الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في ذلك حتى أنعمت مؤنة خاتون ببيعها، على أن تعوض عنها بدار تلمها وعيالها، فعوضت قصر الزمرد برحبة باب العيد مع مبلغ من المال حمل إليها. ووقع البيع على هذا فندب السلطان الأمير سنجر الشجاعي للعمارة فأخرج النساء من القطبية من غير مهلة، وأخذ ثلاثمائة أسير، وجمع صناع القاهرة ومصر وتقدم إليهم بأن يعملوا بأجمعهم في الدار القطبية، ومنعهم أن يعملوا لأحد في المدينتين شغلا وشدد عليهم في ذلك، وكان مهابا فلازموا العمل عنده ونقل من قلعة الروضة ما احتاج إليه من العمد الصوان والعمد الرخام والقواعد والأعتاب والرخام البديع وغير ذلك. وصار يركب إليها كل يوم وينقل الأنقاض المذكورة على العجل إلى المارستان، ويعود إلى المارستان فيقف من الصناع على الأساقيل حتى لا يتوانوا في عملهم وأوقف مماليكه بين القصرين، وكان إذا مر أحد ولو جلَّ ألزموه أن يرفع حجرا ويلقيه في موضع العمارة فينزل الجندي والرئيس عن فرسه حتى يفعل ذلك فترك أكثر الناس المرور هناك.
استمرار تعهد البيمارستان المنصوري بالعمارة
والإصلاح
وفي عهد الملك الناصر محمد بن المنصور قلاوون في سنة
726هـ حصل الشروع في إصلاح البيمارستان المنصوري والقبة والمدرسة وكان الأمير جمال الدين أقوش الأشرفي ناظر الأوقاف قبل ذلك، كان قد رسم أن لا يترك أحدا من المرضى بالبيمارستان ومن عوفي أو أبل يخرج منه فخلت بذلك الأواوين من
المرضى وأكثر القاعات ولم يبق بالبيمارستان إلا الممرورون وبعض المرضى وحصل الشروع في العمارة فأصلحت الجدران وجدد البياض والأدهان ونحت ظاهر القبة والمدرسة والمئذنة بالأزاميل واستمرت العمارة إلى أواخر جمادى الأولى وخلت الأواوين الأربعة بالبيمارستان من مستهل هذه السنة إلى يوم الثلاثاء حادي عشر جمادى الأولى فرسم في هذا اليوم بتنزيل المرضى وكان جملة ما صرف على هذه العمارة تقارب ستين ألف دينار.
وقال المقريزي: في يوم الاثنين سادس شعبان سنة 726هـ أنشأ الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك قاعة بالبيمارستان المنصوري ونحت جدر البيمارستان والمدرسة المبنية بالحجر كلها داخلا وخارجا وطرا طلا الطاراز الذهب من خارج القبة والمدرسة حتى صار كأنه جديد وعمل خيمة يزيد طولها على مائة ذراع وركبها
لتستر على مقاعد الأقفاص وتستر أهلها من الحر، ونقل الحوض من جانب باب المارستان لكثرة تأذي الناس برائحة النتن، وعمل موضعه سبيل ماء عذب لشرب الناس وكان مصروف ذلك كله من ماله دون مال الوقف.
وقال الفيومي: كان الأمير الكبير جمال الدين آقوش الأشرفي في أثناء توليته نظر البيمارستان المنصوري، يحسن إلى المرضى ويتفقد أحوالهم في الليل ويتنكر ويدخل إليهم قبل الفجر ويسأل الضعفاء عن سائر أحوالهم حتى عن الفراش والطبيب. ويدخل إلى مارستان المجانين ويباشر أحوالهم بنفسه ويتحدث معهم ولا يغفل عن مصلحة تتعلق بمباشرته وقال خالد البلوي عن مارستان القاهرة في عصره يريد المارستان الكبير المنصوري:
أخبرني الشيخ العالم المؤرخ شمس الدين الكركي أنه يكحل فيه كل يوم من المرضى الداخلين إليه والناقهين الخارجين أربعة آلاف
نفس وتارات يزيدون وينقصون، ولا يخرج منه كل من يبرأ من مرض حتى يعطي إحسانا إليه وإنعاما:
كسوة للباسه، ودراهم لنفقاته وأما ما يعالج المرضى به من قناطير الأشربة المقطرة والأكحال الرقيقة الطيبة التي تسحق فيها دنانير الذهب الإبريز، وفصوص الياقوت النفيس، وأنواع اللؤلؤ الثمين، فشيء يهول السماع، ويعم ذلك الجمع، إلى ما يضاف إلى ذلك كله من لحوم الطير والأغنام على اختلافها وتباين أصنافها مع ما يحتاج إليه كل واحد ممن يوافيه ويحل فيه، لفرشه وعرشه من غطاء ووطاء ومشموم ومزرور وشبه ذلك مما هو معد على أكمله هنالك، وما ليس مثله إلا في منزل أمير أو خليفة وقد رتب على ذلك كله من الأطباء الماهرين والشهود المبرزين والنظار العارفين والخدام المتصرفين كل من هو في معالجته موثوق بعدالته، مسلم له في معرفته، غير مقصر في تصرفه وخدمته. ولو استقصيت الكلام في هذا المارستان وحده لكان مجلدا مستقلا بنفسه، أو في مبانيه الرائقة وصناعاته الفائقة وتواريخه المذهبة ونقوشه العجيبة المنتخبة التي ترفل في ملابس الإعجاب وتسحر العقول والألباب ما يفتن النفوس، ويكسف أنواع البدور والشموس وتعجز عن وصف بعضها خطأ الأقلام في ساحة الطروس فما وقعت عين
على مثله ولا سمعت أذن بشبهه وشكله:
تجاوز حدَّ الوهم واللحظ والمنى
…
وأعشى الحجا لألاؤه المتضاري
فتنعكس الأفكار وهي خواسر
…
وتنقلب الأبصار وهي خواسي
وفي يوم الاثنين 3 صفر سنة 743 استقر الأمير جنكلي بن الباب في نظر البيمارستان عوضا عن الجاولي.
وفي يوم الخميس 11ربيع الأول سنة 743 وقعت منازعة بين الأمير جنكلي بن البابا وبين الضياء المحتسب بسبب وقف الملك المنصور على القبة المنصورية، فإنه أراد إضافته إلى المارستان وصرف متحصله في مصارف المارستان فلم يوافقه الضياء، واحتج بأن لهذا مصرفا عينه واقفه لقراء وخدام، ووافقه القضاة
على ذلك.
وفي المحرم من سنة 747 خلع على الأمير أرغون العلائي، واستقر في نظر البيمارستان المنصوري عوضا عن الأمير جنكلي بن البابا، فنزل إليه وأعاد جماعة ممن قطعهم ابن الأطروش بعد موت الأمير جنكلي. وأنشأ بجوار باب المارستان سبيل ماء ومكتب
سبيل لقراءة أيتام المسلمين القرآن الكريم ووقف عليه وقفا بناحية من الضواحي.
وفي 14محرم 752هـ خلع السلطان الملك الصالح الحسن بن محمد ابن قلاوون علي الضياء يوسف الشامي وأعيد إلى حسبة القاهرة ونظر المارستان عوضا عن ابن الأطروش، بسفارة النائب لكلام نقله ابن الأطروش عن الوزير فسبه وأهانه وتحدث في عوله وعود الضياء. فعرض الضياء حواصل المارستان فلم يجد فيها شيئا وكتب بذلك أوراقا وأوقف النائب عليها، فنزل النائب معه إلى المارستان، واستدعى القضاة وأرباب الوظائف بالمارستان وأحضر ابن الأطروش وطلب كتاب الوقف وقرأه حتى وصل فيه القارئ إلى قوله عن الناظر القيم: ويكون على وفاء بالحساب وأمور الكتابة فقال الضياء لابن الأطروش: قد سمعت ما شرطه الواقف فيك وأنت عامي مشهور ببيع الخرائط لا تدري شيئا مما شرط الواقف وناوله ورقة حساب ليقرأها، فقام إليه بعض الفقهاء وقال: هذا معه تدريس وإعادة، وأنا أسأله عن شيء فإن أجاب استحق المعلوم. وأخذته الألسنة من كل جهة فقال النائب: يا قوم
هذا رجل عامي وقد أخطأ وما بقي إلا الستر عليه فاعترف أنه لا يدري الحساب وأنه عاجز عن المباشرة وألزم نفسه ألا يعود إليها أبدا بإشهاد وكتب فيه قضاة القضاة ونوابهم يتضمن قوارع مشنعة وما زال النائب بإخصامه حتى كفوا عنه. ثم قام لكشف أحوال المرضى فوجدت فرشهم قد تلفت ولها ثلاث سنين لم تغير فسد النائب خلله وانصرف.
وفي شهر ذي القعدة سنة 755 في سعد سلطنة السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون خلع السلطان علي الأمير صرغتمش واستقر في نظر المارستان المنصوري وكان قد تعطل نظره من متحدث ترك وانفرد بالكلام فيه القاضي علاء الدين بن الأطروش وقد حال وقفه، فإنه كان يكثر من مهاداة أمراء الدولة ومديريها ويهمل عمارة رباعه حتى تشققت، فنزل إليه الأمير صرغتمش ودار فيه على المرضى فساءه ما رأى من ضياعهم وقلة العناية بهم، فاستدعى القاضي ضياء الدين يوسف بن أبي بكر محمد بن خطيب بيت الأبار الشامي وعرض عليه التحدث في المارستان كما كان عوضا عن ابن الأطروش، فامتنع من ذلك، فما زال به حتى أجاب وركب إلى أوقاف المارستان بالمهندسين لكشف ما يحتاج إليه من العمارة؛
فكتب تقدير المصروفات ثلاثمائة ألف درهم ومنع من يتعرض لهم وانصلحت أحوال المرضى أيضا.
وفي شعبان سنة 902 أمر السلطان الملك الناصر أبو السعادات محمد بن الأشرف قايتباي وكان الخليفة وقتئذ المتوكل على الله العباسي بأن تقطع الحيات التي تصنع في البيمارستان بحضرته حتى يتفرج عليها، فأحضروها بين يديه بقاعة البحرة فقطعت بحضرته وهو ينظر إليها وخلع على رئيس الطب شمس الدين القوضوني وولده والحاوي الذي أحضر الحيات وآخرين.
وفي سنة 1190هـ 1776م جدد الأمير عبد الرحمن كتخذا المارستان المنصوري وهدم أعلى القبة الكبيرة المنصورية والقبة التي كانت بأعلى الفسحة من خارج، ولم يعد عمارتها بل سقف قبة المدفن فقط، وترك الأخرى مكشوفة. ورتب له أرزاقا وأخبازا زيادة على البقايا القديمة ولما عزم على ترميمه وعمارته أراد أن يحتاط بجهات وقفه فلم يجد له كتاب وقف ولا دفترا، وكانت كتب
أوقافه ودفاتره في داخل خزانة الكتب فاحترقت بما فيها من كتب العلم والمصاحف ونسخ
الوقفيات والدفاتر. ووقفه يشتمل على وقف الملك المنصور قلاوون الكبير الأصلي ووقف ولده الملك الناصر محمد بن قلاوون ووقف ابن الناصر أبي الفداء إسماعيل وغير ذلك من مرتبات الملوك من أولادهم ثم إنه وجد دفتر من دفاتر الشطب المستجدة من بعض المباشرين وذلك بعد الفحص والتفتيش فاستدل به على بعض الجهات المحتكرة. وفي خطط مصر التي وضعتها الحملة الفرنسية على مصر من سنة 1798 إلى سنة 1801 قال المسيو جومار أحد العلماء الذين استقدمهم نابليون مع الحملة: أنشئ في القاهرة منذ خمسة قرون أو ستة، عدة مارستانات تضم الأعلاء والمرضى والمجانين، ولم يبق منها سوى مارستان واحد هو مارستان قلاوون، تجتمع فيه المجانين من الجنسين. ومارستان القاهرة هذا لا يزال أكثر شهرة من مارستان دمشق، وقد كان في الأصل مخصصا للمجانين ثم جعل لقبول كل نوع من الأمراض، وصرف عليه سلاطين مصر مالا وافرا، وأفرد فيه لكل مرض قاعة خاصة وطبيب خاص، وللذكور فيه قسم منعزل عن قسم الإناث. وكان يدخله كل المرضى فقراء وأغنياء بدون تمييز، وكان يجلب إليه الأطباء من مختلف جهات الشرق ويجزل
لهم العطاء، وكانت له خزانة شراب صيدلية مجهزة بالأدوية والأدوات. ويقال إن كل مريض كانت نفقاته في كل يوم دينارا، وكان له شخصان يقومان بخدمته. وكان المؤرقون من المرضى يعزلون في قاعة منفردة يشنفون فيها آذانهم بسماع ألحان الموسيقى الشجية أو يتسلون باستماع القصص يلقيها عليهم القصاص وكان المرضى الذين يستعيدون صحتهم يعزلون عن باقي المرضى ويمتعون بمشاهدة الرقص، وكانت تمثل أمامه الروايات المضحكة وكان يعطي لكل مريض حين خروجه من المارستان خمس قطع من الذهب، حتى لا يضطر إلى الالتجاء إلى العمل الشاق في الحال. وبنى السلطان قلاوون المدرسة التابعة للمارستان في المكان الذي هي فيه في الوقت
الحاضر وكان يدرس فيها الطب والفقه.
وقال بريس دافن كانت قاعات المرضى تدفأ بإحراق البخور أو تبرد بالمراوح الكبيرة الممتدة من طرف القاعة إلى الطرف الثاني، وكانت أرض القاعات تغطى بأغصان شجر الحناء أو شجر الرمان أو شجر المصطكي أو بعساليج الشجيرات
العطرية. وكان البلسان يؤتى به من عين شمس إلى المارستان لعلاج المرضى. وقد كان يصرف من الوقف على بعض أجواق تأتي كل يوم إلى المارستان لتسلية المرضى بالغناء أو بالعزف على الآلات الموسيقية. ولتخفيف ألم الانتظار وطول الوقت على المرضى كان المؤذنون في المسجد يؤذنون في السحر وفي الفجر ساعتين قبل الميعاد حتى يخفف قلق المرضى الذين أضجرهم السهر وطول الوقت. وقد شاهد علماء الجملة الفرنسية هذه العناية بأنفسهم.
وجاء في هذه الخطط أيضا: إن هذا البناء الذي كان فيما غير من الأيام ملجأ مفتوحا في الشدائد، قد اضمحلت حالته بعد ذلك
وزالت عنه السعادة الأولى التي كان يرفل في حلاها، أو بعبارة أخرى كاد لا يبقى منه غير ظلمه بسبب ظلم الترك والمماليك وإهمالهم ولا سيما تبديد أمواله.
وعندما دخله المسيو جومار كان عدد المرضى فيه خمسين أو ستين عدا المجانين وكانوا يسكنون قاعات في الدور الأرضي مفتوحة من كل جانب، وليس بها أسرة أو أثاث. وكان المجانين يشغلون قسما آخر من البناء منقسما إلى قاعتين، لكل من الزوجين قاعة خاصة. وكان عدد المجانين عشرة يسكنون حجرات مقفلة بشابيك الحديد وفي رقابهم السلاسل، وكان بينهم نوبيان أحدهما فتى مسرور محتبس منذ ثلاث سنين والثاني عبد للألفي بك أحد أمراء المماليك احتبس منذ أربعة شهور، ورجل سري يعتريه الجنون في كل شهر مرة وآخر معه زوجته الخ وكانت النساء عرايا أو أشبه بالعرايا وهذا البناء المتسع متصل بمسجد السلطان المنصور
قلاوون. وقد أمر القائد العام الفرنسي رئيس الأطباء في الحملة بزيارة المارستان وتقديم تقرير عن حالته وعن الإصلاح اللازم له فتوجه إليه المسيو ديجانت مستصحبا معه الشيخ عبد الله الشرقاوي وهاك ما جاء في تقريره قال: توجهت اليوم إلى الشيخ عبد الله الشرقاوي فصحبني إلى المارستان وربما كنت
أول مسيحي وطئت قدمه أرض ذلك المكان. فعند ما دخلنا رأيت مظاهر الاحترام التي جرت العادة أن تقدم لمثل هذا الشيخ، ولكن كان يشوبها الشعور بقلق ربما كان سببه وجودي بينهم ثم فرش بساط جلس فوقه الشيخ ثم تكلم بكلام أدركت منه أنه يلقي عليهم موضوع مهمتي وأنه يأمرهم بمعاونتي على تأديتها.
فالمارستان مكان متسع رديء الموضع يسع في المتوسط مائة مريض وفيه في الوقت الحاضر سبعة وعشرون مريضا، وأربعة عشر مجنونا سبعة رجال وسبع نسوة. وفي المرضى كثير من العميان وأكثرهم مصاب بالسرطان وبعضهم أنهكته الأمراض العضالة المتروكة من غير علاج، وجميعهم من غير إسعاف سوى توزيع الغذاء عليهم وهو من الخبز والأرز والعدس وهم لا يتصورون أن في الإمكان تخفيف أوجاعهم، وهم بتركهم هكذا تحت رحمة الأقدار لم يعرفوا قط حتى أبسط الأدوية. ويقيم المجانين في ناحيتين منعزلتين في إحداهما ثماني عشرة حجرة للرجال وفي الأخرى ثماني عشرة للنساء. وقد رأيت الرجال مصابين بالبرد والمالنخوليا وأكثرهم مسنٌّ ورأيت فتى فقط كان في حالة هياج فكان يزأر كالأسد ثم انتقل فجأة إلى هدوء أعقبه ابتسام ودهشة. وحجر النساء ليست كلها محاطة بشبابيك الحديد
وكانت النسوة كلهن مصفدات ولكنهن غير مثبتات في الجدران كالرجال، وإحدى هاته النسوة وهي طاعنة في السن تقدمت نحوي حتى وسط الحوش وهي تبكي وتطلب إحسانا وكانت الأخيرات متحجبات حتى لم يمكن أن ألحظ شيئا من ملامحن. ووقف الذين اصطحبوني في كل مكان على باب هذه
الدايرة وكانت امرأتان تحرسان بابها الداخلي محجبتان على الدوام ومتجهتان بوجوههما إلى الجدار أثناء زيارتي وكانت هناك فتاة صغيرة جميلة قاعدة القرفصاء ووجهها وجسمها يكادان يكونان عاريين فلما لمحتني داخلا فرحت كثيرا وسلمت عليّ مرارا بحني رأسها ووضع يديها المغلولتين فوق صدرها وكانت تتكلم بنشاط، ولكني لم أفهم منها غير كلمة سنيور وكانت تعيدها مرارا ولكنها غريبة عن لسانها.
ولقد شككت في كونها مجنونة لأن ظلم الرجال كثيرا ما زج بالعقلاء في هذه المحال المحزنة.
على أن شكوك الطبيب وهو الذكي الفؤاد كان لها أساس من الصحة فقد علمنا بعد ذلك أن هذه الفتاة الشقية الحظ قد أطلق سراحها ولكن الذين زجوا بها في هذا المكان لم ينلهم عقاب.
وبعد أن زرت كل شيء بالعناية التامة لحقت بالشيخ الذي كان ينتظرني بالمسجد الذي هو من البيمارستان فوجدته يصلي أمام التربة الفخمة المدفون فيها الملك الناصر محمد بن قلاوون الذي أعد هذا المكان لأيام الشدائد.
وجاء في الخطط أيضا: إنه كان للبيمارستان وقف كاف للصرف عليه وكانت له عدا ذلك مصادر أخرى متعددة للإبراد مثل الترياق المعمول به في القاهرة فقد كان محتكرا له ومخصصا إيراده للصرف على البيمارستان.
وقال فيجرى بك كان هذا المارستان قد أخذ في الاضمحلال ففتحه جنتمكان أي ساكن الجنة الحاج محمد علي باشا ورتب له مبلغا من الدراهم أيضا يصرف على الفقراء والمساكين الذين يأتون إليه.
وفي أواسط القرن التاسع عشر الميلادي زار القاهرة العالم الأثري الألماني جورج ابيرس وكتب عن مارستان
قلاوون ما ننقله هنا قال: إنه موجود في سوق
النحاسين وهم يشتعلون في قاعاته، ولقد تخرب ولم يبق منه سوى تربة مؤسسة يأتي إليها المرضى يزورون مخلفات السلطان بقصد الشفاء: فيمسون عمامته لشفاء أوجاع الرأس، وقفطانه للشفاء من الحميات المنقطعة وتجتمع الشابات من النساء والأمهات ومعهم أولادهن فتطلب الواحدة منهن في القبلة من الله أن يرزقها ولدا ذكرا لأهمية الذكور عنج الوطنيين فلا تكون المرأة سعيدة إذا لم ترزق ولدا ذكرا. فتأتي النساء أمام القبلة فينزعن اللباس عن أنفسهن ويغطين وجوههن بأيديهم ويقفزن من ناحية من نواحي القبلة إلى الناحية الأخرى بخطوة واحدة ويكررن القفز مرارا حتى ينهكهن التعب حتى لقد ترى بعضهن من التعب ممددة ومطروحة فوق الأرض مغمى عليها حتى تفيق من غشيتها وكان كثير من النسوة يأتي بالأطفال الصغار حتى قبل أن تقوى على المشي أجسامهم ويطلب فك عقدة ألسنتهم. وكانت النساء تأتي بالأطفال إلى حجر أسود عريض بقرب الشباك الذي إلى اليمين وتعصر ليمونة خضراء فوق الحجر وتفرش العصارة فوق الحجر وتحكه بحجر آخر صغير حتى إذا تلون حامض الليمون باللون الوردي الناشئ من الحجر الأسود الحديدي، تحمل الأطفال على لحسه فتتألم
الأطفال من حموضة الليمون، وتصبح صارخة بأصواتها، فتسر الأم لسماعها صياح طفلها وكلما علا صوته من شدة الحموضة أيقنت الأم بتمام المعجزة وشفاء ابنها وانفكاك عقدة لسانه. وللنساء اعتقاد خاص في عمودي القبلة وجزأيهما السفليين وهما مغطيان بطبقة تجعل منظرهما سمجا بسبب عصارة الليمون.
وفي دار الآثار العربية طبق كبير من العقيق ارتفاعه عشرة سنتيمترات وقطره خمسة وأربعون سنتيمترا وبه ثمانية عشر ضلعا من الخارج. وشكل الطبق ينم على كونه رومانب الأصل ربما يكون قد أهداه أحد ملوك الروم إلى السلطان الملك المنصور قلاوون أو إلى ابنه الملك الناصر محمد، وقد رجح ذلك حضرة
الباحث المحقق حسين راشد أمين دار الآثار العربية. وكان هذا الطبق أولا بيمارستان قلاوون ثم نقل إلى دار الآثار حفظا له وصيانة من التلف أو الضياع لنفاسته وندورته. وأرجح أن هذا الطبق هو الذي كان يعصر فيه الليمون ويحك بحجر آخر حتى يحمر السائل ثم يرغم الطفل على لحسه. وأما قفز النسوة أمام القبلة كما ذكر إيبرس، فالراجح أيضا أن النسوة كن يضعن الطبق أمام القبلة ثم تخطون فوقه سبع مرات فكا لعقمهن وطلبا للحبل وهذه عادة مشهورة في مصر من تخطي أي شيء غريب جملة مرات من أجل الحبل وهذه صورة الطبق:
وفي سنة 1856 كان البيمارستان المنصوري قد بلغ الغاية من الاضمحلال وهجره المرضى ولم يبق به سوى المجانين، فنقلت منه المجانين إلى ورشة الجوخ ببولاق ولم يكن بهذا المحل الاستعداد اللازم لذلك وكانوا غير معتنى بهم فأنشئ مستشفى للمجاذيب في بعض السراي الحمراء التي أنشأها الخديوي إسماعيل باشا بالعباسية ثم أحرقت وكان نقل المجاذيب من ورشة الجوخ ببولاق إلى العباسية سنة 1880م.
وقال بريس دافن الذي زار القاهرة في ذلك العصر ووصف البيمارستان في كتابه إنه قد حصلت تغييرات عديدة في أبنيته في عصور مختلفة ولا سيما قد نقلت المجانين منه إلى غيره من الأمكنة
فقد تصرف المشرفون عليه بتأجير قاعاته للسكن فصار كأنه وكالة وصارت مرافقه مخازن لصناع النحاس وتجاره وقال: إن درس هذا المارستان الكبير له أهمية عظمى في تاريخ العمارة العربية حيث لم يبق الآن بناء مثله من عصره.
وبعد أن انتقلت المجانين من بيمارستان قلاوون إلى ورشة الجوخ ببولاق تحول حال البيمارستان، فيعد أن كان خاصا بالمجانين عاد إلى ما كان عليه في السابق من معالجة سائر الأمراض وكان يتولى العلاج فيه ويدير شؤونه أطباء كيفما
كانوا، حتى تولى شؤونه الدكتور حسين عوف بك وكان من خيرة الأطباء المتعلمين فن الطب طبقا للنظام العلمي الحديث. وكان الدكتور حسين عوف هذا طبيبا كحالا فطنا، فتولى علاج أمراض العيون فيه هو ثم ابنه الدكتور محمد عوف باشا مساعدا له أولا ثم متوليا لشؤونه من بعده. ومن هنا أخذ البيمارستان يكون خاصا بأمراض العيون إلى اليوم وممن عمل في هذا البيمارستان بعدهم الدكتور محمد بكير بك والدكتور محمد أمين بك. وفي سنة 1895 عين الدكتور سعد سامح بك الطبيب الكحال مديرا للبيمارستان ورئيسا لأطبائه ثم أحيل إلى المعاش في يناير سنة 1912 ثم خلفه في رياسة البيمارستان الدكتور محمد شاكر بك إلى شهر مارس سنة 1915. وفي أبريل