الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أدلة جواز النسخ ووقوعه عند الرازى
اعتمد الرازى فى إثبات النسخ ووقوعه على عدة أدلة فصلها فى المحصول والتفسير وهى:
الدليل الأول:
دلت الدلائل القاطعة على نبوة محمد- صلى الله عليه وسلم ونبوته لا تصح (1) إلا مع القول: بنسخ شرع من قبله، فوجب القول بالقطع على النسخ، وهذا يعنى أن ما جاء محمد- صلى الله عليه وسلم إلا بالصدق، ومعجزاته دالة ومشيرة إلى ذلك، ولا يستطيع منكر أن ينكر نسخ الشريعة الإسلامية لما قبلها، وأن الدين عند الله الإسلام، ومن يبتغ غيره، ويطلب ما نسخه فلن يقبل منه، بل هو من الخاسرين، وأن ما جاء به الإسلام هو ما نطق به محمد قرآنا عربيا غير ذى عوج، وسنة صحيحة صادقة، ليس خاصا بالعرب وحدهم بل للجميع، وللبشر كافة، فكان نسخ شرع من قبلنا بشريعة محمد جائز عقلا وواقع عملا، ولا محال فيه، ما دام أن الكل من عند الله تعالى فهو أعلم حيث يضع رسالته، والله ألطف بنا من أنفسنا، فلا مجال للإنكار، ولا طريق للرجوع عن قبول النسخ، ولا بداء كما يقول اليهود وغيرهم، فعلم الله تعالى ثابت لا يتغير ولا يتبدل، وخلاصة هذا الدليل أن الله تعالى: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: 23]، وأن أحكام الله التى شرعها للعباد يراعى فيها مصالحهم، والمصلحة حيثما توجد فثم شرع الله تعالى يتحقق، فلا ريب أن ذلك يجعل النسخ أمرا لا بدّ منه لحاجة العباد إليه،
(1) الرازى: المحصول: 1/ 3/ 441.
- الرازى: التفسير الكبير 3/ 227.
ومصلحتهم فيه، فلا يكون ذلك محال أو يترتب عليه أو على فرضه محال أو ممنوع، فيثبت الله تعالى ما يشاء ويمحو وهو القدير، ولا رادّ الحكمة، ولا معقب لفضله، فى أن يغير حكما بعد ثبوته، أو يبطله فلا وجود له تصديقا لقوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرعد: 39].
وأما الدليل الثانى:
فى قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 106].
وقوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل: 101].
فالآية الأولى من سورة البقرة تقرر أن النسخ إن وجد فى آية، فلا بد من خير منها أو مثلها فى الحكم أو زيادة فى الأجر، وهذا لا يكون إلا فيما هو جائز عقلا، لا فيما هو محال، وإلا كيف يتغير المحال إلى شىء موجود؟!
والآية الثانية من سورة النحل تشمل الرفع والإثبات الموجودين فى التبديل، والمرفوع إما التلاوة، وإما الحكم، وكيفما كان فهو رفع وإبطال ونسخ (1)، فإن قلت؛ لم لا يجوز أن يكون المراد به أن الله تعالى أنزل إحدى الآيتين بدلا من الأخرى، فيكون النازل بدلا مما لم ينزل؟ قلت: جعل المعدوم مبدلا غير جائز، وهذه إحدى الحجج الملجمة لأبى مسلم الأصفهانى وغيره ممن ينكرون وقوع النسخ فى القرآن الكريم، ثم الناظر فى سبب نزول الآية يجد أنهم- اليهود-
(1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 464.
- والرازى: التفسير الكبير 3/ 229.
عابوا على محمد- صلى الله عليه وسلم شيئا قد وقع بالفعل، ونفذ عبادة وطاعة فى تغيير القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، فالتوجه واستقبال القبلة كان واجبا
ثم زال ذلك الواجب إلى البيت الحرام، ألا يدل ذلك على وقوع النسخ، وتغير الواجب إلى مثله أو أفضل منه، وقس على ذلك ما حدث من نسخ فى الآيات والأحكام التى نسخت إلى بدل أو إلى بدل أثقل أو أخف أو إلى غير بدل، وهو كثير فى القرآن.
قال الرازى (1): والاستدلال بهذه الآية من سورة البقرة على النسخ ووجوده ضعيف، فالآية لا تدل على حصول النسخ بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتى بما هو خير منه، وذلك لأن- ما- شرطية تفيد الشرط والجزاء، وإن كان هذا الرأى للرازى، قد خالف فيه الجمهور فى حجية الآية فى إثبات النسخ ووقوعه إلا أنه يستند إلى آيات أخرى معها مثل الآية السابقة من سورة النحل وقوله تعالى من سورة الرعد: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرعد: 39]، فهو لا ينكر النسخ ولا وقوعه، ولكنه يؤكد على أن الأقوى فى ثبوت النسخ ووقوعه دون معارضة أو ضعف فى الدليل، أن نعوّل على مجموع الآيات السابقة فى إثبات حجتنا، كى نضمن الرد المقنع على من يخالفنا دون أن ينفذوا إلى أدلتنا بثغرة ولو صغيرة، فهو مع رأى الجمهور، وزيادة عليها ما سبق، وأن النسخ حاصل فى القرآن، ولكن الأدلة لا بدّ أن تجتمع معا حتى لا يستطيع معترض أن يضعفها، فاقترح أدلة أخرى مع
(1) الرازى: التفسير الكبير 3/ 229.
- الرازى: المحصول 1/ 3/ 445 وانظر تعليق المحقق.
الآية من سورة البقرة كما ذكر المحقق (1) - وأنا اتفق معه فى هذا المخرج الذى يزيل ما يشبه التناقض عند قراءة حجج الرازى فى ثبوت النسخ فى المحصول وفى التفسير، كما يظنها من يطالعها لأول نظرة تناقضا وقع فيه الرازى، فالرجل مع الجمهور فى النسخ إثباتا ووجودا فى القرآن، ولكن بطريقته هو فى الاستدلال من النصوص التى اعتمد عليها الجمهور أيضا، ولكنه يريدها خالية من الثغرات والاعتراضات، فلا تعارض بين رأى الرازى والجمهور بعد هذا البيان، ولقد ظن بعض العلماء أن الرازى ناقض نفسه فى المحصول والتفسير ولكن التحقيق أنه لم يناقض نفسه، بل أكد ما أعتقده.
(1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 445 - 446 والمحقق د. طه العلوانى، وهذا ما ظنه القرافى تناقضا وقع فيه الرازى. بين ما ذكره فى التفسير، وما قاله فى المحصول.
- الأرموى، الحاصل من المحصول 2/ 637.