الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لمن يرد عليه من المرضى للعلاج أوراقا يعتمدون عليها، ويأخذون بها من البيمارستان الأشربة والأدوية التي يصفها الطبيب.
وأما العلاج الداخلي أي في داخل البيمارستان، فكان المرضى يوزعون على القاعات بحسب أمراضهم، وكان لكل قسم من أقسام البيمارستان طبيب أو اثنان أو ثلاثة أطباء بحسب الساعة وكثرة المرضى، وكان إذا دعا الحال يدعى طبيب من قسم آخر غير القسم الذي فيه المريض للاستشارة.
وكان الأطباء يشتغلون في البيمارستان بالنوبة فجبريل بن بختيشوع كانت نوبته في الأسبوع يومين وليلتين.
الدروس الطبية الاكلينيكية
قال موفق الدين أبو العباس بن أبي أصيبعة:
كنت بعد ما يفرغ الحكيم مهذب الدين والحكيم عمران من معالجة المرضى المقيمين بالبيمارستان وأنا معهم أجلس مع الشيخ
رضي الدين الرحبي فأعاين كيفية استدلاله على الأمراض، وجملة ما يصفه للمرضى وما يكتب لهم وأبحث معه في كثير من الأمراض ومداولتها ثم قال: وكان معه أي مع مهذب الدين في البيمارستان لمعالجة المرضى الحكيم عمران وهو من أعيان الأطباء وأكابرهم في المداواة والتصرف في أنواع العلاج فتضاعف الفوائد المقتبسة من اجتماعهما
ومما كان يجري بينهما من الكلام في الأمراض ومداولتها وما كانا يصفان للمرضى.
وذكر موفق الدين أبو العباس ابن أبي أصيبعة نقلا عن شيخه مهذب الدين عبد الرحيم بن علي: أنه كان في البيمارستان الكبير النوري وهو يعالج المرضى المقيمين به فكان من جملتهم رجل به استسقاء زقي قد استحكم به وقصد إلى بزله، وكان في ذلك الوقت في البيمارستان ابن حمدان الجرائحي وله يد طولى في العلاج فجزموا على بزل المستسقى، قال: فحضرنا وبزل الموضع على ما يجب. وذكر أن أبا المجد بن أبي الحكم كان يدور على المرضى بالبيمارستان الكبير النوري، ويتفقد أحوالهم، ويعتبر أمورهم، وبين يديه المشارفون والقوام لخدمة
المرضى فكان جميع ما يكتبه لكل مريض من المداواة والتدبير لا يؤخر عنه ولا يتوانى في ذلك. قال: وبعد فراغه من ذلك يأتي فيجلس في الإيوان الكبير الذي للبيمارستان وجميعه مفروش، ويحضر كتب الاشتغال. وكان السلطان نور الدين محمود بن زنكي قد وقف على هذا البيمارستان جملة كبيرة من الكتب الطبية وكانت في الخرستانين الخزانتين اللذين في صدر الإيوان، فكان جماعة من الأطباء والمشتغلين يأتون إليه ويقعدون بين يديه، ثم يجري مباحث طبية ويقرئ التلاميذ ولا يزال معهم في اشتغال ومباحثة ونظر في الكتب الطبية مقدار ثلاث ساعات، ثم يركب إلى داره.
وكان بعض متقدمي الأطباء قد جعل له مجلسا عاما لتدريس صناعة الطب للمشتغلين عليه.
وقد وقف مهذب الدين عبد الرحيم بن علي سنة 622، الدار التي له بدمشق، وجعلها مدرسة يدرس فيها صناعة الطب، ووقف لها ضياعا وعدة أماكن يستغل منها ما ينصرف في مصالحها، وفي جامكية المدرسة وجامكية المشتغلين بها.
ولم يكن الأطباء يغفلون النظر في أبوال المرضى، فقد كانوا يسمون ذلك القارورة، ويسمون الاستنتاج من نظر البول
التفسرة، فما كان يعالج مريض دون النظر إلى قارورته، ولهم في نظرها آراء وعلامات يتعرفون منها حالة البول من صحة وسقم. ونحن نقص الحكاية الآتية للدلالة على مهارة الأطباء وقوة استدلالهم وحسن استنتاجهم من النظر في بول المريض:
أراد الرشيد أن يمتحن بختيشوع الطبيب، أمام جماعة من الأطباء فقال الرشيد لبعض الخدم: أحضره ماء دابة حتى تجربه. فمضى الخادم وأحضر قارورة الماء، فلما رآه قال: يا أمير المؤمنين ليس هذا بول إنسان. قال له أبو قريش وقد كان حاضرا: كذبت هذا ماء حظية الخليفة. فقال له بختيشوع: لك أقول أيها الشيخ الكريم، لم يبل هذا إنسان البتة، وإن كان الأمر على ما قلت فلعلها صارت بهيمة. فقال له الخليفة: من أين علمت أنه ليس ببول إنسان؟ قال بختيشوع: لأنه ليس له قوام بول الناس، ولا لونه، ولا ريحه، ثم التفت الخليفة إلى بختيشوع فقال له: ما ترى أن نطعم صاحب هذا الماء فقال: شعيرا جيدا. فضحك الرشيد ضحكا شديدا، وأمر فخلع عليه خلعة حسنة جليلة، ووهب له مالا وافرا، وقال: بختيشوع يكون رئيس الأطباء كلهم، وله يسمعون ويطيعون.
وكان للطبيب الحرية التامة في العمل والتجريب واستنباط الأساليب المناسبة للعلاج. وكانت التجارب تدون في كتب خاصة يقرؤها الجمهور من الأطباء. فقد كان لأبي البيان المدور المتوفى سنة 580هـ - 1184م بالقاهرة كتاب في مجرباته في الطب وكان للساهر يوسف القس كناش وهو ما استخرجه وجربه في أيام حياته ولأفرايم بن الزَّقان تعاليق ومجريات، ولابن العين رزبي مجريات في الطب، ولابن أبي الفضائل الناقد مجريات في الطب، ولأبي المعالي تمام بن هبة الله بن تمام تعاليق ومجريات في الطب، ولمحمد بن زكريا الرازي كتاب عنوانه
قصص وحكايات المرضى ومنه نسخة في خزانة كتب بودليان في اكسفورد وطبع منه الدكتور العالم المستشرق مكس مايرهوف جزءاً.
وكان لبعض الأطباء أنواع من العلاج هي من مبتكرات قرائحهم كعلاج أوحد الزمان أبي البركات هبة الله بن علي بن ملكا أحد المرسومين بالوهم، وفوق الهمة العظيمة والتدبير الحسن والعناية التامة براحة المرضى، فقد كان لهم من حسن الخلق وطول الأناة والتسامح مع المرضى الشيء الكثير: كان أبو الحسن سعيد
ابن هبة الله يتولى مداواة المرضى بالبيمارستان العضدي، فإنه كان يوما بالبيمارستان وقد أتى إلى قاعة الممرورين يتفقد أحوالهم ومعالجتهم، وإذا بامرأة قد أتت إليه واستفتته فيما تعالج به ولدا لها فقال: أن تلازميه بتناول الأشياء المبردة المرطبة فهزأ به بعض من كان مقيما في تلك القاعة من الممرورين وقال: هذه صفة يصلح أن تقولها لأحد تلامذتك ممن يكون قد اشتغل بالطب وعرف أشياء من قوانينه، وأما هذه المرأة فأي شيء تدري ما هو من الأشياء المبردة المرطبة، وإنما سبيله أن تصف لها شيئا معينا تعتمد عليه. فلم يتحرج الطبيب من هذا القول. وقد أوصلهم سمو الخلق وبسطة العلم إلى أعلى الدرجات. فإن القاضي ابن المرخم يحيى بن سعد صار أقضى القضاة في أيام المقتفي ببغداد، وقد كان طبيبا في المارستان المحمول وفصادا فيه. والإمام العالم علامة زمانه أفضل الدين أبو عبد الله محمد بن نامادار الخونجي قد تميز في العلوم الحكمية وأتقن العلوم الشرعية وفي آخر أيامه تولى القضاء بمصر وصار قاضي القضاة بها وبأعمالها توفي سنة 646هـ وصار سعيد بن البطريق بطريركا بالإسكندرية.