الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرازى بين المدح والذم:
الفخر الرازى مدحه كثيرون، وذمه آخرون، وهذه طبيعة الكبار من الرجال يختلف الناس حولهم ما بين مادح وقادح، والعبرة بما بقى وأصبح تراثا خالدا من أقواله وأعماله وأفكاره التى يتجدد عطاؤها يوما بعد يوم، حتى عدّه العلماء على رأس المائة السادسة من المجددين لها، الذين أحيوا ما اندرس من الدين، واجتهد فيما جدّ على عصره من شئون وعلوم، ذكر الذهبى عن أبى شامة قوله «وقد رأيت جماعة من أصحابه قدموا علينا دمشق، وكلهم كان يعظمه تعظيما كبيرا، ولا ينبغي أن يسمع فيمن ثبتت فضيلته كلام يستبشع، لعله من صاحب غرض من حسد، أو مخالفة فى مذهب أو عقيدة» (1).
وهذه شهادة جليلة القدر من عالم رفيع القدر فى النقد والرجال والجرح والتعديل، وهى خير دليل على أن الرجل أى الرازى ثارت حوله الأحقاد، وكثر فيه الحساد، وهذا ليس غريبا على مثل هذه الشخصية الفذة، التى نبغت فى كل العلوم، وناقشت، وناظرت، وتصوفت (2) حينا ثم رجعت إلى صوابها من الالتزام بطريقة السلف، قال الإمام أبو عمرو بن الصلاح حدثنى القطب الطوغانى مرتين أنه سمع الفخر الرازى يقول «يا ليتنى لم أشتغل بالكلام وبكى» (3)، وما ذلك إلا لعدم الفائدة من هذا العلم، وقلة جدواه، فهو مشغلة بدون فائدة.
(1) الذهبى: تاريخ الإسلام 43/ 216.
(2)
ابن كثير: البداية والنهاية 17/ 11.
(3)
الذهبى: تاريخ الإسلام 43/ 218.
وأما ما قيل عن تفسيره، فيه كل شىء إلا التفسير، فقد قالوا أيضا فيه كل شىء مع التفسير، ردا على من زعم هذا، قال عبد العزيز المجدوب «وأما ابن تيمية فتحامله ناشئ عما بينه وبين الرازى من اختلاف مذهبى واضح، فمذهبه سلفى حنبلى أما الرازى فأشعرى شافعى» (1) ثم يذكر المؤلف أن ابن تيمية على الرغم من نقده للرازى تأثر به وأخذ بأسلوبه فى المناظرة والكتاب، ولقد مهد الرازى الطريق أمام ابن تيمية وغيره من العلماء فى طرق الدفاع عن الدين وتفنيد حجج المعارضين.
ولقد مدح الرازى ودافع عنه السبكى (2) فى طبقاته، وابن حجر العسقلانى (3) فى لسانه كثيرا، ذاكرين له فضله، وسبقه وثقته وعلمه مهما قيل عنه أو رمى به.
وعظ الرازى مرة عند السلطان شهاب الدين الغورى فقال: يا سلطان العالم، لا سلطانك يبقى، ولا تلبيس الرازى يبقى، وقرأ قوله تعالى: لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ [غافر:
43] فأبكى السلطان ومن حوله من وعظه.
ولم يكن الرازى متعصبا لرأى بل دافع عن عقيدة أهل السنة والجماعة بالبراهين الواضحة، والأدلة القاطعة التى جعلت أصحاب الفرق المختلفة يندثرون شيئا فشيئا، ولما أعيتهم المناقشة وأعجزتهم الحجة سموه أو دسوا من يضع له سما حتى يتخلصوا منه كلية، بعد
(1) عبد العزيز المجدوب: الرازى من خلال تفسيره 37.
(2)
السبكى: طبقات الشافعية 8/ 81 - 96.
(3)
ابن حجر العسقلانى: لسان الميزان 4/ 426 - 429.
- محمد عبد الرحمن المغراوى: المفسرون 2/ 47.
أن جابه أقرانه وأعداءه، والفرق المختلفة، دون غلو أو شطط، وكان أبرزها الكرامية السابق ذكرهم.
ومن كلام الفخر الرازى فى وصيته لتلميذه إبراهيم بن أبى بكر الأصفهانى «ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوى الفائدة التى وجدتها فى القرآن لأنه يسعى فى تسليم العظمة والجلالة لله تعالى، ويمنع عن التعمق فى إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى فى تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية، فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده ووحدته، وبراءته من الشركاء فى القدم والأزلية والتدبير والفعالية، فذلك هو الذى أقول به وألقى الله به» (1).
مما سبق من مدح وقدح، ومناظرات واعترافات آخرها ما ذكره لتلميذه، نستشف رجوع الرازى الصادق إلى طريق الله القويم وعقيدة المسلمين التى لا تقبل جدالا ولا مواربة، فشهد الرازى على نفسه بعد أن جرّب المناهج والطرق أن العقل قاصر مهما أوتى من فطنة وذكاء، والقاصر لا يستطيع أن يدرك كمال الله تعالى وعظمته إلا بالخضوع له والتسبيح بحمده وعبادته حق العبادة، وأن الله تعالى الخالق والمعبود بحق، فالرجوع إلى الحق أحق، والاعتراف بالتقصير بداية تصحيح الخطأ، والوقوف على الصراط المستقيم، وهذا سبيل الصادقين مع أنفسهم من العلماء الذين انتفعوا بما علموا، ووقفوا عند ما لم يعلموا، فقد جدد الرجل العهد مع الله تعالى على أن القرآن هو أساس كل حكمة، وعنوان كل فائدة، أما مناهج هؤلاء
(1) الذهبى: تاريخ الإسلام 43/ 221.
الفلاسفة وطرائق تلك المتصوفة، فلا تسمن ولا تغنى من جوع، فالحق أبلج واضح، والباطل لجلج، مهما طال أمده أو كثر أتباعه فهو زائل مع ظهور الحق، وبيان الصواب، ولقد صدق الرازى فيما نبغ فيه، وأعطى دينه ما يستحقه من إخلاص، وعبد ربه- تعالى ذكره- عبادة المؤمنين، الراغبين فى العفو والمغفرة، الطامعين فى جنات الله تعالى يوم القيامة.
***