمالىّ حاجب الحجّاب بديار مصر على عادته، وقرالاچين أمير مجلس على عادته. وبيبرس الدوادار على عادته، وأضيف إليه نيابة دار العدل «3» ونظر الأحباس. وخلع على الأمير جمال الدين آقوش الأفرم نائب الشام كان بنيابة صرخد على خبز مائة فارس. وأنعم السلطان على نوغاى القبچاقىّ بإقطاع الأمير قطلوبك المنصورىّ، وهو إمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق. ونوغاى هذا هو صاحب الواقعة مع المظفّر والخارج من مصر إلى الكرك. انتهى.

ص: 11

ثم رسم السلطان لشهاب الدين بن عبادة بتجهيز الخلع والتشاريف لسائر أمراء الشام ومصر فجهّزت، وخلع عليهم كلّهم فى يوم الاثنين سادس شوّال، وركبوا بالخلع والتشاريف فكان لركوبهم يوم عظيم. وفى يوم الأحد ثانى عشر شوّال استقرّ فخر الدين «1» عمر بن الخليلىّ فى الوزارة عوضا عن ضياء الدين النشائىّ. ثم رسم السلطان للنوّاب بالسفر، فأوّل من سافر منهم الأمير قبجق نائب حلب، وخرجت معه تجريدة من العساكر المصريّة خوفا من طارق يطرق البلاد. والذي تجرّد مع قبجق من أمراء مصرهم: الأمير جبا أخو سلّار، وطرنطاى البغدادىّ، وعلاء الدين أيدغدى، و [سيف الدين «2» ] بهادر الحموىّ، و [سيف الدين «3» ] بلبان الدّمشقىّ، وسابق الدين بوزنا «4» الساقى، وركن الدين بيبرس الشجاعىّ، و [سيف الدين «5» ] كورى السلاح دار، و [علاء الدين «6» ] آقطوان الأشرفىّ، و [سيف الدين «7» ] بهادر الجوكندار، و [سيف الدين «8» ] بلبان الشمسىّ، و [علاء الدين «9» ] أيدغدى الزّرّاق، و [سيف الدين «10» ] كهرداش الزّرّاق، و [سيف الدين «11» ] بكتمر أستادار، و [عز الدين «12» ] أيدمر الإسماعيلىّ، و [فارس الدين «13» ] أقطاى الجمدار، وجماعة من أمراء العشرات. فلمّا وصلوا إلى حلب رسم بإقامة جماعة منهم بالبلاد الشاميّة، عدّتهم ستة من أمراء الطبلخاناه، وعادت البقيّة.

وفى يوم الخميس سادس عشر شوّال حضر الأمراء للخدمة على العادة، وقد قرّر السلطان مع مماليكه القبض على عدّة من الأمراء، وأنّ كل عشرة يقبضون أميرا ممّن عينهم، بحيث يكون العشرة عند دخول الأمير محتفّة به، فإذا رفع السّماط واستدعى السلطان أمير جاندار قبض كلّ جماعة على من عيّن لهم، فلمّا حضر الأمراء

ص: 12

فى الخدمة أحاط بهم المماليك ففهموا القصد وجلسوا على السّماط، فلم يتناول أحد منهم لقمة، وعند ما نهضوا أشار السلطان إلى أمير جاندار فتقدّم إليه وقبض المماليك على الأمراء المعيّنين، وعدّتهم اثنان وعشرون أميرا فلم يتحرّك أحد منهم، فبهت الجميع ولم يفلت منهم سوى جركتمر بن بهادر رأس نوبة، فإنّه لما فهم القصد وضع يده على أنفه كأنّه رعف وخرج من غير أن يشعر به أحد؛ واختفى عند الأمير قراسنقر، وكان زوج أخته فشفع قرا سنقر فقبل السلطان شفاعته.

وكان الأمراء المقبوض عليهم: الأمير باكير «1» وأيبك البغدادىّ وقينغار «2» التّقوىّ وقجماس وصاروجا وبيبرس، وبيدمر وتينوا «3» ، ومنكوبرس، وإشقتمر، والسّيواسىّ و [سنقر] الكمالىّ الحاجب، والحاجّ بيليك [المظّفرىّ «4» ] ، والغتمى، وإكبار، وحسن الرّدادىّ، وبلاط وتمربغا، وقيران، ونوغاى الحموىّ وهو غير نوغاى القبجاقىّ صاحب الواقعة «5» ، وجماعة أخر تتمّة الاثنين وعشرين أميرا. وفى ثالث عشرين شوّال استقرّ الأمير [سيف الدين «6» ] بكتمر الجوكندار المنصورىّ فى نيابة السلطنة بديار مصر عوضا عن سلّار. وفيه أمّر السلطان اثنين وثلاثين أميرا من مماليكه، منهم: تنكز الحسامىّ الذي ولى نيابة الشام بعد ذلك، وطغاى «7» ، وكستاى «8» ، وقجليس «9» ، وخاصّ ترك،

ص: 13

وطط قرا «1» ، وأقتمر «2» ، وأيدمر الشّيخىّ، وأيدمر الساقى «3» ، وبيبرس أمير آخور، وطاجار [الماردينى الناصرى «4» ] وخضر بن نوكاى، وبهادر قبجق «5» ، والحاج أرقطاى، وأخوه [سيف الدين»

] أيتمش المحمّدى، وأرغون الدّوادار الذي صار بعد ذلك نائب السلطنة بمصر، وسنقر المرزوقى «7» ، وبلبان الجاشنكير، وأسنبغا [بن عبد الله «8» المحمودىّ الأمير سيف الدين] ، وبيبغا «9» المكىّ، وأمير علىّ بن قطلوبك، ونوروز أخو جنكلى، وألجاى الحسامى، وطيبغا حاجّى، ومغلطاى العزىّ «10» صهر نوغاى، وقرمشى الزينى، وبكتمر قبجق «11» ، وتينوا الصالحىّ، ومغلطاى البهائى، وسنقر السّلاح دار، ومنكلى بغا، وركبوا الجميع بالخلع والشرابيش من المنصوريّة «12» ببين القصرين «13» وشقّوا القاهرة، وقد أوقدت الحوانيت كلّها إلى الرّميلة «14» وصفّت المغانى وأرباب الملاهى فى عدّة أماكن، ونثرت عليهم الدراهم فكان يوما مشهودا. وكان المذكورون منهم أمراء طبلخاناه وعشراوات. وفيه قبض السلطان على برلغى الأشرفى وجماعة أخر. ثمّ بعد أيام أيضا قبض السلطان على الأمير عزّ الدين أيدمر الخطيرىّ الأستادار، والأمير [بدر الدين «15» ] بكتوت الفتاح أمير جاندار بعد ما حضرا من عند الملك المظفّر بيبرس؛ وخلع عليهما، وذلك بعد الفتك بالمظفّر بيبرس حسب

ص: 14

ما ذكرناه فى ترجمة المظفّر بيبرس، وسكتنا عنه هنا لطول قصّته، ولقصر مدّة حكايته، فإنّه بالأمس ذكر فليس لتكراره محلّ، ومن أراد ذلك فلينظر فى ترجمة المظفّر بيبرس. انتهى. وفيه سفّر الأمراء المقبوض عليهم إلى حبس الإسكندريّة، وكتب بالإفراج عن المعتقلين بها، وهم: آقوش المنصورىّ قاتل الشجاعىّ، والشيخ على التّتارىّ، ومنكلى التّتارى، وشاورشى «1» [قنقر] وهو الذي كان أثار فتنة الشجاعىّ، وكتبغا، وغازى وموسى أخوا حمدان بن صلغاى، فلمّا حضروا خلع عليهم وأنعم عليهم بإمريات فى الشام. ثم أحضر شيخ الإسلام تقىّ الدين أحمد ابن تيميّة من سجن الإسكندرية وبالغ فى إكرامه، وكان حبسه المظفّر لأمر وقع بينه وبين علماء دمشق ذكرناه فى غير هذا الكتاب، وهو بسبب الاعتقاد وما يرمى به أو باش الحنابلة. وفى يوم الثلاثاء تاسع عشرين صفر سنة عشر وسبعمائة عزل السلطان قاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعى عن قضاء الديار المصرية بقاضى القضاة جمال الدين أبى داود سليمان ابن مجد الدين أبى حفص عمر الزرعىّ، وعزل قاضى القضاة شمس الدين أحمد بن إبراهيم السّروجىّ الحنفىّ، فأقام بعد عزله ستة «2» أيام ومات.

ثم كتب السلطان الملك الناصر بالقبض على الأمراء الذين كان أطلقهم من حبس الإسكندرية وأنعم عليهم بإمريات بالبلاد الشاميّة خوفا من شرّهم.

ثم استقر السلطان بالأمير بكتمر الحسامى حاجب دمشق فى نيابة غزّة عوضا عن بلبان البدرىّ. ثم قبض السلطان على قطقطو، والشيخ علىّ وضروط، مماليك سلّار،

ص: 15

وأمّر عوضهم جماعة من مماليكه وحواشيه، منهم: بيبغا الأشرفىّ، و [سيف الدين «1» ] جفتاى «2» ، وطيبغا الشمسىّ، وأيدمر الدوادار، وبهادر «3» النقيب.

وفيها حضر ملك العرب حسام الدين مهنّا أمير آل فضل فأكرمه السلطان وخلع عليه، وسأل مهنّا السلطان فى أشياء وأجابه، منها: ولاية حماة للملك المؤيّد إسماعيلى ابن الملك الأفضل [علىّ «4» ابن المظفّر محمود ابن المنصور محمد تقي الدين] الأيّوبىّ، فأجابه إلى ذلك ووعده بها بعد أسندمر كرجى، ومنها الشفاعة فى أيدمر الشّيخىّ فعفا عنه وأخرجه إلى قوص «5» ، ومنها الشفاعة فى الأمير برلغى الأشرفىّ، وكان فى الأصل مملوكه قد كسبه مهنّا هذا من التتار ثم أهداه إلى الملك المنصور قلاوون، فورثه منه ابنه الملك الأشرف خليل بن قلاوون، فعدّد السلطان الملك الناصر ذنوبه فما زال به مهنّا حتى خفّف عنه، وأذن للناس فى الدخول عليه، ووعده بالإفراج عنه بعد شهر، فرضى بذلك وعاد إلى بلاده وهو كثير الشكر والثناء على الملك الناصر.

ولما فرغ السلطان الملك الناصر من أمر المظفّر بيبرس وأصحابه ولم يبق عنده ممّن يخشاه إلّا سلّار، ندب إليه السلطان الأمير ناصر الدين محمد ابن أمير سلاح بكتاش الفخرىّ وكتب على يده كتابا بحضوره إلى مصر، فاعتذر سلّار عن الحضور إلى الديار المصرية بوجع فى فؤاده، وأنّه يحضر إذا زال عنه، فتخيّل السلطان من تأخّره وخاف أن يتوجّه إلى التتار؛ فكتب إلى قراسنقر نائب الشام وإلى أسندمر نائب حماة بأخذ الطّرق على سلّار لئلّا يتوجّه إلى التتار. ثم بعث الملك الناصر بالأميرين: بيبرس الدوادار وسنجر الجاولى إلى الأمير سلّار، وأكّد عليهما إحضاره

ص: 16

وأن يضمنا له عن السلطان أنه يريد إقامته عنده يستشيره فى أمور المملكة، فقدما على سلّار وبلّغاه عن السلطان ما قال، فوعدهما أنه يحضر، وكتب الجواب بذلك، فلما رجعا اشتد قلق السلطان وكثر خياله منه.

وأمّا سلّار فإنه تحيّر فى أمره واستشار أصحابه فاختلفوا عليه، فمنهم: من أشار بتوجّهه إلى السلطان، ومنهم من أشار بتوجّهه إلى قطر من الأقطار: إمّا إلى التتار أو إلى اليمن أو إلى برقة، فعوّل على المسير إلى اليمن، ثم رجع عن ذلك وأجمع على الحضور إلى السلطان، وخرج من الشّوبك وعنده ممّن سافر معه [من مصر «1» ] أربعمائة وستون فارسا، فسار إلى القاهرة، فعند ما قدم على الملك الناصر قبض عليه وحبسه بالبرج «2» من قلعة الجبل، وذلك فى سلخ شهر «3» ربيع الأوّل سنة عشر وسبعمائة. ثم ضيّق السلطان على الأمير برلغى بعد رواح الأمير مهنّا، وأخرج حريمه من عنده؛ ومنع ألّا يدخل إليه أحد بأكل ولا شرب حتى أشفى على الموت ويبست أعضاؤه وخرس لسانه من شدّة الجوع، ومات ليلة الأربعاء ثانى شهر رجب.

وأمّا أمر سلّار فإنه لما حضر بين يدى الملك الناصر عاتبه عتابا كثيرا وطلب منه الأموال، وأمر الأمير سنجر الجاولى أن ينزل معه ويتسلّم منه ما يعطيه من الأموال، فنزل معه إلى داره ففتح سلّار سربا تحت الأرض، فأخرج منه سبائك ذهب وفضّة وجرب من [الأديم «4» ] الطائفىّ، فى كل جراب عشرة آلاف دينار، فحملوا من ذلك السّرب أكثر من [حمل «5» ] خمسين بغلا من الذهب والفضة، ثم طلع سلّار إلى الطارمة «6» التى كان يحكم عليها فخفروا تحتها، فأخرجوا سبعا وعشرين خابية مملوءة

ص: 17

ذهبا، ثم أخرج من الجواهر «1» شيئا كثيرا، منها: حجر بهرمان زنته أربعون مثقالا، وأخرج ألفى حياصة ذهب مجوهرة بالفصوص، وألفى قلادة من الذهب، كلّ قلادة تساوى مائة دينار، وألفى كلفتاة زركش وشيئا كثيرا؛ يأتى ذكره أيضا بعد أن نذكر وفاته. منها: أنهم وجدوا له لجما مفضّضة فنكتوا الفضّة عن السيور ووزنوها، فجاء وزنها عشرة قناطير بالشامى. ثم إنّ السلطان طلبه وأمر أن يبنى عليه أربع حيطان فى مجلسه، وأمر ألّا يطعم ولا يسقى؛ وقيل: إنه لما قبض عليه وحبسه بقلعة الجبل أحضر إليه طعاما فأبى سلّار أن يأكل وأظهر الغضب، فطولع السلطان بذلك، فأمر بألّا يرسل إليه طعام بعد هذا، فبقى سبعة أيام لا يطعم ولا يسقى وهو يستغيث الجوع، فأرسل إليه السلطان ثلاثة أطباق مغطّاة بسفر الطعام، فلما أحضروها بين يديه فرح فرحا عظيما وظنّ أنّ فيها أطعمة يأكل منها، فكشفوها فإذا فى طبق ذهب، وفى الآخر فضّة، وفى الآخر لؤلؤ وجواهر، فعلم سلّار أنه ما أرسل إليه هذه الأطباق إلا ليقابله على ما كان فعله معه، فقال سلّار: الحمد لله الذي جعلنى من أهل المقابلة فى الدنيا! وبقى على هذه الحالة اثنى عشر يوما ومات، فأعلموا الملك الناصر بموته فجاءوا إليه، فوجدوه قد أكل ساق خفّه، وقد أخذ السّرموجة «2» وحطّها فى فيه وقد عضّ عليها بأسنانه وهو ميّت؛ وقيل: إنهم دخلوا عليه قبل موته وقالوا: السلطان قد عفا عنك، فقام من الفرح ومشى خطوات ثم خرّ ميّتا، وذلك فى يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة عشر وسبعمائة؛ وقيل: فى العشرين من جمادى الأولى من السنة المذكورة.

فأخذه الأمير علم الدين سنجر الجاولى بإذن السلطان وتولّى غسله وتجهيزه، ودفنه

ص: 18

بتربته «1» التى أنشأها بجانب مدرسته على الكبش خارج القاهرة بالقرب من جامع ابن طولون، لصداقة كانت بين الجاولى وسلّار قديما وحديثا. وكان سلّار أسمر اللون أسيل الخدّ لطيف القدّ صغير اللّحية تركىّ الجنس، وكان أصله من مماليك الملك الصالح علىّ بن قلاوون الذي مات فى حياة والده قلاوون؛ وكان سلّار أميرا جليلا شجاعا مقداما عاقلا سيوسا، وفيه كرم وحشمة ورياسة، وكانت داره «2» ببين القصرين بالقاهرة. وقيل: إنّ سلار لما حج المرّة الثانية فرّق فى أهل الحرمين أموالا كثيرة وغلالا وثيابا، تخرج عن حدّ الوصف حتى إنه لم يدع بالحرمين فقيرا، وبعد هذا مات، وأكبر شهواته رغيف خبز، وكان فى شونته يوم مات من الغلال ما يزيد على أربعمائة ألف إردب. وكان سلّار ظريفا لبّيسا كبير الأمراء فى عصره،

ص: 19

اقترح أشياء من الملابس كثيرة مثل السّلّارى وغيره، ولم يعرف لبس السّلّارىّ قبله، وكان شهد وقعة شقحب «1» مع الملك الناصر وأبلى فى ذلك اليوم بلاء حسنا وثخنت «2» جراحاته، وله اليد البيضاء فى قتال التتار. وتولّى نيابة السلطنة بديار مصر، فاستقلّ فيها بتدبير الدولة الناصرية نحو عشر سنين. ومن جملة صدقاته أنه بعث إلى مكة فى سنة اثنتين وسبعمائة فى البحر المالح عشرة آلاف إردب قمح ففرّقت فى أهل مكة، وكذا فعل بالمدينة. وكان فارسا، كان إذا لعب بالكرة لا يرى فى ثيابه عرق، وكذا فى لعب الرمح مع الإتقان فيهما.

وأمّا ما خلّفه من الأموال فقد ذكرنا منه شيئا ونذكر منه أيضا ما نقله بعض المؤرّخين. قال الجزرىّ «3» : وجد لسلّار بعد موته ثمانمائة ألف ألف دينار، وذلك غير الجوهر والحلىّ والخيل والسلاح. قال الحافظ أبو عبد الله الذّهبىّ: هذا كالمستحيل، وحسب زنة الدينار وجمله بالقنطار فقال: يكون ذلك حمل خمسة آلاف بغل، وما سمعنا عن أحد من كبار السلاطين أنه ملك هذا القدر، ولا سيما ذلك خارج عن الجوهر وغيره. انتهى كلام الذهبىّ.

قلت: وهو معذور فى الجزرىّ، فإنه جازف وأمعن.

وقال ابن دقماق «4» فى تاريخه «5» : وكان يدخل إلى سلّار فى كل يوم من أجرة أملاكه ألف دينار. وحكى الشيخ محمد «6» بن شاكر الكتبىّ فيما رآه بخط الإمام العالم

ص: 20

العلّامة علم الدين «1» البرزالىّ، قال: رفع إلىّ المولى جمال الدين ابن الفويرة «2» ورقة فيها قبض أموال سلّار وقت الحوطة عليه فى أيام متفرّقة، أولها يوم الأحد: ياقوت أحمر وبهرمان «3» رطلان. بلخش «4» رطلان ونصف. زمرّد ربحانىّ «5» وذبابىّ «6» تسعة عشر رطلا.

صناديق ضمنها فصوص [وجواهر «7» ] ستة. ما بين زمرّد وعين «8» الهرّ ثلثمائة قطعة كبار. لؤلؤ مدوّر من مثقال إلى درهم ألف ومائة «9» وخمسون حبّة. ذهب عين مائتا ألف دينار وأربعة وأربعون ألف دينار. ودراهم أربعمائة ألف وأحد وسبعون ألف درهم. يوم الاثنين: فصوص مختلفة رطلان. ذهب عين خمسة وخمسون ألف دينار، دراهم ألف ألف درهم. مصاغ وعقود ذهب

ص: 21

مصرىّ أربع قناطير. فضّيّات طاسات وأطباق وطشوت ستّ قناطير. يوم الثلاثاء: ذهب عين خمسة وأربعون ألف دينار، دراهم ثلثمائة ألف درهم وثلاثون ألف درهم. قطزيّات «1» وأهلّه وطلعات صناجق فضّة ثلاثة قناطير.

يوم الأربعاء: ذهب عين ألف ألف دينار، دراهم ثلثمائة ألف درهم. أقبية بفرو قاقم «2» ثلثمائة قباء. أقبية حرير عمل الدار «3» ملوّنة [بفرو «4» ] سنجاب «5» أربعمائة قباء، سروج «6» ذهب مائة سرج. ووجد له عند صهره أمير موسى ثمانية صناديق لم يعلم ما فيها، حملت إلى الدور السلطانية. وحمل أيضا من عند سلّار إلى الخزانة تفاصيل «7» طردوحش «8» ، وعمل الدار ألف تفصيلة. ووجد له خيام «9» السّفر ستّ عشرة نوبة كاملة.

ووصل معه من الشّوبك ذهب مصرىّ خمسون ألف دينار، ودراهم أربعمائة الف درهم وسبعون ألف درهم، وخلع ملوّنة ثلثمائة خلعة وخركاه «10» كسوتها أطلس أحمر

ص: 22

معدنىّ مبطّن بأزرق مرو زىّ [وستر «1» ] بابها زركش «2» . ووجد له خيل ثلثمائة فرس، ومائة وعشرون قطار بغال، ومائة وعشرون قطار جمال. هذا خارج عمّا وجد له من الأغنام والأبقار والجواميس والأملاك والمماليك والجوارى والعبيد. ودلّ مملوكه على مكان مبنىّ فى داره فوجدوا حائطين مبنيين بينهما أكياس ما علم عدّتها، وفتح مكان آخر فيه فسقيّة ملانة ذهبا منسبكا بغير أكياس.

قلت: وممّا زاد سلّار من العظمة أنّه لمّا ولى النيابة فى الدولة الناصرية محمد بن قلاوون، وصار إليه وإلى بيبرس الجاشنكير تدبير المملكة حضر إلى الديار المصرية الملك العادل زين الدين كتبغا الذي كان سلطان الديار المصرية وعزل بحسام الدين لاچين، ثم استقرّ نائب صرخد ثم نائب حماة، فقدم كتبغا إلى القاهرة وقبّل الأرض بين يدى الملك الناصر محمد بن قلاوون، ثمّ خرج من عنده وأتى سلّار هذا ليسلّم عليه، فوجد سلّار راكبا وهو يسير فى حوش داره، فنزل كتبغا عن فرسه وسلّم على سلّار، وسلّار على فرسه لم ينزل عنه، وتحادثا حتى انتهى كلام كتبغا، وعاد إلى حيث نزل بالقاهرة؛ فهذا شىء لم يسمع بمثله! انتهى.

وبعد موت سلّار قدم على السلطان البريد بموت الأمير قبجق المنصورىّ نائب حلب، وكان الملك الناصر عزل أسندمر كرجى عن نيابة حماة وولّى نيابة حماة للملك المؤيّد عماد الدين إسماعيل، فسار إليه المؤيّد من دمشق فمنعه أسندمر، فأقام المؤيّد بين حماة ومصر ينتظر مرسوم السلطان، فاتّفق موت قبجق نائب حلب، فسار أسندمر من حماة إلى حلب وكتب يسأل السلطان فى نيابة حلب، فأعطاها له، وأسرّ ذلك فى نفسه، لكونه أخذ نيابتها باليد، ثم عزل السلطان بكتمر

ص: 23

الحسامى الحاجب عن نيابة غزّة وأحضره إلى القاهرة، وولّى عوضه على نيابة غزّة الأمير قطلقتمر «1» ، وخلع على بكتمر الحاجب بالوزارة بالديار المصرية عوضا عن فخر الدين [عمر «2» ] بن الخليلىّ. ثم قدم البريد بعد مدة- لكن فى السنة- بموت الأمير الحاج بهادر الحلبىّ نائب طرابلس، فكتب السلطان بنقل الأمير جمال الدين آقوش الأفرم من نيابة صرخد إلى نيابة طرابلس عوضا عن الحاج بهادر المذكور فسار إليها، وفرح السلطان بموت الحاج بهادر فرحا عظيما، فإنّه كان يخافه ويخشى شرّه.

ثم التفت السلطان بعد موت قبجق والحاج بهادر المذكور إلى أسندمر كرجى، وأخرج تجريدة من الديار المصرية، وفيها من الأمراء كراى المنصورىّ وهو مقدّم العسكر، وسنقر الكمالىّ حاجب الحجّاب، وأيبك الرّومىّ وبينجار وكجكن وبهادر آص فى عدّة من مضافيهم من أمراء الطبلخاناه والعشرات ومقدّمى الحلقة «3» ، وأظهر أنّهم توجهوا لغزو سيس، وكتب لأسندمر كرجى بتجهيز آلات الحصار على العادة، والاهتمام فى هذا الأمر حتى يصل إليه العسكر من مصر. وكتب الملك الناصر إلى المؤيّد عماد الدين إسماعيل صاحب حماة بالمسير مع العسكر المصرىّ. ثم خرج الأمير كراى من القاهرة بالعساكر فى مستهلّ ذى القعدة سنة عشر وسبعمائة.

وبعد خروج هذا العسكر من مصر توحّش خاطر الأمير بكتمر الجو كندار نائب السلطنة من الملك الناصر وخاف على نفسه، واتّفق مع الأمير بتخاص المنصورىّ على إقامة الأمير مظفّر الدين موسى ابن الملك الصالح علىّ بن قلاوون فى السلطنة، والاستعانة بالمماليك المظفّريّة، وبعث إليهم فى ذلك فوافقوه. ثم شرع النائب

ص: 24

بكتمر الجوكندار فى استمالة الأمراء ومواعدة المماليك المظفّريّة الذين بخدمة الأمراء، على أنّ كل طائفة تقبض على الأمير الذي هى فى خدمته فى يوم عيّنه لهم، ثم يسوق الجميع إلى قبّة «1» النّصر خارج القاهرة، ويكون الأمير موسى المذكور قد سبقهم هناك، فدبّروا ذلك حتّى انتظم الأمر ولم يبق إلّا وقوعه، فنمّ عليهم إلى الملك الناصر بيبرس الجمدار أحد المماليك المظفّريّة، وهو ممّن اتّفق معهم بكتمر الجوكندار، أراد بذلك أن يتخذ يدا عند السلطان الملك الناصر بهذا الخبر، فعرّف خشداشه قراتمر الخاصّكى بما عزم عليه فوافقه. وكان بكتمر الجوكندار قد سيّر يعرّف الأمير كراى المنصورىّ بذلك، لأنّه كان خشداشه، وأرسل كذلك إلى قطلوبك المنصورىّ نائب صفد ثم إلى قطلقتمر نائب غزّة؛ فأمّا قطلوبك وقطلقتمر فوافقاه، وأمّا كراى فأرسل نهاه وحذّره من ذلك، فلم يلتفت بكتمر، وتمّ على ما هو عليه. فلمّا بلغ السلطان هذا الخبر وكان فى اللّيل لم يتمهّل، وطلب الأمير موسى إلى عنده وكان يسكن بالقاهرة، فلما نزل إليه الطلب هرب، ثم استدعى الأمير بكتمر الجوكندار النائب، وبعث أيضا فى طلب بتخاص، وكانوا إذ ذاك يسكنون بالقلعة، فلما دخل إليه بكتمر أجلسه وأخذ يحادثه حتى أتاه المماليك بالأمير بتخاص، فلما رآه بكتمر علم أنه قد هلك، فقيّد بتخاص وسجن وأقام السلطان ينتظر الأمير موسى، فعاد إليه الجاولى ونائب الكرك وأخبراه بفراره فاشتدّ غضبه عليهما، وما طلع النهار حتّى أحضر السلطان الأمراء وعرّفهم بما قد وقع، ولم يذكر اسم بكتمر النائب، وألزم السلطان الأمير كشدغدى البهادرىّ والى القاهرة بالنداء على الأمير موسى، ومن أحضره من الجند فله إمرته، وإن كان من العامّة فله ألف دينار، فنزل ومعه

ص: 25

الأمير فخر الدين إياز «1» شادّ الدواوين وأيدغدى شقير، وألزم السلطان سائر الأمراء بالإقامة بالقاعة «2» الأشرفيّة من القلعة حتى يظهر خبر الأمير موسى. ثم قبض السلطان على حواشى الأمير موسى وجماعته وعاقب كثيرا منهم، فلم يزل الأمر على ذلك من ليلة الأربعاء إلى يوم الجمعة. قبض على الأمير موسى المذكور من بيت «3» أسنادار الفارقانىّ من حارة «4» الوزيريّة بالقاهرة، وحمل إلى القلعة فسجن بها، ونزل الأمراء إلى دورهم، وخلّى عن الأمير بكتمر النائب أيضا ونزل إلى داره، ورسم السلطان بتسمير أستادار الفارقانىّ، ثم عفا عنه وسار إلى داره، وتتبّع السلطان المماليك المظفّريّة، وفيهم: بيبرس [الجمدار] الذي نمّ عليهم وعملوا فى الحديد، وأنزلوا ليسمّروا تحت القلعة، وقد حضر نساؤهم وأولادهم، وجاء الناس من كلّ موضع وكثر البكاء والصّراخ عليهم- رحمة لهم- والسلطان ينظر فأخذته الرحمة عليهم فعفا عنهم، فتركوا ولم يقتل أحد منهم، فكثر الدعاء للسلطان والثناء عليه.

وأمّا أمر أسندمر كرجى فإنّ الأمير كراى لما وصل بالعساكر المصرية إلى حمص وأقام بها على ما قرّره السلطان معه حتى وصل إليه الأمير منكوتمر الطبّاخى، وكان السلطان كتب معه ملطّفات إلى أمراء حلب بقبض نائبها أسندمر كرجى

ص: 26

فى الباطن، وكتب فى الظاهر لكراى وأسندمر كرجى بما أراده من عمل المصالح، فقضى كراى شغله من حمص وركب وتهيّأ من حمص، وجدّ فى السير جريدة حتى وصل إلى حلب فى يوم ونصف، فوقف بمن معه تحت قلعة حلب عند ثلث الليل الآخر، وصاح:«يا لعلى» ، وهى الإشارة التى رتّبها بينه وبين نائب قلعة حلب، فنزل نائب القلعة عند ذلك بجميع رجالها وقد استعدّوا للحرب، وزحف الأمير كراى على دار النيابة ولحق به أمراء حلب وعسكرها، فسلّم الأمير أسندمر كرجى نفسه بغير قتال، فأخذ وقيّد وسجن بقلعتها وأحيط على موجوده، وسار منكوتمر الطبّاخى على البريد بذلك إلى السلطان، ثم حمل أسندمر كرجى إلى السلطان صحبة الأمير بينجار وأيبك الرّومىّ. فخاف عند ذلك الأمير قرا سنقر نائب الشام على نفسه، وسأل أن ينتقل من نيابة دمشق إلى نيابة حلب ليبعد عن الشرّ، فأجيب إلى ذلك، وكتب بتقليده وجهّز إليه فى آخر ذى الحجة من سنة عشر وسبعمائة على يد الأمير أرغون الدّوادار الناصرىّ، وأسرّ له السلطان بالقبض عليه إن أمكنه ذلك. وقدم أسندمر كرجى إلى القاهرة واعتقل بالقلعة، وبعث يسأل السلطان عن ذنبه فأعاد جوابه؛ مالك ذنب، إلا أنك قلت لى لما ودّعتك عند سفرك: أوصيك يا خوند:

لا تبق فى دولتك كبشا كبيرا وأنشئ مماليكك! ولم يبق عندى كبش كبير غيرك.

ثمّ قبض السلطان على طوغان نائب البيرة، وحمل إلى السلطان فحبس أياما ثم أطلقه وولّاه شدّ الدواوين [بدمشق «1» ] .

وفى مستهلّ سنة إحدى عشرة وسبعمائة وصل الأمير أرغون الدّوادار إلى الشام [لتسفير قراسنقر «2» المنصورى منها إلى نيابة حلب] فاحترس منه الأمير قراسنقر على نفسه، وبعث إليه عدّة من مماليكه يتلقونه ويمنعون

ص: 27

أحدا ممن جاء معه أن ينفرد مخافة أن يكون معه ملطّفات إلى أمراء «1» دمشق.

ثم ركب قراسنقر إليه ولقيه بميدان الحصى خارج دمشق، وأنزله عنده بدار السعادة «2» وكلّ بخدمته من ثقاته جماعة. فلما كان من الغد أخرج له أرغون تقليده فقبّله وقبّل الأرض على العادة، وأخذ فى التجهيز ولم يدع قراسنقر أرغون أن ينفرد عنه، بحيث إنه أراد زيارة أماكن «3» بدمشق فركب معه قراسنقر بنفسه، حتى قضى أرغون أربه وعاد، وتمّ كذلك إلى أن سافر. فلما أراد قراسنقر السفر بعث إلى الأمراء ألا يركب أحد منهم لوداعه، وألا يخرج من بيته، واستعدّ وقدّم أثقاله أوّلا فى الليل، فلما أصبح ركب يوم الرابع من المحرّم بمماليكه، وعدّتهم ستمائة فارس، وركب أرغون الدوادار بجانبه وبهادر آص فى جماعة قليلة، وسار معه أرغون حتى أوصله إلى حلب ثم عاد. وقلّد الأمير كراى المنصورىّ نيابة الشام عوضا عن قراسنقر، وأنعم كراى على أرغون الدّوادار بألف دينار سوى الخيل والخلع وغير ذلك.

ثم إنّ الملك الناصر عزل الأمير بكتمر الحسامى عن الوزارة وولاه حجوبيّة الحجّاب بالديار المصرية عوضا عن سنقر الكمالىّ. ولا زال السلطان يتربّص فى أمر بكتمر الجوكندار النائب حتى قبض عليه بحيلة دبّرها عليه فى يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى من سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وقبض معه على عدّة من الأمراء، منهم:

ص: 28

صهر «1» الجوكندار ألكتمر الجمدار وأيدغدى العثمانى «2» ، ومنكوتمر الطبّاخىّ وبدر الدين بكمش «3» الساقى وأيدمر الشّمسى «4» وأيدمر الشيخى، وسجنوا الجميع إلّا الطباخى فإنه قتل من وقته.

والحيلة التى دبّرها السلطان على قبض بكتمر الجوكندار أنه نزل السلطان إلى المطعم «5» وبكتمر بإزائه، فخرج السلطان من البرج «6» ومال إلى بكتمر وقال يا عمى:

ما بقى فى قلبى من أحد إلّا فلان وفلان وذكر له أميرين، فقال له بكتمر: يا خوند، ما تطلع من المطعم إلا وتجدنى قد أمسكتهما، وكان ذلك يوم الثلاثاء، فقال له السلطان: لا، يا عمى إلا دعهما إلى يوم الجمعة؛ تمسكهما فى الصلاة، فقال له:

السمع والطاعة. ثم إنّ السلطان جهّز لبكتمر تشريفا هائلا ومركوبا معظّما، فلما كان يوم الجمعة قال له فى الصلاة: والله يا عمى مالى وجه أراهما! وأستحى منهما، ولكن أمسكهما إذا دخلت أنا إلى الدار، وتوجّه بهما إلى المكان الفلانى تجد هناك منكلى بغا وقجماس فسلّمهما إليهما، ورح أنت، فأمسكهما بكتمر الجوكندار وتوجّه بهما إلى المكان المذكور له، فوجد الأميرين: قجماس ومنكلى بغا هناك، فقاما إليه وقالا له: عليك السمع والطاعة لمولانا السلطان وأخذا سيفه، فقال لهما:

ص: 29

يا خشداشيتى ما هو هكذا الساعة كما فارقت السلطان، وقال لى: أمسك هؤلاء، فقالا: ما القصد إلا أنت، فأمسكاه وأطلقا الأميرين، وكان ذلك آخر العهد ببكتمر الجوكندار كما يأتى ذكره. انتهى.

ثم أرسل السلطان استدعى الأمير بيبرس الدّوادار المنصورىّ المؤرّخ وولّاه نيابة السلطنة بديار مصر عوضا عن بكتمر الجوكندار، ثم أرسل السلطان قبض أيضا على الأمير كراى المنصورىّ نائب الشام بدار السعادة فى يوم الخميس ثانى عشرين جمادى الأولى، وحمل مقيّدا إلى الكرك فحبس بها. وسبب القبض عليه كونه كان خشداش بكتمر الجوكندار ورفيقه، ثم قبض السلطان على الأمير قطلوبك نائب صفد بها، وكان أيضا ممن وافق بكتمر على الوثوب مع الأمير موسى حسب ما تقدّم ذكره. ثم خلع السلطان على الأمير آقوش الأشرفى نائب الكرك باستقراره فى نيابة دمشق عوضا عن كراى المنصورىّ، واستقر بالأمير بهادرآص فى نيابة صفد عوضا عن قطلوبك، ثم نقل السلطان بكتمر الجوكندار النائب وأسندمر كرجى من سجن الإسكندرية إلى سجن الكرك، فبقى بسجن الكرك جماعة من أكابر الأمراء مثل: بكتمر الجوكندار وكراى المنصورىّ وأسندمر كرجى وقطلوبك المنصورىّ نائب صفد وبيبرس العلائى فى آخرين. ثم عزل السلطان مملوكه أيتمش المحمّدى عن نيابة الكرك، واستقرّ فى نيابتها بيبغا الأشرفىّ، وكان السلطان قد استناب أيتمش هذا على الكرك لما خرج منها [إلى دمشق «1» ] .

وأما قراسنقر فإنه أخذ فى التدبير لنفسه خوفا من القبض عليه كما قبض على غيره، واصطنع العربان وهاداهم، وصحب سليمان بن مهنّا وآخاه، وأنعم عليه وعلى أخيه موسى حتى صار الجميع من أنصاره، وقدم عليه الأمير مهنّا إلى حلب وأقام

ص: 30

عنده أياما وأفضى إليه قراسنقر بسرّه، وأوقفه على كتاب السلطان بالقبض على مهنّا، وأنه لم يوافق على ذلك، ثم بعث قراسنقر يسأل السلطان فى الإذن له فى الحجّ فجهّز قراسنقر حاله، وخرج من حلب فى نصف شوّال ومعه أربعمائة مملوك، واستناب بحلب الأمير قرطاى وترك عنده عدّة من مماليكه لحفظ حواصله، فكتب السلطان لقرطاى بالاحتراس، وألّا يمكّن قراسنقر من حلب إذا عاد، ويحتج عليه بإخضار مرسوم السلطان بتمكينه من ذلك. ثم كتب إلى نائب غزّة ونائب الشام ونائب الكرك وإلى بنى عقبة «1» بأخذ الطريق على قراسنقر، فقدم البريد أنّه سلك البرّيّة إلى صرخد وإلى زيزاء «2» ، ثم كثر خوفه من السلطان فعاد من غير الطريق التى سلكها، ففات أهل الكرك القبض عليه فكتبوا بالخبر إلى السلطان فشقّ عليه؛ ثم وصل قراسنقر إلى ظاهر حلب فبلغه ما كتب السلطان إلى قرطاى فعظم خوفه وكتب إلى مهنّا، فكتب مهنّا إلى قرطاى أن يخرج حواصل قراسنقر وإلّا هجم مدينة حلب وأخذ ماله قهرا، فخاف قرطاى من ذلك، وجهّز كتابه إلى السلطان فى طىّ كتابه، وبعث بشىء من حواصل قراسنقر إلى السلطان مع ابن قراسنقر الأمير عز الدين فرج، فأنعم عليه الملك الناصر بإمرة عشرة، وأقام بالقاهرة مع أخيه أمير على بن قراسنقر. ثم إن سليمان بن مهنّا قدم على قراسنقر، فأخذه ومضى وأنزله فى بيت أمّه فاستجار قراسنقر بها فأجارته، ثم أتاه مهنّا وقام له بما يليق به. ثم بعث مهنّا يعرّف السلطان بما وقع لقراسنقر وأنه استجار بأمّ سليمان فأجارته، وطلب من

ص: 31

السلطان العفو عنه؛ فأجاب السلطان سؤاله، وبعث إليه أن يخيّر قراسنقر فى بلد من البلاد حتى يولّيه إياها، فلما سافر قاصد مهنّا وهو ابن مهنا لكنه غير سليمان جهّز السلطان تجريدة هائلة فيها عدّة كثيرة من الأمراء وغيرهم إلى جهة مهنّا، فاستعدّ مهنّا وكتب قراسنقر إلى الأفرم نائب طرابلس يستدعيه اليه، فأجابه ووعده بالحضور إليه. ثم بعث قراسنقر ومهنّا إلى السلطان وخدعاه وطلب قراسنقر صرخد، فانخدع السلطان وكتب له تقليدا بصرخد، وتوجّه إليه بالتقليد أيتمش المحمّدى، فقبّل قراسنقر الأرض، واحتج حتّى يصل إليه ماله بحلب ثم يتوجّه إلى صرخد، فقدمت أموال قراسنقر من حلب، فما هو إلا أن وصل إليه ماله، وإذا بالأفرم قد قدم عليه من الغد ومعه خمسة أمراء من أمراء طبلخاناه وستّ عشراوات فى جماعة من التّركمان فسّر قراسنقر بهم، ثم استدعوا أيتمش وعدّدوا «1» عليه من قتله السلطان من الأمراء، وأنهم خافوا على أنفسهم وعزموا على الدخول فى بلاد التتار، وركبوا بأجمعهم، وعاد أيتمش إلى الأمراء المجرّدين بحمص وعرّفهم الخبر، فرجعوا عائدين إلى مصر بغير طائل. وقدم الخبر على السلطان بخروج قراسنقر والأفرم إلى بلاد التّتار فى أوّل سنة اثنتى عشرة وسبعمائة؛ وقيل إنّ الأفرم لما خرج هو وقراسنقر إلى بلاد التتار بكى الأفرم، وأنشد:

سيذكرنى قومى إذا جدّ جدّهم «2»

وفى الليلة الظلماء يفتقد البدر

فقال له قراسنقر: امش بلا فشار «3» ، تبكى عليهم ولا يبكون عليك! فقال الأفرم:

والله ما بى إلا فراق ابنى موسى، فقال قراسنقر: أىّ بغاية «4» بصقت فى رحمها جاء

ص: 32

منه موسى وإبراهيم وعدّد أسماء كثيرة، وتوجّها. انتهى. ثم إن السلطان أفرج عن الأمير أيدمر الخطيرى وأنعم عليه بخبز الأمير علم الدين سنجر الجاولى.

وفى أوّل سنة اثنتى عشرة وسبعمائة كملت عمارة الجامع الجديد «1» الناصرىّ بمصر القديمة على النيل ووقف عليه عدّة أوقاف كثيرة. وأما قراسنقر والأفرم فإنهما سارا بمن معهما إلى بلاد التّتار، فخرج خربندا ملك التّتار وتلقّاهم وترجّل لهم وترجّلوا له وبالغ فى إكرامهم وسار بهم إلى مخيّمه وأجلسهم معه على التّخت، وضرب لكلّ منهم خركاه ورتّب لهم الرواتب السنّية، ثم استدعاهم بعد يومين واختلى بقراسنقر فحسّن له قراسنقر عبور الشام وضمن له تسليم البلاد بغير قتال. ثم اختلى بالأفرم فحسّن له أيضا أخذ الشام الّا أنه خيّله من قوّة السلطان وكثرة عساكره. ثم إن خربندا أقطع قواسنقر مراغة «2» وأقطع الأفرم همذان «3» ، واستمرّوا هناك إلى ما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى.

ولمّا حضر من تجرّد من الأمراء إلى الديار المصرية حضر معهم الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك الذي ولى نيابة الشام بعد كراى المنصورىّ، فقبض السلطان عليه وعلى الأمير بيبرس الدّوادار نائب السلطان صاحب التاريخ،

ص: 33

وعلى سنقر الكمالىّ، ولاچين الجاشنكير وبينجار وألدكز الأشرفىّ «1» ، ومغلطاى المسعودىّ وسجنوا بالقلعة فى شهر ربيع الأوّل سنة اثنتى عشرة وسبعمائة، وذلك لميلهم إلى قراسنقر والأفرم. ثم خلع السلطان على تنكز الحسامى الناصرى بنيابة دمشق دفعة واحدة عوضا عن آقوش نائب الكرك؛ وتنكز هذا هو أوّل من رقّاه من مماليكه إلى الرّتب السنيّة. ثم استقرّ بسودى الجمدار فى نيابة حلب، واستقرّ تمر «2» الساقى المنصورىّ فى نيابة طرابلس.

ثم إنّ السلطان عزل مهنّا بأخيه فضل ورسم بأنّ مهنّا لا يقيم بالبلاد.

ثم قبض السلطان على الأمير بيبرس المجنون وبيبرس العلمىّ وسنجر البروانى وطوغان المنصورىّ وبيبرس التاجى، وقيّدوا وحملوا من دمشق إلى الكرك فى سادس «3» ربيع الآخر من السنة. ثم أمّر السلطان فى يوم واحد ستة وأربعين أميرا، منهم طبلخاناه تسعة وعشرون وعشروات سبعة عشر وشقّوا القاهرة بالشرابيش والخلع. ثم فى يوم الاثنين أوّل جمادى الأولى خلع السلطان على مملوكة أرغون الدّوادار بنيابة السلطنة بالديار المصريّة عوضا عن بيبرس الدّوادار بحكم القبض عليه. ثم خلع السلطان على بلبان طرنا أمير باندار بنيابة صفد عوضا عن بهادر آص، وأن يرجع بهادر آص إلى دمشق أميرا على عادته أوّلا. ثم ركب السلطان إلى الصيد ببر الجيزة وأمّر جماعة من مماليكه، وهم: طقتمر «4» الدّمشقى، وقطلوبغا الفخرىّ المعروف بالفول المقشّر، وطشتمر البدرىّ المعروف بحمّص أخضر. ثم ورد على السلطان الخبر بحركة خربندا ملك التتار، فكتب السلطان إلى الشام بتجهيز الإقامات، وعرض السلطان العساكر

ص: 34

وأنفق فيهم الأموال، وابتدأ بالعرض فى خامس عشر «1» شهر ربيع الآخر، وكمل فى أوّل جمادى «2» الأولى، فكان يعرض فى كلّ يوم أميرين من مقدّمى الألوف، وكان يتولّى العرض هو بنفسه ويخرجان الأميران بمن أضيف إليهما من الأمراء ومقدّمى الحلقة والأجناد، ويرحّلون شيئا بعد شئ من أوّل شهر رمضان إلى ثامن عشرينه حتى لم يبق بمصر أحد من العسكر. ثم خرج السلطان فى ثانى شوّال ونزل مسجد التّبن «3» خارج القاهرة ورحل منه فى يوم الثلاثاء «4» ثالث من شوّال، ورتّب بالقلعة نائب الغيبة الأمير [سيف الدين «5» ] أيتمش المحمّدى الناصرى. فلمّا كان ثامن شوّال قدم البريد برحيل التتار ليلة سادس عشرين رمضان من الرّحبة وعودهم إلى بلادهم بعد ما أقاموا عليها من أوّل شهر رمضان. فلمّا بلغ السلطان ذلك فرّق العساكر فى قاقون «6» وعسقلان «7» ؛ وعزم على الحجّ ودخل دمشق فى تاسع عشر شوّال، وخرج منها فى ثانى ذى القعدة إلى الكرك، وأقام بدمشق أرغون النائب والوزير أمين الملك ابن الغنّام «8» يجمع المال. وتوجّه السلطان من الكرك إلى الحجاز فى أربعين أميرا فحجّ وعاد إلى دمشق فى يوم الثلاثاء حادى عشر المحرّم سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، وكان لدخوله دمشق يوم مشهود، وعبر دمشق على ناقة وعليه بشت من ملابس العرب بلثام وبيده حربة، فأقام بدمشق خمسة عشر يوما وعاد إلى مصر، فدخلها يوم ثانى عشر صفر.

ص: 35

ثم عمل السلطان فى هذه السنة (أعنى سنة ثلاث عشرة وسبعمائة) الرّوك بدمشق، وندب إليه الأمير علم الدين سنجر الجاولى نائب غزّة. ثم إنّ السلطان تجهّز إلى بلاد الصعيد ونزل من قلعة الجبل فى ثانى عشرين شهر رجب من السنة ونزل تحت الأهرام «1» بالجيزة، وأظهر أنّه يريد الصيد، والقصد السفر للصعيد وأخذ العربان لكثرة فسادهم، وبعث عدّة من الأمراء حتّى أمسكوا طريق السّويس وطريق الواحات فضبط البرّين على العربان، ثم رحل من منزلة الأهرام إلى جهة الصعيد وفعل بالعربان أفعالا عظيمة من القتل والأسر، ثم عاد إلى الديار المصريّة فدخلها فى يوم السبت عاشر شهر رمضان. وكان ممّن قبض عليه السلطان مقداد بن «2» شمّاس، وكان قد عظم ماله، حتّى كان عدّة جواريه أربعمائة جارية، وعدّة أولاده ثمانين. وكان السلطان قد ابتدأ فى أوّل هذه السنة بعمارة القصر الأبلق «3» على الإسطبل «4» السلطانى ففرغ فى سابع عشر شهر رجب، وقصد السلطان أن يحاكى

ص: 36

به قصر الملك الظاهر بيبرس البندقدارى الذي بظاهر دمشق، واستدعى له صنّاع دمشق وصنّاع مصر حتى كمل وأنشأ بجانبه جنينة، وقد ذهبت تلك الجنينة كما ذهب غيرها من المحاسن. ثمّ إنّ السلطان رسم بهدم مناظر اللّوق بالميدان الظاهرى «1» ، وعمله بستانا وأحضر إليه سائر أصناف الزراعات، واستدعى خولة الشام والمطعّمين فباشروه حتّى صار من أعظم البساتين، وعرف أهل جزيرة «2» الفيل من ذلك اليوم التطعيم للشجر.

ص: 37

ثم فى سنة أربع عشرة وسبعمائة كتب السلطان لنائب [حلب و «1» ] حماة وحمص وطرابلس وصفد بأن أحدا منهم لا يكاتب السلطان، وإنّما يكاتب الأمير تنكز نائب الشام، ويكون تنكز هو المكاتب للسلطان فى أمرهم، فشقّ ذلك على النوّاب، وأخذ الأمير [سيف الدين «2» ] بلبان طرنا نائب صفد ينكر ذلك؛ فكاتب فيه تنكز حتّى عزل، واستقرّ عوضه الأمير بلبان البدرى، وحمل بلبان طرنا مقيّدا إلى مصر. ثمّ إن السلطان اهتم بعمارة الجسور بأرض مصر وترعها، وندب الأمير عزّ الدين أيدمر الخطيرىّ إلى الشرقية «3» ، والأمير علاء الدين أيدغدى شقير

ص: 38

إلى البهنساويّة «1» والأمير حسين «2» ابن جندر إلى أسيوط «3» ومنفلوط «4» ، والأمير سيف الدين آقول «5» الحاجب إلى الغربية «6» ، والأمير سيف الدين قلّى أمير سلاح

ص: 39

إلى الطّحاويّة «1» وبلاد الأشمونين «2» ، والأمير جنكلى بن البابا إلى القليوبية «3» ، والأمير بهادر المعزّى «4» إلى إخميم «5» ، والأمير بهاء الدين «6» أصلم إلى قوص «7» .

ص: 40

ثم إنّ السلطان قبض على الأمير [علاء الدين «1» ] أيدغدى شقير وعلى الأمير بكتمر الحسامى الحاجب صاحب الدار «2» خارج باب النصر فى أوّل شهر ربيع الأوّل سنة خمس عشرة وسبعمائة فقتل أيدغدى شقير من يومه، لأنه اتّهم أنه يريد الفتك بالسلطان، وأخذ من بكتمر الحاجب مائة ألف دينار وسجن. ثم قبض السلطان على الأمير طغاى، وعلى الأمير تمر الساقى نائب طرابلس وحمل إلى قلعة الجبل، وقبض على الأمير [سيف الدين»

] بهادر آص وحمل إلى الكرك من دمشق، واستقرّ الأمير كستاى الناصرىّ نائب طرابلس عوضا عن تمر الساقى. ثم أفرج السلطان عن الأمير قجماس المنصورىّ أحد البرجية من الحبس، وأخرج الأمير بدر الدين محمد بن الوزيرىّ إلى دمشق منفيّا. ثم فى ثامن عشر شهر رجب أفرج السلطان عن الأمير آقوش الأشرفىّ نائب الكرك، وخلع عليه وأنعم عليه بإقطاع الأمير حسام الدين لاچين الأستادار بعد موته.

ص: 41

وفى العشر الأخير من شعبان من سنة خمس عشرة وسبعمائة وقع الشروع فى عمل الرّوك «1» بأرض مصر، وسبب ذلك أنّ أصحاب بيبرس الجاشنكير وسلّار وجماعة من البرجية، كان خبز الواحد منهم ما بين ألف مثقال فى السنة إلى ثلثمائة «2» مثقال، فأخذ السلطان أخبازهم وخشى الفتنة، وقرّر مع فخر الدين [محمد بن فضل الله «3» ] ناظر الجيش روك البلاد، وأخرج الأمراء إلى الأعمال، فتعيّن الأمير بدر الدين جنكلى بن البابا إلى الغربية «4» ومعه آقول «5» الحاجب والكاتب مكين الدين إبراهيم بن قروينة. وتعيّن للشرقية الأمير أيدمر الخطيرى ومعه أيتمش المحمدى والكاتب أمين الدين قرموط، وتعيّن للمنوفية «6»

ص: 42

والبحيرة «1» الأمير بلبان الصّرخدى و [طرنطاى «2» ] القلنجقىّ و [محمد «3» ] بن طرنطاى وبيبرس الجمدار. وتعيّن جماعة أخر للصعيد «4» ، وتوجّه كلّ أمير إلى عمله. فلمّا نزلوا بالبلاد استدعى كلّ أمير مشايخ البلاد ودلاتها «5» وقيّاسيها وعدو لها وسجلّات كلّ بلد، وعرف متحصّلها ومقدار فدنها ومبلغ عبرتها، وما يتحصّل منه للجندىّ من العين والغلّة والدّجاج والإوزّ والخراف والكشك والعدس والكعك. ثم قاس الأمير تلك «6» الناحية وكتب بذلك عدّة نسخ، ولا زال يعمل ذلك فى كلّ بلد حتّى انتهى أمر عمله. وعادوا بعد خمسة وسبعين يوما بالأوراق، فتسلّمها فخر الدين ناظر الجيش، وطلب التّقىّ «7» كاتب برلغى وسائر مستوفي الدولة، ليفردوا الخاصّ السلطان بلادا ويضيفوا الجوالى «8» إلى البلاد، وكانت الجوالى قبل ذلك إلى وقت الرّوك لها ديوان مفرد

ص: 43

يختصّ بالسلطان، فأضيف جوالى كلّ بلد إلى متحصل خراجها، وأبطلت جهات المكوس التى كانت أرزاق الجند عليها، منها ساحل الغلّة «1» ، وكانت هذه الجهة مقطعة لأربعمائة جندىّ من أجناد المحلقه سوى الأمراء، وكان متحصّلها فى السنة أربعة آلاف ألف وستمائة ألف درهم.

قلت: وهذا القدر يكون الآن شيئا كثيرا من الذهب من سعر يومنا هذا. وكان إفطاع الجندىّ من عشرة آلاف درهم إلى ثلاثة آلاف درهم، وللأمراء من أربعين ألفا

ص: 44

إلى عشرة آلاف درهم، فآقتنى المباشرون منها أموالا عظيمة، فإنّها كانت أعظم الجهات الديوانيّة وأجلّ معاملات مصر. وكان الناس منها فى أنواع من الشدائد لكثرة المغارم والعسف والظّلم، فإنّ أمرها كان يدور على نواتية «1» المراكب والكيّالين والمشدّين والكتّاب؛ وكان المقرّر على كل إردب درهمين ويلحقه نصف درهم آخر سوى ما كان ينهب. وكان له ديوان فى بولاق خارج المقس «2» ، وقبله كان له خصّ يعرف بخصّ الكيّالة «3» . وكان فى هذه الجهة نحو ستين رجلا ما بين نظّار ومستوفين وكتّاب وثلاثين جنديّا للشدّ، وكانت غلال الأقاليم لا تباع إلّا فيه، فأزال الملك الناصر هذا الظلم جميعه عن الرعيّة، ورخص سعر القمح من ذلك اليوم، وانتعش الفقير وزالت هذه الظّلامة عن أهل مصر، بعد أن راجعته أقباط مصر فى ذلك غير مرّة، فلم يلتفت إلى قول قائل- رحمه الله تعالى- ما كان أعلى همّته، وأحسن تدبيره.

وأبطل الملك الناصر أيضا نصف السّمسرة الذي كان أحدثه ابن الشّيخىّ «4» فى وزارته- عامله الله تعالى بعدله- وهو أنه من باع شيئا فإنّ دلالة كل مائة درهم درهمان، يؤخذ منها درهم للسلطان، فصار الدلّال يحسب حسابه ويخلّص درهمه

ص: 45

قبل درهم السلطان؛ فأبطل الملك الناصر ذلك أيضا، وكان يتحصل منه جملة كثيرة وعليها جند مستقطعة.

وأبطل السلطان الملك الناصر أيضا رسوم الولايات والمقدّمين والنّوّاب والشّرطية، وهى أنها كانت تجبى من عرفاء الأسواق وبيوت الفواحش، وكان عليها أيضا جند مستقطعة وأمراء، وكان فيها من الظلم والعسف وهتك الحرم وهجم البيوت وإظهار الفواحش ما لا يوصف، فأبطل ذلك كلّه- سامحه الله تعالى وعفا عنه-.

وأبطل ما كان مقرّرا للحوائص والبغال، وكان يجبى من المدينة ومن الوجهين:

القبلىّ والبحرىّ، ويحمل فى كلّ قسط من أقساط السنة إلى بيت المال عن ثمن الحياصة ثلثمائة درهم، وعن ثمن البغل خمسمائة درهم، وكان على هذه الجهة أيضا عدّة مقطعين، سوى ما كان يحمل إلى الخزانة، فكان فيها من الظلم بلاء عظيم؛ فأبطل الملك الناصر ذلك كلّه، رحمه الله.

وأبطل أيضا ما كان مقرّرا على السجون، وهو على كلّ من سجن ولو لحظة واحدة مائة «1» درهم سوى ما يغرمه. وكان أيضا على هذه الجهة عدّة مقطعين، ولها ضامن يجبى ذلك من سائر السجون؛ فأبطل ذلك كلّه، رحمه الله.

وأبطل ما كان مقرّرا من طرح الفراريح «2» ، وكان لها ضمّان فى سائر الأقاليم، كانت تطرح على الناس بالنواحى الفراريح؛ وكان فيها أيضا من الظّلم والعسف وأخذ

ص: 46

لأموال من الأرامل والفقراء والأيتام ما لا يمكن شرحه، وكان عليها عدّة مقطعين ومرتّبات، ولكل إقليم ضامن مقرّر، ولا يقدر أحد أن يشترى فروّجا إلّا من الضامن، فأبطل الناصر ذلك، ولله الحمد.

وأبطل ما كان مقرّرا للفرسان، وهو شىء تستهديه الولاة والمقدمون من سائر الأقاليم، فيجى من ذلك مال عظيم، ويؤخذ فيه الدرهم ثلاثة «1» دراهم من كثرة الظلم، فأبطل الملك الناصر ذلك، رحمه الله تعالى.

وأبطل ما كان مقررا على الأقصاب والمعاصر، كان يجبى من مزارعى الأقصاب وأرباب المعاصر ورجال المعصرة، فيحصل من ذلك شىء كثير.

وأبطل ما كان يؤخذ من رسوم الأفراح، كانت تجبى من سائر البلاد، وهى جهة لا يعرف لها أصل فبطل ذلك ونسى، ولله الحمد.

وأبطل جباية المراكب، كانت تجبى من سائر المراكب التى فى بحر النيل بتقرير معيّن على كلّ مركب، يقال له مقرّر «2» الحماية، كان يجبى ذلك من مسافرى المراكب سواء أكانوا أغنياء أم فقراء، فبطل ذلك أيضا.

وأبطل ما كان يأخذه مهتار «3» طشتخاناه السلطان من البغايا والمنكرات والفواحش، وكانت جملة مستكثرة.

ص: 47

وأبطل ضمان تجيب «1» بمصر وشدّ الزعماء «2» وحقوق السودان وكشف مراكب النوبة، فكان يؤخذ عن كلّ عبد وجارية مبلغ مقرّر عند نزولهم فى الخانات، وكانت جهة قبيحة شنيعة إلى الغاية، فأراح الله المسلمين منها على يد الملك الناصر، رحمه الله.

وأبطل أيضا متوفّر الجراريف «3» بالأقاليم، وكان عليها عدّة كثيرة من المقطعين.

وأبطل ما كان مقرّرا على المشاعلية من تنظيف أسربة البيوت والحمّامات والمسامط وغيرها، فكان إذا امتلأ سراب بيت أو مدرسة لا يمكن شيله حتى يحضر الضامن ويقرّر أجرته بما يختار، ومتى لم يوافقه صاحب البيت تركه ومضى حتى يحتاج إليه ويبذل له ما يطلب.

وأبطل ما كان مقرّرا من الجبى برسم ثمن العبى «4» وثمن ركوة»

السّوّاس.

وأبطل أيضا وظيفتى النظر والاستيفاء من سائر الأعمال، وكان فى كل بلد ناظر ومستوف ومباشرون، فرسم السلطان ألّا يستخدم أحد فى إقليم لا يكون للسلطان فيه مال، وما كان للسلطان فيه مال يكون ناظرا وأمين حكم لا غير، ورفع يد سائر المباشرين من البلاد.

ص: 48

قلت: وكلّ ما فعله الملك الناصر من إبطال هذه المظالم والمكوس دليل على حسن اعتقاده وغزير عقله وجودة تدبيره وتصرّفه، حيث أبطل هذه الجهات القبيحة التى كانت من أقبح الأمور وأشنعها وعوّضها من جهات لا يظلم فيها الرجل الواحد. ومثله فى ذلك كمثل الرجل الشجاع الذي لا يبالى بالقوم، كثروا أو قلّوا، فهو يكرّ فيهم فإن أوغل فيهم خلص، وإن كرّ راجعا لا يبالى بمن هو فى أثره، لما يعلم ما فى يده من نفسه، فأبطل لذلك ما قبح وأحدث ما صلح من غير تكلّف، وعدم تخوّف، فلله درّه من ملك عمّر البلاد، وعمّر بالإحسان العباد. وهذا بخلاف من ولى بعده من السلاطين فإنهم لقصر باعهم عن إدراك المصلحه، مهما رأوه، ولو كان فيه هلاك الرعية، وعذاب البرية؛ يقولون: بهذا جرت العادة من قبلنا، فلا سبيل إلى تغيير ذلك ولو هلك العالم، فلعمرى هل تلك العادة حدثت من الكتاب والسّنة، أم أحدثها ملك مثلهم! وما أرى هذا وأمثاله إلّا من جميل صنع الله تعالى، كى يتميّز العالم من الجاهل. انتهى.

ثم رسم السلطان الملك الناصر [بالمسامحة «1» ] بالبواقى الديوانية والإقطاعية من سائر النواحى إلى آخر سنة أربع «2» عشرة وسبعمائة. وجل الرّوك «3» الهلالىّ لاستقبال صفر سنة ستّ عشرة وسبعمائة، والرّوك «4» الخراجىّ لاستقبال ثلث مغلّ سنة خمس عشرة

ص: 49

وسبعمائة. وأفرد السلطان لخاصته الجيزية «1» وأعمالها، وأخرجت الجوالى من الخاص وفرّقت فى البلاد، وأفردت الجهات التى بقيت من المكس كلها، وأضيفت إلى الوزير، وأفردت للحاشية بلاد، ولجوامك المباشرين بلاد، ولأرباب الرواتب جهات. وارتجعت عدّة بلاد كانت اشتريت من بيت المال وحبست، فأدخلت فى الإقطاعات.

قلت: وشراء الإقطاعات من بيت المال شراء لا يعبأ الله به قديما وحديثا، فإنه متى احتاج بيت مال المسلمين إلى بيع قرية من القرى، وإنفاق ثمنها فى مصالح المسلمين! فهذا شىء لم يقع فى عصر من الأعصار «2» ، وإنما تشترى القرية من بيت المال؛ ثم إن السلطان يهب للشارى ثمن تلك القرية، فهذا البيع وإن جاز فى الظاهر لا يستحلّه الورع، ولا فعله السّلف، حتى إنّ الملك لا تجوز له النفقة من بيت المال إلّا بالمعروف، فمتى جاز له أن يهب الألوف المؤلّفة من أثمان القرى لمن لا يستحقّ أن يكون له النّزر اليسير من بيت المال، وهذا أمر ظاهر معروف يطول الشرح فى ذكره. وفى قصّة سيّدنا عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، ما فرضه لنفسه من بيت المال كفاية عن الإكثار فى هذا المعنى. انتهى.

ثم إن السلطان رسم بأن يعتدّ فى سائر البلاد بما كان يهديه الفلّاحين وحسب من جملة المبلغ. فلمّا فرغ من العمل فى ذلك نودى فى الناس بالقاهرة ومصر وسائر الأعمال بإبطال ما أبطل من جهات المكس وغيره، وكتبت المراسيم بذلك إلى سائر النواحى بهذا الإحسان العظيم، فسّر الناس بذلك قاطبة سرورا عظيما، وضجّ العالم بالدعاء للسلطان بسائر الأقطار، حتى شكر ذلك ملوك الفرنج، وهابته من حسن تدبيره. ووقع ذلك لملوك التتار وأرسلوا فى طلب الصّلح حسب ما يأتى ذكره.

ص: 50

ثم جلس السلطان الملك الناصر بالإيوان «1» الذي أنشأه بقلعة الجبل فى يوم الخميس ثانى عشرين ذى الحجّة سنة خمس عشرة وسبعمائة لتفرقة المثالات «2» . وهذا الرّوك يعرف بالرّوك الناصرى المعمول به إلى يومنا هذا، وحضروا الناس ورسم السلطان أن يفرّق فى كلّ يوم على أميرين من المقدّمين بمضافيهما، فكان المقدّم يقف بمضافيه، ويستدعى كلّ واحد باسمه، فإذا تقدّم المطلوب سأله السلطان، من أنت؟

ومملوك من أنت؟ حتّى لا يخفى عليه شىء من أمره، ثم يعطيه مثالا يلائمه؛ فأظهر السلطان فى هذا العرض عن معرفة تامّة بأحوال رعيّته، وأمور جيوشه وعساكره؛ وكان كبار الأمراء تحضر التّفرقة فكانوا إذا أخذوا فى شكر جندىّ عاكسهم السلطان، وأعطاه دون ما كان فى أملهم له، وأراد بذلك ألّا يتكلّم أحدهم فى المجلس، فلمّا علموا بذلك أمسكوا عن الكلام والشكر، بحيث إنّه لا يتكلّم أحد منهم بعد ذلك إلا ردّ جواب له عما يسأل عنه فمشى الحال بذلك على أحسن وجه من غير غرض ولا عصبيّة، وأعطى لكلّ واحد ما يستحقّه.

قلت: وأين هذه الفعلة من فعل الملك الظاهر برقوق، رحمه الله؛ وقد أظهر من قلّة المعرفة، وإظهار الغرض التامّ، حيث أنعم على قريبه الأمير قجماس بإمرة

ص: 51

مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، وهو إذ ذاك لا يحسن يتلفّظ بالشهادتين، فكان مباشر وإقطاعه يدخلون إليه مع أرباب وظائفه فيجدون الفقيه يعلّمه الشهادة وقراءة الفاتحة وهو كالتّيس بين يدى الفقيه! فكان ذلك من جملة ذنوب الملك الظاهر برقوق التى عدّدوها له عند خروج الناصرىّ «1» ومنطاش «2» عليه، ونفرت القلوب منه حتى خلع وحبس حسب ما يأتى ذكره. ولم أرد بذلك الحطّ على الملك الظاهر المذكور غير أنّ الشيء بالشيء يذكر. انتهى.

ثم فعل السلطان الملك الناصر ذلك مع مماليكه وعساكره، فكان يسأل المملوك عن اسمه واسم تاجره وعن أصله وعن قدومه إلى الديار المصرية، وكم حضر مصافّ، وكم لعب بالرمح [وعن «3» ] سنّه، ومن كان خصمه فى لعب الرّمح، وكم أقام سنة بالطبقة؟ فإن أجابه بصدق أنصفه وإلّا تركه، ورسم له بجامكيّة هيّنة حتى يصل إلى رتبة من يقطع بباب السلطان، فأعجب الناس هذا غاية العجب. وكان الملك الناصر أيضا يخيّر الشيخ المسنّ بين الإقطاع والراتب، فيعطيه ما يختاره، ولم يقطع فى هذا العرض إلا العاجز عن الحركة، فيرتّب له ما يقوم به عوضا عن إقطاعه.

واتّفق للسلطان أشياء فى هذا العرض، منها: أنّه تقدّم إليه شاب تامّ الخلقة فى وجهه أثر يشبه ضربة السيف، فأعجبه وناوله مثالا بإقطاع جيّد، وقال له: فى أىّ مصاف وقع فى وجهك هذا السيف؟ فقال يا خوند: هذا ما هو أثر سيف، وإنّما وقعت من سلّم فصار فى وجهى هذا الأثر، فتبسّم السلطان وتركه،

ص: 52

فقال له الفخر ناظر الجيش: ما بقى يصلح له هذا الخبز، فقال الملك الناصر:

قد صدقنى وقال الحق، وقذ أخذ رزقه، فلو قال: أصبت فى المصافّ الفلانى، من كان يكذّبه! فدعت الأمراء له وانصرف الشابّ بالإقطاع. ومنها: أنّه تقدّم إليه رجل دميم الخلق وله إقطاع ثقيل، عبرته «1» ثمانمائة دينار، فأعطاه مثالا وانصرف به، عبرته نصف ما كان فى يده، فعاد وقبّل الأرض، فسأله السلطان عن حاجته؟

فقال: الله يحفظ السلطان، فإنّه غلط فى حقّى، فإنّ إقطاعى كانت عبرته ثمانمائة دينار، وهذا عبرته أربعمائة دينار؛ فقال السلطان: بل الغلط كان فى إقطاعك الأول، فامض بما قسم الله لك؛ وأشياء من هذا النوع إلى أن انتهت تفرقة المثالات فى آخر المحرّم سنة ستّ عشرة وسبعمائة، فوقر منها نحو مائتى مثال «2» .

ثم أخذ السلطان فى عرض مماليك الطّباق ووفّر جوامك «3» عدّة منهم، ثم أفرد جهة قطيا «4» للعاجزين من الأجناد، وقرّر لكلّ منهم ثلاثة آلاف [درهم «5» ] فى السنة.

ثم إن السلطان ارتجع ما كانت المماليك البرجيّة اشترته من أراضى الجيزة وغيرها.

وارتجع السلطان أيضا ما كان لبيبرس وسلّار وبرلغى والجوكندار وغيرهم من الرّزق «6»

ص: 53

وغيرها، وأضاف ذلك كلّه لخاصّ السلطان، وبالغ السلطان فى إقامة الحرمة فى أيّام العرض، وعرّف الأمير أرغون النائب وأكابر الأمراء أنّه من ردّ مثالا أو تضرّر أو شكا ضرب وحبس وقطع خبزه، وأنّ أحدا من الأمراء لا يتكلّم مع السلطان فى أمر جندىّ ولا مملوك، فلم يتجاسر أحد يخالف ما رسم به؛ وغبن فى هذا الرّوك أكثر الأجناد، فإنّهم أخذوا إقطاعا دون الإقطاع الذي كان معهم، وقصد الأمراء التحدث فى ذلك مع السلطان، فنهاهم أرغون النائب عن ذلك، فقدّر الله تعالى أنّ الملك الناصر نزل إلى بركة «1» الحجيج لصيد الكركى «2» على العادة، وجلس فى البستان المنصورىّ الذي كان هناك ليستريح، فدخل بعض المرقداريّة «3» يقال له عزيز وكان من عادته يهزل قدّام السلطان ليضحكه، فأخذ المرقدار يهزل ويمزح ويتمسخر قدّام السلطان والأمراء جلوس، وهناك ساقية فتمادى فى الهزل لشؤم بخته إلى أن قال:

وجدت جنديّا من جند الرّوك الناصرىّ وهو راكب إكديشا، وخرجه ومخلاته ورمحه على كتفه، وأراد أن يتم الكلام، فآشتدّ غضب السلطان، فصاح فى المماليك: عرّوه ثيابه، ففى الحال خلعت عنه الثّياب، وربط مع قواديس الساقية، وضربت الأبقار حتى أسرعت فى الدوران، فصار عزيز المذكور تارة ينغمس فى الماء وتارة يظهر وهو يستغيث وقد عاين الموت، والسلطان يزداد غضبا ولم يجسر أحد من الأمراء أن يشفع فيه حتّى مضى نحو ساعتين وانقطع حسّه، فتقدّم الأمير طغاى الناصرىّ والأمير قطلوبغا «4» الفخرىّ الناصرىّ وقالا: ياخوند، هذا المسكين لم يرد إلّا أن يضحك

ص: 54

السلطان ويطيّب خاطره، ولم يرد غير ذلك، فما زالا به حتّى أخرج الرجل وقد أشفى على الموت، ورسم بنفيه من الديار المصريّة، فعند ذلك حمد الله تعالى الأمراء على سكوتهم وتركهم الشفاعة فى تغيير «1» مثالات الأجناد. انتهى أمر الرّوك وما يتعلّق به.

وفى محرّم سنة ستّ عشرة وسبعمائة ورد الخبر على السلطان بموت خربندا ملك التّتار وجلوس ولده بو سعيد «2» فى الملك بعده. ثم أفرج الملك الناصر عن الأمير بكتمر الحسامىّ الحاجب وخلع عليه يوم الخميس ثالث عشر شوّال من السنة المذكورة بنيابة صفد، وأنعم عليه بمائتى ألف درهم. ثم نقل السلطان فى السنة أيضا الأمير كراى المنصورىّ وسنقر الكمالىّ الحاجب من سجن الكرك إلى البرج بقلعة الجبل فسجنا بها.

ثمّ بدا له زيارة القدس الشريف، ونزل السلطان بعد أيام فى يوم الخميس رابع جمادى الأولى من سنة سبع عشرة وسبعمائة، [وسار «3» ] ومعه خمسون أميرا، وكريم الدين الكبير ناظر الخواصّ وفخر الدين ناظر الجيش، وعلاء الدين [علىّ بن أحمد بن «4» سعيد] بن الأثير كاتب السّرّ، بعد ما فرّق فى كلّ واحد فرسا مسرجا وهجينا، وبعضهم ثلاث هجن، وكتب إلى الأمير تنكز نائب الشام أن يلقاه بالإقامات «5» لزيارة القدس، فتوجّه إلى القدس وزاره، ثم توجّه إلى الكرك ودخله وأفرج عن جماعة، ثم عاد إلى الديار المصريّة فدخلها فى رابع عشر جمادى الآخرة، فكانت غيبته عن مصر أربعين يوما.

ص: 55

ثمّ بعد مجىء السلطان وصل إلى القاهرة الأمير علاء الدين مغلطاى الجمالى، والأمير بهادر آص، والأمير بيبرس الدّوادار، وهؤلاء الذين أفرج عنهم من حبس الكرك، وخلع السلطان عليهم وأنعم على بهادر بإمرة فى دمشق، ولزم بيبرس داره، ثم أنعم عليه بإمرة وتقدمة ألف على عادته أوّلا.

ثم عزل السلطان الأمير بكتمر الحسامىّ الحاجب عن نيابة صفد فى أوّل سنة ثمانى عشرة وسبعمائة وقدم القاهرة وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بديار مصر.

وفى هذه السنة تجهّز السلطان لركوب الميدان «1» ، وفرّق الخيل على جميع الأمراء، واستجدّ ركوب الأوجاقية بكوافى زركش على صفة الطاسات وهم الجفتاوات «2» . وفيها ابتدأ السلطان بهدم المطبخ وهدم الحوائج خاناه والطشتخاناه وجامع القلعة القديم، وأخلط الجميع وبناه الجامع «3» الناصرى الذي هو بالقلعة الآن فجاء من أحسن المبانى. وتجدّد

ص: 56

أيضا فى هذه السنة بدمشق ثلاثة جوامع: جامع الأمير تنكز «1» المشهور به، وجامع كريم «2» الدين، وجامع شمس الدين «3» غبريال. ثم حجّ فى هذه السنة أمير الحاج الأمير مغلطاى الجمالىّ، وقبض بمكة على الشريف «4» رميثة، وفرّ حميضة «5» وقدم مغلطاى المذكور برميثة مقيّدا إلى القاهرة.

وفى سنة تسع عشرة وسبعمائة استجدّ السلطان القيام فوق الكرسىّ للأمير جمال الدين آقوش الأشرفىّ نائب الكرك الذي أفرج عنه السلطان فى السنة الماضية، وكذلك للأمير بكتمر البوبكرىّ «6» السّلاح دار، فكانا إذا دخلا عليه قام لهما، وكان آقوش نائب الكرك يتقدّم على البوبكرى عند تقبيل يد السلطان، فعتب الأمراء على البوبكرى فى ذلك، فسأل البوبكرىّ السلطان عن تقديم نائب الكرك عليه، فقال:

لأنه أكبر منك فى المنزلة، فاستغرب الأمراء ذلك وكشفوا عنه، فوجدوا نائب الكرك تأمّر فى أيام الملك المنصور قلاوون [إمرة «7» ] عشرة، وجعله أستادار ابنه الأشرف خليل فى سنة خمس وثمانين وستمائة، ووجدوا البوبكرىّ تأمّر فى سنة تسعين وستمائة فسكتوا الأمراء عند ذلك، وعلموا أنّ السلطان يسير على القواعد القديمة وأنه أعرف منهم بمنازل الأمراء وغيرها.

ص: 57

وفيها اهتمّ السلطان لحركة السفر إلى الحجاز الشريف، وتقدّم كريم الدين الكبير ناظر الخواصّ إلى الإسكندرية لعمل الثّياب الحريز برسم كسوة الكعبة، وبينا السلطان فى ذلك وصلت تقدمة الأمير تنكز نائب الشام، وفيها الخيل والهجن بأكوار «1» ذهب وسلاسل ذهب وفضّة ومقاود حرير، وكانت عدّة كثيرة يطول الشرح فى ذكرها. ثم أيضا وصلت تقدمة الملك المؤيّد عماد الدين إسماعيل صاحب حماة، وهى أيضا تشتمل على أشياء كثيرة، وتولّى كريم الدين تجهيز ما يحتاج إليه السلطان من كلّ شىء حتى إنه عمل له عدّة قدور من ذهب وفضّة [ونحاس «2» ] تحمل على البخاتىّ ويطبخ فيها للسلطان، وأحضر الخولة لعمل مباقل ورياحين فى أحواض خشب تحمل على الجمال فتسير مزروعة فيها وتسقى بالماء، ويحصد منها ما تدعو الحاجة إليه أوّلا بأوّل، فتهيأ من البقل والكرّاث والكسبرة والنعناع وأنواع المشمومات والرّيحان شىء كثير، ورتّب لها الخولة لتعاهدها بالسقية وغيرها، وجهّزت الأفران وصنّاع الكماج «3» والجبن المقلى وغيره. وكتبت أوراق عليق السلطان والأمراء الذين معه وعدّتهم اثنان وخمسون أميرا، لكل أمير ما بين مائة عليقة، [فى كل يوم «4» ] إلى خمسين عليقة إلى عشرين عليقة، وكانت جملة العليق فى مدّة سفر السلطان ذهابا وإيابا مائة ألف اردبّ وثلاثين ألف إردب [من الشعير «5» ] وحمل تنكز من دمشق خمسمائة حمل على الجمال ما بين حلوى وسكر وفواكه ومائة وثمانين حمل حبّ رمّان ولوز، وما يحتاج إليه من أصناف الطبخ، وجهّز كريم الدين الكبير من الإوزّ ألف طائر، ومن الدّجاج ثلاثة آلاف طائر، وأشياء كثيرة من ذلك.

ص: 58

وعيّن السلطان للإقامة بديار مصر الأمير أرغون الناصرىّ النائب ومعه الأمير أيتمش المحمّدىّ وغيره. ثم قدم الملك المؤيّد صاحب حماة إلى القاهرة ليتوجّه فى ركاب السلطان إلى الحجاز، وسافر المحمل على العادة فى ثامن عشر شوّال مع الأمير سيف الدين طرچى «1» أمير مجلس، وركب السلطان من قلعة الجبل فى أوّل ذى القعدة، وسار من بركة الحجّاج فى سادس ذى القعدة وصحبته المؤيد صاحب حماة والأمراء وقاضى القضاة بدر الدين بن جماعة الشافعىّ وغالب أرباب الدولة، وسار حتى وصل مكة المشرّفة بتواضع زائد بحيث إنّ السلطان قال للأمير جنكلى بن البابا: لا زلت أعظّم نفسى إلى أن رأيت الكعبة المشرّفة وذكرت بوس الناس الأرض لى، فدخلت فى قلبى مهابة عظيمة ما زالت عنى حتى سجدت لله تعالى. وكان السلطان لما دخل مكة حسّن له قاضى القضاة بدر الدين بن جماعة أن يطوف بالبيت راكبا كما فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له الملك الناصر: ومن أنا! حتى أتشبّه بالنبىّ صلى الله عليه وسلم، والله لا طفت إلا كما يطوف الناس! ومنع الحجّاب من منع الناس أن يطوفوا معه، وصاروا يزاحمونه وهو يزاحمهم كواحد منهم فى مدّة طوافه، وفى تقبيله الحجر الأسود.

قلت: وهذه حجّة الملك الناصر الثانية. ولما كان الملك الناصر بمكّة بلغه أن جماعة من المغل ممّن حجّ فى هذه السنة قد اختفى خوفا منه فأحضرهم السلطان وأنعم عليهم وبالغ فى إكرامهم. وغسل السلطان الكعبة بيده وصار يأخذ أزر إحرام الحجّاج ويغسلها لهم فى داخل البيت بنفسه، ثم يدفعها لهم، وكثر الدعاء له. وأبطل سائر المكوس من الحرمين الشريفين، وعوّض أميرى مكة والمدينة عنها إقطاعات بمصر والشام، وأحسن إلى أهل الحرمين، وأكثر من الصدقات.

ص: 59

وفى هذه السنة مهّد السلطان ما كان فى عقبة أيلة من الصخور، ووسّع طريقها، حتى أمكن سلوكها بغير مشقّة، وأنفق على ذلك جملا مستكثرة، واتفق لكريم الدين الكبير ناظر الخاصة أمر غريب بمكة فيه موعظة، وهو أنّ السلطان بالغ فى تواضعه فى هذه الحجّة للغاية، فلما أخرجت الكسوة لتعمل على البيت صعد كريم الدين المذكور إلى أعلى الكعبة بعد ما صلّى بجوفها، ثم جلس على العتبة ينظر فى الخيّاطين، فأنكر الناس استعلاءه على الطائفين، فبعث الله عليه وهو جالس نعاسا سقط منه على رأسه من علو البيت فلو لم يتداركوه من تحته لهلك، وصرخ الناس فى الطواف صرخة عظيمة تعجّبا من ظهور قدرة الله تعالى فى إذلال المتكبرين! وانقطع ظفر كريم الدين وعلم بذنبه فتصدّق بمال جزيل.

وفى هذه السّفرة أيضا أجرى السلطان الماء لخليص «1» وكان انقطع من مدّة سنين، ولقى السلطان فى هذه السّفرة جميع العربان وملوكها من بنى مهدىّ «2» وأمرائها وشطى «3» وأخاه عسّافا وأولاده وأشراف مكة من الأمراء وغيرهم، وأشراف المدينة وينبع وغيرهم، وعرب خليص وبنى «4» لأم وعربان حوران «5» وأولاد مهنّا: موسى «6» وسليمان وفيّاضا وأحمد وغيرهم، ولم يتفق اجتماعهم عند ملك غيره، وأنعم عليهم بإقطاعات وصلات وتدلّلوا على السلطان، حتى إنّ موسى بن مهنّا كان له ولد صغير فقام فى بعض

ص: 60

الأيام ومدّ يده إلى لحية السلطان وقال له: يا أبا علىّ بحياة هذه اللّحية ومسك منها شعرات إلّا ما أعطيتنى الضّيعة الفلانية إنعاما علىّ، فصرخ فيه فخر الدين ناظر الجيش وقال له:

شل يدك، قطع الله يدك! تمدّ يدك إلى السلطان، فتبسّم له السلطان وقال: هذه عادة العرب، إذا قصدوا كبيرا فى شىء فيكون عظمته عندهم مسك لحيته، يريد أنه استجار بذلك المسّ، فهو سنّة عندهم؛ فغضب الفخر ناظر الجيش وقام وهو يقول: إنّ هؤلاء مناحيس وسنّتهم أنحس. ثم عاد السلطان بعد أن قضى مناسكه إلى جهة الديار المصرية فى يوم السبت ثانى عشر المحرّم سنة عشرين وسبعمائة بعد أن خرج الأمراء إلى لقائه ببركة الحجّاج، وركب السلطان بعد انقضاء السّماط فى موكب عظيم، وقد خرج الناس لرؤيته وسار حتى طلع القلعة، فكان يوما مشهودا، وزيّنت القاهرة ومصر زينة عظيمة لقدومه، وكثرت التهانى وأرباب الملاهى من الطبول والزمور، وجلس السلطان على تخت الملك وخلع على الأمراء وألبس كريم الدين الكبير أطلسين، ولم يتّفق ذلك لمتعمّم قبله. ثم خلع السلطان على الملك المؤيد إسماعيل صاحب حماة وأركبه بشعار السلطنة من المدرسة المنصورية ببين القصرين، وحمل وراءه الأمير قجليس السّلاح دار السّلاح، وحمل الأمير ألجاى الدّوادار الدواة، وركب معه الأمير بيبرس الأحمدى أمير جاندار والأمير طيبرس، وسار بالغاشية «1» والعصائب «2» وسائر دست السلطنة وهم بالخلع معه إلى أن طلع إلى القلعة، فكان عدّة تشاريف من سار معه مائة وثلاثين تشريفا فيها ثلاثة عشر أطلس والبقية كنجى «3» وعمل الدار وطرد وحش، وقبّل الأرض وجلس على ميمنة

ص: 61

السلطان ولقّبه السلطان بالملك المؤيّد وسافر من يومه بعد ما جهّزه السلطان بسائر ما يحتاج إليه. ثم أفرج السلطان عن جماعة من الأمراء المحبوسين، وعدّتهم ازيد من عشرة نفر. ثم ندب السلطان الأمير بيبرس الأحمدى الحاجب وطائفة من الأجناد إلى مكة ليقيم بها بدل الأمير آق سنقر شادّ العمائر خوفا من هجوم الشريف حميضة على مكّة.

وفى هذه السنة أبطل السلطان مكس الملح بالقاهرة وأعمالها فأبيع الإردبّ الملح بثلاثة دراهم بعد ما كان بعشرة دراهم. ثمّ أذن السلطان للأمير أرغون النائب فى الحجّ فحجّ، وعاد فى سنة إحدى وعشرين بعد أن مشى من مكّة إلى عرفات على قدميه تواضعا. ثم أخرج السلطان الأمير شرف الدين حسين «1» بن جندر إلى الشام على إقطاع الأمير جوبان، ونقل جوبان على إمرة بديار مصر. وسبب نفى الأمير حسين أنّه لمّا أنشأ جامعه المعروف بجامع «2» أمير حسين بجوار داره «3» على الخليج

ص: 62

فى البرّ الغربىّ بحكر جوهر النّوبى. ثم عمّر القنطرة «1» وأراد أن يفتح فى سور القاهرة خوخة «2» تنتهى إلى حارة الوزيريّة، فأذن له السلطان فى فتحها، فخرق بابا كبيرا وعمل عليه رنكه، فسعى به علم الدين سنجر الخيّاط متولّى القاهرة، وعظم الأمر على السلطان فى فتح هذا الباب المذكور، فرسم بنفيه فى سنة إحدى وعشرين وسبعمائة المذكورة.

وفيها وقع الحريق بالقاهرة [ومصر «3» ] فابتدأ من يوم السبت خامس عشر جمادى الأولى وتواتر إلى سلخه، وكان ممّا احترق فيه الرّبع الذي «4» بالشّوّايين من أوقاف

ص: 63

البيمارستان المنصورىّ واجتهد الأمراء فى طفيه، فوقع الحريق فى حارة الدّيلم «1» قريبا من دار كريم الدين الكبير، ودخل اللّيل واشتدّ هبوب الرياح فسرت النار فى عدّة أماكن، وبعث كريم الدين ابنه عبد الله للسلطان فعرّفه، فبعث السلطان لإطفائه عدّة كثيرة من الأمراء والمماليك خوفا على الحواصل السلطانية، فتعاظم الأمر وعجز آق سنقر شاد العمائر، والنار تعمل طول نهار الأحد، وخرج النساء مسيّبات وبات الناس على ذلك، وأصبحوا يوم الاثنين والنار تلفّ ما تمرّ به، والهدم واقع فى الدور المجاورة للحريق. وخرج أمر الحريق عن القدرة البشريّة، وخرجت ريح عاصفة

ص: 64

ألقت النخيل وغرّقت المراكب ونشرت النار، فما شكّ الناس [فى] أنّ القيامة قد قامت، وعظم شرر النّيران وصارت تسقط الأماكن البعيدة، فخرج الناس وتعلّقوا بالموادن «1» واجتمعوا فى الجوامع والزوايا وضجّوا بالدعاء والتضرّع إلى الله تعالى، وصعد السلطان إلى أعلى القصر فهاله ما شاهده، وأصبح الناس فى يوم الثلاثاء، فى أسوإ حال، فنزل أرغون النائب بسائر الأمراء وجميع من فى القلعة، وجمع أهل القاهرة ونقل الماء على جمال الأمراء، ثم لحقه الأمير بكتمر الساقى بالجمال السلطانية، ومنعت أبواب القاهرة ألّا يخرج منها سقّاء، ونقلت المياه من المدارس والحمّامات والآبار، وجمعت سائر البنّائين والنجّارين فهدمت الدور من أسفلها، والنار تحرق فى سقوفها وعمل الأمراء الألوف، وعدّتهم أربعة وعشرون أميرا بأنفسهم فى طفى الحريق ومعهم مضافوهم من أمراء الطبلخاناه والعشرات، وتناولوا الماء بالقرب من السّقائين بحيث صار من باب زويلة «2» إلى حارة الروم «3» بحرا، فكان يوما لم ير أشنع منه، بحيث إنه لم يبق أحد إلا وهو فى شغل، ووقف الأمير أرغون النائب وبكتمر الساقى حتى نقلت الحواصل «4» السلطانية من بيت كريم الدين ناظر الخاص إلى بيت

ص: 65

ولده علم الدين عبد الله بدرب الرصاصى «1» ، وهدم لأجل نقل الحواصل سبع «2» عشرة دارا، وخمدت النار وعاد الأمراء؛ فوقع الصّياح فى ليلة الأربعاء بحريق آخر وقع بربع الملك «3» الظاهر بيبرس خارج باب زويلة وبقيساريّة «4» الفقراء، وهبّت الرياح مع ذلك فركبت الحجّاب والوالى فعملوا فى طفيها عملا إلى بعد ظهر يوم الأربعاء، وهدموا دورا كثيرة، فما كاد أن تفزغ الأمراء من إطفاء ربع الملك الظاهر، حتى وقعت النار فى بيت «5» الأمير سلّار بخطّ بين القصرين «6» ، وإذا بالنار ابتدأت من

ص: 66

أصل «1» البادهنج «2» وكان ارتفاعه من الأرض زيادة على مائة ذراع بذراع العمل، ورأوا فيه نفطا قد عمل فيه فتيلة كبيرة، فما زالوا بالنار حتى أطفئت من غير أن يكون لها أثر كبير. فنودى أن يعمل بجانب كلّ حانوت بالقاهرة ومصر زير أودنّ كبير ملأن ماء.

ثم فى ليلة الخميس وقع الحريق بحارة الروم وبموضع آخر خارج القاهرة، وتمادّى الحال على ذلك لا يخلو وقوع الحريق بالقاهرة ومصر، فشاع بين الناس أنّ الحريق من جهة النصارى لمّا أبكاهم هدم الكنائس. ثم وقع الحريق فى عدّة مساجد وجوامع ودور، إلى أن كان ليلة الجمعة حادى عشرينه قبض على راهبين خرجا من المدرسة الكهاريّة «3» بالقاهرة وقد أرميا النار بها، فأحضرا إلى الأمير علم الدين سنجر

ص: 67

والى القاهرة وشمّ منهما رائحة الكبريت والزّيت، فأحضرهما من الغد إلى السلطان فأمر بعقوبتهما حتى يعترفا، فلما نزل بهما وجد العامة قد قبضت على نصرانىّ، وهو خارج والأثر فى يديه من جامع الظاهر «1» بالحسينيّة ومعه كعكة خروق وبها نفط وقطران، وقد وضعها بجانب المنبر، فلما فاح الدّخان أنكروا ووجدوا النّصرانىّ وهو خارج والأثر فى يديه كما ذكر فعوقب قبل صاحبيه، فاعترف أنّ جماعة من النصارى قد اجتمعوا وعملوا النّفط وفرّقوه على جماعة ليدوروا به على المواضع، ثم عاقب الراهبين فاعترفا بأنهما من دير «2» البغل وأنهما اللذان أحرقا سائر الأماكن نكاية للمسلمين بسبب هدم الكنائس، وكان أمرهم أنهم عملوا النّفط وحشوه فى فتائل وعملوها فى سهام ورموا بها، فكانت الفتيلة إذا خرجت من السهم تقع على مسافة مائة ذراع أو أكثر، فأمر السلطان كريم الدين الكبير يطلب البترك فطلبه وبالغ فى إكرامه على عادة القبطية، وأعلمه كريم الدين بما وقع فبكى، وقال: هؤلاء سفهاء، قد عملوا كما فعل سفهاؤكم بالكنائس من غير إذن السلطان، والحكم للسلطان، ثم ركب بغلة وتوجّه إلى حال سبيله، فكادت الناس أن تقتله، لولا حماية المماليك له، ثم ركب كريم الدين من الغد إلى القلعة، فصاحت عليه العوامّ وأسمعته ما يكره، فلما طلع كريم الدين عرّف السلطان بمقالة البترك واعتنى به، وكان النصارى أقرّوا على أربعة عشر راهبا بدير البغل، فقبض عليهم وعملت حفيرة كبيرة بشارع الصليبة وأحرق فيها أربعة منهم فى يوم الجمعة، واشتدّت العامّة عند ذلك على النصارى، وأهانوهم وسلبوهم ثيابهم وألقوهم عن الدوابّ إلى الأرض. وركب السلطان إلى الميدان فى يوم السبت وقد اجتمع عالم عظيم، وصاحوا: نصر الله الإسلام، انصر دين محمد بن عبد الله،

ص: 68

فلما استقرّ السلطان بالميدان أحضر والى القاهرة نصرانيين قد قبض عليهما فأحرقا خارج الميدان، وخرج كريم الدين من الميدان وعليه التشريف، فصاحت به العامّة:

كم تحامى للنصارى! وسبّوه ورموه بالحجارة، فعاد إلى الميدان، فشقّ ذلك على السلطان، واستشار السلطان الأمراء فى أمر العامّة، فأشار عليه الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك بعزل الكتّاب النصارى، فإنّ الناس قد أبغضوهم، فلم يرضه ذلك، وتقدّم إلى ألماس الحاجب أن يخرج فى أربعة أمراء ويضع السيف فى العامّة حتى ينتهى إلى باب زويلة، ويمرّ كذلك إلى باب النصر ولا يرفع السيف عن أحد، وأمر والى القاهرة أن يتوجه إلى باب اللّوق وباب البحر ويقبض على من وجده من العامّة ويحمله إلى القلعة، وعيّن لذلك أيضا عدّة مماليك فخرجوا من الميدان، فبادر كريم الدين وسأل السلطان العفو فقبل شفاعته، ورسم بالقبض على العامّة من غير قتلهم، وكان الخبر بلغ العامّة ففرّت العامّة حتى الغلمان وصار الأمير لا يجد من يركّبه، وانتشر ذلك فغلقّت الأسواق بالقاهرة فكانت ساعة لم يمرّ بالناس أبشع منها، وهى من هفوات الملك الناصر. ومرّ الوالى بباب اللّوق وبولاق وباب البحر وقبض على كثير من الكلابزيّة «1» وأراذل العامّة بحيث إنه صار كلّ من رآه أخذه، وجفل الناس من الخوف وعدّوا فى المراكب إلى برّ الجيزة. فلمّا عاد السلطان إلى القلعة لم يجد أحدا فى طريقه، وأحضر إليه الوالى من قبض عليه، وهم نحو المائتين فرسم السلطان بجماعة منهم للصّلب، وأفرد جماعة للشّنق، وجماعة للتوسيط، وجماعة لقطع الأيدى، فصاحوا:

ياخوند، ما يحلّ لك، ما نحن الغرماء فرقّ لهم بكتمر الساقى وقام ومعه الأمراء، وما زالوا به حتى أمر بصلب جماعة منهم على الخشب من باب زويلة إلى قلعة الجبل، وأن يعلّقوا بأيديهم، ففعل بهم ذلك وأصبحوا يوم الأحد صفّا واحدا من باب

ص: 69

زريلة إلى تحت القلعة، فتوجّع لهم الناس وكان منهم كثير من بياض الناس ولم تفتح القاهرة، وخاف كريم الدين على نفسه ولم يسلك من باب زويلة وطلع القلعة من خارج السّور، وإذا بالسلطان قد قدّم الكلابزية وأخذ فى قطع أيديهم، فكشف كريم الدين رأسه وقبّل الأرض وباس رجل السلطان وسأل السلطان العفو عن هؤلاء، فأجابه بمساعدة الأمير بكتمر، وأمر بهم فقيّدوا وأخرجوا للعمل فى الحفر بالجيزة، ومات ممن قطع [يده «1» ] رجلان وأمر بحفظ من علّق على الخشب.

وفى الحال وقع الصوت بحريق أماكن بجوار جامع أحد ابن طولون وبوقوع الحريق فى القلعة وفى بيت بيبرس الأحمدىّ بحارة «2» بهاء الدين قراقوش وبفندق «3» طرنطاى خارج باب البحر فدهش السلطان، وكان هذا الفندق برسم تجّار الزّيت فعمّت النار كلّ ما فيه، حتى العمد الرّخام وكانت ستة عشر عمودا، طول كلّ عمود ست أذرع بالعمل، ودوره نحو ذراعين فصارت كلّها جيرا، وتلف فيه لتاجر واحد ما قيمته تسعون ألف درهم، وقبض فيه على ثلاثة نصارى ومعهم فتائل النّفط اعترفوا أنهم فعلوا ذلك. فلمّا كان يوم السبت تاسع عشرين جمادى الأولى المذكور ركب السلطان إلى الميدان فوجد نحو العشرين ألفا من العامّة فى طريقه قد صبغوا خروقا بالأزرق والأصفر «4» وعملوا فى الأزرق صلبانا بيضاء ورفعوها

ص: 70

على الجريد وصاحوا عليه صيحة واحدة: لا دين إلّا دين الإسلام، نصر الله دين محمد بن عبد الله، يا ملك الناصر يا سلطان الإسلام، انصرنا على أهل الكفر ولا تنصر النصارى، فخشع السلطان والأمراء وتوجه إلى الميدان وقد اشتغل سرّه، وركبت العامة أسوار الميدان «1» ورفعوا الخروق الزّرق وهم يصيحون لا دين إلا دين الإسلام، فخاف السلطان الفتنة ورجع إلى مداراتهم وتقدّم إلى الحاجب أن يخرج فينادى من وجد نصرانيا فدمه وماله حلال، فلما سمعوا النّداء صرخوا صوتا واحدا: نصرك الله، فارتجّت الأرض. ثم نودى عقيب ذلك [بالقاهرة «2» ومصر] من وجد نصرانيا بعمامة بيضاء حلّ دمه، وكتب مرسوم بلبس النصارى العمائم الزّرق، وألّا يركبوا فرسا ولا بغلا ولا يدخلوا الحمّام إلا بجرس فى أعناقهم، ولا يتزيّوا بزىّ المسلمين، هم ونساؤهم وأولادهم، ورسم للأمراء بإخراج النصارى من دواوينهم ودواوين السلطان، وكتب بذلك إلى سائر الأعمال.

وغلّقت الكنائس والأديرة وتجرّأت العامّة على النصارى حيث وجدوهم ضربوهم وعرّوهم، فلم يتجاسر نصرانىّ أن يخرج من بيته، فكان النصرانىّ إذا عنّ له أمر يتزيّا بزىّ اليهود فيلبس عمامة صفراء يكتريها من يهودىّ ليخرج فى حاجته. واتفق أنّ بعض كتّاب النصارى حضر إلى يهودىّ له عليه مبلغ كبير ليأخذ منه شيئا، فأمسكه اليهودىّ وصاح: أنا بالله وبالمسلمين، فخاف النصرانى وقال له: أبرأت ذمّتك وكتب له خطه بالبراءة وفرّ. واحتاج عدّة من النصارى إلى إظهارهم الإسلام، فأسلم السّنّى [ابن ست «3» بهجة] الكاتب وغيره، واعترف بعضهم على راهب دير «4»

ص: 71

الخندق أنه كان ينفق المال فى عمل النّفط للحريق ومعه أربعة، فأخذوا وسمّروا وانبسطت عند ذلك ألسنة الأمراء فى كريم الدين أكرم الصغير، وحصلت مفاوضة بين الأمير قطلوبغا «1» الفخرىّ وبين بكتمر الساقى بسبب كريم الدين [الكبير «2» ] ، لأن بكتمر كان يعتنى به وبالدواوين، وكان الفخرىّ يضع منه «3» .

قلت: ولأجل هذا راح كريم «4» الدين من الدنيا على أقبح وجه! وأخرب الله دياره بعد ذلك بقليل.

واستمرّ الفخرىّ على رتبته بعد سنين عديدة. قال: وصار مع كلّ من الأميرين جماعة وبلغ السلطان ذلك، وأنّ الأمراء تترقّب وقوع فتنة، وصار السلطان إذا ركب إلى الميدان لا يرى فى طريقه أحدا من العامّة لكثرة خوفهم أن يبطش السلطان بهم فلم يعجبه ذلك، ونادى بحروج الناس للفرجة على الميدان ولهم الأمان والاطمئنان فخرجوا على عادتهم. ثم وقع الحريق بالقاهرة «5» واشتدّ أمره إلى أن طفئ، وسافر كريم الذين الكبير إلى الإسكندرية وشدّد على النصارى فى لبسهم

ص: 72

وركوبهم حتى يتقرّب بذلك إلى خواطر العامّة. ثم تنكّرت المماليك السلطانية على كريم الدين الكبير لتأخّر جوامكهم شهرين، وتجمّعوا يوم الخميس ثامن عشرين صفر قبل الظهر ووقفوا بباب القصر، وكان السلطان فى الحريم، فلمّا بلغه ذلك خشى منهم، وبعث إليهم بكتمر الساقى فلم يلفتوا إليه، فخرج السلطان إليهم وقد صاروا نحو ألف وخمسمائة، فعند ما رآهم السلطان سبّهم وأهانهم وأخذ العصاة من مقدّم المماليك وضرب بها رءوسهم وأكتافهم، وصاح فيهم: اطلعوا مكانكم فعادوا بأجمعهم إلى الطّباق، وعدّت سلامة السلطان فى هذه الواقعة من العجائب، فإنّه خرج إليهم فى جماعة يسيرة من الخدّام، وهم غوغاء لا رأس لهم ولا عقل ومعهم السّلاح. انتهى.

ثمّ أمر السلطان للنائب بعرضهم (أعنى المماليك) فعرضهم فى يوم السبت آخر صفر وأخرج منهم مائة وثمانين إلى البلاد الشاميّة فرّقهم على الأمراء، وأخرج بعد ذلك جماعة منهم من الطّباق إلى خرائب «1» التتار بقلعة الجبل، وضرب بعضهم «2» بالمقارع هو وغلامه لكونه شرب الخمر ضربا مبرّحا مات منه المملوك بعد يومين.

قلت: لا شلّت يداه، هذا وأبيك العمل! ثم أنقص السلطان جوامك من بقى من مماليك الطّباق، ثم أخرج جماعة من خدّام الطّباق الطواشيّة (أعنى مقدّمى الطّباق) وقطع جوامكهم وأنزلهم من القلعة لكونهم فرّطوا فى تربية المماليك.

ص: 73

ثم غيّر السلطان موضع دار العدل «1» التى أنشأها الملك الظاهر «2» بيبرس وهدمها وجعلها موضع الطبلخاناه الآن، وذلك فى شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة، ولمّا هدم الموضع المذكور وجد فى أساسه أربعة قبور، فنبشت فوجد بها رمم أناس طوال عراض وأحدها مغطّاة بملاءة ديبقىّ ملوّنة، إذا مسّ منها شىء تطاير لطول مكثه، وعليهم عدّة القتال وبهم جراحات، وفى وجه أحدهم ضربة سيف بين عينيه عليها قطن، فعندما رفع القطن نبع الدّم من تحته وشوهد الجرح كأنّه جديد، فنقلوا إلى بين العروستين وجعل عليهم مسجد.

وفى شعبان زوّج الملك الناصر ابنته للأمير أبى بكر بن أرغون النائب الناصرىّ، وتولّى العقد قاضى القضاة شمس الدين محمد بن الحريرىّ «3» الحنفىّ على أربعة آلاف دينار. ثم قدم الملك المؤيّد صاحب حماة على السلطان بالديار المصريّة وتوجّه فى خدمة الملك الناصر إلى قوص بالوجه القبلىّ للصيد، وعاد السلطان من قوص إلى جهة القاهرة فى أوّل محرّم سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة الموافق لرابع عشر طوبة، ونزل بالجيزة، وخلع على الملك المؤيّد خلعة السفر. ثم استدعى السلطان الحريم السلطانىّ إلى برّ الجيزة، فطرد سائر الناس من الطّرقات، وغلّقت الحوانيت، ونزلت خوند طغاى زوجة السلطان وأمّ ولده آنوك، والأمير أيدعمش الأمير آخور كبير

ص: 74

ماش يقود عنان فرسها بيده وحولها سائر الخدّام مشاة منذ ركبت من القلعة إلى أن وصلت إلى النيل فعدّت فى الحرّاقة «1» . ثم استدعى السلطان الأمير بكتمر الساقى وغيره من الأمراء الخاصّكيّة وحريمهم وأقام السلطان بالجيزة أيّاما إلى أن عاد إلى القلعة فى خامس عشره، وقد توعك كريم الدين الكبير. ثم قدم الحاجّ فى سادس عشرين المحرّم. ثم عوفى كريم الدين فخلع السلطان عليه خلعة أطلس بطرز زركش وكلفتاة زركش وحياصة ذهب فاستعظم الناس ذلك، وبالغ السلطان فى الإنعام على الحكماء. ثم بعد أيام قبض السلطان على كريم الدين المذكور فى يوم الخميس رابع عشر شهر ربيع الآخر. وهو كريم الدين عبد الكريم ابن المعلّم هبة الله بن السّديد ناظر الخواصّ ووكيل السلطان وعظيم دولته، وأحيط بداره وصودر فوجد له شىء كثير جدّا، ولا زال فى المصادرة إلى أن أفرج عنه فى يوم الأربعاء رابع عشرين جمادى الآخرة، وألزمه السلطان بإقامته بتربته «2» بالقرافة. ثم إنّ السلطان أخرجه إلى الشّوبك ثم نقله إلى القدس ثم طلب إلى مصر وجهّز إلى أسوان، وبعد قليل أصبح مشنوقا بعمامته (يعنى أنه شنق نفسه)، وليس الأمر كذلك؛ وقيل إنه لما أحسّ بقتله صلّى ركعتين وقال «3» : هاتوا عشنا سعداء ومتنا شهداء، وكان الناس يقولون: ما عمل أحد مع أحد ما عمله الملك الناصر مع كريم الدين أعطاه الدنيا والآخرة، ومعنى هذا أنّه كان حكّمه فى الدولة، ثم قتله، والمقتول ظلما فى الجنة. وأصل كريم الدين هذا كان من كتبة النصارى ثم أسلم كهلا فى أيّام بيبرس الجاشنكير، وكان كاتبه، وكان

ص: 75

الجاشنكير لا يصرف على الملك الناصر إلّا بقلم كريم الدين، وكان الناصر إذ ذاك تحت حجر الجاشنكير؛ ولمّا قتل بيبرس الجاشنكير اختفى كريم الدين هذا مدّة ثم طلع مع الأمير طغاى [الكبير «1» ] فأوقفه طغاى ثم دخل إلى السلطان وهو يضحك، وقال له: إن حضر كريم الدين إيش تعطينى؟ ففرح السلطان وقال: أعندك هو؟

أحضره، فخرج وأحضره وقال له: مهما قال لك قل له: السمع والطاعة، ودعنى أدبّر أمرك، فلمّا مثل بين يدى السلطان قال له بعد أن استشاط غضبا: اخرج واحمل ألف ألف دينار، فقال: نعم، وأراد الخروج، فقال له السلطان: لا، كثير، احمل خمسمائة ألف دينار فقال له: كما قال أوّلا، ولا زال السلطان ينقصه من نفسه إلى أن ألزمه بمائة ألف دينار، فلمّا خرج على أن يحمل ذلك، قال له طغاى المذكور: لا تصقع «2» ذقنك وتحضر الجميع الآن، ولكن هات منها عشرة آلاف دينار ففعل ذلك، ودخل بها إلى السلطان وصار يأتيه بالنقدة «3» من ثلاثة آلاف دينار إلى ما دونها، ولما بقى عليه بعضها أخذ طغاى والقاضى فخر الدين ناظر الجيش فى إصلاح أمره، ولا زالا بالسلطان حتّى أنعم عليه بما بقى، واستخدمه ناظر الخاص، وهو أوّل من باشر هذه الوظيفة بتجمّل ولم تكن تعرف أولا، ثم تقدّم عند السلطان حتى صار أعزّ الناس عليه، وحجّ مع خوند طغاى زوجة السلطان بتجمّل زائد، ذكرناه فى ترجمته فى المنهل الصافى، وكان يخدم كلّ أحد من الأمراء «4» الكبار المشايخ والخاصّكيّة وأرباب الوظائف والجمدارية الصّغار وكلّ أحد حتى الأوجاقيّة، وكان يركب فى خدمته سبعون مملوكا بكنابيش «5» عمل الدار وطرز ذهب والأمراء تركب

ص: 76

فى خدمته. ومن جملة ما ناله من السعادة والوجاهة عند الملك الناصر أنّه مرّة طلبه السلطان إلى الدور، فدخل عليه وبقيت خازندارة خوند طغاى تروح إليه وتجىء مرّات فيما تطلبه خوند طغاى من كريم الدين هذا وطال الأمر، فقال السلطان [له «1» ] :

يا قاضى إيش حاجة لهذا التطويل، بنتك ما تختبئ منك! ادخل إليها أبصر ما تريده افعله لها، فقام كريم الدين دخل إليها، وقال لها السلطان: أبوك هنا أبصرى له ما يأكل؛ فأخرجت له طعاما وقام السلطان إلى كرمة فى الدار وقطع منها عنبا وأحضره بيده وهو ينفخه من الغبار، وقال: يا قاضى كل من عنب دارنا. وهذا شىء لم يقع لأحد غيره مثله مع الملك الناصر وأشياء كثيرة من ذلك. وكان حسن الإسلام كريم النّفس؛ قيل إنه كان فى كلّ قليل يحاسب صيرفيه فيجد فى الوصولات وصولات زور. ثم بعد حين وقع بالمزوّر فقال له: ما حملك على هذا؟ فقال:

الحاجة، فأطلقه، وقال [له «2» ] : كلما احتجت إلى شىء اكتب به خطّك على عادتك على هذا الصّيرفى ولكن ارفق، فإنّ علينا كلفا كثيرة. وكان إذا قال: نعم، كانت نعم، وإذا قال: لا، فهى لا. ولما قبض السلطان عليه خلع على الأمير آقوش نائب الكرك باستقراره فى نظر البيمارستان «3» المنصورىّ عوضا عن كريم الدين المذكور. فوجد آقوش حاصله أربعمائة ألف درهم.

ثم أمر السلطان فنودى فى يوم الأربعاء سادس المحرّم سنة أربع وعشرين وسبعمائة على الفلوس أن يتعامل الناس بها بالرّطل، على أنّ كل رطل منها بدرهمين، ورسم بضرب فلوس زنة الفلس منها درهم [وثمن «4» ] ، فضرب منها نحو مائتى ألف درهم فرقت على الناس. ثم رسم السلطان بأن يكتب له كل يوم أوراق بالحاصل

ص: 77

من تعلّقات السلطنة والمصروف منها فى كل يوم، فصارت تعرض عليه كل يوم ويباشر ذلك بنفسه فتوفّر مال كثير وشقّ ذلك على الدواوين.

ثم سافر السلطان إلى الوجه القبلى للصيد وعاد فى ثالث عشر المحرّم سنة خمس وعشرين وسبعمائة. وفى هذه السنة قدم على الملك الناصر رسل صاحب اليمن، ورسل صاحب اسطنبول، ورسل الأشكرى، ورسل متملّك سيس، ورسل إلقان بو سعيد، ورسل صاحب ماردين، ورسل ابن قرمان، ورسل متملّك النوبة، وكلهم يبذلون الطاعة. وسأل رسل صاحب اليمن الملك المجاهد «1» إنجاده بعسكر من مصر وأكثر من ترغيب السلطان فى المال الذي باليمن، فرسم السلطان بتجهيز العسكر إلى اليمن صحبة الأمير بيبرس الحاجب ومعه من أمراء الطبلخاناه خمسة، وهم: آقول الجاجب، وقجماس «2» الجوكندار، وبلبان الصّرخدىّ، وبكتمر العلائى الأستادار، وألجاى الناصرىّ الساقىّ، ومن العشرات: عزّ الدين أيدمر الكوندكىّ «3» وشمس الدين إبراهيم التّركمانىّ، وأربعه من مقدّمى الحلقة، وهؤلاء العسكر لهم مقدّمة أخرى كالجاليش عليها الأمير سيف الدين طينال الحاجب، ومعه خمسة من أمراء الطبلخاناه وهم: الأمير ططقرا الناصرى وعلاء الدين علىّ بن طغريل الإيغانىّ وجرباش أمير علم، وأيبك الكوندكى «4» وكوكاى طاز، وأربعة من مقدّمى الحلقة، ومن العشرات بلبان الدّوادارى وطرنطاى الإسماعيلىّ والى باب القلعة، ومن مماليك السلطان ثلثمائة فارس، ومن أجناد الحلقة تتمّة

ص: 78

الألف فارس؛ وفرّقت فيهم أوراق السّفر، وكتب بحضور العربان من الشرقيّة والغربية لأجل الجمال.

ثم خرج السلطان إلى سرياقوس «1» على العادة فى كل سنة وقبض على الأمير بكتمر الحاجب بها، وعلى أمير آخر فى يوم الخميس ثامن شهر ربيع الأوّل. ثم قدم على السلطان الأمير تنكز الناصرىّ نائب الشام وأقام إلى عاشره وعاد إلى الشام، ثم أنفق السلطان على الأمراء المتوجّهين إلى اليمن فقط، فحمل إلى بيبرس ألف دينار وإلى طينال ثمانمائة دينار، ولكل أمير طبلخاناه عشرة آلاف درهم «2» ، ولكل من العشرات مبلغ ألفى درهم، ولمقدّمى الحلقة ألف درهم، وحضر العربان. وباعوا الأجناد موجودهم واكتروا الجمال، فانحطّ سعر الدينار من خمسة وعشرين درهما إلى عشرين درهما من كثرة ما باعوا من الحلل «3» والمصاغ. ثم برزوا من القاهرة إلى بركة الحاج «4» فى يوم الثلاثاء عاشر شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين، وسافروا من البركة فى يوم الخميس ثانى عشره. ثم خرج السلطان إلى سرياقوس ومعه عدّة من المهندسين، وعيّن موضعا على نحو فرسخ من ناحية سرياقوس ليبنى فيه خانقاه «5» ، فيها مائة خلوة لمائة صوفىّ وبجانبها جامع تقام فيه الخطبة، ومكان برسم ضيافة الواردين وحمّام ومطبخ، وندب آق سنقر شادّ العمائر لجمع الصّنّاع، ورتّب أيضا قصور سرياقوس برسم الأمراء والخاصّكيّة، وعاد فوقع الاهتمام

ص: 79

فى العمل حتى كملت فى أربعين يوما. ثم اقتضى رأى السلطان حفر خليج «1» خارج القاهرة ينتهى إلى سرياقوس، ويرتّب عليه السواقى والزراعات وتسير فيه المراكب فى أيّام النيل بالغلال وغيرها إلى القصور «2» بسرياقوس.

قلت: وقد أدركت أنا بواقى هذه القصور التى كانت بسرياقوس، وخرّبت فى دولة الملك الأشرف برسباى فى حدود سنة ثلاثين وثمانمائة، وأخذ الأمير سودون

ص: 80

ابن عبد الرحمن أنقاضها وبنى بها جامعه «1» الذي بخانقاه سرياقوس، فكان ذلك سببا لمحو آثارها، وكانت من محاسن الدنيا. انتهى.

ثمّ إن الملك الناصر فوّض عمل الخليج إلى الأمير أرغون النائب، فنزل أرغون بالمهندسين إلى النيل إلى أن وقع الاختيار على موضع بموردة «2» البلاط من أراضى بستان «3» الخشّاب، ويقع الحفر فى الميدان الظاهرىّ الذي جعله الملك الناصر هذا بستانا من سنيّات وغرم عليه أموالا جمّة، ثم يمرّ الخليج المذكور على بركة «4» قرموط

ص: 81

إلى باب البحر «1» ثم إلى أرض الطبّالة «2» ويرمى فى الخليج الكبير، وكتب إلى ولاة الأعمال بإحضار الرجال للحفر، وعيّن لكلّ واحد من الأمراء أقصابا يحفرها، وابتدئ بالحفر من أوّل جمادى الأولى من سنة خمس وعشرين إلى أن تمّ فى سلخ جمادى الآخرة من السنة، وأخرب فيه أملاك كثيرة، وأخذت قطعة من بستان «3» الأمير أرغون النائب، وأعطى السلطان ثمن ما خرّب من الأملاك لأربابها، والتزم فخر الدين ناظر الجيش بعمارة قنطرة برأس الخليج عند فمه.

قلت: وهى القنطرة المعروفة بقنطرة «4» الفخر. والتزم قديدار «5» والى القاهرة بعمارة «6» قنطرة تجاه البستان الذي كان ميدانا للظاهر بيبرس البندقدارىّ، وأنّ قديدار

ص: 82

أيضا يتمّ قناطر «1» الإوزّ وقناطر «2» الأميريّة فعمل ذلك كلّه. فلمّا كان أيّام النيل جرت السفن فيه وعمّرت عليه السواقى وأنشئت بجانبه البساتين والأملاك. ثم توجه السلطان فى يوم الاثنين سادس جمادى الآخرة إلى حانقاته التى أنشأها بسرياقوس، وخرجت القضاة والمشايخ والصوفيّة إليها وعمل لهم سماط عظيم فى يوم الخميس تاسعه

ص: 83

بالخانقاه المذكورة. واستقرّ الشيخ مجد الدين أبو حامد موسى بن أحمد «1» بن محمود الأقصرائى «2» الّذى كان شيخ خانقاه «3» كريم الدين الكبير بالقرافة فى مشيخة هذه الخانقاه.

ورتّب عنده مائة صوفىّ، ورسم للشيخ مجد الدين المذكور بخلعة وأن يلقّب بشيخ الشيوخ.

وأمّا العسكر الذي توجّه إلى اليمن فإنّ السلطان كتب إلى أمراء الحجاز بالقيام فى خدمة العسكر، وتقدّم كافور الشّبلى «4» خادم الملك المجاهد الذي كان قدم فى الرّسلية إلى زبيد «5» ليعلم أستاذه الملك المجاهد بقدوم العسكر، وكتب لأهل حلى «6» بنى يعقوب الأمان وأن يجلبوا البضائع للعسكر، ورحل العسكر فى خامس جمادى الآخرة من مكّة، فوصل إلى حلى بنى يعقوب فى اثنى عشر يوما بعد عشرين مرحلة، فتلقّاهم أهلها ودهشوا لرؤية العساكر وقد طلّبت ولبست السّلاح، وهمّوا بالفرار. فنودى

ص: 84

فيهم بالأمان وألّا يتعرّض أحد من العسكر لشىء إلّا بثمنه، فأطمأنّوا وحملوا إلى كلّ من بيبرس وطينال من مقدّمى العسكر مائة رأس من الغنم وخمسمائة اردبّ ذرة، فردّاها ولم يقبلا لأحد شيئا، ورحلوا بعد ثلاثة أيام فى العشرين منه. فقدمت الأخبار على العسكر باجتماع رأى أهل زبيد على الدخول فى طاعة الملك المجاهد خوفا من العسكر، وأنّهم ثاروا بالمتملّك عليهم ونهبوا أمواله ففرّ عنهم، فكتبوا للمجاهد بذلك فقوى ونزل من قلعة تعز «1» يريد زبيد، فكتب الأمراء إليه أن يكون على أهبة اللّقاء فنزل العسكر زبيد، ووافاهم المجاهد بجنده فسخر منهم العسكر المصرىّ، من كونهم غزاة «2» وسلاحهم الجريد والخشب، وسيوفهم مشدودة على أذرعهم؟ ويقاد للأمير فرس واحد مجلّل، وعلى رأس المجاهد عصابة ملوّنة فوق العمامة، فعندما عاين المجاهد العساكر وهى لابسة آلة الحرب رعب، وهمّ أن يترجّل فمنعه الأمير بيبرس واقول من ذلك. ومشى العسكر صفّين والأمراء فى الوسط حتّى قربوا منه فألقى المجاهد نفسه هو ومن معه إلى الأرض. فترجّل له الامراء أيضا وأركبوه وأكرموه وأركبوه فى الوسط، وسارو إلى المخيّم وألبسوه تشريفا سلطانيّا بكلفتاة زركش وحياصة ذهب، وركب والأمراء فى خدمته والعساكر إلى داخل زبيد، ففرح أهلها فرحا شديدا، ومد المجاهد لهم سماطا جليلا فامتنع الأمراء والعساكر من أكله خوفا من أن يكون فيه ما يخاف عاقبته، واعتذروا إليه بأنّ هذا لا يكفى العساكر، ولكن فى غد يعمل السّماط، فأحضر لهم المجاهد ما يحتاجون إليه، وأصبح حضر المجاهد وأمراؤه وقد مدّ السّماط بين يديهم، وأحضر كرسىّ جلس عليه المجاهد، فوقف السّقاة والنّقباء والحجّاب والجاشنكيريّة على العادة، ووقف الأمير بيبرس رأس الميمنة والأمير طينال رأس الميسرة.

ص: 85

فلمّا فرغ السّماط صاحت الجاوشية على أمراء المجاهد وأهل دولته وأحضروهم وقرئ عليهم كتاب السلطان فباسوا بأجمعهم الأرض وقالوا: سمعا وطاعة، وكتب الأمير بيبرس لممالك اليمن بالحضور فحضروا. ثم كتب لهم المجاهد بغنم وذرة واعتذر للأمراء والعساكر المصرية بعدم عمل الإقامة لهم بخراب البلاد؛ فتوجّه قصّاد العسكر لأخذ الغنم والذرة وأقامت العساكر بزبيد، فعادت قصّادهم بغير غنم ولا ذرة، فرحلوا من زبيد فى نصف رجب يريدون تعزّ، فتلقّاهم المجاهد ونزلوا خارج البلد وشكوا ما هم فيه من قلّة الإقامات فوعدهم بالإنجاز. ثم إنّ الأمراء كتبوا للملك الظاهر «1» المقيم بدملوه «2» ، وبعثوا له الشريف عطيفة أمير مكّة وعزّ الدين الكوندكى «3» وكتب إليه المجاهد أيضا يحثّه على الطاعة، وأقام العسكر فى جهد فأغاروا على الضّياع وأخذوا ما قدروا عليه، فارتفع الذّرة من ثلاثين درهما الإردب إلى تسعين، وفقد الأكل من الفاكهة فقط لقلّة الجالب؛ واتّهم أن ذلك بمواطأة المجاهد خوفا من العسكر أن تملك منه البلاد، ثم إنّ أهل جبل «4» صبر قطعوا الماء عن العسكر وتخطّفوا الجمال والغلمان وزاد أمرهم إلى أن ركب العسكر فى أثرهم، فامتنعوا بالجبل ورموا بالمقاليع على العسكر فرموهم بالنّشّاب، وأتاهم المجاهد فخذلهم عن الصعود

ص: 86

إلى الجبل، فلم يلتفتوا إلى كلامه ونازلوا الجبل يومهم وقتل من العسكر أربعة [وثمانية «1» ] من الغلمان، وبات العسكر تحت الجبل. فبلغ بيبرس أنّ المجاهد قرّر مع أصحابه أنّ العسكر إذا صعدوا الجبل يضرمون النار فى الوطاق وينهبون ما فيه، فبادر بيبرس، وقبض [على «2» ] بهاء الدين «3» بهادر الصّقرى وأخذ موجوده ووسّطه قطعتين وعلّقه على الطريق؛ ففرح أهل تعزّ بقتله وكان قد تغلّب على زبيد، حتى طرده أهلها عند قدوم العسكر، وعاد الشريف عطيفة والكوندكى من دملوه بأنّ الظاهر فى طاعة السلطان ثم طلب العسكر من المجاهد ما وعد به السلطان الملك الناصر فأجاب بأنه لا قدرة له إلّا بما فى دملوه، فأشهد عليه بيبرس «4» قضاة تعزّ بذلك، وارتحل العسكر إلى حلى بنى يعقوب، فقدمها فى تاسع شعبان ورحلوا منها أوّل شهر رمضان إلى مكة فدخلوها فى حادى عشره فى مشقّة زائدة، وساروا من مكّة يوم عيد الفطر إلى جهة مصر، فقدموا بركة الحجّاج أوّل يوم من ذى القعدة، وطلع الأمراء إلى القلعة فخلع السلطان عليهم فى يوم السبت ثالثه، وقدّم الأمير بيبرس هديّة فأغرى الأمير طينال السلطان على الأمير بيبرس بأنّه أخذ مالا من المجاهد وغيره وقصّر فى أخذ مملكة اليمن. فلما كان يوم الاثنين تاسع عشره رسم السلطان بخروج بيبرس إلى نيابة غزّة فامتنع لأنّه كان بلغه ما قيل عنه، وأنّ السلطان قد تغيّر عليه، فقبض عليه السلطان وسجنه بالبرج من القلعة وقبض على حواشيه وصادرهم وعوقبوا على المال فلم يظهر شىء، وسكت السلطان عن أحوال اليمن.

ص: 87

ثم فى سنة ستّ وعشرين وسبعمائة استأذن الأمير أرغون النائب السلطان فى الحجّ فأذن له فحج هو وولده ناصر الدين محمد، وعادا من الحجاز إلى سرياقوس فى يوم الأحد حادى عشر المحرّم سنة سبع وعشرين وسبعمائة، فقبض السلطان عليهما وعلى الأمير طيبغا المجدى «1» ، فأخذهم الأمير بكتمر الساقى عنده وسعى فى أمرهم حتّى أخرج فى يوم الاثنين ثانى عشره (يعنى من الغد) الأمير أرغون إلى نيابة حلب عوضا عن الأمير ألطنبغا، وأخرج معه الأمير أيتمش [المحمّدى «2» ] مسفّره، وتوجّه الأمير ألحاى الدوّادار إلى حلب لإحضار الأمير ألطنبغا نائبها، وقرّر السلطان مع كلّ من أيتمش وألجاى أن يكونا بمن معهما فى دمشق يوم الجمعة ثالث عشرينه، ولم يعلم أحد بما توجّه فيه الآخر حتى توافيا بدمشق فى يوم الجمعة المذكور. وقد خرج الأمير تنكز نائب الشام إلى ميدان الحصى لتلقّى الأمير أرغون، فترجّل كلّ منهما لصاحبه وسارا إلى جامع بنى أميّة، فلمّا توسّطاه إذا بألجاى ومعه الأمير ألطنبغا نائب حلب فسلّم أرغون عليه بالإيماء، فلما انقضت صلاة الجمعة عمل لهما الأمير تنكز سماطا جليلا فحضرا السّماط. ثم سار أرغون إلى حلب فوصلها فى سلخ الشهر، وسار ألطنبغا حتى دخل مصر فى مستهلّ صفر، فأكرمه السلطان وخلع عليه وأسكنه بقلعة الجبل، وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف من جملة إقطاع أرغون النائب، وكمل السلطان من إقطاع أرغون أيضا لطايربغا على إقطاعه إمرة مائة وتقدمة ألف، فزادت التقادم تقدمة، فصارت أمراء الألوف خمسة وعشرين مقدم ألف بالديار المصرية.

ص: 88

وفى مستهل جمادى الأولى قبض السلطان على الأمير بهاء الدين أصلم [القبجاقىّ «1» ] وعلى أخيه قرمجى وجماعة من القبجاقية، وسبب ذلك أنّ أصلم عرض سلاح خاناته وجلس بإسطبله وألبس خيله ورتّبها للركوب، فوشى به بعض أعدائه وكتب بواقعة أمره ورقة وألقاها إلى السلطان؛ فلمّا وقف عليها السلطان تغيّر تغيّرا زائدا وكانت عادته ألا يكذّب خبرا، وبعث من فوره فسأل أصلم مع ألماس الحاجب عمّا كان يفعله أمس فى إسطبله، فذكر أنه اشترى عدّة أسلحة فعرضها على خيله لينظر ما يناسب كلّ فرس منها فصدّق السلطان ما نقل عنه، وقبض السلطان عليه وعلى أخيه وعلى أهل جنسه وعلى الأمير قيران صهر قرمجى وعلى الأمير إتكان «2» أخى آقول الحاجب، وسفّروا إلى الإسكندرية مع الأمير صلاح»

الدين طرخان بن بيسرى، وبرلغى «4» قريب السلطان وأفرد أصلم ببرج فى القلعة.

ثم قدم الأمير حسين بن جندر من الشام الذي كان نفاه السلطان لمّا عمّر جامعه وفتح بابا من سور القاهرة، فلما مثل بين يدى السلطان خلع عليه خلعة أطلس بطرز زركش وكلفتاة زركش وحياصه مكوبجة «5» ، وأنعم عليه بإقطاع أصلم «6» فى يوم الاثنين ثالث جمادى الآخرة.

وفيها عقد على الأمير قوصون الناصرىّ عقد ابنة السلطان الملك الناصر بقلعة الجبل، وتولّى عقد النكاح قاضى القضاة شمس الدين محمد بن الحريرىّ الحنفىّ. ثم بعد مدّة فى سنة ثمان وعشرين عقد نكاح ابنة السلطان الأخرى على الأمير طغاى تمر

ص: 89

العمرى الناصرىّ، وأعفى السلطان فى هذه المرّة الأمراء من حمل الشموع وغيرها إلى طغاى تمر كما كان فعلوه مع قوصون، وأنعم السلطان على طغاى تمر من خزانته عوضا عن ذلك بأربعة آلاف دينار.

ثم أفرج السلطان عن الأمير علم الدين سنجر الجاولى بعد أن اعتقل ثمانى سنين وثلاثة أشهر وأحد «1» عشر يوما، فكان فيها ينسخ القرآن وكتب الحديث.

وفى سنة ثمان وعشرين أيضا عزم السلطان على أن يجرى النيل تحت قلعة الجبل ويشقّ له من ناحية حلوان «2» ، فبعث الصّنّاع صحبة شادّ العمائر إلى حلوان، وقاسوا منها إلى الجبل الأحمر المطلّ على القاهرة، وقدّروا العمل فى بناء الواطى حتى يرتفع وحفر العالى ليجرى الماء إلى تحت قلعة الجبل من غير نقل ولا كلفة.

ثم عادوا وعرّفوا السلطان ذلك فركب وقاسوا الأرض بين يديه، فكان قياس ما يحفر اثنتين وأربعين ألف قصبة «3» حاكمية لتبقى خليجا يجرى فيه ماء النيل شتاء وصيفا

ص: 90

بسفح الجبل، فعاد السّلطان وقد أعجبه ذلك وشاور الأمراء فيه فلم يعارضه فيه أحد إلّا الفخر ناظر الجيش، فإنه قال: بمن يحفر السلطان هذا الخليج؟ قال: بالعسكر، قال: والله لو اجتمع عسكر آخر فوق العسكر السلطانى وأقام سنين ما قدروا على حفر هذا العمل، فإنه يحتاج إلى ثلاث خزائن من المال، ثم هل يصح أولا! فالسلطان لا يسمع كلام كل أحد ويتعب الناس ويستجلب دعاءهم ونحو ذلك من القول، فرجع السلطان عن عمله.

ص: 91

وفيها أفرج السلطان عن الشيخ تقىّ الدين أحمد بن تيميّة بشفاعة الأمير جنكلى بن البابا. وفى يوم الاثنين سابع [عشر «1» ] جمادى الأولى سنة تسع وعشرين وسبعمائة رسم السلطان بردم الجبّ «2» الذي كان بقلعة الجبل لما بلغ السلطان أنه شنيع المنظر شديد الظلمة كره الرائحة وأنه يمرّ بالمحابيس فيه شدائد عظيمة، فردم وعمّر فوقه طباق «3» للمماليك السلطانية. وكان هذا الجبّ عمل فى سنة إحدى وثمانين وستمائة فى أيام الملك المنصور قلاوون. ثم فى السنة المذكورة رسم السلطان للحاجب أن ينادى بألّا يباع مملوك تركى لكاتب ولا عامى، ومن كان عنده مملوك فليبعه، ومن عثر عليه بعد ذلك [أنّ عنده «4» مملوكا] فلا يلوم إلّا نفسه.

وفيها عرض السلطان مماليك الطّباق وقطع منهم مائة وخمسين، وأخرجهم من يومهم ففرّقوا بقلاع الشام.

ص: 92

وفيها قتل الأمير تنكز نائب الشام الكلاب ببلاد الشام فتجاوز عدّتها خمسة آلاف كلب. ثمّ خرج السلطان إلى سرياقوس فى سابع عشرين من ذى الحجّة على العادة فى كلّ سنة، وقدم عليه الأمير تنكز نائب الشام فى أوّل المحرّم سنة ثلاثين وسبعمائة وبالغ السلطان فى إكرامه ورفع منزلته، وقد تكرّر قدوم تنكز هذا إلى القاهرة قبل تاريخه غير مرة، ثم عاد إلى نيابته بدمشق فى رابع عشر المحرّم. ثم فى عشرين المحرّم المذكور وصل إلى القاهرة الملك المؤيّد إسماعيل صاحب حماة، فبالغ السلطان أيضا فى إكرمه ورفع منزلته وخلع عليه. ثم سافر السلطان فى تاسع صفر إلى بلاد الصعيد للصيد على عادته، ومعه المؤيّد صاحب حماة، ثم عاد بعد أيام قليلة لتوعك بدنه من رمد «1» طلع فيه، وأقام بالأهرام بالجيزة أياما، ثم عاد وسافر إلى الصعيد حتى وصل الى هو «2» ، ثم عاد إلى مصر فى خامس شهر ربيع الآخر، وسافر فى ثامنه المؤيد صاحب حماة إلى محلّ ولايته بعد أن غاب مع السلطان هذه الأيام الكثيرة.

ثم نزل السلطان من القلعة فى خامس عشرين شهر ربيع الاخر المذكور، وتوجّه إلى نواحى قليوب «3» يريد الصيد، فبينما هو فى الصّيد تقنطر عن فرسه فانكسرت يده وغشى عليه ساعة وهو ملقى على الأرض، ثم أفاق وقد نزل إليه الأميران: أيدغمش أمير آخور وقمارى أمير شكار وأركباه، فأقبل الأمراء بأجمعهم إلى خدمته وعاد إلى قلعة الجبل فى عشيّة الأحد ثامن عشرينه، فجمع الأطبّاء والمجبّرين «4» لمداواته فتقدم رجل من المجبّرين يعرف بابن بوسقة «5» وتكلّم بجفاء وعامّية طباع، وقال: له تريد تفيق

ص: 93

سريعا؟ اسمع منى، فقال له السلطان: قل ما عندك، فقال: لا تخلّ يداويك غيرى بمفردى وإلّا فسدت حال يدك مثلما سلّمت رجلك «1» لابن السّيسى فأفسدها، وأنا ما أخلّى شهرا يمضى حتى تركب وتلعب بيدك الأكرة، فسكت السلطان عن جوابه وسلّم إليه يده فتولّى علاجه بمفرده، وبطلت الخدمة مدّة سبعة وثلاثين يوما وعوفى، فزيّنت له القاهرة فى يوم الأحد رابع جمادى الآخرة من السنة المذكورة، وتفاخر الناس فى الزينة بحيث إنه لم يعهد زينة مثلها، وأقامت سبعة أيام، هذا والأفراح عمّالة بالقلعة وسائر بيوت الأمراء مدّة الأسبوع، فإنّ كلّ أمير متزوّج إمّا بإحدى جوارى السلطان أو ببناته وأكثرهم أيضا مماليكه، وكذلك البشائر والكوسات تضرب، وأنعم السلطان على الأمراء وخلع عليهم، ثم خرج السلطان إلى القصر وفرّق عدّة مثالات على الأيتام وعمل سماطا جليلا وخلع على جميع أرباب الوظائف، وأنعم على المجبّر بعشرة آلاف درهم، ورسم له أن يدور على جميع الأمراء فلم يتأخّر أحد من الأمراء عن إفاضة الخلع عليه، وإعطائه المال فحصل له ما يجلّ وصفه.

وتوجّه الأمير آقبغا عبد الواحد «2» إلى البلاد الشامية مبشّرا بعافية السلطان.

وفيها اشترى الأمير قوصون الناصرىّ دار الأمير «3» آقوش الموصلىّ الحاجب المعروف بآقوش نميلة، ثم عرفت ثانيا بدار الأمير آقوش قتّال السبع- من

ص: 94

أربابها، واشترى أيضا ما حولها وهدم ذلك كلّه، وشرع فى بناء جامع «1» ، فبعث السلطان إليه بشادّ «2» العمائر والأسرى لنقل الحجارة ونحوها، فنجزت عمارته فى مدّة يسيرة، وجاء الجامع المذكور من أحسن المبانى، وهو خارج بابى زويلة على الشارع «3»

ص: 95

الأعظم بالقرب من بركة الفيل «1» ، وتولّى عمارة منارته «2» رجل من أهل تبريز «3» أحضره الأمير أيتمش المحمّدى معه فعملها على منوال موادن تبريز، ولمّا كمل بناء الجامع أقيمت الجمعة فيه فى يوم الجمعة حادى عشر شهر رمضان سنة ثلاثين وسبعمائة، وخطب به يومئذ قاضى القضاة جلال الدين محمد القزوينىّ وخلع عليه الأمير قوصون بعد فراغه وأركبه بغلة هائلة.

وفى هذه السنة أيضا ابتدأ علاء الدين مغلطاى [الجمالىّ «4» ] أحد المماليك السلطانيّة فى عمارة جامع «5» بين السّورين من القاهرة، وسمّى جامع التّوبة لكثرة ما كان هناك

ص: 96

من الفساد وأقام به الخطبة، ثمّ عاد السلطان الملك الناصر على ما كان عليه من أوّل سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة من التوجّه إلى الصّيد على عادته، وقدم عليه موت الأمير أرغون الدّوادار نائب حلب كان وهو بالصيد، فخلع على الأمير ألطنبغا الصالحىّ بنيابة حلب عوضه.

ثمّ فى يوم السبت [سابع عشر ذى لحجّة «1» ] ركب السلطان من القلعة إلى الميدان «2» الذي استجدّه، وقد كملت عمارته، وكان السلطان قد رسم فى أوّل هذه السنة بهدم مناظر «3» الميدان الظاهرىّ الذي كان بباب اللّوق وتجديد عمارة هذا الميدان

ص: 97

الذي استجدّه، وفوض ذلك للأمير ناصر الدين [محمد «1» ] بن المحسنى، فهدم تلك المناظر وباع أخشابها بمائة ألف درهم وألفى درهم، واهتم فى عمارة جديدة فكمل فى مدّة شهرين، وجاء من أحسن ما يكون، فخلع السلطان عليه وفرّق على الأمراء الخيول المسرجة الملجمه.

وفى أوّل محرّم سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة قدم مبشّر الحاجّ، وأخبر بسلامه الحاجّ وأن الأمير مغلطاى الجمالى الأستادار على خطه «2» فعيّن السلطان عوضه فى الأستادارية الأمير اقبغا عبد الواحد. ومات مغلطاى فى العقبة وصبّر وحمل إلى أن دفن بمدرسته «3» قريبا من درب ملوخبا «4» بالقاهرة بالقرب من رحبة «5» باب العيد.

ولبس آقبغا عبد الواحد الأستادارية فى يوم الثلاثاء سادس عشرين المحرّم. ثم بعد أيام خلع عليه السلطان بتقدمة المماليك السلطانية مضافا على الأستادارية، من أجل أنّ السلطان وجد بعض المماليك قد نزل من القلعة إلى القاهرة وسكر، فضرب

ص: 98

السلطان كثيرا من الطّواشيّة وطرد كثيرا منهم، وأنكر على الطواشى مقدّم المماليك وصرّفه عن التقدمة بآقبغا هذا، فضبط آقبغا المذكور طباق المماليك بالقلعة وضرب عدّة منهم ضربا مبرّحا أشرف منهم جماعة على الموت، فلم يجسر بعد ذلك أحد أن يتجاوز طبقته إلى غيرها.

وفى يوم الاثنين ثالث عشرين صفر جمع السلطان الأمراء والقضاة والخليفة ليعهد بالسلطنة لابنه آنوك ويركب ولده آنوك بشعار السلطنة، ثم انثنى عزمه عن ذلك فى المجلس، وأمر أن يلبس آنوك شعار الأمراء ولا يطلق عليه اسم السلطنة، فركب وعليه خلعة أطلس أحمر بطرز زركش وشربوش «1» مكلّل مزركش، وخرج من باب القرافة والأمراء فى خدمته حتّى مرّ من سوق «2» الخيل تحت القلعة ونزل عن فرسه وباس الأرض، وطلع من باب الإسطبل «3» إلى باب السّرّ وصعد منه إلى القلعة، ونثرت عليه الدنانير والدراهم، وخلع السلطان على الأمير ألماس الحاجب والأمير بيبرس الأحمدى، وكان السلطان أفرج عن بيبرس المذكور قبل ذلك بمدّة من السجن،

ص: 99

وخلع على الأمير أيدغمش أمير آخور الجميع خلع أطلس، وخلع السلطان على جميع أرباب الوظائف ومدّ لهم سماط عظيم وعملت الأفراح الجليلة، وعظم المهمّ لعقد آنوك المذكور على بنت بكتمر الساقى، فعقد العقد بالقصر على صداق مبلغه من الذهب اثنا عشر ألف دينار، المقبوض منه عشرة آلاف دينار، وأنعم السلطان على ولده آنوك المذكور بإقطاع الأمير مغلطاى المتوفّى بالعقبة.

ثم فى عاشر شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة المذكورة قدم الملك الأفضل ناصر الدين محمد ابن الملك المؤيّد إسماعيل الأيّوبىّ صاحب حماة بعد وفاة أبيه الملك المؤيّد بها، وله من العمر نحو من عشرين سنة، فأكرمه السلطان وأقبل عليه، وكان والده لما توفّى بحماة أخفى أهله موته، وسارت زوجته أمّ الأفضل هذا إلى دمشق وترامت على الأمير تنكز نائب الشام، وقدّمت له جوهرا باهرا وسألته فى إقامة ولدها الأفضل فى سلطنة أبيه المؤيّد بحماة فقبل تنكز هديّتها، وكتب فى الحال إلى الملك الناصر بوفاة الملك المؤيّد، وتضرّع إليه فى إقامة ولده الأفضل مكانه، فلمّا قدم البريد بذلك تأسّف السلطان على الملك المؤيّد وكتب للأمير تنكز بولايته وبتجهيز الأفضل المذكور إلى مصر، فأمره تنكز فى الحال بالتوجّه إلى مصر، فركب وسار حتى دخلها ومثل بين يدى السلطان، وخلع عليه الملك الناصر فى يوم الخميس خامس «1» عشرين شهر ربيع الآخر بسلطنة حماة، وركب الأفضل من المدرسة المنصوريّة ببين القصرين وهو بشعار السلطنة وبين يديه الغاشية، وقد نشرت على رأسه العصائب الثلاث، منها واحد خليفتى أسود واثنان سلطانيّان أصفران، وعليه خلعة أطلسين بطراز ذهب، وعلى رأسه شربوش ذهب،

ص: 100

وفى وسطه حياصة ذهب بثلاث بيكاريّات «1» وسار فى موكب جليل وطلع إلى القلعة وقبّل الأرض بين يدى السلطان بالقصر، ثم جلس وخلع السلطان على الأمراء الذين مشوا بخدمته، وهم: الأمير ألماس الحاجب وبيبرس الأحمدىّ وأيدغمش أمير آخور وطغجى أمير سلاح وتمر رأس نوبة، ألبس كلّا منهم أطلسين بطراز ذهب. ثم خلع على جماعة أخر وكان يوما مشهودا، ولقّبه السلطان بالملك الأفضل، ثم جهّزه إلى بلاده.

ثم حضر بعد ذلك تنكز نائب الشام إلى القاهرة ليحضر عرس ابن السلطان الأمير آنوك، وشرع السلطان فى عمل المهمّ من أوائل شعبان من سنة اثنتين وثلاثين وجمع السلطان من بالقاهرة ومصر من أرباب الملاهى واستمرّ المهمّ سبعة أيام بلياليها. واستدعى حريم الأمراء للمهمّ، فلمّا كانت ليلة السابع منه حضر السلطان على باب القصر، وتقدّم الأمراء على قدر مراتبهم واحدا بعد واحد ومعهم الشموع، فكان إذا قدّم الواحد ما أحضره من الشمع قبّل الأرض وتأخّر حتى انقضت تقادمهم، فكان عدّتها ثلاثة آلاف وثلاثين شمعة، زنتها ثلاثة آلاف وستون قنطارا، فيها ما عنى به ونقش نقشا بديعا تنوّع فى تحسينه؛ وأحسنها شمع الأمير سنجر الجاولى، فإنّه اعتنى بأمره وبعث إلى عملها إلى دمشق فجاءت من أبدع شىء.

وجلس الأمير آنوك تجاه السلطان فأقبل الأمراء جميعا وكلّ أمير يحمل بنفسه شمعة وخلفه مماليكه تحمل الشمع، فيتقدمون على قدر رتبهم ويقبّلون الأرض واحدا بعد واحد طول ليلهم، حتى كان آخر الليل نهض السلطان وعبر حيث مجتمع النساء، فقامت نساء الأمراء بأسرهنّ وقبّلن الأرض واحدة بعد أخرى وهى تقدّم

ص: 101

ما أحضرت من التّحف الفاخرة، حتى انقضت تقادمهنّ جميعا؛ رسم السلطان برقصهنّ فرقصن عن آخرهن واحدة بعد واحدة، والمغانى تضر بن بالدّفوف، والأموال من الذهب والفضة والشّقق الحرير تلقى على المغنيّات، فحصل لهنّ ما يجلّ وصفه. ثم زفّت العروس، وجلس السلطان من بكرة الغد وخلع على جميع الأمراء وأرباب الوظائف بأسرها، ورسم لكلّ امرأة أمير بتعبية قماش على قدر منزلة وجها، وخلع على الأمير تنكز نائب الشام وجهّز صحبته الخلع لأمراء دمشق. فكان هذا العرس من الأعراس المذكورة، ذبح فيه من الغنم والبقر والخيل والإوزّ والدّجاج ما يزيد على عشرين ألفا، وعمل فيه من السكر برسم الحلوى والمشروب ثمانية عشر ألف قنطار، وبلغت قيمة ما حمله الأمير بكتمر الساقى مع ابنته من الشورة «1» ألف ألف دينار؛ قاله جماعة من المؤرّحين.

ثمّ استهمّ السلطان إلى سفر الحجاز الشريف وسافر الأمير ايدمر الخطيرىّ أمير حاج المحمل فى عشرين شوّال من السنة، ونزل السلطان من القلعة فى ثانى عشر شوّال وأقام بسرياقوس، حتّى سار منه إلى الحجاز فى خامس عشرينه، بعد ما قدّم حرمه صحبة الأمير طغيتمر فى عدّة من الأمراء. واستناب السلطان على ديار مصر الأمير سيف الدين ألماس الحاجب ورسم أن يقيم بداره، وجعل الأمير آقبغا عبد الواحد داخل باب القلعة من قلعة اجل لحفظ القلعة، وجعل الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك بالقلعة وأمره ألّا ينزل منها حتّى يحضر، وأخرج كلّ أمير من الأمراء المقيمين إلى إقضاعه، ورسم لهم ألّا يعودوا منها حتى يرجع السلطان من الحجاز.

وتوجّه مع السلطان إلى الحجاز الملك الأفضل صاحب حماة، ومن الأمراء چنكلى ابن البابا والحاج آل ملك وبيبرس الاحمدى وبهادر المعزّى وأيدغمش أمير آخور

ص: 102

وبكتمر الساقى وطقزدمر وسنجر الجاولى وقوصون وطايربغا وطغاى تمر وبشتاك وأرنبغا وطغجى وأحمد بن بكتمر الساقى وجركتمر بن «1» بهادر وطيدمر الساقى وآقبغا آص الجاشنكير وطوغان الساقى وطقتمر الخازن وسوسون السّلاح دار وتلك «2» وبيبغا الشمسى وبيغرا وقمارى وتمر الموسوىّ وأيدمر أمير جاندار وبيدمر البدرى وطقبغا الناصرىّ وأيتمش الساقى، وإياز الساقى، وألطنقش «3» ، وأنس، وأيدمر «4» دقماق، وطيبغا «5» المجدى، وخير بك «6» ، وقطز «7» أمير آخور، وبيدمر، وأينبك «8» ، وأيدمر العمرى، ويحيى بن طايربغا، ومسعود الحاجب، ونوروز وكجلى، «9» وبرلغى، وبكجا، ويوسف الدّوادار، وقطلقتمر السلاح دار، وآناق «10» ، وساطلمش، وبغاتمر، ومحمد بن چنكلى، وعلى بن أيدغمش، وألاجا، وآق سنقر، وقرا، وعلاء الدين علىّ بن هلال الدولة، وتمربغا العقيلى، وقمارى الحسنى «11» ، وعلىّ بن أيدمر الخطيرىّ، وطقتمر اليوسفى، وهؤلاء مقدّمون وطلبخاناه. ومن العشرات على بن السعيدى، وصاروجا النقيب، وآق سنقر الرومى، وإياجى الساقى، وسنقر الخازن، وأحمد بن كجكن، وأرغون العلائى، وأرغون الإسماعيلى، وتكا «12» ، وقبجق «13» ، ومحمد بن الخطيرىّ، وأحمد بن أيدغمش،

ص: 103

وطشبغا، وقلنجى «1» . وحجّ مع السلطان أيضا قاضى القضاة جلال الدين القزوينىّ «2» الشافعىّ، وابن الفرات الحنفىّ وفخر الدين النّويرىّ المالكى، وموفّق «3» الدين الحنبلىّ، وكانوا أربعتهم ينزلون فى خيمة واحدة، فإذا قدّمت لهم فتوى كتبوا عليها الأربعة؛ وقدّم السلطان الأمير أيتمش إلى عقبة أيلة ومعه مائة رجل من اجازيّين حتى وسّعوا طريق العقبة وأزالوا وعرها، ومن يومئذ سهل صعودها.

ولما قرب السلطان من عقبة أيلة بلغه اتفاق الأمير بكتمر الساقى على الفتك به مع عدّة من المماليك السلطانية، فتمارض السلطان وعزم على الرجوع إلى مصر ووافقه الأمراء على ذلك إلّا بكتمر الساقى، فإنّه أشار بإتمام السفر وشنّع عوده قبل الحجّ. فعند ذلك عزم السلطان على السّفر، وسيّر ابنه آنوك وأمّه خوند طغاى إلى الكرك صحبة الأمير ملكتمر السّرجوانىّ «4» نائب الكرك، فإنّه كان قدم إلى العقبة ومعه ابنا السلطان الملك الناصر: أبو بكر وأحمد اللّذان كان والدهما الناصر أرسلهما إلى الكرك قبل تاريخه بسنين ليسكنا بها. ثم مضى السلطان إلى سفره وهو محترز غاية التحرّز، بحيث إنّه ينتقل فى اللّيل عدّة مرار من مكان إلى مكان؛ ويحفى موضع مبيته من غير أن يظهر أحدا على ما فى نفسه ممّا بلغه عن بكتمر الساقى إلى أن وصل إلى ينبع، فتلقّاه الأشراف من أهل المدينة، وقدم عليه الشريف أسد الدين رميثة من مكة ومعه قوّاده وحريمه فأكرمهم السلطان وأنعم عليهم، وساروا معه إلى

ص: 104

أن نزل على خليص»

فرّ منه نحو ثلاثين مملوكا إلى جهة العراق فلم يتكلّم السلطان، وسار حتّى قدم مكّة ودخلها فأنعم على الأمراء، وأنفق فى جميع من معه من الأجناد والمماليك ذهبا كثيرا، وأفاض على أهل مكة بالصدقات والإنعام.

فلمّا قضى النّسك عاد يريد مصر، وعرّج إلى زيارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، بالمدينة فسار حتّى وصلها فلمّا دخلها هبّت بها ريح شديدة فى اللّيل ألقت الخيم كلّها وتزايد اضطراب الناس واشتدّت ظلمة الجوّ فكان أمرا مهولا؛ فلمّا كان النهار سكن الريح فظفر أمير المدينة بمن فرّ من المماليك السلطانية فخلع السلطان عليه، وأنعم عليه بجميع ما كان مع المماليك من مال وغيره، وبعث بالمماليك إلى الكرك، فكان ذلك آخر العهد بهم.

ثم مرض الأمير بكتمر الساقى وولده أحمد، فمات أحمد فى ليلة الثلاثاء سابع المحرّم سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، ومات أبوه الأمير بكتمر الساقى فى ليلة الجمعة عاشر المحرّم بعد ابنه أحمد بيومين وحمل بكتمر إلى عيون «2» القصب فدفن بها، واتّهم السلطان أنّه سمّهما. و [ذلك أنه «3» ] كان قد عظم أمر بكتمر، بحيث إنّ السلطان كان معه فى هذه السّفرة ثلاثة آلاف ومائة عليقة، ومع بكتمر الساقى ثلاثة آلاف عليقة، وبلغت عدّة خيوله الخاصّة مائة طوالة [بمائة سايس بمائة سطل «4» ] ، وكان عليق خيول إسطبله دائما ألفا ومائة عليقة كلّ يوم، ومع هذا لم يقنعه ذلك.

ص: 105

وأخذ يدبّر فى قتل السلطان، وبلغ السلطان ذلك بعد أن خرج من القاهرة فتحرّز على نفسه بدربة وعقل ومعرفة ودهاء ومكر، حتّى صار فى أعظم حجاب من بكتمر وغيره. ثم أخذ هو أيضا يدبّر على بكتمر، وأخذ يلازمه فى الليل والنهار، بحيث إنّ بكتمر عجز فى الطريق أن ينظر إلى زوجته، فإنّه كان إذا ركب أخذ يسايره بجانبه ويكالمه من غير جفاء، وإذا نزل جلس معه، فإن مضى إلى خيامه «1» أرسل السلطان فى الحال خلفه، بحيث إنّه استدعاه- مرّة وهو يتوضّأ- بواحد بعد آخر حتّى كمل عنده اثنا عشر جمدار. فلمّا ثارت الريح بالمدينة قصد السلطان قتل بكتمر وولده أحمد تلك الليلة وهجموا على ولده أحمد فلم يتمكّنوا منه، واعتذروا بأنّهم رأوا حرامية وقد أخذوا لهم متاعا فمرّوا فى طلبهم، فداخل الصبىّ منهم الفزع، ثم زاد احتراز السلطان على نفسه، ورسم للأمراء أن يناموا بمماليكهم على بابه، ولمّا سار من المدينة عظم عنده أمر بكتمر، فلمّا كان فى أثناء الطريق سقى أحمد بن بكتمر ماء باردا فى مسيره، كانت فيه منيّته، ثم سقى بكتمر بعد موت ولده مشروبا فلحق بابنه، واشتهر ذلك، حتّى إنّ زوجة بكتمر لمّا مات صاحت وقالت للسلطان بصوت سمعها كلّ أحد:

يا ظالم، أين تروح من الله! ولدى وزوجى، فأمّا زوجى كان مملوك، وولدى، إيش كان بينك وبينه! وكرّرت ذلك مرارا فلم يجبها.

قلت: ولولا أنّ الملك الناصر سقى ولده أحمد قبله، وإلّا كانت حيلة الناصر لا تتمّ، فإنّ بكتمر أيضا كان احترز على نفسه وأعلم أصحابه بذلك. فلما اشتغل بمصاب ابنه أحمد انتهز الملك الناصر الفرصة وسقاه فى الحال. وأيضا لو بقى ولده ربما وثب حواشى بكتمر به على السلطان، وهذا الذي قلته على الظنّ منّى. والله أعلم. ويأتى أيضا بعض ذكر بكتمر الساقى فى الوفيات. انتهى.

ص: 106

ثم وصل إلى القاهرة مبشّر الحاج فى ثامن المحرّم سنة ثلاث وثلاثين تلك «1» المظفّرى الجمدار وأخبر بسلامة السلطان، فدقّت البشائر وخلع عليه خلع كثيرة واطمأنّ الناس بعد ما كان بينهم أراجيف. ثم وصل السلطان إلى الديار المصريّة فى يوم السبت ثامن عشر المحرّم بعد ما خرج معظم الناس إلى لقائه، ومدّ شرف الدين النّشو «2» شقاق الحرير والزّربفت «3» من بين العروستين «4» إلى باب الإسطبل، فلمّا توسّط بين الناس صاحت العوامّ: هو إيّاه ما هو إيّاه! بالله اكشف لنا لثامك، وأرنا وجهك! وكان قد تلثّم، فعند ذلك حسر اللثام عن وجهه فصاحوا بأجمعهم:

الحمد الله على السلامة، ثمّ بالغوا فى إظهار الفرح به والدعاء له وأمعنوا فى ذلك، فسّر السلطان بهذا الأمر؛ ودخل القلعة ودقّت البشائر وعملت الأفراح ثلاثة أيام.

وهذه حجّة السلطان الملك الناصر الثالثة، وهى التى يضرب بها المثل. وجلس السلطان على كرسىّ الملك وخلع على الأمراء قاطبة. وكان بلغ السلطان أنّ ألماس الحاجب كان اتّفق مع بكتمر الساقى على الفتك بالسلطان.

قلت: وبكتمر وألماس كلاهما مملوكه ومشتراه. انتهى.

ثم أخذ السلطان يدبّر على ألماس حتّى قبض عليه وعلى أخيه قرا فى العشرين من ذى الحجّة سنة ثلاث وثلاثين، وحمل قرا من يومه إلى الإسكندرية. وسبب معرفة السلطان اتّفاق ألماس مع بكتمر أنّ الملك الناصر لمّا مات بكتمر الساقى

ص: 107

صحبته بطريق الحجاز احتاط على موجوده، فكان من جملة الموجود جمدان «1» ففتحه السلطان فوجد فيه جوابا من الأمير ألماس إلى بكتمر الساقى يقول فيه: إنّنى حافظ القاهرة والقلعة إلى أن يرد علىّ منك ما أعتمده، فتحقّق السلطان أمره وقبض عليه، ولمّا قبض السلطان على ألماس أخذ جميع أمواله وكان مالا جزيلا إلى الغاية، فإنّه كان ولى الحجوبيّة وباشرها وليس بالديار المصرية نائب سلطنة، فإن الملك الناصر لم يولّ أحدا معه بعد الأمير أرغون، فعظم أمر ألماس فى الحجوبيّة لذلك فصار هو فى محلّ النيابة، ويركبون الأمراء وينزلون فى خدمته ويجلس فى باب القلعة فى منزلة النائب، والحجّاب والأمراء وقوف بين يديه. وكان ألماس رجلا طوالا غتميّا لا يفهم بالعربية، يفعل ذلك عامدا لإقامة الحرمة ويظهر البخل ولم يكن كذلك، بل كان يفعل ذلك خوفا من الملك الناصر، فإنّه كان يطلق لمماليكه الأرباع والأملاك المثمّنة وليس البخيل كذلك. ويأتى أيضا من ذكره شىء فى الوفيات.

ثم فى سنة أربع وثلاثين وسبعمائة قدم تنكز إلى القاهرة وأقام بها أيّاما ثم عاد إلى محلّ ولايته فى يوم الخميس ثالث شهر رجب من سنة أربع وثلاثين وسبعمائة.

وفى هذه السنة أفرج السلطان عن الأمير بهاء الدين أصلم وعن أخيه قرمچى وعن بكتوت القرمانى، فكانت مدّة اعتقال أصلم وقرمچى ست سنين وثمانية أشهر.

ثم خلع السلطان على الأمير آقوش الأشرفى المعروف بنائب الكرك بنيابة طرابلس بعد موت قرطاى.

قلت: وإخراج آقوش نائب الكرك المذكور من مصر لأمور، منها: صحبته مع ألماس، ومنها ثقله على السلطان، فإنّ السلطان كان يجلّه ويحترمه ويقوم له

ص: 108

كلّما دخل عليه لكبر سنه. ومنها معارضته للسلطان فيما يرومه، فأخرجه وبعث له بألف دينار وخرج معه برسبغا «1» مسفّرا له، فلمّا أوصله إلى طرابلس وعاد خلع عليه السلطان، واستقرّ به حاجبا صغيرا. وخلع على الأمير مسعود [بن أوحد «2» ] بن الخطير [بدر الدين «3» ] واستقرّ حاجبا كبيرا عوضا عن ألماس. وورد الخبر على السلطان من بغداد بأنّ صاحبها أمر النصارى بلبس العمائم الزّرق واليهود الصّفر اقتداء بالسلطان الملك الناصر بهذه السّنّة الحسنة.

وفى يوم الأحد رابع المحرّم سنة خمس وثلاثين وسبعمائة قبض السلطان على الطواشى شجاع الدين عنبر السّحرتى مقدّم المماليك بسعاية النّشو ناظر الخاصّ، وأنعم بإقطاعه «4» وهى إمرة طبلخاناه على الطواشى سنبل، واستقرّ نائب مقدّم المماليك وخلع على الأمير آقبغا عبد الواحد واستقرّ مقدّم المماليك السلطانية مضافا للأستاداريّة عوضا عن عنبر السّحرتى كما كان أوّلا. فلمّا تولّى آقبغا تقدمة المماليك عرض الطباق ووضع «5» فيهم وضرب جماعة من السّلاح داريّة والجمدارية لامتناعهم «6» عنه ونفاهم إلى صفد فأعجب السلطان ذلك. وفى شهر رجب من سنة خمس وثلاثين أفرج السلطان عن الأمير بيبرس الحاجب، وكان له فى السجن من سنة خمس وعشرين، وأفرج أيضا عن الأمير طغلق «7» التّتارى، وهو أحد الأمراء الأشرفيّة وكان له فى السجن ثلاث وعشرون سنة فمات بعد أسبوع من قدومه.

ص: 109

قلت: لعلّه مات من شدّة الفرح.

ثم أفرج السلطان عن الأمير غانم «1» بن أطلس خان، وكان له فى السجن خمس وعشرون سنة، وأفرج عن الأمير برلغى «2» الصغير وله فى السجن ثلاث وعشرون سنة، وأفرج عن جماعة أخر، وهم: أيدمر اليونسىّ أحد أمراء البرجيّة المظفّريّة والأمير لاچين العمرى والأمير طشتمر أخو بتخاص والأمير بيبرس العلمى، وكان من أكابر الأمراء البرجيّة من حواشى المظفّر بيبرس، والأمير قطلوبك الأوجاقىّ «3» والشيخ على مملوك سلّار والأمير تمر السّاقى نائب طرابلس أحد المنصوريّة، وكان قبض عليه سنة أربع عشرة، والجميع كان حبسهم فى ابتداء سلطنة الملك الناصر الثالثة بعد سنة عشر وسبعمائة، وأنعم السلطان على تمر الساقى بطبلخانات بالشام، وأنعم على بيبرس الحاجب بإمرة فى حلب، وأنعم على طشتمر بإمرة بدمشق وعلى أيدمر اليونسىّ وبلاط بإمرة فى طرابلس.

ثم فى يوم الخميس رابع شهر ربيع الأوّل أنعم السلطان على ولده أبى بكر بإمرة، وركب بشربوش من إسطبل «4» الأمير قوصون، وسار من

ص: 110

الرّميلة «1» الى باب «2» القرافة، فطلع إلى القلعة، والأمراء والخاصّكيّة فى خدمته، وعمل لهم الأمير قوصون مهمّا عظيما فى إسطبله. ثم إنّ السلطان قبض على الأمير جمال الدين

ص: 111

آقوش الأشرفىّ المعروف بنائب الكرك، وهو يوم ذاك نائب طرابلس فى نصف جمادى الآخرة وحبس بقلعة صرخد، ثم نقل منها فى مستهلّ شوّال إلى الإسكندرية، ونزل النّشو إلى بيته «1» [بالقاهرة «2» ] وأخذ موجوده وموجود حريمه وعاقب أستاداره، واستقرّ عوضه فى نيابة طرابلس الأمير طينال. ثم اشتغل الملك الناصر بضعف مملوكه ومحبوبه ألطنبغا الماردانىّ، وتولّى تمريضه بنفسه إلى أن عوفى فأحبّ ألطنبغا أن ينشئ له جامعا «3» تجاه ربع الأمير طغجى خارج باب زويلة، واشترى عدّة دور من أربابها «4» بغير رضاهم، فندب السلطان النّشو لعمارة الجامع المذكور، فطلب النشو أرباب الأملاك وقال لهم: الأرض للسلطان ولكم قيمة البناء، ولا زال بهم حتّى ابتاعها منهم بنصف ما فى مكاتيبهم من الثمن، وكانوا قد أنفقوا فى عمارتها بعد مشتراها جملة، فلم يعتدّ لهم النّشو منها بشىء، وأقام النشو فى عمارته حتّى تمّ فى أحسن هندام، فجاء مصروفه ثلثمائة ألف درهم ونيّف، سوى ما أنعم به عليه السلطان من الخشب والرّخام

ص: 112

وغيره. وخطب به الشيخ ركن الدين [عمر «1» بن إبراهيم] الجعبرىّ من غير أن يتناول له معلوما.

ثمّ جلس السلطان بدار العدل فوجد به رقعة تتضمّن الوقيعة فى النّشو وكثرة ظلمه وتسلّط أقاربه على الناس وكثرة أموالهم وتعشّق صهره ولىّ الدولة لشابّ تركىّ، فكان قبل ذلك قد ذكر الأمير قوصون للسلطان أن عميرا الذي كان شغف به الأمير ألماس قد ولع به أقارب النّشو وأنفقوا عليه الأموال الكثيرة، فلم يقبل السلطان فيه قول الأمراء لمعرفته لكراهتهم له، فلمّا قرئت عليه القصة قال: أنا أعرف من كتبها، واستدعى النّشو ودفعها [إليه «2» ] وأعاد له ما رماه به الأمير قوصون، فحلف النّشو على براءتهم من هذا الشاب، وإنّما هذا ومثله ممّا يفعله حواشى الأمير قوصون، وقصد قوصون تغيّر خاطر السلطان علىّ وبكى وانصرف.

فطلب السلطان قوصون وأنكر عليه إصغاءه لحواشيه فى حقّ النشو وأخبره بحلف النّشو، فحلف قوصون أنّ النّشو يكذب فى حلفه ولئن قبض السلطان على الشاب وعوقب ليصدقنّ السلطان فيمن يعاشره من أقارب النّشو، فغضب السلطان وطلب أمير مسعود الحاجب وأمره بطلب الشابّ وضربه بالمقارع حتّى يعترف بجميع من يصحبه وكتابة أسمائهم وألزمه ألّا يكتم عنه شيئا، فطلبه وأحضر المعاصير فأملى عليه الشابّ عدّة كثيرة من الأعيان، منهم: ولىّ الدولة فخشى مسعود على الناس من الفضيحة، وقال للسلطان: هذا الكذّاب ما ترك أحدا فى المدينة حتّى اعترف عليه، وأنا أعتقد أنّه يكذب عليهم، وكان السلطان حشيم النفس يكره الفحش، فقال لمسعود: يا بدر الدين، من ذكر من الدواوين؟ فقال: والله يا خوند ما خلّى أحدا من خوفه حتّى ذكره، فرسم السلطان بإخراج عمير المذكور ووالده إلى غزّة،

ص: 113

ورسم لنائبها أن يقطعهما خبزا بها. وكان ذلك أوّل انحطاط قدر النّشو عند السلطان.

ثم اتّفق بعد ذلك أن طيبغا «1» القاسمى الناصرىّ، وكان يسكن بجوار النّشو وله مملوك جميل الصورة فآعتشر به ولىّ الدولة وغيره من إخوة النّشو، فترصد أستاذه طيبغا حتّى هجم يوما عليهم وهو معهم فأخذه منهم وخرج وبلغ النّشو ذلك، فبادره بالشّكوى إلى السلطان بأنّ طيبغا القاسمىّ يتعشّق مملوكه ويتلف عليه ماله، وأنّه هجم وهو سكران على بيتى وحريمى وقد شهر سيفه وبالغ فى السبّ، وكان السلطان يمقت على السكر فأمر فى الحال بإخراج طيبغا ومملوكه إلى الشام. وكان السلطان مشغولا فى هذه الأيام بعمارة قناطر «2» شبين القصر على بحر أبى المنجّا «3» فأنشئت تسع قناطر.

ثم توجّه السلطان فى شهر ربيع الآخر من سنة ستّ وثلاثين وسبعمائة إلى الوجه القبلى للصّيد، ثم عاد إلى القاهرة بعد أن غاب خمسة وأربعين يوما. كلّ ذلك وأمر النّشو فى إدبار بالنسبة لما كان عليه. ثم جلس السلطان يوما بالميدان فسقط عليه طائر حمام وعلى جناحه ورقة تتضمن الوقيعة فى النّشو وأقاربه والقدح فى السلطان بأنه قد أخرب دولته، فغضب السلطان غضبا شديدا وطلب النّشو

ص: 114

وأوقفه على الورقة وتنّمر عليه لكثرة ما شكى منه، فقال النّشو: يا خوند، الناس معذورون وحقّ رأسك! لقد جاءنى خبر هذه الورقة ليلة كتبت، وهى فعل المعلم أبى شاكر بن سعيد الدولة ناظر البيوت، كتبها فى بيت الصّفىّ كاتب الأمير قوصون، وقد اجتمع هذا وأقاربه فى التدبير علىّ، ثم أخذ النّشو يعرّف السلطان ما كان من أمر سعيد الدولة فى أيّام المظفّر بيبرس الجاشنكير وأغراه به حتّى طلبه وسلّمه إلى الوالى علاء الدين علىّ بن المروانىّ «1» ، فعاقبه الوالى عقوبة مؤلمة. ثم طلب السلطان الأمير قوصون وعنّفه بفعل الصّفىّ كاتبه، ثم تتّبع النّشو حواشى أبى شاكر وقبض عليهم وسلّمهم إلى الوالى وخرّب بيوتهم وحرثها بالمحراث، واشتدّت وطأة النّشو على الناس واستوحش الناس منه قاطبة، وصار النّشو يدافع عن نفسه بكلّ ما يمكن والمقادير تمهله.

ثم بدا للسلطان أن ينقل الخليفة من مناظر الكبش إلى قلعة الجبل فنقل فى ثالث عشرين ذى القعدة من سنة ستّ وثلاثين. والخليفة المستكفى بالله أبو الربيع سليمان، وسكن الخليفة بالقلعة حيث كان أبوه الحاكم نازلا ببرج السّباع «2» بعياله، ورسم على الباب جاندار بالنّوبة، وسكن ابن عمّه إبراهيم فى برج بجواره بعياله، ورسم عليه جاندار آخر ومنعا عن الاجتماع بالناس، كلّ ذلك لأمر قيل.

ثمّ إن السلطان فى سابع عشر محرّم سنة سبع وثلاثين وسبعمائة عقد عقد ابنه أبى بكر على ابنة الأمير سيف الدين طقزدمر الحموىّ الناصرى أمير مجلس بدار الأمير قوصون. ثم قدم الأمير تنكز نائب الشام ثانى شهر رجب من سبع وثلاثين المذكورة

ص: 115

على السلطان وهو بسرياقوس فخلع عليه وسافر فى ثانى عشرينه إلى محلّ ولايته.

ثم فى هذه السنة زاد ظلم النّشو على التّجّار، وزمى على التّجّار الخشب بأضعاف ثمنه، فكثرت الشّكوى منه إلى أن توصّل بعض التجار لزوجة السلطان خوند طغاى أمّ آنوك، وقال لها: رمى علىّ النّشو خشبا يساوى ألفى درهم بألفى دينار، فعرّفت أمّ آنوك السلطان بذلك، فأمر السلطان بطلب التاجر وقد اشتدّ غضبه على النّشو وبلغ النّشو الخبر، ففى الحال أرسل النّشو رجلا إلى التاجر وسأله فى قرض مبلغ من المال، فعرّفه التاجر أمر الخشب وما هو فيه من الغرامة، فقال له الرجل: أرنى الخشب فإنى محتاج إليه، فلما رآه قال: هذا غرضى واشتراه منه بفائدة ألف درهم إلى شهر، وفرح التاجر بخلاصه من الخشب وأشهد عليه بذلك، وأخذ الخشب وأتى بالمعاقدة إلى النّشو، فأخذها النّشو وطلع إلى السلطان من فوره، وقال للسلطان: يا مولانا السلطان، نزلت آخذ الخشب من التاجر وجدته قد باعه بفائدة ألف درهم، قلم يصدّقه السلطان وعوّق النّشو وقد امتلأ عليه غضبا، فطلب التاجر وسأله عمّا رماه عليه النّشو من الخشب فاغترّ التاجر بأمّ آنوك وأخذ يقول: ظلمنى النّشو وأعطانى خشبا بألفى دينار يساوى ألفى درهم، فقال له السلطان: وأين الخشب: فقال: بعته بالدّين، فقال النّشو: قل الصحيح، فهذه معاقدتك معه، فلم يجد التاجر بدّا من الاعتراف، فحنق عليه السلطان وقال له: ويلك! تقيم علينا القالة، وأنت تبيع بضاعتنا بفائدة؛ وسلّمه إلى النشو وأمره بضربه، وأخذ الألفى دينار منه مع مثلها، وعظم عنده النّشو وتحقّق صدق ما يقوله، وأن الذي يحمل الناس على التكلّم فيه الحسد. ثم عبر السلطان إلى الحريم وسّبهنّ وعرّفهنّ بما جرى من كذب التاجر وصدق النّشو، وقال: مسكين النشو، ما وجدت أحدا يحبّه.

ثم أفرج السلطان عن الأمير طرنطاى المحمّدى بعد ما أقام فى السجن سبعا وعشرين

ص: 116

سنة وأخرج إلى الشام. ثم فى يوم الاثنين ثانى عشر رمضان ركب النّشو على عادته فى السّحر إلى الخدمة فاعترضه فى طريقه عبد المؤمن «1» بن عبد الوهاب السلامى المعزول عن ولاية قوص، فضربه بالسيف فأخطأ رأس النشو وسقطت عمامته عن رأسه، وقد جرح كتفه وسقط على الأرض وبحا الفارس بنفسه، وفى ظنّه أن رأس النّشو قد طاح عن بدنه لعظم ضربه، وبلغ السلطان ذلك فغضب ولم يحضر السّماط، وبعث إلى النّشو بعدّة من الجمدارية والجرايحية فقطّبت ذراعه بستّ إبر وجبينه باثنتى عشرة إبرة، وألزم والى القاهرة ومصر بإحضار غريم النشو. وأغلظ السلطان على الأمراء بالكلام، وما زال يشتدّ ويحتدّ حتّى عادت القصّاد بسلامة النّشو فسكن ما به؛ ثم بعث النّشو مع أخيه رزق «2» الله إلى السلطان يعلمه بأنّ هذا من فعل الكتّاب بموافقة لؤلؤ «3» ، فطلب السلطان الوالى وأمره بمعاقبة الكتّاب الذين هم فى المصادرة مع لؤلؤ حتى يعترفوا بغريم النّشو. وكان السلطان قد قبض على لؤلؤ وكتّابه وصادره قبل تاريخه بموافقة «4» النّشو، فنزل الوالى وعاقب لؤلؤا وضربه ضربا مبرّحا، وعاقب المعلّم أبا شاكر وقرموطا عقابا شديدا، فلم يعترفوا بشىء.

وعوفى النّشو وطلع إلى القلعة وخلع السلطان عليه، ونزل من القلعة بعد أن رتّب

ص: 117

السلطان المقدّم إبراهيم «1» بن أبى بكر بن شدّاد بن صابر أن يمشى فى ركابه ومعه عشرة من رجاله فى ذهابه وإيابه، ثم قبض النّشو بعد ذلك على [تاج الدين «2» ] ابن الأزرق وصادره حتّى باع أملاكه، وكان من جملة أملاكه ملك بشاطئ النيل، فاشتراه منه الأمير عزّ الدين أيدمر الخطيرىّ، وكان بجانبه ساقية فهدم الخطيرى الدار والساقية وعمرهما جامعا «3» بخطّ بولاق على شاطئ النيل.

قلت: وكان أصل موضع هذا الجامع المذكور أنّه لمّا أنشئت العمائر ببولاق عمّر الحاج محمد بن عزّ الفراش بجوار الساقية المذكورة دارا على النيل، ثم انتقلت بعد موته إلى ابن الأزرق هذا فكانت تعرف بدار الفاسقين، من كثرة اجتماع النصارى بها على ما لا يرضى الله تعالى، فلمّا صادره النّشو باعها فيما باعه فاشتراها الخطيرى بثمانية آلاف درهم، وهدمها وبنى مكانها ومكان الساقية جامعا أنفق فيه أموالا جزيلة فى أساساته مخافة من زيادة النيل، وأخذ أراضى حوله من بيت المال، وأنشأ عليها الحوانيت والرّباع والفنادق. فلمّا تمّ بناؤه قوى عليه ماء النيل فهدم جانبا منه فأنشأ تجاهه زريبة رمى فيها ألف مركب موسوقة بالحجارة، قاله الشيخ تقىّ الدين المقريزى رحمه الله وهو حجة فيما ينقله. لكن أقول لعله وهم فى هذا وأراد أن يقول: وسق ألف مركب بالحجارة فسبق قلمه بما ذكرناه، قال:

وسمّى هذا الجامع بجامع التوبة، وجاء فى غاية الحسن، فلما أفرج عن ابن الأزرق من المصادرة ادّعى أنّه كان مكرها فى بيع داره، فأعطاه الأمير أيدمر الخطيرىّ

ص: 118

ثمانية آلاف درهم أخرى حتى استرضاه، ولا يكون جامعه بنى فى أرض مكرهة انتهى. وقد خرجنا عن المقصود ولنرجع إلى أمر الملك الناصر.

وأمّا النشو فإنّه لا زال على ابن الأزرق هذا حتّى قبض عليه ثانيا وعاقبه حتى مات، وذلك فى سنة سبع وثلاثين وسبعمائة.

ثمّ فى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة أنعم السلطان الملك الناصر فى يوم واحد على أربعة من مماليكه بمائتى ألف دينار مصريّة، وهم: قوصون وألطنبغا الماردانىّ وملكتمر الحجازىّ وبشتك. وفى هذه السنة ولد للسلطان ابنه صالح من بنت الأمير تنكز نائب الشام، فعمل لها السلطان بشخاناه «1» ودائر بيت زركش، وتكملة البذلة من المخدّات والمقاعد بمائتى «2» ألف دينار وأربعين ألف دينار، وعمل لها الفرخ سبعة أيام. وفى هذه السنة وقع للملك الناصر غريبة، وهو أنّه استدعى من بلاد الصعيد بألفى رأس من الضّأن، واستدعى من الوجه البحرىّ بمثلها لتتمّة أربعة آلاف رأس. وشرع السلطان فى عمل حوش «3» برسمها وبرسم الأبقار البلق، فوقع اختياره على موضع بقلعة الجبل مساحته أربعة أفدنة، قد قطعت منه الحجارة لعمارة القاعات

ص: 119

التى بالقلعة حتّى صار غورا عظيما، فطلب كاتب الجيش ورتّب على كلّ من الأمراء المقدّمين مائة رجل ومائة دابّة لنقل التّراب، وعلى كلّ من أمراء الطبلخاناه بحسب حاله. وأقام الأمير آقبغا عبد الواحد شادا وأن يقيم معه من جهة كلّ أمير أستاداره بعدّة من جنده. وألزم الأسرى بالعمل. ورسم لوالى القاهرة بتسخير العامّة، فنصب الأمير آقبغا خيمته على جانب الموضع، واستدعى استاداريّة الأمراء واشتدّ عليهم، فلم يمض ثلاثة أيام حتّى حضرت إليه رجال الأمراء من نواحيهم، ونزل كلّ أستادار بخيمته، ومعه دوابّه ورجاله فقسمت عليهم الأرض قطعا معيّنة لكلّ واحد منهم، فجدّوا فى العمل ليلا ونهارا واستحثهم آقبغا المذكور بالضرب، وكان ظالما غشوما، فعسف بالرجال وكلّفهم السّرعة فى أعمالهم من غير رخصة ولا مكّنهم [من «1» ] الاستراحة، وكان الوقت صيفا حارّا فهلك جماعة كثيرة منهم فى العمل لعجز قدرتهم عمّا كلّفوه. ومع ذلك كلّه والولاة تسخّر من تظفر به من العامّة وتسوقه إلى العمل، فكان «2» أحدهم إذا عجز ألقى بنفسه إلى الأرض، رمى أصحابه عليه التّراب فيموت لوقته. هذا والسلطان يحضر كلّ يوم حتّى ينظر العمل، وكان الأمير ألطنبغا الماردانى قد مرض وأقام أياما بالميدان «3» على النيل حتّى عوفى وطلع إلى القلعة من باب القرافة، فاستغاث به الناس وسألوه أن يخلّصهم من هذا العمل، فتوسّط لهم عند السلطان، حتى أعفى الناس من السّخر وأفرج عمّن قبض عليه منهم، فأقام العمل ستة وثلاثين يوما إلى أن فرغ منه، وأجريت إليه المياه، وأقيمت به الأغنام المذكورة والأبقار البلق وبنيت به بيوت للإوز وغيرها.

ص: 120

قلت: لعلّ هذا الموضع يكون هو الحوش الذي يلعب فيه السلطان بالكرة تحت قاعة الدهيشة «1» . والله أعلم. وعند فراغ هذا الحوش استدعى السلطان الأمراء وعمل لهم سماطا جليلا، وخلع على جماعة ممّن باشر العمل وغيرهم.

ثمّ أنشأ السلطان لمملوكيه: الأمير يلبغا اليحياوىّ ولأمير ألطنبغا الماردانىّ لكلّ منهما قصرا «2» تجاه حمّام الملك السعيد قريبا من الرّميلة تجاه القلعة، وأخذ من إسطبل الأمير أيدغمش أمير آخور قطعة، ومن إصطبل الأمير «3» قوصون قطعة، ومن إصطبل طشتمر الساقى قطعة، ونزل السلطان بنفسه حتّى قرّر أمره، ورسم السلطان للأمير قوصون أن يشترى الأملاك الّتى حول إصطبله ويضيفها فيه. ثمّ أمر السلطان أن يكون بابا الإصطبلين اللذين أمر بإنشائهما ليلبغا وألطنبغا تجاه حمّام الملك السعيد، وأقام الأمير آقبغا عبد الواحد شادّ عمارة القصرين والإصطبلين المذكورين.

قلت: أمّا إصطبل قوصون فهو البيت المعدّ لسكن كلّ من صار أتابك العساكر فى زماننا هذا، الذي بابه الواحد تجاه باب السلسلة «4» . وأمّا

ص: 121

بيت «1» طشتمر الساقى حمّص أخضر، هو البيت الذي الآن على ملك الأمير جرباش المحمّدى الأتابك «2» ، الذي بابه الواحد من حدرة البقر، وبيت «3» أيدغمش أمير آخور لعلّه يكون بيت منجك اليوسفىّ الذي هو الآن على ملك تمربغا الظاهرىّ رأس نوبة «4» النّوب.

ص: 122

وأمّا القصران والإسطبلان اللّذان عمّرهما السلطان ليلبغا اليحياوىّ وألطنبغا الماردانّى أخذهما السلطان حسن، وجعل مكانهما مدرسته المعروفة بمدرسة «1» السلطان حسن تجاه قلعة الجبل. والله أعلم.

ص: 123

وفى هذه السنة (أعنى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة) عمل السلطان جسرا «1» بالنيل على جسر «2» ابن الأثير، وحفر الخليج الكبير المعروف بخليج الخور «3» . وسببه أنّ

ص: 124

النيل قوى على ناحية بولاق وهدم جامع الخطيرىّ حتّى احتاج أيدمر الخطيرىّ لتجديده، فرسم السلطان للسكّان على شاطئ النيل بعمل زرابىّ لجميع ملّاك «1» الدور بالقرب من فم الخور، وألّا يؤخذ منهم عليها حكر، فبنى صاحب كلّ دار زريبة تجاه داره فلم يفد ذلك شيئا، فكتب السلطان بإحضار مهندسى البلاد القبليّة والبحريّة، فلمّا تكاملوا ركب السلطان إلى النيل وهم معه وكشف البحر فاتّفق

ص: 125

الرأى على أن يحفر الرمل «1» الذي بالجزيرة المعروفة بجزيرة أروى «2» (أعنى الجزيرة الوسطى) حتّى يصير خليجا يجرى فيه الماء، ويعمل جسر «3» وسط النيل يكون سدا يتصل

ص: 126

بالجزيرة (يعنى من الروضة «1» ) إلى الجزيرة الوسطانية، فإذا كانت زيادة النيل جرى الماء فى الخليج الذي حفر وكان قدّامه سدّ عال يرد الماء إليه، حتّى يتراجع النيل عن برّ بولاق والقاهرة إلى برّ ناحية منبابه «2» . وعاد السلطان إلى القلعة وخرجت البرد من الغد إلى الأعمال بإحضار الرجال [للعمل «3» ] صحبة المشدّين وطلبت الحجارون بأجمعهم لقطع الحجارة من الجبل، ثم تحمل إلى الساحل وتملأ بها المراكب وتغرّق وهى ملأنة بالحجارة حيث يعمل [الجسر «4» ] ، فلم يمض عشرة أيام حتى قدمت الرجال من النواحى وتسلّمهم آقبغا عبد الواحد والأمير برسبغا الحاجب. ورسم السلطان لوالى القاهرة ولوالى مصر بتسخير العامّة للعمل فركبا وقبضا على عدّة كثيرة منهم، وزادوا فى ذلك حتى صارت الناس تؤخذ من المساجد والجوامع والأسواق، فتستّر الناس ببيوتهم خوفا من السخرة، ووقع الاجتهاد فى العمل واشتدّ الاستحثاث حتّى إنّ الرجل كان يخرّ الى الأرض وهو يعمل لعجزه عن الحركة فتردم رفقته عليه الرمل فيموت من ساعته. واتّفق هذا لخلائق كثيرة؛ وآقبغا عبد الواحد راكب فى حرّاقة يستعجل المراكب المشحونة بالحجارة، والسلطان ينزل إليهم فى كلّ قليل ويباشرهم ويغلظ على آقبغا ويحرّضه على السّرعة واستنهاض

ص: 127

العمال «1» حتّى كمل فى مدّة شهر بعد أن غرق فيه اثنتا عشرة مركبا بالحجارة، وسق كلّ مركب ألف إردب. وكانت عدّة المراكب التى أشحنت بالحجارة المقطوعة من الجبل ورميت فى البحر حتّى صار جسرا يمشى عليه، ثلاثا وعشرين ألف مركب حجر سوى ما عمل فيه من آلات الخشب والسّرياقات «2» والحلفاء ونحو ذلك. وحفر الخليج بالجزيرة؛ فلمّا زاد النيل جرى فى الخليج المذكور وتراجع الماء حتّى قوى على برّ منبابة وبرّ بولاق التّكرورىّ «3» ، فسرّ السلطان والناس قاطبة بذلك، فإنّ الناس كانوا على تخوّف كبير من النيل على القاهرة. وأنفق السلطان على هذا العمل من خزانته أموالا كثيرة. كلّ ذلك فى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة المذكورة.

ص: 128

فلمّا استهلّت سنة تسع وثلاثين وسبعمائة حضر فيها الأمير تنكز نائب الشام ورسم بسكناه فى داره «1» بالكافورى «2» على عادته، وخلع عليه خلعة الاستمرار على نيابة دمشق. وبعد أيّام تكلّم تنكز فى يلبغا نائب حلب فعزله السلطان عن نيابة حلب وأنعم عليه بنيابة غزّة. وقدّم تنكز فى هذه المرّة للسلطان تقدمة عظيمة تجلّ عن الوصف، فيها من صنف الجوهر فقط ما قيمته ثلاثون ألف دينار، ومن الزّركش عشرون ألف دينار، ومن أوانى البلّور وتعابى القماش والخيل والسّروج والجمال البخاتى ما قيمته مائتان وعشرون ألف دينار مصريّة، فلمّا انقضت التّقدمة أخذ السلطان تنكز وأدخله إلى الدور السلطانية حتى رأى ابنته زوجة السلطان، فقامت اليه وقبّلت يده، ثم أخرج السلطان إليه جميع بناته وأمرهنّ بتقبيل يد تنكز المذكور وهو يقول لهنّ واحدة بعد واحدة: بوسى يد عمّك، ثم عيّن منهنّ بنتين لولدى الأمير تنكز فقبّل تنكز الأرض وخرج من الدور، والسلطان يحادثه.

وأمر السلطان بالاهتمام إلى سفر الصعيد للصّيد على عادته وتنكز صحبته؛ وكان من إكرامه له فى هذه السّفرة ما لا عهد من ملك مثله، فلمّا عاد السلطان من الصعيد أمر النّشو بتجهيز كلفة عقد ابنى تنكز على ابنتيه، وكلفة سفر تنكز إلى الشام،

ص: 129

فجهّز النّشو ذلك كلّه، وعقد لابنى تنكز على ابنتى السلطان فى بيت الامير قوصون، لكون قوصون أيضا متزوّجا بإحدى بنات السلطان، بحضرة القضاة والأمراء.

ثمّ ولدت بنت الأمير تنكز من السلطان بنتا فسجد شكرا لله بحضرة السلطان، وقال:

ياخوند، كنت أتمنى أن يكون المولود بنتا فإنها لو وضعت ذكرا كنت أخشى من تمام السعادة، فإنّ السلطان قد تصدّق علىّ بما غمرنى به من السعادة فخشيت من كمالها.

ثم جهّز السلطان الأمير تنكز وأنعم عليه من الخيل والتعابى القماش ما قيمته مائة وعشرون «1» ألف دينار. وأقام تنكز فى هذه المرّة بالقاهرة مدّة شهرين، فلما وادع «2» السلطان سأله إعفاء الأمير كجكن من الخدمة وأشياء غير ذلك فأجابه إلى جميع ما سأله. وكتب له تقليدا بتفويض الحكم فى جميع الممالك الشامية بأسرها، وأن جميع نوّابها تكاتبه بأحوالها، وأن تكون مكاتبته:«أعزّ الله أنصار المقرّ الشريف» ، بعد ما كانت. «أعزّ الله أنصار الجناب» وأن يزاد فى ألقابه:

«الزاهدىّ العابدىّ العالمىّ كافل الإسلام أتابك الجيوش» . وأنعم السلطان على مغنّية قدمت معه من دمشق من جملة مغانيه بعشرة آلاف درهم، ووصل لها من الدّور ثلاث بذلات زركش وثلاثون تعبية قماش وأربع بذلات مقانع وخمسمائة دينار. ثم آخر ما قال السلطان لتنكز: إيش بقى لك حاجة؟ بقى فى نفسك شىء، أقضيه لك قبل سفرك؟ فقبّل الأرض وقال: والله ياخوند، ما بقى فى نفسى شىء أطلبه إلّا أن أموت فى أيّامك، فقال السلطان: لا، إن شاء الله تعيش أنت وأكون أنا فداءك، أو أكون بعدك بقليل، فقبّل الأرض وانصرف، وقد حسده سائر الأمراء، [وكثر «3» حديثهم] فيما حصل له من الإكرام الزائد، فاتّفق ما قال السلطان، فإنّه لم يقم بعد موت تنكز إلّا مدّة قليلة.

ص: 130

وأمّا أمر النّشو فإنّه لم يزل على الظلم والعسف فى الرّعية والأقدار تساعده إلى أن قبض عليه السلطان الملك الناصر فى يوم الاثنين ثانى صفر سنة أربعين وسبعمائة، وعلى أخيه مجد «1» الدين رزق الله، وعلى [أخيه «2» ] المخلص وعلى مقدّم الخاصّ ورفيقه.

وسبب ذلك أنّه زاد فى الظلم حتى قلّ الجالب إلى مصر وذهب أكثر أموال التجّار لطرح الأصناف عليهم بأغلى الأثمان، وطلب السلطان الزيادة فخاف العجز، فرجع عن ظلم العامّ إلى الخاصّ، ورتّب مع أصحابه ذلك، وكانت عادته فى كلّ ليلة أن يجمع إخوته وصهره ومن يثق به فى النظر فيما يحدثه من المظالم، يقترح كلّ منهم ما يقترحه من لمظالم ثم يتفرقون، فرتّبوا فى ليلة من الليالى أو راقا تشتمل على فصول يتحصّل منها ألف ألف دينار عينا وقرأها على السلطان: منها التقاوى السلطانية المخلّدة بالنواحى من الدولة الظاهريّة بيبرس والمنصوريّة قلاوون فى إقطاعات الأمراء والأجناد، وجملتها مائة ألف إردب وستون ألف إردب سوى ما فى بلاد السلطان من التقاوى، ومنها الرّزق الأحباسية الموقوفة على المساجد والجوامع والزوايا وغير ذلك، وهى مائة ألف فدان وثلاثون ألف فدان. وقرّر مع السلطان أن يأخذ التقاوى المذكورة، وأن يلزم كلّ متولى إقليم باستخراجها وحملها، وأن يقيم شادّا يختاره لكشف الرّزق الأحباسية، فما كان منها على موضع عامر [بذكر الله «3» ] يعطيه نصف ما يحصل ويأخذ من مزارعيه فى النصف الآخر عن كلّ فدان مائة درهم.

قلت: ولم يصحّ ذلك للنّشو وصحّ مع أستادار زماننا هذا زين الدين «4» يحيى الأشقر قريب ابن أبى الفرج لمّا كان ناظر «5» المفرد فى أستادارية قزطوغان فإنّه أحدث

ص: 131

هذه المظلمة فى دولة الملك الظاهر «1» ، ودامت فى صحيفته إلى يوم القيامة، فأقول:

كم ترك الأول للآخر. انتهى.

قال: ويلزم المزارع بخراج ثلاث سنين، وما كان من الرّزق على موضع خراب «2» ، أو على أهل الأرياف من الفقهاء والخطباء ونحوهم أخذوا «3» ، واستخرج من مزارعيه خراج ثلاث سنين. وممّا أحدثه أيضا أرض [جزيرة] الرّوضة تجاه مدينة مصر، فإنها بيد أولاد الملوك، فيستأجرها منهم الدواوين وينشوا بها سواقى الأقصاب وغيرها. ومنها ما باعه أولاد الملوك بأبخس الأثمان، وقرّر مع السلطان أخذ أراضى الرّوضة للخاصّ. ومنها أرباب الرواتب السلطانية فإنّ أكثرهم عبيد الدواوين، ونساؤهم وغلمانهم يكتبونها باسم زيد وعمرو؛ وذكر أشياء كثيرة من هذه المقولة إلى أن تعرض للأمير آقبغا عبد الواحد ولأمواله وحواصله، وحسّن للسلطان القبض عليه وشرع فى عمل ما قاله، فعظم ذلك على الناس وتراموا على خواصّ السلطان من الأمراء وغيرهم، فكلّموا السلطان فى ذلك وعرّفوه قبح سيرة النّشو، وما قصده إلّا خراب مملكة السلطان. ثم رميت للسلطان عدّة أوراق فى حقّ النّشو، فيها مكتوب:

أمعنت فى الظلم وأكثرته

وزدت يا نشو على العالم

ترى من الظالم فيكم لنا

فلعنة الله على الظالم

وأبيات أخر. وكان السلطان أرسل قرمحى إلى تنكز لكشف أخبار النّشو بالبلاد الشامية، فعاد بمكاتبات تنكز بالحطّ عليه، وذكر قبح سيرته وظلمه وعسفه

ص: 132

وكان النّشو قد حصل له قولنج انقطع منه أياما، ثم طلع إلى القلعة وأثر المرض فى وجهه، وقرّر مع السلطان إيقاع الحوطه على آقبغا عبد الواحد من الغد، وكان ذلك فى أوّل يوم من صفر. وتقرّر الحال على أنه يجلس النّشو على باب الخزانة، فإذا خرج الأمير بشتك من الخدمة جلس معه، ثم يتوجّهان إلى بيت آقبغا ويقبضان عليه. فلما عاد النّشو إلى داره عبر الحمّام ليلة الاثنين ومعه [شمس الدين محمد «1» ] بن الأكفانىّ، وقد قال له ابن الأكفانىّ: بأنّ على النشو فى هذا الشهر قطعا «2» عظيما فأمر النّشو بعض عبيده السودان أن يحلق رأسه ويجرحه بحيث يسيل الدّم على جسده ليكون ذلك حظّه من القطع، ففعل به ذلك، وتباشروا بما دفع الله عنه من السوء. ثمّ خرج النّشو من الحمّام، وكان الأمير يلبغا اليحياوىّ أحد خواصّ السلطان ومماليكه قد توعّك جسده توعّكا صعبا فقلق السلطان عليه وأقام عنده لكثرة شغفه به، فقال له يلبغا فيما قال: ياخوند، قد عظم إحسانك لى ووجب نصحك علىّ والمصلحة القبض على النّشو، وإلّا دخل عليك الدخيل، فإنّه ما عندك أحد من مماليكك إلّا وهو يترقّب غفلة منك، وقد عرّفتك ونصحتك قبل أن أموت، وبكى وبكى السلطان لبكائه، وقام السلطان وهو لا يعقل لكثرة ما داخله من الوهم لثقته بمحبّة يلبغا له، وطلب بشتك فى الحال وعرّفه أنّ الناس قد كرهوا هذا النشو، وأنه عزم على الإيقاع به، فخاف بشتك أن يكون ذلك امتحانا من السلطان، ثم وجد عزمه قويّا فى القبض عليه، فاقتضى الحال إحضار الأمير قوصون أيضا فحضر وقوّى عزم السلطان على ذلك، وما زالا به حتى قرّر معهما أخذه والقبض عليه. وأصبح النشو وفى ذهنه أنّ القطع

ص: 133

الذي تخوّف منه قد زال عنه بما دبّره ابن الأكفانى من إسالة دمه. ثم علّق عليه عدّة من العقود والطّلّسمات والحروز وركب إلى القلعة وجلس بين يدى السلطان على عادته، وأخذ معه فى الكلام على القبض على آقبغا عبد الواحد. ثم نهض النّشو وتوجّه إلى باب الخزانة، وجلس عليها ينتظر مواعدة بشتك، فعند ما قام النّشو طلب السلطان المقدّم ابن صابر «1» ، وأسرّ إليه أن يقف بجماعته على باب القلعة وعلى باب القرافة، ولا يدع أحدا به من حواشى النّشو وجماعته وأقار به وإخوته أن ينزلوا ويقبضوا عليهم الجميع. وأمر السلطان بشتك وبرسبغا الحاجب أن يمضيا إلى النّشو ويقبضا عليه وعلى أقاربه، فخرج بشتك وجلس بباب الخزانة فطلب النّشو من داخلها فظنّ النشو أنه جاء لميعاده مع السلطان حتّى يحتاطا على موجود آقبغا، فساعة ما وقع بصره عليه أمر مماليكه بأخذه فأخذوه إلى بيته بالقلعة، وبعث إلى بيت الأمير ملكتمر الحجازىّ فقبض على أخيه رزق الله، ثم أخذ أخاه المخلص وسائر أقار به. وطار الخبر فى القاهرة ومصر، فخرج الناس كلّهم كأنّهم جراد منشر، وركب الأمير آقبغا عبد الواحد والأمير طيبغا المجدى «2» والأمير بيغرا والأمير برسبغا لإيقاع الحوطة على بيوت النّشو وأقاربه وحواشيه، ومعهم عدوّه [القاضى جمال الدين إبراهيم «3» المعروف ب] جمال الكفاة كاتب الأمير بشتك وشهود الخزانة، وأخذ السلطان يقول للأمراء: كم تقولون، النّشو ينهب مال الناس! الساعة ننظر المال الذي عنده! وكان السلطان يظنّ أنّه يؤدّيه الأمانة، وأنّه لا مال له، فندم الأمراء على تحسينهم مسك النّشو خوفا من ألّا يظهر له مال، لا سيما

ص: 134

قوصون وبشتك من اجل أنّهما كانا بالغا فى الحطّ عليه، فكثر قلقهما ولم يأكلا طعاما نهارهما وبعثا فى الكشف على الخبر. فلما أوقع الأمراء الحوطة على دور الممسوكين بلغهم أنّ حريم النّشو فى بستان فى جزيرة «1» الفيل، فساروا إليه وهجموا عليه فوجدوا ستين جارية وأمّ النّشو وامرأته وإخوته وولديه وسائر أهله، وعندهم مائتا قنطار عنب وقند «2» كثير ومعصار وهم فى عصر العنب، فختموا على الدّور والحواصل، ولم يتهيّأ لهم نقل شىء [منها «3» ] . هذا وقد غلّقت الأسواق بمصر والقاهرة، واجتمع الناس بالرّميلة تحت القلعة ومعهم النساء والأطفال وقد أشعلوا الشموع ورفعوا على رءوسهم المصاحف ونشروا الأعلام وهم يصيحون استبشارا وفرحا بقبض النّشو، والأمراء تشير إليهم أن يكثروا ممّا هم فيه، واستمرّوا ليلة الثلاثاء على ذلك، فلمّا أصبحوا وقع الصوت من داخل القلعة بأنّ رزق الله أخا النّشو قد قتل نفسه، وهو أنّه لما قبض عليه قوصون وكّل به أمير شكاره، فسجنه ببعض الخزائن، فلمّا طلع الفجر قام الأمير شكار إلى صلاة الصبح فقام رزق الله وأخذ من حياصته سكينا ووضعها فى نحره حتّى نفذت منه وقطعت ورائده «4» ، فلم يشعر أمير شكار إلّا وهو يشخّر وقد تلف، فصاح حتّى بلغ قوصون فانزعج لذلك وضرب أمير شكاره «5» ضربا مبرّحا إلى أن علم السلطان الخبر، فلم يكترث به.

ص: 135

وفى يوم الاثنين المذكور أفرج السلطان عن الصاحب شمس الدين موسى «1» ابن التاج إسحاق وأخيه «2» ونزلا من القلعة إلى الجامع «3» الجديد بمصر. وكان شمس الدين هذا قد وشى به النّشو حتّى قبض عليه السلطان، وأجرى عليه العقوبة أشهر إلى أن أشيع موته غير مرّة، وقد ذكرنا أمر عقوبة شمس الدين هذا وما وقع له فى ترجمته فى تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» ، فإنّ فى سيرته عجائب فلينظر هناك. قال الشيخ كمال الدين جعفر [بن «4» ثعلب] الأدفوىّ فى يوم الاثنين هذا، وفى معنى مسك النّشو وغيره هذه الأبيات:

إنّ «5» يوم الاثنين يوم سعيد

فيه لا شكّ للبرية عيد

أخذ الله فيه فرعون مصر «6»

وغدا النّيل فى رباه يزيد

وقال الشيخ شمس الدين محمد [بن عبد «7» الرحمن بن على الشهيربا] بن الصائغ الحنفى فى معنى مسك النّشو والإفراج عن شمس الدين موسى وزيادة النيل هذه الأبيات:

لقد ظهرت فى يوم الاثنين آية

أزالت بنعماها عن العالم البوسا

تزايد بحمر النيل فيه وأغرقت

به آل فرعون وفيه نجا موسى

ص: 136

وفى المعنى يقول أيضا القاضى علاء الدين على [بن يحيى «1» ] بن فضل الله كاتب السّرّ:

فى يوم الاثنين ثانى الشهر من صفر

نادى البشير إلى أن أسمع الفلكا

يا أهل مصر نجا موسى ونيلكمو

طغى وفرعون وهو النّشو قد هلكا

ثم فى يوم الثلاثاء نودى بالقاهرة ومصر: بيعوا واشتروا واحمدوا الله تعالى على خلاصكم من النّشو. ثم أخرج رزق الله أخو النّشو ميّتا فى تابوت امرأة حتى دفن فى مقابر النصارى خوفا عليه من العامة أن تحرقه. ثم دخل الأمير بشتك على السلطان واستعفى من تسليم النشو خشية ممّا جرى من أخيه، فأمر السلطان أن يهدّده على إخراج المال، ثم يسلّمه لابن صابر فأوقفه بشتك وأهانه فالتزم إن أفرج عنه جمع للسلطان من أقاربه خزانة مال ثم تسلّمه ابن صابر فأخذه ليمضى به إلى قاعة الصاحب «2» ، فتكاثرت العامة لرجمه حتى طردهم نقيب الجيش وأخرجه والجنزير «3» فى عنقه حتى أدخله قاعة الصاحب، والعامة تحمل عليه حملة بعد حملة والنقباء تطردهم. ثم طلب السلطان فى اليوم المذكور جمال الكفاة إبراهيم كاتب الأمير بشتك وخلع عليه واستقرّ فى وظيفة نظر الخاصّ عوضا عن شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله المعروف بالنّشو بعد تمنّعه، ورسم له أن ينزل للحوطة على النشو وأقاربه، ومعه الأمير آقبغا عبد الواحد وبرسبغا الحاجب وشهود الخزانة، فنزل بتشريفه وركب بغلة النّشو حتى أخرج حواصله، وقد أغلق الناس الأسواق وتجمّعوا ومعهم الطبول والشموع وأنواع الملاهى وأرباب الخيال، بحيث لم يبق

ص: 137

خانوت بالقاهرة مفتوح نهارهم كلّه، ثم ساروا مع الأمراء على حالهم إلى تحت القلعة وصاحوا صيحة واحدة، حتى انزعج السلطان وأمر الأمير أيدغمش بطردهم، ودخلوا الأمراء على السلطان بما وجدوه للنشو، وهو من العين خمسة عشر ألف دينار مصرية. وألفان وخمسمائة حبة لؤلؤ، قيمة كلّ حبّة ما بين ألفى درهم إلى ألف درهم. وسبعون فص بلخش قيمة كل فص [ما بين]«1» خمسة آلاف درهم إلى ألف درهم. وقطعة «2» زمرّد فاخر زنتها رطل. ونيّف وستون حبلا من لؤلؤ كبار، زنة ذلك أربعمائة مثقال. ومائة وسبعون خاتم ذهب وفضّة بفصوص مثمنة.

وكفّ مريم مرصّع بجوهر. وصليب ذهب مرصّع. وعدّة قطع زركش؛ سوى حواصل لم تفتح. فخجل السلطان لمّا رأى ذلك، وقال للامراء: لعن الله الأقباط ومن يأمنهم أو يصدّقهم! وذلك أنّ النّشو كان يظهر له الفاقة بحيث إنّه كان يقترض الخمسين درهما والثلاثين درهما حتى ينفقها. وبعث فى بعض اللّيالى إلى جمال الدين إبراهيم [بن أحمد «3» ] بن المغربى رئيس الأطباء يطلب منه مائة درهم، ويذكر له أنه طرقه ضيف ولم يجد له ما يعشّيه به، وقصد بذلك أن يكون له شاهد عند السلطان بما يدّعيه من الفقر. فلما كان فى بعض الأيام شكا النّشو الفاقة للسلطان وابن المغربىّ حاضر، فذكر للسلطان أنه اقترض منه فى ليلة كذا مائة درهم، فمشى ذلك على السلطان وتقرر فى ذهنه أنّه فقير لا مال له. انتهى.

واستمر الأمراء تنزل كلّ يوم لإخراج حواصل النّشو فوجدوا فى بعض الأيام من الصّينىّ والبلّور والتّحف السنيّة شيئا كثيرا. وفى يوم الخميس [خامسه «4» ] زيّنت القاهرة ومصر بسبب قبض النشو. زينة هائلة دامت سبعة أيام، وعملت أفراح

ص: 138

كثيرة. وعملت العامّة فيه عدّة أزجال وبلاليق «1» ، وأظهروا من الفرح واللهو والخيال ما يجلّ وصفه، ووجدت مآكل كثيرة فى حواصل النّشو، منها: نحو مائتى مطر «2» ملوحة وثمانين مطر جبن وأحمال كثيرة من سوّاقة الشام. ووجد له أربعمائة بذلة قماش جديدة وثمانون بذلة قماش مستعمل، ووجد له ستّون بغلطاق «3» نشاوىّ «4» مزركش ومناديل زركش عدّة كثيرة. ووجد له صناديق كثيرة فيها قماش سكندرىّ ممّا عمل برسم الحرّة جهة ملك المغرب قد اختلسه النّشو، وكثير من قماش الأمراء الذين ماتوا والذين قبض عليهم. ووجد له مملوك تركىّ قد خصاه هو واثنين معه ماتا، وخصى أيضا أربعة عبيد فماتوا، فطلب السلطان الذي خصاهم وضربه بالمقارع، وجرّس وتتبّعت أصحابه وضرب منهم جماعة. ثم وجد بعد ذلك بمدّة لإخوة النشو ذخائر نفيسة، منها لصهره ولىّ الدولة صندوق فيه مائة وسبعون فصّ بلخش. وستّ وثلاثون مرسلة «5» مكللة بالجوهر. وإحدى عشرة عنبرينة «6» مكلّلة بلؤلؤ كبار. وعشرون طراز زركش، وغير ذلك ما بين لؤلؤ منظوم وزمرّد وكوافى زركش، قوّموا بأربعة وعشرين ألف دينار. وضرب المخلص أخو النّشو ومفلح عبده بالمقارع، فأظهر المخلص الإسلام. ثم فى يوم الثلاثاء ثانى عشرين

ص: 139

شهر ربيع الأوّل وجدت ورقة بين فرش السلطان فيها: المملوك بيرم ناصح السلطان يقبّل الأرض وينهى: إنّنى أكلت رزقك وأنت قوام المسلمين، ويجب على كلّ أحد نصحك، وإنّ بشتك وآقبغا عبد الواحد اتّفقا على قتلك مع جماعة من المماليك فآحترس على نفسك، وكان بشتك فى ذلك اليوم قد توجّه بكرة النهار إلى جهة الصعيد، فطلب السلطان الأمير قوصون والأمير آقبغا عبد الواحد وأوقفهما على الورقة، فكاد عقل آقبغا أن يختلط من شدّة الرّعب، وأخذ الأمير قوصون يعرّف السلطان أن هذا فعل من يريد التشويش على السلطان وتغيير خاطره على مماليكه.

فأخرج السلطان البريد فى الحال لردّ الأمير بشتك فأدركه بإطفيح وقد مدّ سماطه، فلمّا بلغه الخبر قام ولم يمدّ يده إلى شىء منه. وجدّ فى سيره حتى دخل على السلطان، فأوقفه السلطان على الورقة فتنصّل ممّا رمى به كما تنصّل آقبغا واستسلم، وقال:

هذه نفسى ومالى بين يدى السلطان. وإنما حمل من رمانى بذلك الحسد على قربى من السلطان، وعظم إحسانه إلىّ ونحو هذا، حتى رقّ له السلطان وأمره أن يعود إلى الصيد إلى جهة قصده.

ثم طلب السلطان [ناظر] ديوان الجيش، ورسم له أن يكتب كلّ من اسمه بيرم ويحضره إلى آقبغا عبد الواحد، فارتجّت القلعة والمدينة، فطلب ناظر الجيش المذكورين وعرضهم وأخذ خطوطهم ليقابل بها كتابة الورقة فلم يجده. فلمّا أعيا آقبغا الظّفر بالغريم اتّهم النّشو أنّها من مكايده، واشتدّ قلق السلطان وكثر انزعاجه بحيث إنه لم يستطع أن يقرّ بمكان واحد، وطلب والى القاهرة وأمره بهدم ما بالقاهرة من حوانيت صنّاع النّشّاب ويناى من عمل نشّابا شنق، فامتثل ذلك. وخرّب جميع مرامى النّشّاب، وغلّقت حوانيت القوّاسين، ونزل الأمير برسبغا إلى الأمراء جميعهم، وعرّفهم عن السلطان أنّ من رمى من مماليكم بالنّشاب أو حمل

ص: 140

قوسا كان أستاذه عوضا عنه فى التلاف، وألّا يركب أحد من الأمراء بسلاح ولا تركاش «1» ، وبينما الناس فى هذا الهول الشديد إذ دخل رجل يعرف بابن الأزرق- كان أبوه ممن مات فى عقوبة النّشو لما صادره، وقد تقدّم ذكر ابن الأزرق فى أمر بناء جامع الخطيرى- على جمال الكفاة وطلب الورقة ليعرّفهم من كتبها، فقام جمال الكفاة إلى السلطان ومعه الرجل، فلما وقف عليها قال: يا خوند، هذه خطّ أحمد الخطائى «2» ، وهو رجل عند ولىّ الدولة صهر النّشو يلعب معه النّرد ويعاقره الخمر، فطلب المذكور وحاققه الرجل محاققة طويلة فلم يعترف، فعوقب عقوبات مؤلمة إلى أن أقرّ بأنّ ولىّ الدولة أمره بكتابتها، فجمع بينه وبين ولىّ الدولة فأنكر ولىّ الدولة ذلك، فطلب أن يرى الورقة فلما رآها حلف جهد أيمانه أنها خطّ ابن الأزرق الشاكى، لينال منه غرضه، من أجل أنّ النّشو قتل أباه، وحاققه على ذلك، فاقتضى الحال عقوبة ابن الأزرق فاعترف أنّها كتابته وأنه أراد أن يأخذ بثأر أبيه من النّشو وأهله، فعفا السلطان عن ابن الأزرق ورسم بحبس ابن الخطائى «3» . ورسم لبرسبغا الخاجب وابن صابر المقدم أن يعاقبا النّشو وأهله حتى يموتوا. وأذن السلطان للأجناد فى حمل النّشّاب فى السّفر دون الحضر، فصارت هذه عادة إلى اليوم.

ويقال إنّ سبب عقوبة النّشو أنّ أمراء المشورة تحدّثوا مع السلطان، وكان الذي ابتدأ بالكلام سنجر الجاولى وقبّل الأرض، وقال: حاشى مولانا السلطان من شغل الخاطر وضيق الصدر، فقال السلطان: يا أمراء، هؤلاء مماليكى أنشأتهم وأعطيتهم العطاء الجزيل، وقد بلغنى عنهم ما لا يليق، فقال الجاولى:

ص: 141

حاشى لله أنّ يبدو من مماليك السلطان شىء من هذا، غير أنّ علم مولانا السلطان محيط بأنّ ملك الخلفاء ما زال إلّا بسبب الكتّاب، وغالب السلاطين ما دخل عليهم الدّخيل إلّا من جهة الوزراء، ومولانا السلطان ما يحتاج فى هذا إلى أن يعرّفه أحد بما جرى لهم، ومن المصلحة قتل هذا الكلب وإراحة الناس منه، فوافقه الجميع على ذلك، فضرب المخلص أخو النّشو فى هذا اليوم بالمقارع، وكان ذلك فى يوم الخميس رابع عشرين شهر ربيع الأوّل حتّى هلك يوم الجمعة العصر، ودفن بمقابر اليهود. ثمّ ماتت أمّه عقيبه. ثم مات ولىّ الدولة عامل المتجر تحت العقوبة ورمى للكلاب؛ هذا والعقوبة تتنوّع على النّشو حتّى هلك يوم الأربعاء ثانى شهر ربيع الآخر من سنة أربعين وسبعمائة فوجد النّشو بغير ختان، وكتب به محضر ودفن بمقابر اليهود بكفن قيمته أربعة دراهم ووكّل بقبره من يحرسه مدّة أسبوع خوفا من العامّة أن تنبشه وتحرقه. وكان مدّة ولايته وجوره سبع سنين وسبعة أشهر، ثم أحضر ولىّ الدولة صهر النّشو، وهذا بخلاف ولىّ الدولة عامل المتجر الذي تقدّم، وأمر السلطان بعقوبته، فدلّ على ذخائر النّشو ما بين ذهب وأوان، فطلبت جماعة بسبب ودائع النّشو، وشمل الضرر غير واحد. وكان موجود النّشو سوى الصندوق الذي أخذه السلطان شيئا كثيرا جدّا، عمل لبيعه تسع وعشرون حلقة، بلغت قيمته خمسة وسبعين ألف درهم. وكان جملة ما أخذ منه سوى الصندوق نحو مائتى ألف دينار. ووجد لولىّ الدولة عامل المتجر ما قيمته خمسون ألف دينار. ووجد لولىّ الدولة صهر النّشو زيادة على مائتى ألف دينار. وبيعت للنشو دور بمائتى ألف درهم. وركب الأمير آقبغا عبد الواحد إلى دور آل النّشو فخرّبها كلّها، حتى ساوى بها الأرض وحرثها بالمحاريث فى طلب الخبايا، فلم يجد بها من الخبايا إلا القليل. انتهى.

ص: 142

وأمّا أصل النشو هذا أنه كان هو ووالده وإخوته يخدمون الأمير بكتمر الحاجب، فلمّا انفصلوا من عنده أقاموا بطّالين مدّة، ثم خدم النّشو هذا عند الأمير أيدغمش أمير آخور فأقام بخدمته إلى أن جمع السلطان فى بعض الأيام كتّاب الأمراء لأمر ما، فرآه السلطان وهو واقف من وراء الجماعة وهو شاب طويل نصرانىّ حلو الوجه، فآستدعاه وقال له: إيش اسمك؟ قال: النّشو، فقال: أنا أجعلك نشوى ورتّبه مستوفيا فى الجيزة، وأقبلت سعادته فيما ندبه إليه وملا عينه، ثم نقله إلى استيفاء الدولة فباشر ذلك مدّة حتى استسلمه الأمير بكتمر الساقى وسلّم إليه ديوان سيدى آنوك، ثم نقله بعد ذلك إلى نظر الخاصّ بعد موت القاضى فخر الدين ناظر الجيش، فإنّ شمس الدين موسى ابن التاج ولى الجيش، والنّشو هذا ولى عوضه الخاص. انتهى.

وفى آخر شهر ربيع الآخر نودى على الذهب أن يكون صرف الدينار بخمسة وعشرين درهما، وكان بعشرين درهما. وفى هذه السنة فرغت مدرسة «1» الأمير آقبغا عبد الواحد بجوار الجامع الأزهر، وأبلى الناس فى عمارتها ببلايا كثيرة، منها:

أنّ الصّنّاع كان قرّر عليهم آقبغا أن يعملوا بهذه المدرسة يوما فى الأسبوع بغير

ص: 143

أجرة، ثم حمل إليها الأصناف من الناس ومن العمائر السلطانية، فكانت عمارتها ما بين نهب وسرقة، ومع هذا فإنّه ما نزل إليها قطّ إلا وضرب بها أحدا زيادة على شدّة عسف مملوكه الذي أقامه شادّا بها، فلمّا تمّت جمع بها القضاة والفقهاء ولم يولّ بها أحد، وكان الشريف المحتسب قدّم بها سماطا بنحو ستة آلاف درهم على أن يلى تدريسها فلم يتمّ له ذلك.

ثم إنّ السلطان نزل إلى خانقاه «1» سرياقوس التى أنشأها فى يوم الثلاثاء ثامن عشرين شهر ربيع الآخر من سنة أربعين وسبعمائة، وقد تقدّمه إليها الشيخ شمس الدين محمد [بن «2» ] الأصفهانى وقوام الدين الكرمانىّ وجماعة من صوفية سعيد السعداء، فوقف السلطان على باب خانقاه «3» سعيد السعداء بفرسه، وخرج إليه جميع صوفيّتها ووقفوا بين يديه، فسألهم من يختارونه شيخا لهم بعد وفاة الشيخ مجد الدين موسى

ص: 144

ابن أحمد بن محمد الأقصرائىّ فلم يعيّنوا أحدا، فولّى السلطان بها الركن الملطىّ خادم المجد الأقصرائى المتوفّى. وانقطع السلطان فى هذه الأيام عن الخروج إلى دار العدل نحو عشرين يوما بسبب شغل خاطره لمرض مملوكه يلبغا اليحياوىّ وملازمته له إلى أن تعافى، وعمل السلطان لعافيته سماطا عظيما هائلا بالميدان «1» وأحضر الأمراء، ثم استدعى بعدهم جميع صوفية الخوانق والزوايا وأهل الخير وسائر الطوائف، ومدّ لهم الأسمطة الهائلة، وأخرج من الخزائن السلطانية نحو ثلاثين ألف درهم، أفرج بها عن المسجونين على دين، وأخرج للأمير يلبغا المذكور ثلاث حجورة «2» بمائتى ألف درهم، وحياصة ذهب مرصّعة بالجوهر، كلّ ذلك لعافية يلبغا المذكور.

ثمّ فى هذه السنة تغيّر خاطر السلطان على مملوكه الأمير تنكز نائب الشام، وبلغ تنكز تغيّر خاطر السلطان عليه، فجهّز أمواله ليحملها إلى قلعة جعبر «3» ويحرج هو إليها بعد ذلك بحجّة أنّه يتصيّد، فقدم إليه الأمير طاجار الدّوادار قبل ذلك فى يوم الأحد رابع عشر ذى الحجة «4» وعتبه وبلّغه عن السلطان ما حمله من الرسالة، فتغيّر الأمير

ص: 145

تنكز وبدأت الوحشة بينه وبين السلطان، وعاد طاجار إلى السلطان فى يوم الجمعة تاسع «1» عشر ذى الحجة فأغرى السلطان على تنكز وقال: إنه عزم على الخروج من دمشق، فطلب السلطان بعد الصلاة الأمير بشتك والأمير بيبرس الأحمدى والأمير چنكلى بن البابا والأمير أرقطاى والأمير طقز دمر فى آخرين، وعرّفهم أنّ تنكز قد خرج عن الطاعة، وأنه يبعث إليه تجريدة مع الأمير چنكلى والأمير بشتك والأمير أرقطاى والأمير أرنبغا أمير جاندار والأمير قمارى أمير شكار والأمير قمارى أخو بكتمر الساقى والأمير برسبغا الحاجب، ومع هذه الأمراء السبعة «2» ثلاثون أمير طبلخاناه وعشرون أمير عشرة وخمسون نفرا من مقدّمى الخلقة وأربعمائة من المماليك السلطانية وجلس وعرضهم. ثم جمع السلطان فى يوم السبت عشرين ذى الحجّة الأمراء جميعهم وحلّف المجرّدين والمقيمين له ولولده الأمير أبى بكر من بعده، وطلبت الأجناد من النواحى للحلف، فكانت بالقاهرة حركات عظيمة، وحمل السلطان لكلّ مقدّم ألف مبلغ ألف دينار، ولكلّ طبلخاناه أربعمائة دينار، ولكل مقدم حلقة ألف درهم، ولكل مملوك خمسمائة درهم وفرسا، وقرقلا «3» وخوذة «4» ، فاتّفق قدوم الأمير موسى بن مهنّا فقرّر مع السلطان القبض على الأمير تنكز، وكتب إلى العربان بأخذ الطرقات من كلّ جهة على تنكز. ثم بعث السلطان بهادر «5» حلاوة من طائفة الأوجاقيّة على البريد إلى غزّة وصفد وإلى أمراء دمشق بملطّفات كثيرة.

ثم أخرج موسى بن مهنّا لتجهيز العربان وإقامته على حمص، واهتمّ السلطان بأمر تنكز اهتماما زائدا جدّا.

ص: 146

قلت: على قدر الصعود يكون الهبوط، ما لتلك «1» الإحسان؟ والعظمة والمحبة الزائدة لتنكز قبل تاريخه إلا هذه الهمّة العظيمة فى أخذه والقبض عليه، ولكن هذا شأن الدنيا مع المغرمين بها!.

ثم إنّ الملك الناصر كثر قلقه من أمر تنكز وتنغّص عيشه وخرج العسكر المعيّن من القاهرة لقتال تنكز فى يوم الثلاثاء ثالث عشرين ذى الحجّة من سنة أربعين وسبعمائة. وكان حلاوة الأوجاقى قدم على الأمير ألطنبغا «2» الصالحىّ نائب غرّة بملطّف. وفيه أنّه استقرّ فى نيابة الشام عوضا عن تنكز، وأنّ العسكر واصل إليه ليسيروا به إلى دمشق.

قلت: وألطنبغا نائب غزّة هو عدوّ تنكز الذي كان تنكز سعى فى أمره حتى عزله السلطان من نيابة حلب وولاه نيابة غزّة قبل تاريخه.

ثمّ سار حلاوة الأوجاقى إلى صفد وإلى الشام وأوصل الملطّفات إلى أمراء دمشق. ثم وصلت كتب ألطنبغا الصالحىّ إلى أمراء دمشق بولايته نيابة الشام.

ثم ركب الأمير طشتمر الساقى المعروف بحمّص أخضر نائب صفد إلى دمشق فى ثمانين فارسا، واجتمع بالأمير قطلوبغا الفخرىّ وسنجر البشمقدار «3» وبيبرس السّلاح دار واتّفق ركوب الأمير تنكز فى ذلك اليوم إلى قصره فوق ميدان الحصى فى خواصه للنزهة، وبينما هو فى ذلك إذ بلغه قدوم الخيل من صفد، فعاد إلى دار السعادة «4» وألبس مماليكه السلاح، فأحاط به فى الوقت أمراء دمشق،

ص: 147

ووقع الصوت بوصول نائب صفد، فخرج عسكر دمشق إلى لقائه وقد نزل بمسجد «1» القدم، فأمر نائب صفد جماعة من المماليك الأمراء أن يعودوا إلى تنكز ويخرجوه إليه، فدخل عليه جماعة منهم تمر الساقى والأمير طرنطاى البشمقدار وبيبرس السلاح دار وعرّفوه مرسوم السلطان فأذعن لقلّة أهبته للركوب، فإنّ نائب صفد طرقه على حين غفلة باتّفاق أمراء دمشق، ولم يجتمع على تنكز إلا عدّة يسيرة من مماليكه، فلذلك سلّم نفسه فأخذوه وأركبوه إكديشا وساروا به إلى نائب صفد، وهو واقف بالعسكر على ميدان الحصى فقبض عليه وعلى مملوكيه: جنغاى «2» وطغاى «3» وسجنا بقلعة دمشق، وأنزل تنكز عن فرسه على ثوب سرج وقيّده وأخذه الأمير بيبرس السلاح دار وتوجّه به إلى الكسوة «4» ، فحصل لتنكز إسهال ورعدة خيف عليه الموت، فأقام بالكسوة يوما وليلة ثم مضى به بيبرس، ونزل طشتمر حمّص أخضر نائب صفد بالمدرسة النّجيبيّة «5» ، فتقدّم بهادر حلاوة عند ما قبض على تنكز ليبشّر السلطان بمسك تنكز، فوصل إلى بلبيس ليلا والعسكر نازل بها وعرّف الأمير بشتك. ثم سار حتى دخل القاهرة، وأعلم السلطان الخبر فسرّ سرورا زائدا، وكتب بعود العسكر من بلبيس إلى القاهرة ما خلا بشتك وأرقطاى وبرسبغا الحاجب، فإنهم يتوجّهون إلى دمشق للحوطة

ص: 148

على مال تنكز وأن يقيم الأمير بيغرا أمير جاندار والأمير قمارى أمير شكار بالصالحية «1» إلى أن يقدم عليهما الأمير تنكز. وعاد جميع العسكر إلى الديار المصرية، وسار بشتك ورفيقاه إلى غزة فركب معهم الأمير ألطنبغا الصالحىّ إلى نحو دمشق فلقوا الأمير تنكز على حسبان «2» فسلّموا عليه وأكرموه، وكان بشتك لما سافر من القاهرة صحبة العسكر كان فى ذلك اليوم فراغ بناء قصره «3» الذي بناه ببين القصرين فلم يدخله برجله، واشتغل بما هو فيه من أمر السفر، فشرع السلطان فى غيبته فى تحسين القصر المذكور. وكان سبب عمارة بشتك لهذا القصر أنّ الأمير قوصون لمّا أخذ قصر بيسرى وجدّده أحبّ الأمير بشتك أن يعمل له قصرا تجاه قصر «4» بيسرى ببين القصرين، فدلّ على دار الأمير بكتاش الفخرى أمير سلاح. وكانت «5» أحد قصور الخلفاء

ص: 149

الفاطميين التى اشتراها من ذريتهم وأنشأ بها الفخرى دورا وإسطبلات، وأبقى ما كان بها من المساجد، فشاور بشتك السلطان على أخذها فرسم له بذلك، فأخذها من أولاد بكتاش وأرضاهم وأنعم عليهم، وأنعم السلطان عليه بأرض كانت داخلها برسم الفراشخاناه «1» السلطانية. ثم أخذ بشتك دار أقطوان الساقى بجوارها، وهدم الجميع وأنشأه قصرا مطلّا على الطريق وارتفاعه أربعون ذراعا، وأجرى إليه الماء ينزل إلى شاذروان «2» إلى بركة به. وأخرب فى عمله أحد عشر مسجدا وأربعة معابد أدخلها فيه، فلم يجدّد منها سوى مسجد «3» رفعه وعمله معلّقا «4» على الشارع.

ص: 150

وفى هذه الأيام ورد الخبر على السلطان من بلاد الصعيد بموت الخليفة المستكفى بالله أبى الربيع سليمان بقوص فى مستهلّ شعبان، وأنّه قد عهد إلى ولده أحمد بشهادة أربعين عدلا، وأثبت قاضى قوص ذلك، فلم يمض السلطان عهده، وطلب إبراهيم بن محمد المستمسك ابن أحمد الحاكم بأمر الله فى يوم الاثنين ثالث [عشر «1» ] شهر رمضان، واجتمع القضاة بدار العدل على العادة، فعرّفهم السلطان بما أراد من إقامة إبراهيم فى الخلافة وأمرهم بمبايعته، فأجابوا بعدم أهليّته، وأنّ المستكفى عهد إلى ولده، واحتجّوا بما حكم به قاضى قوص، فكتب السلطان بقدوم أحمد المذكور. وأقام الخطباء بالقاهرة ومصر نحو أربعة أشهر لا يذكرون فى خطبتهم الخليفة. فلمّا قدم أحمد المذكور من قوص لم يمض السلطان عهده وطلب إبراهيم وعرّفه قبح سيرته فأظهر التّوبة منها، والتزم سلوك طريق الخير، فاستدعى السلطان القضاة وعرّفهم أنه قد أقام إبراهيم فى الخلافة، فأخذ قاضى القضاة عز الدين [عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن سعد الله «2» ] بن جماعة يعرّف السلطان عدم أهليّته، فلم يلتفت السلطان اليه، وقال: إنّه قد ثاب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له؛ فبايعوه ولقّب بالواثق، وكانت العامة تسمّيه المستعطى، فإنه كان يستغطى من الناس ما ينفقه.

ثمّ وصل الأمير تنكز إلى الديار المصرية فى يوم الثلاثاء ثامن «3» المحرّم سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وهو متضعّف صحبة الأمير بيبرس السّلاح دار، وأنزل بالقلعة فى مكان ضيّق، وقصد السلطان ضربه بالمقارع، فقام الأمير قوصون فى شفاعته حتّى أجيب إلى ذلك. ثم بعث السلطان إليه يهدّده حتّى يعترف بما له

ص: 151

من المال ويذكر له من كان موافقا له من الأمراء على العصيان، فأجاب بأنّه لا مال له سوى ثلاثين ألف دينار وديعة عنده لأيتام بكتمر الساقى، وأنكر أن يكون خرج عن الطاعة، فأمر به السلطان فى اللّيل فأخرج مع المقدّم ابن صابر وأمير جاندار فى حرّاقة إلى الإسكندرية، فقتله بها المقدّم ابن صابر فى يوم الثلاثاء نصف المحرّم من سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وتأتى بقيّة أحواله. ثم لمّا وصل الأمير بشتك إلى دمشق قبض على الأمير صاروجا «1» والجيبغا «2» [بن عبد الله «3» ] العادلى وسلّما إلى الأمير برسبغا فعاقبهما أشدّ عقوبة على المال، وأوقع الحوطة على موجودهما. ثم وسّط بشتك جنغاى وطغاى مملوكى تنكز وخواصّه بسوق خيل دمشق، وكان جنغاى المذكور يضاهى أستاذه تنكز فى موكبه وبركه، ثمّ أكحل صاروجا وتتبّع أموال تنكز فوجد له ما يجلّ وصفه، وعملت لبيع حواصله عدّة حلق، وتولّى البيع فيها الأمير ألطنبغا الصالحىّ نائب دمشق والأمير أرقطاى وهما أعدى عدوّ لتنكز. وكان تنكز أميرا جليلا محترما مهابا عفيفا عن أموال الرعيّة حسن المباشرة والطريقة، إلّا أنّه كان صعب المراس ذا سطوة عظيمة وحرمة وافرة على الأعيان من أرباب الدولة، متواضعا للفقراء وأهل الخير، وأوقف عدّة أوقاف على وجوه البرّ والصدقة.

وقال الشيخ صلاح الدين الصّفدىّ: جلب تنكز إلى مصر وهو حدث فنشأ بها، وكان أبيض إلى السّمرة أقرب، رشيق القدّ مليح الشعر خفيف اللّحية قليل الشيب حسن الشكل ظريفه. جلبه الخواجا علاء الدين السّيواسىّ فاشتراه الأمير

ص: 152

لاچين، فلمّا قتل لاچين فى سلطنته صار من خاصّكيّة الملك الناصر وشهد معه وقعة وادى الخازندار ثم وقعة شقحب.

قلت: ولهذا كان يعرف تنكز بالحسامىّ.

قال: وسمع تنكز صحيح البخارى غير مرّة من ابن الشّحنة «1» وسمع كتاب [معانى «2» ] الآثار للطّحاوىّ، وصحيح مسلم، وسمع من عيسى «3» المطعّم وأبى بكر «4» بن عبد الدائم، وحدّث «5» وقرأ عليه بعض المحدّثين ثلاثّيات البخارى بالمدينة النبويّة. قال: وكان الملك الناصر أمّره إمرة عشرة قبل توجّهه إلى الكرك، ثم ساق توجّهه مع الملك الناصر إلى الكرك وخروجه من الكرك إلى مصر وغيرهما إلى أن قال: وولاه السلطان نيابة دمشق فى سنة اثنتي عشرة وسبعمائة فأقام بدمشق نائبا ثمانيا وعشرين سنة، وهو الذي عمّر بلاد دمشق ومهّد نواحيها، وأقام شعائر المساجد بها بعد التتار.

قلت: وأمّا ما ظهر له من الأموال وجد له من التّحف السنيّة ومن الأقمشة مائتا منديل زركش. وأربعمائة حياصة ذهب. وستمائة كلفتاه زركش. ومائة حياصة ذهب مرصّعة بالجوهر. وثمان وستون بقجة بدلات ثياب زركش. وألفا ثوب

ص: 153

أطلس. ومائتا تخفيفة زركش. وذهب مختوم أربعمائة ألف دينار مصرية. ووجد له من الخيل والهجن والجمال البخاتىّ وغيرها نحو أربعة آلاف ومائتى رأس؛ وذلك غير ما أخذه الأمراء ومماليكهم، فإنهم كانوا ينهبون ما يخرج به نهبا. ووجد له من الثياب الصوف ومن النّصافى «1» ما لا ينحصر. وظفر الأمير بشتك بجوهر له ثمين اختصّ به. وحملت حرمه وأولاده إلى مصر صحبة الأمير بيغرا، بعد ما أخذ لهم من الجوهر واللؤلؤ والزّركش شىء كثير.

وأمّا أملاكه التى أنشأها فشىء كثير. وقال الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدىّ فى تاريخه- وهو معاصره- قال: ورد مرسوم شريف إلى دمشق بتقويم أملاك تنكز فعمل ذلك بالعدول وأرباب الخبرة وشهود القيمة، وحضرت بذلك محاضر إلى ديوان الإنشاء لتجهّز إلى السلطان، فنقلت منها ما صورته:

«دار الذهب بمجموعها وإسطبلاتها ستمائة ألف درهم. دار الزّمرّد مائتا ألف وسبعون ألف درهم. دار الزّردكاش [وما معها «2» ] مائتا ألف وعشرون ألف درهم.

الدار التى بجوار جامعه «3» بدمشق مائة ألف درهم. الحمّام التى بجوار جامعه مائة ألف درهم.

خان العرصة مائة ألف درهم وخمسون ألف درهم. إسطبل حكر السماق عشرون ألف درهم. الطبقة التى بجوار حمّام ابن يمن أربعة آلاف وخمسمائة درهم. قيسارية المرحّلين «4» مائتا ألف وخمسون ألف درهم. الفرن والحوض بالقنوات من غير أرض عشرة آلاف درهم. حوانيت التعديل ثمانية «5» آلاف درهم. الأهراء من

ص: 154

إسطبل بهادر ص عشرون «1» ألف درهم. خان البيض وحوانيته مائة ألف وعشرة آلاف درهم. حوانيت باب الفرج خمسة وأربعون ألف درهم. حمّام القابون عشرة «2» آلاف درهم. حمّام العمرىّ ستة آلاف درهم. الدهشة «3» والحمّام مائتا ألف وخمسون ألف درهم. بستان العادل مائة ألف وثلاثون «4» ألف درهم. بستان النّجيبىّ والحمّام والفرن مائة ألف درهم وثلاثون ألف درهم. [بستان «5» الحلبى بحرستا «6» أربعون ألف درهم] . الحدائق بها مائة ألف وخمسة «7» وستون ألف درهم. بستان القوصىّ «8» بها ستون ألف درهم. بستان الدردوزية «9» خمسون ألف درهم. الجنينة المعروفة بالحمّام سبعة آلاف درهم. بستان الرزاز «10» خمسة وثمانون «11» ألف درهم. الجنينة وبستان غيث ثمانية «12» آلاف درهم. المزرعة المعروفة بتهامة بها (يعنى دمشق) ستون ألف درهم. مزرعة الركن النوبىّ «13» والعبرى مائة ألف درهم. الحصّة بالدفوف القبلية بكفر بطنا «14» ، ثلثاها ثلاثون ألف درهم. بستان السفلاطونى «15» خمسة وسبعون ألف درهم. الفاتكيات والرشيدى والكروم بزملكا «16» مائة ألف درهم وثمانون ألف

ص: 155

درهم. مزرعة «1» المربع بقابون «2» مائة ألف وعشرة آلاف درهم. الحصّة من غراس غيضة «3» الأعجام عشرون ألف درهم. نصف الضيعة «4» المعروفة بزرنية «5» خمسة آلاف درهم. غراس قائم فى جوار دار الجالق ألفا درهم. النصف من خراج «6» الهامة ثلاثون ألف درهم. الحوانيت التى قبالة الحمّام «7» مائة ألف درهم. بيدر تبدين «8» ثلاثة وأربعون ألف درهم. الإصطبلات التى عند الجامع ثلاثون ألف درهم.

أرض خارج باب الفرج ستة عشر ألف درهم. القصر وما معه خمسمائة ألف درهم وخمسون ألف درهم. ربع ضيعة القصرين «9» ثمانية «10» وعشرون ألف درهم. نصف بوّابة مائة وثمانون ألف درهم. العلانية بعيون الفارسنا «11» ثمانون ألف درهم. حصّة دير ابن عصرون خمسة وسبعون ألف درهم. حصّة دويرة الكسوة «12» ألف وخمسمائة درهم. الدّير الأبيض خمسون ألف درهم. العديل «13» مائة ألف وثلاثون ألف درهم.

حوانيت أيضا داخل باب الفرج أربعون ألف درهم. التنورية اثنان وعشرون ألف درهم.

ص: 156

الأملاك التى له بحمص: الحمّام خمسة وعشرون ألف درهم. الحوانيت سبعة آلاف درهم. السريع «1» ستون ألف درهم. الطاحون الراكبة على العاصى ثلاثون ألف درهم. دور قبحق «2» خمسة وعشرون ألف درهم. الخان مائة ألف درهم.

الحمّام الملاصقة للخان ستون ألف درهم. الحوش الملاصق له ألف «3» وخمسمائة درهم.

المناح ثلاثة آلاف درهم. الحوش الملاصق للخندق ثلاثة آلاف درهم. حوانيت العريضة «4» ثلاثة آلاف درهم. الأراضى المحتكرة سبعة آلاف درهم.

والتى فى بيروت: الخان مائة وخمسة وثلاثون ألف درهم. الحوانيت والفرن مائة وعشرون ألف درهم. المصبنة «5» بآلاتها عشرة آلاف درهم. الحمّام عشرون ألف درهم. المسلخ عشرة آلاف درهم. الطاحون خمسة آلاف درهم. قرية زلايا «6» خمسة وأربعون ألف درهم.

القرى التى بالبقاع: مرج الصفا سبعون «7» ألف درهم. التلّ الأخضر مائة ألف وثمانون ألف درهم. المباركة خمسة وسبعون ألف درهم. المسعودية «8» مائة «9» ألف درهم.

الضّياع [الثلاث «10» ] المعروفة بالجوهرى أربعمائة ألف وسبعون ألف درهم.

السعادة أربعمائة ألف درهم. أبروطيا ستون ألف درهم. نصف بيرود «11» والصالحية

ص: 157

والحوانيت أربعمائة ألف درهم. المباركة والناصرية مائة ألف درهم. رأس «1» الماء سبعة وخمسون ألف درهم. حصّة من خربة روق «2» اثنان وعشرون ألف درهم.

رأس الماء والدلى بمزارعها خمسمائة «3» ألف درهم. حمام صرخد خمسة «4» وسبعون ألف درهم. طاحون الغور «5» ثلاثون ألف درهم. السالمية ثلاثة «6» آلاف درهم.

الأملاك بقارا «7» : الحمام خمسة وعشرون ألف درهم. الهرى «8» ستمائة ألف درهم.

الصالحية والطاحون والأراضى مائتا «9» ألف درهم وخمسة وعشرون ألف درهم.

راسليها «10» ومزارعها مائة وخمسة وعشرون ألف درهم. القضيبة «11» أربعون ألف درهم.

القريتان المعروفة إحداهما بالمزرعة، والأخرى بالبينسية «12» تسعون ألف درهم؛ هذا جميعه خارج عما له من الأملاك على وجوه البر والأوقاف فى صفد وعجلون والقدس ونابلس والرملة «13» والديار المصرية. وعمّر بصفد بيمارستانا مليحا. وعمّر بالقدس رباطا وحمامين وقياسر. وله بجلجولية «14» خان مليح، وله بالقاهرة دار «15» عظيمة بالكافورى» .

ص: 158

قلت: هى دار عبد الباسط بن خليل الآن. وحمّام وغير ذلك من الأملاك.

انتهى كلام الشيخ صلاح الدين باختصار.

قلت: وكان لتغيّر السلطان الملك الناصر على تنكز هذا أسباب، منها: أنه كتب يستأذنه فى سفره إلى ناحية جعبر «1» فمنعه السلطان من ذلك لما بتلك البلاد من الغلاء، فألحّ فى الطلب، والجواب يرد عليه [بمنعه «2» ] حتى حنق تنكز وقال: والله لقد تغيّر عقل أستاذنا وصار يسمع من الصبيان الذين حوله، والله لو سمع منى لكنت أشرت عليه بأن يقيم أحدا من أولاده فى السلطنة وأقوم أنا بتدبير ملكه، ويبقى هو مستريحا، فكتب بذلك جركتمر إلى السلطان، وكان السلطان يتخيّل بدون هذا فأثّر «3» هذا فى نفسه، ثم اتفق أن أرتنا «4» نائب بلاد الروم بعث رسولا إلى السلطان بكتابه، ولم يكتب معه كتابا لتنكز، فحنق تنكز لعدم مكاتبته وردّ رسوله من دمشق، فكتب أرتنا يعرّف السلطان بذلك، وسأل ألّا يطّلع تنكز على ما بينه وبين السلطان. ورماه بأمور أوجبت شدّة تغيّر السلطان على تنكز، ثم اتفق أيضا غضب تنكز على جماعة من مماليكه، فضربهم وسجنهم بالكرك [والشّوبك «5» ] فكتب منهم جوبان وكان أكبر مماليكه إلى الأمير قوصون يتشفع به فى الإفراج عنهم من سجن الكرك، فكلّم قوصون السلطان فى ذلك فكتب السلطان إلى تنكز يشفع فى جوبان فلم يجب عن أمره بشىء، فكتب إليه ثانيا وثالثا فلم يجبه، فاشتدّ غضب السلطان حتّى قال للأمراء: ما تقولون فى هذا الرجل؟ هو يشفع عندى فى قاتل أخى فقبلت شفاعته،

ص: 159

وأخرجته من السجن وسيّرته إليه يعنى (طشتمر أخا بتخاص) ، وأنا أشفع فى مملوكه ما يقبل شفاعتى! وكتب السلطان لنائب الشّوبك بالإفراج عن جوبان المذكور فأفرج عنه فكان هذا وما أشبهه الذي غيّر خاطر السلطان الملك الناصر على مملوكه تنكز. انتهى.

ثم اشتغل السلطان بموت أعزّ أولاده الأمير آنوك فى يوم الجمعة العشرين من شهر ربيع الآخر بعد مرض طويل، ودفن بتربة «1» الناصرية ببين القصرين، وكان لموته يوم مهول، نزل فى جنازتة جميع الأمراء، وفعلت والدته خوند طغاى خيرات كثيرة وباعت ثيابه وتصدّقت بجميع ما تحصّل منها.

ثم إنّ السلطان ركب فى هذه السنة، وهى سنة إحدى وأربعين إلى بركة «2» الحبش خارج القاهرة، وصحبته عدّة من المهندسين وأمر أن يحفر خليج «3» من البحر إلى حائط «4» الرّصد، ويحفر فى وسط الشرف المعروف بالرصد عشر آبار،

ص: 160

كلّ بئر نحو أربعين ذراعا تركّب عليها السواقى، حتى يجرى الماء من النيل إلى القناطر التى تحمل الماء إلى القلعة ليكثر بها الماء، وأقام الأمير آقبغا عبد الواحد على هذا العمل، فشقّ الخليج من بحرى رباط «1» الآثار ومرّوا به فى وسط بستان «2» الصاحب تاج الدين ابن حنّا المعروف بالمعشوق، وهدمت عدّة بيوت كانت هناك، وجعل عمق الخليج أربع قصبات، وجمعت عدّة من الحجّارين للعمل، وكان مهمّا عظيما. ثم أمر السلطان بتجديد جامع «3» راشدة فجدّد وكان قد تهدّم غالب جدره.

ثم ابتدأ توعّك السلطان ومرص مرض موته، فلمّا كان يوم الأربعاء سادس ذى الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة قوى عليه الإسهال، ومنع الأمراء من الدخول عليه فكانوا إذا طلعوا إلى الخدمة خرج إليهم السلام مع أمير چاندار عن

ص: 161

السلطان فانصرفوا. وقد كثر الكلام، ثم فى يوم الجمعة ثامنه «1» خفّ عن السلطان الإسهال، فجلس للخدمة وطلع الأمراء إلى الخدمة ووجه السلطان متغيّر، فلما انقضت الخدمة نودى بزينة القاهرة ومصر، وجمعت أصحاب الملاهى بالقلعة وجمع الخبز الذي بالأسواق وعمل ألف قميص وتصدّق بذلك كلّه مع جملة من المال، وقام الأمراء بعمل الولائم والأفراح سرورا بعافية السلطان، وعمل الأمير ملكتمر الحجازىّ الناصرىّ نفطا كثيرا بسوق الخيل تحت القلعة والسلطان ينظره، واجتمع [الناس «2» ] لرؤيته من كلّ جهة وقدمت عربان الشرقية بخيولها وقبابها المحمولة على الجمال ولعبوا بالرماح تحت القلعة، وخرجت الركابة والكلابزيّة وطائفة الحجارين والعتّالين إلى سوق الخيل للعب واللهو، وداروا [على «3» ] بيوت الأمراء وأخذوا الخلع منهم، وكذلك الطبلكية «4» فحصل لهم شىء كثير جدّا، بحيث جاء نصيب مهتار الطبلخاناه «5» ثمانين ألف درهم. ولما كان ليلة العيد وهى ليلة الأحد عاشر ذى الحجة، وأصبح نهار الأحد اجتمع الأمراء بالقلعة وجلسوا ينتظرون السلطان حتى يخرج لصلاة العيد، وقد أجمع رأى السلطان على عدم صلاة العيد لعود الإسهال عليه، فإنه كان انتكس فى الليلة المذكورة، فما زال به الأمير قوصون والأمير بشتك حتى ركب ونزل إلى الميدان، وأمر قاضى القضاة عز الدين [عبد العزيز «6» ] ابن جماعة أن يوجز فى خطبته، فعند ما صلّى السلطان وجلس لسماع الخطبة محرّك باطنه، فقام وركب وطلع إلى القصر وأقام يومه به، وبينا هو فى ذلك قدم الخبر من حلب بصحّة صلح الشيخ حسن صاحب العراق مع أولاد صاحب الروم، فانزعج السلطان لذلك انزعاجا شديدا واضطرب مزاجه فحصل له إسهال دموىّ،

ص: 162

وأصبح يوم الاثنين وقد امتنع الناس من الاجتماع به، فأشاع الأمير قوصون والأمير بشتك أنّ السلطان قد أعفى أجناد الحلقة من التجريد إلى تبريز ونودى بذلك، وفرح الناس بذلك فرحا زائدا، إلا أنه انتشر بين الناس أنّ السلطان قد انتكس فساءهم ذلك.

ثم أخذ الأمراء فى إنزال حرمهم وأموالهم من القلعة [حيث سكنهم «1» ] إلى القاهرة، فارتجّت القاهرة ومادت بأهلها واستعدّ الأمراء لا سيما قوصون وبشتك، فإن كلّا منهما احترز من الآخر وجمع عليه أصحابه. وأكثروا من شراء الأزيار والدّنان وملئوها ماء، وأخرجوا القرب والرّوايا والأحواض وحملوا إليهم «2» البقسماط «3» والرقاق والدقيق والقمح والشعير خوفا من وقوع الفتنة، ومحاصرة القلعة، فكان يوما مهولا، ركب فيه الأوجاقية وهجموا الطواحين لأخذ الدقيق ونهبوا الحوانيت التى تحت الفلعة والتى بالصليبة «4» .

هذا وقد تنكّر ما بين قوصون وبشتك واختلفا حتى كادت الفتنة تقوم بينهما، وبلغ ذلك السلطان فازداد مرضا على مرضه، وكثر تأوّهه وتقلّبه من جنب إلى جنب، وتهوّس بذكر قوصون وبشتك نهاره. ثم استدعى بهما فتناقشا «5» بين يديه

ص: 163

فى الكلام فأغمى عليه وقاما من عنده على ما هما عليه، فاجتمع يوم الاثنين ثامن عشره الأمير چنكلى والأمير آل ملك والأمير سنجر الجاولى وبيبرس الأحمدى، وهم أكابر أمراء المشورة فيما يدبرونه، حتى اجتمعوا على أن يبعث كلّ منهم مملوكه إلى قوصون وبشتك ليأخذا لهم الإذن فى الدخول على السلطان، فأخذا لهم الإذن فدخلوا وجلسوا عند السلطان، فقال الجاولى وآل ملك للسلطان كلاما، حاصله أن يعهد بالملك إلى أحد أولاده فأجاب إلى ذلك، وطلب ولده أبا بكر وطلب قوصون وبشتك وأصلح بينهما، ثم جعل ابنه أبا بكر سلطانا بعده وأوصاه بالأمراء وأوصى الأمراء به، وعهد إليهم ألا يخرجوا ابنه أحمد من الكرك، وحذّرهم من إقامته سلطانا. وجعل قوصون وبشتك وصييه، وإليهما تدبير أمر ابنه أبى بكر وحلّفهما، ثم حلّف الأمراء والخاصّكيّة وأكّد على ولده فى الوصية بالأمراء، وأفرج عن الأمراء المسجونين بالشام، وهم: طيبغا حاجى والجيبغا العادلى وصاروجا، ثم قام الأمراء عن السلطان فبات السلطان ليلة الثلاثاء وقد نحلت قوته، وأخذ فى النزع يوم الأربعاء فاشتدّ عليه كرب الموت، حتى فارق الدنيا فى أوّل ليلة الخميس حادى عشرين ذى الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وله من العمر سبع وخمسون سنة وأحد عشر شهرا وخمسة أيام، فإنّ مولده كان فى الساعة السابعة من يوم السبت سادس عشر المحرّم سنة أربع وثمانين وستمائة.

وأمه بنت سكتاى «1» بن قرا لاچين «2» بن جفتاى «3» التّتارىّ. وكان قدوم سكتاى مع أخيه قرمچى من بلاد التتار إلى مصر فى سنة خمس وسبعين وستمائة. ثم حمل السلطان

ص: 164

الملك الناصر ميّتا فى محفّة من القلعة بعد أن رسم بغلق الأسواق، ونزلوا به من وراء السور إلى باب النصر، ومعه من أكابر الأمراء بشتك وملكتمر الحجازىّ وأيدغمش أمير آخور، ودخلوا به من باب النصر إلى المدرسة «1» المنصوريّة ببين القصرين، فغسّل وحنّط وكفّن من البيمارستان «2» المنصورىّ، وقد اجتمع الفقهاء والقرّاء والأعيان ودام القرّاء على قبره أيّاما.

وأمّا مدّة سلطنته على مصر فقد تقدّم أنّه تسلطن ثلاث مرار، فأوّل سلطنته كانت بعد قتل أخيه الأشرف خليل بن قلاوون فى سنة ثلاث وتسعين وستمائة فى المحرّم، وعمره تسع سنين وخلع بالملك العادل كتبغا المنصورىّ فى المحرّم سنة أربع وتسعين، فكانت سلطنته هذه المرّة دون السنة، ثم توجّه إلى الكرك إلى أن أعيد إلى السلطنة بعد قتل المنصور حسام الدّين لاچين فى سنة ثمان «3» وتسعين وستمائة، فأقام فى الملك، والأمر إلى سلّار وبيبرس الجاشنكير إلى سنة ثمان وسبعمائة، وخلع نفسه وتوجّه إلى الكرك وتسلطن بيبرس الجاشنكير، وكانت مدته فى هذه المرّة الثانية نحو التسع سنين، ثم خلع بيبرس وعاد الملك الناصر إلى السلطنة ثالث مرّة فى شوّال سنة تسع وسبعمائة، واستبدّ من يوم ذاك بالأمر من غير معارض إلى أن مات فى التاريخ المذكور. وقد ذكرنا ذلك كلّه فى أصل ترجمته من هذا الكتاب مفصّلا.

فكانت مدّة تحكّمه فى هذه المرّة الثالثة اثنتين وثلاثين سنة وشهرين وخمسة «4» وعشرين يوما، وهو أطول ملوك الترك مدّة فى السلطنة، فإنّ أوّل سلطنته من سنة ثلاث

ص: 165

وتسعين وستمائة إلى أن مات نحوا من ثمان وأربعين سنة، بما فيها من أيام خلعه، ولم يقع ذلك لأحد من ملوك الترك بالديار المصريّة، فهو أطول الملوك زمانا وأعظمهم مهابة وأغزرهم عقلا وأحسنهم سياسة وأكثرهم دهاء وأجودهم تدبيرا وأقواهم بطشا وشجاعة وأحذقهم تنفيذا؛ مرّت به التجارب، وقاسى الخطوب، وباشر الحروب، وتقلّب مع الدهر ألوانا؛ نشأ فى الملك والسعادة، وله فى ذلك الفخر والسّيادة خليقا للملك والسلطنة، فهو سلطان وابن سلطان وأخو سلطان ووالد ثمانى سلاطين من صلبه، والملك فى ذرّيته وأحفاده وعقبه ومماليكه ومماليك مماليكه إلى يومنا هذا، بل إلى أن تنقرض الدولة التركيّة، فهو أجلّ ملوك الترك وأعظمها بلا مدافعة، ومن ولى السلطنة من بعده بالنسبة إليه كآحاد أعيان أمرائه.

وكان متجمّلا يقتنى من كلّ شىء أحسنه. أكثر فى سلطنته من شراء المماليك والجوارى، وطلب التجّار وبذل لهم الأموال، ووصف لهم حلى المماليك والجوارى.

وسيّرهم إلى بلاد أزبك خان وبلاد الجاركس «1» والروم، وكان التاجر إذا أتاه بالجلبة من المماليك بذل له أغلى القيم فيهم، فكان يأخذهم «2» ويحسن تربيتهم وينعم عليهم بالملابس، الفاخرة والحوائص الذهب والخيول والعطايا حتى يدهشهم، فأكثر التجار من جلب المماليك، وشاع فى الأقطار إحسان السلطان إليهم. فأعطى المغل أولادهم وأقاربهم للتجّار رغبة فى السعادة، فبلغ ثمن المملوك على التاجر أربعين ألف درهم، وهذا المبلغ جملة كثيرة بحساب يومنا هذا. وكان الملك الناصر يدفع للتاجر فى المملوك الواحد مائة ألف درهم وما دونها.

ص: 166

وكان مشغوفا أيضا بالخيل فجلبت له من البلاد، لا سيّما خيول العرب آل مهنّا وآل فضل، فإنه كان يقدّمها على غيرها، ولهذا كان يكرم العرب ويبذل لهم الرغائب فى خيولهم، فكان إذا سمع العربان بفرس عند بدوىّ أخذوها منه بأغلى القيمة، وأخذوا من السلطان مثلى ما دفعوا فيها. وكان له فى كلّ طائفة من طوائف العرب عين يدلّه على ما عندهم من الخيل من الفرس السابق أو الأصيل، بل ربّما ذكروا له أصل بعضها لعدّة جدود، حتّى يأخذها بأكثر مما كان فى نفس صاحبها من الثمن، فتمكّنت منه بذلك العربان، ونالوا المنزلة العظيمة والسعادات الكثيرة. وكان يكره خيول برقة فلا يأخذ منها إلا ما بلغ الغاية فى الجودة، وما عدا ذلك إذا جلبت إليه فرّقها. وكان له معرفة تامّة بالخيل وأنسابها، ويذكر من أحضرها له فى وقتها، وكان إذا استدعى بفرس يقول لأمير آخور: الفرس الفلانية التى أحضرها فلان واشتريتها منه بكذا وكذا. وكان إذا جاءه شىء منها عرضها وقلّبها بنفسه، فإن أعجبته دفع فيها من العشرة آلاف إلى أن اشترى بنت الكرماء بمائتى «1» ألف درهم، وهذا شىء لم يقع لأحد من قبله ولا من بعده، فإنّ المائتى ألف درهم كانت يوم ذاك بعشرة آلاف دينار. وأمّا ما اشتراه بمائة ألف وسبعين ألفا وستين ألفا وما دونها فكثير. وأقطع آل مهنّا وآل فضل بسبب ذلك عدّة إقطاعات، فكان أحدهم إذا أراد من السلطان شيئا قدم عليه فى معنى أنه يدلّه على فرس عند فلان ويعظّم أمره، فيكتب من فوره بطلب تلك الفرس فيشتدّ صاحبها ويمتنع [من قودها «2» ] ثم يقترح ما شاء، ولا يزال حتى يبلغ غرضه من السلطان فى ثمن فرسه.

ص: 167

وهو أوّل من اتّخذ من ملوك مصر ديوانا للإسطبل السلطانىّ وعمل له ناظرا وشهودا وكتّابا لضبط أسماء الخيل، وأوقات ورودها وأسماء أربابها، ومبلغ أثمانها ومعرفة سوّاسها وغير ذلك من أحوالها، وكان لا يزال يتفقّد الخيول، فإذا أصيب منها فرس أو كبر سنّه بعث به مع أحد الأوجاقية الى الجشّار «1» بعد ما يحمل عليها حصانا يختاره، ويأمر بضبط تاريخه، فتوالدت عنده خيول كثيرة، حتى أعنته عن جلب ما سواها. ومع هذا كان يرغب فى الفرس المجلوب إليه أكثر ممّا توالد عنده، فعظم العرب فى أيامه لجلب الخيل وشمل الغنى عامّتهم، وكانوا إذا دخلوا إلى مشاتيهم أو إلى مصايفهم يخرجون بالحلى والحلل والأموال الكثيرة، ولبسوا فى أيامه الحرير الأطلس المعدنىّ بالطّرز الزّركش والشاشات المرقومة، ولبسوا الخلع البابلىّ والإسكندرىّ المطرّز بالذهب، وصاغ السلطان لنسائهم الأطواق الذهب المرصّع وعمل لهم العناتر «2» بالأكر الذهب والأساور المرصّعة بالجوهر واللؤلؤ، وبعث لهنّ بالقماش السكندرى وعمل لهنّ البراقع الزّركش، ولم يكن لبسهم قبل ذلك إلا الخشن من الثياب على عادة العرب. وأجلّ ما لبس مهنّا أميرهم أيام الملك المنصور لاچين طرد وحش، لمودّة كانت بين لاچين وبين مهنّا بن عيسى، فأنكر الأمراء ذلك على الملك المنصور لاچين فاعتذر لهم بتقدّم صحبته له وأياديه عنده، وأنه أراد أن يكافئه على ذلك.

وكان الملك الناصر فى جشاره «3» ثلاثة آلاف فرس، يعرض فى كلّ سنة نتاجها عليه فيسلّمها للرّكّابين من العربان [لرياضتها «4» ] ثم يفرّق أكثرها على الأمراء

ص: 168

الخاصّكيّة، ويفرح بذلك ويقول: هذه فلانة بنت فلانة أو فلان بن فلان، عمرها كذا، وشراء أمّها بكذا وشراء أبيها بكذا.

وكان يرسم للأمراء فى كلّ سنة أن يضمّروا الخيول، ويرتّب على كل أمير من أمراء الألوف أربعة أرؤس يضمّرها. ثم يرسم لأمير آخور أن يضمّر خيلا من غير أن يفهم الأمراء أنّها للسلطان، بل يشيع أنّها له، ويرسلها للسّباق مع خيل الأمراء فى كلّ سنة. وكان للأمير قطلوبغا الفخرىّ حصان أدهم، سبق خيل مصر كلّها ثلاث سنين متوالية، فأرسل السلطان إلى مهنّا وأولاده أن يحضروا له الخيل للسّباق، فأحضروا له عدّة وضمّروا، فسبقهم حصان الفخرىّ الأدهم.

ثم بعد ذلك ركب السلطان إلى ميدان «1» القبق ظاهر القاهرة فيما بين قلعة الجبل وقبّة النصر، وهو أماكن الترب الآن، وأرسل الخيل للسّبق، وعدّتها دائما فى كلّ سنة ما ينيف على مائة وخمسين فرسا. وكان مهنّا بعث للسلطان حجرة شهباء للسّباق على أنها إن سبقت كانت للسلطان وإن سبقت ردّت إليه بشرط ألّا يركبها للسّباق إلا بدويّها الذي قادها إلى مصر. فلمّا ركب السلطان والأمراء على العادة ووقفوا ومعهم أولاد مهنا [بالميدان «2» ] وأرسلت الخيول من بركة الحاج كما جرت به العادة، وركب البدوىّ حجرة مهنّا الشهباء عريا بغير سرج، ولبس قميصا ولاطئة «3» فوق رأسه.

وأقبلت الخيول يتبع بعضها بعضا والشهباء قدّام الجميع، وبعدها على القرب منها حصان الأمير أيدغمشى أمير آخور يعرف بهلال، فلمّا وقف البدوىّ بالشهباء بين يدى السلطان، صاح بصوت ملأ الخافقين: السعادة لك اليوم يا مهنّا، لاشقيت! وألقى بنفسه إلى الأرض من شدّة التعب فقدّمها مهنّا للسلطان، فكان هذا دأب الملك الناصر فى كلّ سنة من هذا الشأن وغيره.

ص: 169

قلت: وترك الملك الناصر فى جشاره ثلاثة آلاف فرس، وترك بالإسطبلات السلطانية أربعة آلاف فرس وثمانمائة فرس، ما بين حجورة ومهارة وكحولة «1» وأكاديش، وترك من الهجن الأصائل والنّياق نيّفا على خمسة آلاف سوى أتباعها.

وأما الجمال النّفر والبغال فكثير.

وكان الملك الناصر أيضا شغوفا بالصيد، فلم يدع أرضا تعرف بالصيد إلّا وأقام بها صيّادين مقيمين بالبريّة أوان الصيد، وجلب طيور الجوارح من الصّقورة والشواهين والسّناقر والبزاة، حتى كثرت السناقر فى أيامه. وصار كلّ أمير عنده منها عشرة سناقر وأقلّ وأكثر. وجعل [له «2» ] البازداريّة «3» والحونداريّة «4» وحرّاس الطير، وما هو موجود بعضه الآن، وأقطعهم الإقطاعات الجليلة، وأجرى لهم الرواتب من اللّحم والعليق والكساوى وغير ذلك، ولم يكن ذلك قبله لملك، فترك بعد موته مائة وعشرين سنقرا، ولم يعهد بمثل هذا لملك قبله، بل كان لوالده الملك المنصور قلاوون سنقر واحد، وكان المنصور إذا ركب فى المركب للصيد كان بازداره أيضا راكبا والسنقر على يده. وترك الملك الناصر من الصّقورة والشواهين ونحوها مالا ينحصر كثرة. وترك ثمانين جوقة كلاب بكلا بزيّتها، وكان أخلى لها موضعا بالجبل.

وعنى أيضا بجمع الأغنام وأقام لها خولة، وكان يبعث فى كلّ سنة الأمير آقبغا عبد الواحد فى عدّة من المماليك لكشفها، فيكشف المراحات من قوص إلى الجيزة،

ص: 170

ويأخذ منها ما يختاره من الأغنام، وجرّده مرّة إلى عيذاب «1» والنّوبة لجلب الأغنام.

ثم عمل لها حوشا بقلعة الجبل؛ وقد ذكرنا ذلك فى وقته، وأقام لها خولة نصارى من الأسرى.

وعنى أيضا بالإوزّ وأقام لها عدّة من الخدّام وجعل لها جانبا بحوش الغنم.

ولما مات ترك ثلاثين ألف رأس من الغنم سوى أتباعها، فاقتدى به الأمراء وصارت لهم الأغنام العظيمة فى غالب أرض مصر. وكان كثير العناية بأرباب وظائفه وحواشيه من أمراء آخوريّة والأوجاقية وغلمان الإسطبل والبازدارية والفرّاشين والخولة والطبّاخين. فكان إذا جاء أوان تفرقة الخيول على الأمراء بعث إلى الأمير بما جرت به عادته مما رتبه له فى كلّ سنة مع أمير اخور وأوجاقى وسايس وركبدار، ويترقّب عودهم حتى يعرف ما أنعم به ذلك الأمير عليهم، فإن شحّ الأمير فى عطاياتهم تنكّر عليه وبكّته بين الأمراء ووبّخه، وكان قرّر أن يكون الأمير آخور بينهم بقسمين ومن عداه بقسم واحد. وكان أيضا إذا بعث لأمير بطير مع أمير شكار أو واحد من البازداريّة يحتاج الأمير أن يلبسه خلعة كاملة بحياصة ذهب وكلفتاه زركش، فيعود بها ويقبّل الأرض بين يديه فيستدنيه ويفتّش خلعته.

وكانت عادته أن يبعث فى يوم النحر أغنام الضحايا مع الأبقار والنّوق إلى الأمراء، فبعث مرّة مع بعض خولة النصارى إلى الأمير يلبغا «2» حارس طيره ثلاثة كباش فأعطاه عشرة «3» دراهم فلوسا وعاد إلى السلطان، فقال له: وأين خلعتك؟ فطرح الفلوس بين يديه وعرّفه بقدرها، فغضب وأمر بعض الخدّام أن يسير بالخولىّ إلى عنده ويوبّخه ويأمره أن يلبسه خلعة طرد وحش. وكانت حرمته ومهابته وافرة قد

ص: 171

تجاوزت الحدّ، حتّى إنّ الأمراء كانوا إذا وقفوا بالخدمة لا يجسر أحد منهم أن يتحدّث مع رفيقه، ولا يلتفت نحوه خوفا من مراقبة السلطان لهم، وكان لا يجسر أحد أن يجتمع مع خشداشه فى نزهة ولا غيرها. وكان له المواقف المشهودة، منها:

لمّا لقى غازان على فرسخ من حمص «1» ، وقد تقدّم ذكر ذلك. ثم كانت له الوقعة العظيمة مع التتار أيضا بشقحب «2» ، وأعزّ الله تعالى فيها الإسلام وأهله؛ ودخلت عساكره بلاد سيس «3» ، وقرّر على أهلها الخراج أربعمائة ألف درهم فى السنة بعد ما غزاها ثلاث مرار. وغزا ملطية «4» وأخذها وجعل عليها الخراج، ومنعوه مرّة فبعث العساكر إليها حتى أطاعوه. وأخذ مدينة آياس «5» وخرّب البرج الأطلس وسبعة حصون وأقطع أراضيها للأمراء والأجناد. وأخذ جزيرة أرواد «6» من الفرنج. وغزا بلاد اليمن وبلاد عانة «7» وحديثة «8» فى طلب مهنّا. وجرّد إلى مكّة والمدينة العساكر لتمهيدها «9» غير مرّة، ومنع أهلها من حمل السلاح بها. وعمّر قلعة جعبر «10» بعد خرابها، وأجرى

ص: 172

نهر حلب إلى المدينة. وخطب له بماردين «1» وجبال الأكراد وحصن «2» كيفا وبغداد وغيرها من بلاد الشرق، وهو بكرسىّ مصر. وأتته هدية ملوك الغرب والهند والصين والحبشة والتّكرور «3» والروم والفرنج والتّرك.

وكان، رحمه الله، على غاية من الحشمة والرياسة وسياسة الأمور، فلم يضبط عليه أحد أنّه أطلق لسانه بكلام فاحش فى شدّة غضبه ولا فى انبساطه، مع عظيم ملكه وطول مدّته فى السلطنة وكثرة حواشيه وخدمه. وكان يدعو الأمراء والأعيان وأرباب الوظائف بأحسن أسمائهم وأجلّ ألقابهم، وكان إذا غضب على أحد لا يظهر له ذلك، وكان مع هذه الشهامة وحبّ التجمّل مقتصدا فى ملبسه، يلبس كثيرا «4» البعلبكىّ والنّصافى المتوسط، ويعمل حياصته فضة نحو مائة درهم بغير ذهب ولا جوهر. ويركب بسرج مسقّط بفضة التى زنتها دون المائة درهم، وعباءة فرسه إمّا تدمرىّ أو شامىّ، ليس فيها حرير.

وكان مفرط الذكاء، يعرف جميع مماليك أبيه وأولادهم بأسمائهم، ويعرّف بهم الأمراء خشداشيتهم فيتعجبون الأمراء من ذلك، وكذلك مماليكه لا يغيب عنه اسم واحد منهم ولا وظيفته عنده، ولا مبلغ جامكيّته، هذا مع كثرتهم. وكان أيضا يعرف غلمانه وحاشيته على كثرة عددهم، ولا يفوته معرفة أحد من الكتّاب، فكان إذا أراد أن يولّى أحدا مكانا أو يرتّبه فى وظيفة استدعى جميع الكتّاب بين يديه

ص: 173

واختار منهم واحدا أو أكثر من واحد من غير أن يراجع فيهم، ثم يقيمه فيما يريد من الوظائف. وكان إذا تغيّر على أحد من أمرائه أو كتّابه أسرّ ذلك فى نفسه، وتروّى فى ذلك مدة طويلة وهو ينتظر له ذنبا يأخذه به، كما وقع له فى أمر كريم الدين الكبير وأرغون النائب وغيرهم، وهو يتأنّى ولا يعجّل، حتى لا ينسب إلى ظلم، فإنه كان يعظم عليه أن يذكر عنه أنه ظالم أو جائر، أو وقع فى أيامه خراب أو خلل، ويحرص على حسن القالة فيه.

وكان يستبدّ بأمور مملكته وينفرد بالأحكام، حتى إنه أبطل نيابة السلطنة من ديار مصر ليستقلّ هو بأعباء الدولة وحده، وكان يكره أن يقتدى بمن تقدّمه من الملوك، فمن أنشأه «1» من الملوك كائنا من كان، ولا يدخلهم المشورة حتى ولا بكتمر الساقى ولا قوصون ولا بشتك وغيرهم، بل كان لا يقتدى إلّا بالقدماء من الأمراء.

وكان يكره شرب الخمر ويعاقب عليه ويبعد من يشربه من الأمراء عنه.

وكان فى الجود والكرم والإفضال غاية لا تدرك خارجة عن الحدّ، وهب فى يوم واحد ما يزيد على مائة ألف دينار ذهبا، وأعطى فى يوم واحد لأربعة من مماليكه وهم الأمير ألطنبغا الماردانىّ ويلبغا اليحياوىّ وملكتمر الحجازىّ وقوصون مائتى ألف دينار، ولم يزل مستمرّ العطاء لخاصّكيّته ومماليكه ما بين عشرة آلاف دينار وأكثر منها وأقلّ، ونحوها من الجوهر واللآلئ. وبذل فى أثمان الخيل والمماليك ما لم يسمع بمثله. وجمع من المال والجوهر والأحجار ما لم يجمعه ملك من ملوك الدولة التركيّة قبله مع فرط كرمه.

ص: 174

قلت: كلّ ذلك لحسن تدبيره وعظم معرفته، فإنّه كان يدرى مواطن استجناء المال فيستجنيه منها، ويعرف كيف يصرفه فى محلّه وأغراضه فيصرفه. ولم يشهر عنه أنه ولى قاض فى أيامه برشوة، ولا محتسب ولا وال، بل كان هو يبذل لهم الأموال ويحرّضهم على عمل الحق، وتعظيم الشرع الشريف، وهذا بخلاف من جاء بعده، فإن غالب ملوك مصر ممن ملك مصر بعده يقتدى بشخص من أرباب وظائفه، فيصير ذلك الرجل هو السلطان حقيقة والسلطان من بعض من يتصرّف بأوامره، وكلّ ذلك لقصر الإدراك وعدم المعرفة، فلذلك يتركون الأموال الجليلة والأسباب التى يحصل منها الألوف المؤلّفة، ويلتفتون إلى هذا النّزر اليسير القبيح الشنيع الذي لا يرتضيه من له أدنى همّة ومروءة، وهو الأخذ من قضاة الشرع عند ولايتهم المناصب وولاة الحسبة والشّرطة، وذلك كلّه وإن تكرر فى السنة فهو شىء قليل جدّا، يتعوّض من أدنى الجهات التى لا يؤبه إليها من أعمال مصر، فلو وقع ذلك لكان أحسن فى حقّ الرعيّة وأبرأ لذمّة السلطان والمسلمين من ولاية قضاة الشرع بالرشوة، وما يقع بسبب ذلك فى الأنكحة والعقود والأحكام وما أشبه ذلك. انتهى.

وكان الملك الناصر يرغب فى أصناف الجوهر، فجلبتها إليه التّجار من الأقطار.

وشغف بالجوارى السّرارى، فحاز منهن كلّ بديعة الجمال، وجهّز له إحدى عشرة ابنة بالجهاز العظيم، فكان أولهنّ «1» جهازا بثمانماثة ألف دينار، [منها «2» ] قيمة بشخاناه وداير بيت وما يتعلّق به مائة ألف دينار، وبقيّة ذلك ما بين جواهر ولآلئ وأوانى ونحو ذلك، وزوّجهنّ «3» لمماليكه مثل الأمير قوصون وبشتك وألطنبغا الماردانىّ

ص: 175

وطغاى تمر وعمر بن أرغون النائب وغيرهم. وجهز جماعة من سراريه وجواريه ومن تحسن بخاطره، كلّ واحدة بقريب ذلك وبمثله وأكثر منه. واستجدّ النساء فى زمانه الطّرحة، كلّ طرحة بعشرة آلاف دينار وما دون ذلك إلى خمسة آلاف دينار، والفرجيّات بمثل ذلك. واستجدّ النساء فى زمانه الخلاخيل الذهب والأطواق المرصعة بالجواهر الثمينة والقباقيب الذهب المرصّعة والأزر الحرير وغير ذلك.

وكان الملك الناصر كثير الدهاء مع ملوك الأطراف يهاديهم ويستجلبهم إلى طاعته بالهدايا والتّحف، حتى يذعنوا له فيستعملهم فى حوائجه ويأخذ بعضهم ببعض، وكان يصل إلى قتل من يريد قتله بالفداويّة «1» لكثرة بذله لهم الأموال. وكان يحبّ العمارة فلم يزل من حين قدم من الكرك إلى أن مات مستمرّ العمارة، فحسب تقدير مصروفه فجاء فى كلّ يوم مدّة هذه السنين ثمانية آلاف درهم، قوّمّ ذلك بطالة على عمل والسفر والحضر والعيد والجمعة. وكان ينفق على العمارة المائة ألف درهم،

ص: 176

فإذا رأى منها ما لا يعجبه هدمها كلّها وجدّدها على ما يختاره. ولم يكن من قبله من الملوك فى الإنفاق على العمائر كذلك. وقد حكى عن والده الملك المنصور قلاوون أنه أراد أن يبنى مصطبة عليها رفرف تقيه حرّ الشمس إذا جلس عليها، فكتب له الشجاعىّ تقدير مصروفها أربعة آلاف درهم، فتناول المنصور الورقة من يد الشجاعىّ ومزّقها وقال: أقعد فى مقعد بأربعة آلاف درهم، انصبوا لى صيوانا إذا نزلت على المصطبة. ومع هذا كلّه خلّف الملك الناصر فى بيت المال من الذهب والقماش أضعاف ما خلّفه المنصور قلاوون. وكانت المظالم أيام الملك المنصور قلاوون أكثر مما كانت فى أيام الناصر هذا.

قلت: عود وانعطاف إلى ما كنّا فيه من أنّ الأصل فى تدبير الملك وتحصيل الأموال المعرفة والذكاء وجودة التنفيذ. انتهى.

قلت: والملك المنصور قلاوون كان أسمح من الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ وأقلّ ظلما. والحقّ يقال ليس الظاهر والمنصور من خيل هذا الميدان، ولا بينهما وبين الملك الناصر هذا نسبة فى أمر من الأمور. انتهى.

هذا على أن الملك الناصر لمّا عمل الرّوك الناصرىّ أبطل مظالم كثيرة من الضمانات والمكوس وغيرها حسب ما ذكرناه فى وقته، ومع هذا لم يحسن عليه محسن. وكان الملك الناصر واسع النفس على الطعام يعمل فى سماطه فى كلّ يوم الحلاوات والمآكل المفتخرة وأنواع الطير، وبلغ راتب سماطه فى كلّ يوم وراتب مماليكه من اللحم ستة وثلاثين ألف رطل لحم فى اليوم، سوى الدجاج والإوزّ والرّمسان «1» والجدى المشوى والمهارة وأنواع الوحوش كالغزلان والأرانب وغيره.

ص: 177

واستجدّ فى أيامه عمائر كثيرة منها: حفر خليج الإسكندرية «1» ، حفروه فى مدّة أربعين يوما، عمل فيه نحو المائة ألف رجل من النواحى. واستجدّ عليه عدّة سواقى وبساتين فى أراض كانت سباخا فصارت مزارع قصب سكر وسمسم وغيره. وعمّرت هناك الناصرية «2» ،

ص: 178

ونقل إليها المقداد «1» بن شمّاس وأولاده، وعدّة أولاده مائة ولد ذكر.

واستمرّ الماء فى خليج الإسكندرية طول السنة، وفرح الناس بهذا الخليج فرحا زائدا، وعظمت المنافع به. وأنشأ الميدان «2» تحت قلعة الجبل وأجرى له المياه وغرس فيه النخل والأشجار، ولعب فيه بالكرة فى كلّ يوم ثلاثاء مع الأمراء والخاصّكيّة وأولاد الملوك. وكان الملك الناصر يجيد لعب الكرة إلى الغاية بحيث إنه كان لا يدانيه فيها أحد فى زمانه إلّا إن كان ابن أرغون النائب. ثم عمّر فوق الميدان هذا القصر الأبلق «3» وأخرب البرج الذي كان عمّره أخوه الأشرف خليل على

ص: 179

الإسطبل وجعل مكانه القصر المذكور. وعمّر فوقه رفرفا وعمّر بجانبه برجا «1» نقل إليه المماليك، وغيّر باب «2» النحاس من قلعة الجبل ووسّع دهليزه، وعمّر فى الساحة تجاه الإيوان طباقا»

للأمراء الخاصّكيّة، وغيّر عمارة الإيوان «4» مرّتين، ثم فى الثالثة أقرّه على ما هو عليه الآن، وحمل إليه العمد الكبار من بلاد الصعيد، فجاء من أعظم المبانى الملوكيّة، ورتّب خدمته بالإيوان بأنواع مهولة عجيبة مزعجة لمن يقدم من رسل الملوك، يطول الشرح فى ذكر ترتيب ذلك. ثم رتّب خدم القصر ومشدّيه، وما كان يفرش فيه من أنواع البسط والستائر، وكيفية حركة أرباب الوظائف فيه.

ثم عمّر بالقلعة أيضا دورا للأمراء الذين زوّجهم لبناته، وأجرى إليها المياه وعمل بها الحمّامات وزاد فى باب القلّة «5» من القلعة بابا ثانيا. وعمّر جامع «6» القلعة

ص: 180

والقاعات «1» السبع التى تشرف على الميدان لأجل سراريه. وعمّر باب «2» القرافة. وكان غالب عمائره بالحجارة خوفا من الحريق. وعزم على أن يغيّر باب المدرّج «3» ويعمل له

ص: 181

دركاه «1» فمات قبل ذلك. وعمّر بالقلعة حوش «2» الغنم وحوش البقر وحوش المعزى فأوسع فيها نحو خمسين فدانا. وعمّر الخانقاة «3» بناحية سرياقوس ورتّب فيها مائة صوفىّ لكل منهم الخبز واللحم والطعام والحلوى وسائر ما يحتاج إليه.

قلت: وقد صارت الخانقاة الآن مدينة عظيمة. انتهى.

قال: وعمّر القصور بسرياقوس، وعمل لها بستانا حمل إليه الأشجار من دمشق وغيرها، فصار بها عامّة فواكه الشام. وحفر الخليج «4» الناصرىّ خارج القاهرة حتى أوصله بسرياقوس، وعمّر على هذا الخليج أيضا عدّة قناطر «5» ، وصار

ص: 182

بجانبى هذا الخليج عدّة بساتين وأملاك. وعمّرت به أرض الطبّالة بعد خرابها من أيام العادل كتبغا. وعمّرت جزيرة الفيل، وناحية بولاق بعد ما كانت رمالا، يرمى بها المماليك النّشّاب، وتلعب الأمراء بها الكرة، فصارت كلّها دورا وقصورا وجوامع وأسواقا وبساتين، وبلغت البساتين بجزيرة الفيل فى أيامه مائة وخمسين بستانا بعد ما كانت نحو العشرين بستانا. واتّصنت العمائر من ناحية منية «1» الشّيرج على النيل

ص: 183

إلى جامع الخطيرىّ إلى حكر «1» ابن الأثير وزريبة «2» قوصون وإلى منشأة المهرانى «3» إلى بركة

ص: 184

الحبش، حتّى كان الإنسان يتعجّب لذلك، فإنه كان قبل ذلك بمدّة يسيرة تلالا ورمالا وحلفاء، فصار لا يرى قدر ذراع إلّا وفيه بناء. كلّ ذلك من محبّة السلطان للتعمير. فصار كلّ أحد فى أيامه يفعل ذلك ويتقرّب إلى خاطره بهذا الشأن.

وصار لهم أيضا غيّة فى ذلك، كما قيل: الناس على دين مليكهم، بل قيل إنه كان إذا سمع بأحد قد أنشأ عمارة بمكان شكره فى الملأ وأمدّه فى الباطن بالمال والآلات، وغيرها، فعمّرت مصر فى أيامه وصارت أضعاف ما كانت، كما سيأتى ذكره من الحارات والحكورة والأماكن. فممّا عمّر فى أيامه أيضا القطعة «1» التى فيما بين قبّة الإمام الشافعىّ، رضى الله عنه، إلى باب القرافة طولا وعرضا بعد ما كانت فضاء «2» لسباق خيل الأمراء والأجناد والخدّام، فكان يحصل هناك أيّام السّباق اجتماعات جليلة للتفرّج على السّباق إلى أن أنشأ الأمير بيبغا «3» التّركمانىّ تربته «4» بها، وشكره السلطان. فأنشأ الناس فيه تربا حتى صارت كما ترى.

قلت: وكذا وقع أيضا فى زماننا هذا بالساحة التى كانت تجاه تربة «5» الملك الظاهر برقوق (أعنى المدرسة الناصرية بالصحراء) فإنها كانت فى أوائل الدولة

ص: 185

الأشرفية برسباى ساحة كبيرة يلعب فيها المماليك السلطانية بالرّمح، وهى الآن كما ترى من العمائر. وكذا وقع أيضا بالساحة «1» التى كانت من جامع أيدمر الخطيرىّ على ساحل بولاق إلى بيت المقرّ الكمال «2» ابن البارزىّ، فإنّ الملك المؤيّد شيخ جلس فى حدود سنة عشرين وثمانمائة ببيت القاضى ناصر «3» الدين ابن البارزى والد كمال الدين المذكور بساحة بولاق، وساقت الرّمّاحة المحمل قدّامه بالساحة المذكورة، وهى الآن كما هى من الأملاك. وكذلك وقع أيضا بخانقاه سرياقوس وأنّها كانت ساحة عظيمة من قدّام خانقاه الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب الترجمة إلى الفضاء، حتى عمّر بها الأمير سودون بن عبد الرحمن مدرسته «4» فى حدود سنة ست وعشرين

ص: 186

وثمانمائة، فكان ما بين المدرسة العبد الرحمانية المذكورة وبين باب الخانقاه الناصرية ميدان كبير. انتهى. وقد خرجنا عن المقصود ولنرجع إلى ما كنا فيه من ذكر الملك الناصر محمد فنقول أيضا:

وعمّر أيضا فى أيامه الصحراء التى ما بين قلعة الجبل وخارج باب «1» المحروق إلى تربة الظاهر برقوق المقدّم ذكرها. وأوّل من عمّر فيها الأمير قراسنقر تربته «2» ، وعمّر بها حوض السبيل يعلوه مسجد. ثم اقتدى به جماعة من الأمراء والخوندات والأعيان مثل خوند طغاى، عمّرت بها تربتها «3» العظيمة، ومثل طشتمر «4» حمّص أخضر

ص: 187

الناصرىّ، ومثل طشتمر «1» طلليه الناصرىّ وغيرهم. وكان هذا الموضع ساحة عظيمة، وبه ميدان «2» القبق من عهد الملك الظاهر بيبرس برسم ركوب السلطان وعمل الموكب به برسم سباق الخيل، فلما عمّر قراسنقر تربته عمّر الناس بعده حتى صارت الصحراء مدينة عظيمة. وعمر الملك الناصر أيضا لمماليكه عدّة قصور خارج القاهرة، وبها منها قصر «3» الأمير طقتمر الدّمشقى بحدرة البقر، وبلغ مصروفه ثمانمائة ألف درهم.

فلمّا مات طقتمر أنعم به على الأمير طشتمر حمّص أخضر فزاد فى عمارته. ومنها قصر «4» الأمير بكتمر الساقى على بركة الفيل بالقرب من الكبش، فعمل أساسه أربعين ذراعا وارتفاعه أربعين ذراعا فزاد مصروفه على «5» ألف ألف درهم. ومنها

ص: 188

الكبش «1» ، حيث كان عمارة الملك الصالح نجم الدين أيّوب فعمله الملك الناصر سبع قاعات برسم بناته ينزلون فيه للفرجة على ركوب السلطان للميدان «2» الكبير. لم ينحصر ما أنفقه فيها لكثرته. ومنها إسطبل «3» الأمير قوصون بسوق «4» الخيل تحت القلعة تجاه باب «5» السلسلة، وكان أصله إصطبل الأمير سنجر البشمقدار وسنقر الطويل. ومنها قصر «6» بهادر الجوبانىّ بجوار زاوية «7» البرهان الصائغ بالجسر الأعظم تجاه الكبش. ومنها

ص: 189

قصر قطلوبغا «1» الفخرىّ وقصر ألطنبغا «2» الماردانىّ وقصر يلبغا «3» اليحياوىّ، وهؤلاء أجلّ ما عمّر من القصور وهم موضع المدرسة الناصريّة «4» الحسنيّة، أخذهم الملك الناصر حسن وهدمهم وعمّر مكان ذلك مدرسته المشهورة به. وعمّر فى أيامه الأمراء عدّة دور وقصور، منها: دار الأمير «5» أيدغمش أمير آخور وقصر بشتك «6» وغيره.

وكان الملك الناصر له عناية كبيرة ببلاد «7» الجيزة، حتى إنه عمل على كلّ بلد جسرا وقنطرة، وكانت قبل ذلك أكثر بلادها تشرق لعلوّها، فعمل جسر أمّ دينار «8» ، فى ارتفاع اثنتى عشرة قصبة. أقام العمل فيه مدّة شهرين، وهو الذي اقترحه فحبس الماء حتى ردّه «9» على تلك الأراضى، وعمّ النفع بها جميع أهل الجيزة. ومن يومئذ قوى «10» بسبب هذا الجسر الماء حتى حفر بحرا يتّصل بالجيزة «11» . وخرج فى أراضى الجيزة عدّة مواضع وزرعت بعد ما كانت شاسعة، وأخذ من هذه

ص: 190

الأراضى قوصون وبشتك وغيرهما عدّة أراض عمّروها ووقفوها. واستجدّ السلطان على بقية الأراضى ثلثمائة جندىّ.

قلت: هذا وأبيك العمل! وأين هذا من فعل غيره! ينظر إلى أحسن البلاد فيأخذها ويوقفها فيخربها النّظار بعد سنين؛ فالفرق واضح لا يحتاج إلى بيان.

وهذا الذي أشرنا إليه من أن الملك إذا كان له معرفة حصل له أغراضه من جمع المال من هذا الوجه وغيره، ولا يحتاج لأخذ الرشوة من الحكّام والإفحاش فى أخذ المكوس وغيرها ومثل ذلك فكثير.

واستجدّت فى ايام الملك الناصر عدّة أراضى أيضا بالشرقية «1» ونواحى فوّة «2» وغيرها أقطعت للأجناد، وكانت قبل ذلك لسنين كثيرة خرابا لا ينتفع بها. وعمل أيضا سدّ «3»

ص: 191

شبين القصر فزاد بسببه خراج الشرقية زيادة كثيرة. وعمل جسرا «1» خارج القاهرة حتى ردّ النيل عن منية الشّيرج وغيرها، فعمّر بذلك عدّة بساتين بجزيره الفيل، وأحكم عامّة أراضى مصر قبليّها وبحريّها بالتراع والجسور حتى أتقن أمرها، وكان يركب إليها برسم الصّيد كلّ قليل، ويتفقّد أحوالها بنفسه، وينظر فى جسورها وتراعها وقناطرها، بحيث إنه لم يدع فى أيّامه موضعا منها حتى عمل فيه ما يحتاج إليه. وكان له سعد فى جميع أعماله، فكان يقترح المنافع من قبله، بعد أن كان يزهّده فيما يأمر به حذّاق المهندسين، ويقول بعضهم: ياخوند، الذين جاءوا من قبلنا لو علموا أن هذا يصحّ فعلوه، فلا يلتفت إلى قولهم، ويفعل ما بدا له من مصالح البلاد، فتأتيه أغراضه على ما يحبّ وزيادة، فزاد فى أيّامه خراج مصر زيادة هائلة فى سائر الأقاليم. وكان إذا سمع بشراقى بلد أو قرية من القرى أهمّه ذلك وسأل المقطع بها عن أحوال القرية المذكورة غير مرّة، بل كلّما وقع بصره عليه، ولا يزال يفحص عن ذلك حتّى يتوصّل إلى ريّها بكل ما تصل قدرته إليه.

كلّ ذلك وصاحبها لا يسأله فى شىء من أمرها فيكلّمه بعض الأمراء فى ذلك فيقول: هذه قريتى، وأنا الملزوم بها والمسئول عنها، فكان هذا دأبه. وكان يفرح إذا سأله بعض الأجناد فى عمل مصلحة بلده بسبب عمل جسر أو تقاوى أو غير ذلك، وينبل ذلك الرجل فى عينه، ويفعل له ما طلبه من غير توقّف ولا ملل فى إخراج المال، فإن كلّمه أحد فى ذلك فيقول: فلم نجمع المال فى بيت مال

ص: 192

المسلمين إلّا لهذا المعنى وغيره! فهذه كانت عوائده، وكذلك فعل بالبلاد الشاميّة، حتى إنّ مدينة غزّة هو الذي مصّرها وجعلها على هذه الهيئة، وكانت قبل كآحاد قرى البلاد الشاميّة، وجعل لها نائبا، وسمّى بملك الأمراء، ولم تكن قبل ذلك إلّا ضيعة من ضياع الرملة، ومثلها فكثير من قرى الشام وحلب والساحل يطول الشرح فى ذكر ذلك.

وأنشأ الملك الناصر بالديار المصريّة الميدان «1» الكبير على النيل، وخرّب ميدان «2» اللّوق الذي كان عمّره الظاهر بيبرس وعمله بستانا، وقد تقدّم ذكره. ثم أنعم السلطان بالبستان المذكور على الأمير قوصون، فبنى قوصون تجاهه زريبته المعروفة بزريبة قوصون بنيانا ووقفه، واقتدى الأمراء بقوصون فى العمارة. ثم أخذ

ص: 193

قوصون بستان «1» الأمير بهادر رأس نوبة، وحكره للناس، ومساحته خمسة عشر فدّانا، فبنوه دورا على الخليج، فعرف بحكر قوصون، وحكر السلطان حول البركة «2» الناصريّة أراضى البستان فعمّروها الناس وسكنوا فيه، ثم حكر الأمير طقز دمر

ص: 194

الحموىّ الناصرى بستانا «1» بجوار الخليج، مساحته ثلاثون فدانا، وبنى له قنطرة «2» عرفت به، وعمل هناك حمّاما وحوانيت أيضا، فصار حكرا عظيم المساكن.

قلت: وطقز دمر هذا هو الذي جدّد الخطبة بالمدرسة «3» المعزّيّة الأيبكيّة على النيل بمصر القديمة.

ص: 195

ثم حكر الأمير آقبغا عبد الواحد بستانا «1» بجوار بركة قارون «2» ظاهر القاهرة، فعمره عمارة كبيرة، وأخذ بقيّة الأمراء جميع ما كان من البساتين والجنينات ظاهر القاهرة وحكروها، وحكرت دادة السلطان الملك الناصر الستّ «3» حدق والستّ

ص: 196

مسكة القهرمانة حكرين عرفا بهما. وأنشأت كلّ واحدة منهما فى حكرها جامعا «1»

ص: 197

تقام به الجمعة، فزادت الأحكار فى أيام الملك الناصر على ستين حكرا، وبهذا اتّصلت العمائر من باب زويلة إلى سدّ «1» مصر، بعد ما كانت ساحة مخيفة. كلّ ذلك لما علم الناس من حبّ السلطان للعمر.

قلت: وعلى هذا زادت الديار المصرية فى أيامه مقدار النصف. قال: وعمرت فى أيامه بالديار المصرية عدّة جوامع تقام فيها الخطب زيادة على ثلاثين جامعا، منها: الجامع الناصرىّ «2» بقلعة الجبل، جدّده وأوسعه. ومنها الجامع «3» الجديد الناصرىّ أيضا على نيل مصر. ومنها جامع «4» الأمير طيبرس الناصرىّ «5» نقيب الجيش على النيل

ص: 198

بجوار خانقاته، وقد ذهب أثر هذا الجامع المذكور من سنين. ثم عمّر طيبرس المذكور مدرسته «1» المشهورة به بجوار الجامع الأزهر، ولمّا خرب جامعه المذكور الذي كان على النيل نقل الصوفيّة الذين كانوا به إلى المدرسة المذكورة. انتهى. ومنها جامع «2» المشهد النفيسىّ لا أعلم من بناه، ومنها جامع «3» الأمير بدر الدين محمد التّركمانىّ بالقرب

ص: 199

من باب البحر. ثم جامع «1» الأمير كراى المنصورى بآخر الحسينية. وجامع «2» كريم الدين خلف الميدان. وجامع «3» شرف الدين الجاكى

ص: 200

بسويقة «1» الرّيش. وجامع «2» الفخر ناظر الجيش على النيل فيما بين بولاق وجزيرة

ص: 201

الفيل. وجامعا «1» آخر خلف خصّ «2» الكيّالة ببولاق. وجامعا «3» ثالثا بالروضة.

وجامع «4» أمير حسين بالحكر «5» ، وبنى له قنطرة «6» على الخليج بالقرب منه.

ص: 202

وجامع «1» الأمير قيدان الرومىّ بقناطر «2» الإوزّ. وجامع «3» دولة شاه مملوك العلائى بكوم «4» الرّيش. وجامع «5» الأمير ناصر الدين الشّرابيشىّ الحرّانىّ بالقرافة.

ص: 203

وجامع «1» الأمير آقوش نائب الكرك بطرف الحسينية بالقرب من الخليج. وجامع «2» الأمير آق سنقر شادّ العمائر قريبا من الميدان «3» . وجامعا «4» خارج باب القرافة، عمّره

ص: 204

جماعة من العجم. وجامع «1» التّوبة بباب «2» البرقيّة، عمّره مغلطاى أخو

ص: 205

الأمير ألماس. وجامع «1» بنت الملك الظاهر بالجزيرة المستجدّة المعروفة بالوسطانية «2» . وجامع «3» الأمير ألماس الناصرىّ الحاجب بالقرب من حوض «4»

ص: 206

ابن هنس بالشارع الأعظم خارج القاهرة. وجامع «1» الأمير قوصون الناصرىّ بالقرب منه أيضا على الشارع خارج القاهرة، وله أيضا جامع «2» وخانقاه «3» خارج باب القرافة.

وجامع «4» الأمير عزّ الدين أيدمر الخطيرىّ بساحل بولاق، وجامع «5» أخى صاروجا بشون «6»

ص: 207

القصب. وجامع «1» الأمير بشتك الناصرىّ على بركة الفيل تجاه خانقاته «2» . وجامع «3» الأمير

ص: 208

آل ملك بالحسينية. وجامع «1» الست حدق الدّادة فيما بين السّدّ وقناطر «2» السّباع. وجامع «3» السّتّ مسكة قريبا من قنطرة «4» آق سنقر. وجامع «5» الأمير ألطنبغا الماردانىّ خارج باب زويلة. وجامع «6» المظفّر بسويقة الجمّيزة «7» من الحسينية. وجامع «8» جوهر السّحرتى قريبا

ص: 209

من باب «1» الشعرية، وجامع «2» فتح الدين محمد بن عبد الظاهر بالقرافة. وغير ذلك من المدارس والمساجد، وهذا كله بديار مصر.

وأما ما بنى بالبلاد الشامية فى أيامه فكثير جدّا. وآخر ما بناه الملك الناصر السواقى التى بالرّصد «3» ، ومات قبل أن يكملها. وكان الملك الناصر فى آخر أيامه شغف بحبّ الجوارى المولّدات وحملن إليه، فزادت عدّتهنّ عنده على ألف ومائتى وصيفة.

وخلّف من الأولاد الذكور أبا بكر ومحمدا وإبراهيم وعليّا وأحمد وكجك ويوسف وشعبان وإسماعيل ورمضان وحاجى وحسينا وحسنا وصالحا. وتسلطن من ولده لصلبه ثمانية: أبو بكر وكجك وأحمد وإسماعيل وشعبان وحاجى وحسن وصالح ثم حسن ثانيا حسب ما يأتى ذكر ذلك كله فى محلّه إن شاء الله تعالى. وخلّف من البنات سبعا.

قال الشيخ صلاح الدين الصفدىّ فى تاريخه: وكان الملك الناصر ملكا عظيما محظوظا مطاعا مهيبا ذا بطش ودهاء وحزم شديد وكيد مديد، قلّما حاول أمرا فانخرم عليه فيه شىء يحاوله، إلّا أنه كان يأخذ نفسه فيه بالحزم البعيد والاحتياط.

ص: 210

أمسك إلى أن مات مائة وخمسين أميرا. وكان يصبر الدهر الطويل على الإنسان وهو يكرهه. تحدّث مع الأمير أرغون الدّوادار فى إمساك كريم الدين الكبير قبل القبض عليه بأربع سنين، وهمّ بإمساك تنكز لمّا ورد من الحجاز فى سنة ثلاث وثلاثين بعد موت بكتمر الساقى. ثم إنه أمهله ثمانى سنين بعد ذلك. وكان ملوك البلاد الكبار يهابونه ويراسلونه. وكان يتردّد إليه رسل صاحب الهند وبلاد أزبك خان وملوك الحبشة وملوك الغرب وملوك الفرنج وبلاد الأشكرى وصاحب اليمن. وأمّا بو سعيد ملك التّتار فكانت الرسل لا تنقطع بينهما، ويسمّى كلّ منهما الآخر أخا. وكانت الكلمتان واحدة «1» ، ومراسيم الملك الناصر تنفذ فى بلاد بو سعيد، ورسله يتوجهون إليه بأطلابهم وطبلخاناتهم بأعلامهم المنشورة. وكان كلما بعد الإنسان من بلاده وجد مهابته ومكانته فى القلوب أعظم. وكان سمحا جوادا على من يقرّبه، لا يبخل عليه بشىء كائنا من كان. سألت القاضى شرف الدين النّشو أطلق «2» يوما ألف ألف درهم؟ قال: نعم [كثير «3» . وفى يوم واحد أنعم على الأمير بشتك بألف ألف درهم] فى ثمن قرية يبنى «4» التى بها قبر أبى هريرة على ساحل الرملة. وأنعم على موسى بن مهنّا بألف ألف درهم، وقال لى (يعنى عن النّشو) : هذه ورقة فيها ما ابتاعه من الرقيق فى أيام مباشرتى، وكان ذلك من شعبان سنة اثنتين وثلاثين إلى سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، فكان جملته أربعمائة ألف وسبعين ألف دينار مصرية. وكان ينعم على الأمير تنكز فى كل سنة يتوجّه إليه إلى مصر، وهو بالباب ما يزيد على ألف ألف درهم. ولمّا تزوّج الأمير سيف الدين

ص: 211

قوصون بابنة السلطان وعمل عرسه حمل الأمراء إليه شيئا كثيرا، فلمّا تزوّج الأمير سيف الدين طغاى تمر بابنته الأخرى. قال السلطان: ما نعمل [له «1» ] عرسا، لأن الأمراء يقولون: هذه مصادرة. ونظر إلى طغاى تمر وقد تغيّر وجهه، فقال للقاضى تاج الدين إسحاق يا قاضى: اعمل ورقة بمكارمة الأمراء لقوصون، فعمل ورقة وأحضرها، فقال السلطان: كم الجملة؟ قال: خمسون ألف دينار، فقال:

أعطها لطغاى تمر من الخزانة. وذلك خارج عما دخل مع الزوجة من الجهاز.

وأمّا عطاؤه للعرب فأمر مشهور زائد عن الحدّ. انتهى كلام الشيخ صلاح الدين الصفدىّ باختصار. وهو أجدر بأحوال الملك الناصر، لأنه يعاصره وفى أيامه، غير أننا ذكرنا من أحوال الملك الناصر ما خفى عن صلاح الدين المذكور نبذة كبيرة من أقوال جماعة كثيرة من المؤرّخين. والله تعالى أعلم.

*** السنة الأولى من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى سنة عشر وسبعمائة على أنّه حكم فى السنة الماضية من شهر شوّال «2» إلى آخرها.

فيها (أعنى سنة عشر وسبعمائة) قبض الملك الناصر على الأمير سلّار وقتله فى السجن حسب ما تقدّم ذكره فى أصل الترجمة، ويأتى أيضا ذكر وفاته فى هذه السنة.

وفيها توفّى العلّامة قاضى القضاة شمس الدين أبو العبّاس أحمد بن إبراهيم بن عبد الغنى السّروجىّ الحنفىّ قاضى قضاة الديار المصرية فى يوم الخميس الثانى والعشرين

ص: 212

من شهر ربيع الآخر بالمدرسة «1» السيوفيّة بالقاهرة. وكان بارعا فى علوم شتّى، وله اعتراضات على ابن تيميّة فى علم الكلام، وصنّف شرحا على الهداية وسمّاه «الغاية» ولم يكمله.

وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة نجم الدين أحمد بن محمد [بن علىّ»

بن مرتفع بن حازم بن إبراهيم بن العبّاس] بن الرّفعة الشافعى المصرى. كان فقيها مفتنّا مفتيا، وكان يلى حسبة مصر القديمة. وشرح التنبيه «3» والوسيط «4» فى الفقه فى أربعين مجلدا.

ومات فى ثامن «5» عشر رجب ودفن بالقرافة. رحمه الله.

وتوفّى الشيخ رضىّ الدين أبو بكر بن محمود بن أبى بكر الرّقّىّ الحنفىّ المعروف بالمقصوص. مات بدمشق ودفن بالباب الصغير. وكان فقيها فاضلا عالما بعدّة فنون، ودرّس وأفتى سنين كثيرة.

وتوفى الشيخ الإمام العلّامة قطب الدّين محمود بن مسعود [بن مصلح «6» ] الشّيرازىّ، كان عالما بالفلسفة والمنطق والأصول والحكمة، وله فيهم مصنّفات تدلّ على فضله. وتولّى قضاء بلاد الروم، ولم يباشر القضاء، ولكن كانت نوّابه تحكم فى البلاد. وكان معظّما عند ملوك التّتار [وكان «7» ] من تلامذة «8» النّصير الطّوسىّ، وبه تخرّج فى علم الأوائل. وبنى له تربة بتبريز، وبها دفن.

ص: 213

وتوفّى الشيخ الأديب الشاعر شهاب الدين أحمد بن عبد الملك بن عبد المنعم ابن عبد العزيز العزازىّ «1» التاجر بقيساريّة «2» جهاركس «3» بالقاهرة. مات فى هذه السنه ودفن [بسفح] المقطّم. وكان له النظم الرائق، وله ديوان «4» شعر مشهور. ومن شعره فى مليح بدوىّ:

بدوىّ كم حدّثت مقلتاه

عاشقا عن مقاتل الفرسان

بمحيّا يقول يا لهلال

ولحاظ تقول يا لسنان

قلت: ويعجبنى فى هذا المعنى قول الشيخ علاء الدين الوداعىّ، وهو:

أقبل من حيّه وحيّا

فأشرقت سائر النّواحى

فقلت يا وجه من بنى من

فقال لى من بنى صباح

قلت: والعزازىّ هذا هو صاحب الموشّحات الظريفة المشهورة، ذكرنا منها عدّة فى ترجمته فى تاريخيا «المنهل الصافى» إذ هو كتاب تراجم.

ص: 214

وتوفّى الحكيم الأديب البارع شمس الدين محمد بن دانيال [بن يوسف «1» ] الموصلى، صاحب النّكت الغريبة، والنوادر العجيبة، وهو مصنّف «كتاب طيف الخيال «2» » وكان كثير المجون والدّعابة، وكانت دكّانه داخل باب الفتوح من القاهرة. ومولده بالموصل سنة ستّ وأربعين وستمائة. ومات فى الثامن «3» والعشرين من جمادى الآخرة.

ومن شعره فى صنعته:

ما عاينت عيناى فى عطلتى

أقلّ من حظّى ولا بختى

قد بعت عبدى وحصانى وقد

أصبحت لا فوقى ولا تحتى

وله فى المعنى أيضا:

يا سائلى عن حرفتى فى الورى

وضيعتى فيهم وإفلاسى

ما حال من درهم إنفاقه

يأخذه من أعين الناس

ومن نوادره الظريفة أنّه كان يلازم خدمة الملك الأشرف خليل بن قلاوون قبل سلطنته فأعطاه الأشرف فرسا ليركبه، فلمّا كان بعد أيّام رآه الأشرف وهو على حمار زمن، فقال له: يا حكيم، ما أعطيناك فرسا لتركبه؟ فقال: نعم يا خوند، بعته وزدت عليه واشتريت هذا الحمار، فضحك الأشرف وأعطاه غيره. وله فى أقطع «4» .

وأقطع «5» قلت له

هل أنت لصّ أوحد

فقال هذى صنعة

لم يبق لى فيها يد

ص: 215

وتوفّى الأمير سيف الدين الحاجّ بهادر المنصورىّ نائب طرابلس بها، وفرح «1» الملك الناصر بموته، فإنّه كان من كبار المنصورية.

وتوفّى الأمير جمال الدين آقوش [المنصورىّ «2» ] الموصلىّ المعروف بقتّال السّبع أمير علم. مات بالديار المصريّة، وكان من أكابر أمرائها فى شهر رجب، ودفن بالقرافة.

وتوفّى الأمير سيف الدين برلغى الأشرفىّ فى ليلة الأربعاء ثانى شهر رجب قتيلا بقلعة الجبل. قيل: إنه منع الطعام والشراب حتّى مات، ودفن بالحسينية خارج باب النصر بجوار تربة «3» علاء الدين الساقى «4» الأستادار. وكان برلغى صهر المظفّر بيبرس الجاشنكير زوج ابنته ومن ألزامه. وقد تقدّم ذكره فيما مضى فى أوّل ترجمة الملك الناصر، وفى ترجمة بيبرس أيضا ما فيه كفاية عن ذكره هنا ثانيا.

وتوفّى الأمير سيف الدين قبجق المنصورىّ نائب حلب بها فى جمادى الأولى وحمل إلى حماة، ودفن بتربته التى أنشأها بعد مرض طويل. وقد تقدّم ذكر قبجق فى عدّة مواطن، فإنّه كان ولى نيابة دمشق، وخرج منها فى سلطنة لاچين إلى بلاد التّتار، وأقدم غازان إلى دمشق، ثم عاد إلى طاعة الملك الناصر فى سلطنته الثانية، ثم كان هو القائم فى أمر الملك الناصر لمّا خلع بالجاشنكير حتى ردّه إلى ملكه.

ص: 216