المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(باب ومن سورة النساء) - تحفة الأحوذي - جـ ٨

[عبد الرحمن المباركفوري]

فهرس الكتاب

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي مَرْحَبًا)

- ‌41 - كتاب الأدب

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ)

- ‌(بَاب مَا يَقُولُ الْعَاطِسُ إِذَا عَطَسَ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ كَيْفَ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي إِيجَابِ التَّشْمِيتِ بِحَمْدِ الْعَاطِسِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ كَمْ يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ)

- ‌(بَابُ مَا جَاءَ فِي خَفْضِ الصَّوْتِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ أَنَّ الْعُطَاسَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الشَّيْطَانِ)

- ‌(بَاب كَرَاهِيَةِ أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يُجْلَسُ فِيهِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ إِذَا قَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الْجُلُوسِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ بِغَيْرِ إذنهم)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الْقُعُودِ وَسْطَ الْحَلْقَةِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ قِيَامِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ في تقليم الأظافر)

- ‌(باب ما جاء فِي التَّوْقِيتِ فِي تَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَأَخْذِ الشَّارِبِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي قَصِّ الشَّارِبِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي الْأَخْذِ مِنْ اللِّحْيَةِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي إِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي وَضْعِ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى مُسْتَلْقِيًا)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الِاضْطِجَاعِ عَلَى الْبَطْنِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي حِفْظِ الْعَوْرَةِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي الِاتِّكَاءِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ أَنَّ الرَّجُلَ أَحَقُّ بِصَدْرِ دَابَّتِهِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي الرُّخْصَةِ فِي اتِّخَاذِ الْأَنْمَاطِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي رُكُوبِ ثَلَاثَةٍ عَلَى دَابَّةٍ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ في نظر الفجاءة)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي احْتِجَابِ النِّسَاءِ مِنْ الرِّجَالِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي النَّهْيِ عن الدُّخُولُ عَلَى النِّسَاءِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي تَحْذِيرِ فِتْنَةِ النِّسَاءِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ اتِّخَاذِ الْقُصَّةِ)

- ‌(بَابَ مَا جَاءَ فِي الْوَاصِلَةِ وَالْمُسْتَوْصِلَةِ وَالْوَاشِمَةِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي الْمُتَشَبِّهَاتِ بِالرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ مُتَعَطِّرَةً)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي طِيبِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ رَدِّ الطِّيبِ)

- ‌(باب ما جاء في كراهية مباشرة الرجل للرجل)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي حِفْظِ الْعَوْرَةِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي النَّظَافَةِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي الِاسْتِتَارِ عِنْدَ الْجِمَاعِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ)

- ‌(بَابُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ للرجال وَالْقَسِّيِّ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الْبَيَاضِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي الرُّخْصَةِ فِي لُبْسِ الْحُمْرَةِ لِلرِّجَالِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي الثَّوْبِ الْأَخْضَرِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي الثَّوْبِ الْأَسْوَدِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي الثَّوْبِ الْأَصْفَرِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ التَّزَعْفُرِ وَالْخَلُوقِ لِلرِّجَالِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي الْخُفِّ الْأَسْوَدِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي النَّهْيِ عَنْ نتف الشيب)

- ‌(باب ما جاء أن المستشار مؤتمن)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي الشُّؤْمِ)

- ‌(باب لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ ثَالِثٍ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي الْعِدَةِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي تَعْجِيلِ اسْمِ الْمَوْلُودِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الْأَسْمَاءِ)

- ‌(باب ما جاء مَا يُكْرَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي تَغْيِيرِ الْأَسْمَاءِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي أَسْمَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌(باب ما جاء في كراهية الجمع بين اسْمِ النَّبِيِّ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ إِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكْمَةً)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي إِنْشَادِ الشِّعْرِ)

- ‌(باب ما جاء لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَيَانِ)

- ‌(أَبْوَابُ الْأَمْثَالِ)

- ‌(باب ما جاء في مثل الله عز وجل لعباده)

- ‌(بَاب مَا جاء في مثل النبي والأنبياء)

- ‌(بَاب مَا جاء مَثَلِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ)

- ‌(باب ما جاء في مثل المؤمن القارىء للقرآن)

- ‌(باب ما جاء مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ)

- ‌(باب ما جاء مَثَلِ ابْنِ آدَمَ وَأَجَلِهِ وَأَمَلِهِ)

- ‌42 - كِتَاب فَضَائِلِ الْقُرْآنِ

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ)

- ‌(باب ما جاء في سورة البقرة وآية الكرسي)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ سُورَةِ الْكَهْفِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ يس)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ حم الدُّخَانِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ سُورَةِ الْمُلْكِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي إِذَا زُلْزِلَتْ)

- ‌(باب ما جاء في سورة الإخلاص وفي سورة إذا زلزلت)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ قَارِئِ الْقُرْآنِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الْقُرْآنِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ)

- ‌(بَاب مَا جاء في من قَرَأَ حَرْفًا مِنْ الْقُرْآنِ)

- ‌(باب)

- ‌(باب)

- ‌(باب)

- ‌(باب)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌بَابِ

- ‌43 - أبواب القراءات

- ‌(باب ما جاء أن القرآن أنزل القرآن على سبعة أحرف)

- ‌(باب)

- ‌(باب)

- ‌44 - أبواب تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي الَّذِي يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ برأيه)

- ‌(باب وَمِنْ سُورَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ)

- ‌(باب وَمِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ)

- ‌(باب وَمِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ)

- ‌(بَاب وَمِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ)

- ‌(باب وَمِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ)

- ‌(بَاب وَمِنْ سُورَةِ هُودٍ)

- ‌(باب وَمِنْ سُورَةِ يُوسُفَ)

- ‌(باب وَمِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ)

- ‌(باب ومن سورة إبراهيم)

- ‌(باب وَمِنْ سُورَة الْحِجْرِ)

- ‌(باب وَمِنْ سُورَةِ النَّحْلِ)

- ‌(بَاب وَمِنْ سُورَة بَنِي إِسْرَائِيلَ)

- ‌(باب وَمِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ)

- ‌(باب وَمِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ)

- ‌(باب وَمِنْ سُورَةِ طه)

الفصل: ‌(باب ومن سورة النساء)

تَنْبِيهٌ قَدْ وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الاية حديثان صحيحان أحدهما حديث بن عَبَّاسٍ هَذَا وَالثَّانِي مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رِجَالًا من المنافقين على عهد رسول الله كان إذا خرج رسول الله إلى الغزو وتخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله فإذا قدم رسول الله اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَنَزَلَتْ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ الْآيَةَ

قَالَ الْحَافِظُ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ مَعًا وَبِهَذَا أَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ

(بَاب وَمِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ)

هِيَ مَدَنِيَّةٌ وَمِائَةٌ وَخَمْسٌ أَوْ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ آيَةً

قَوْلُهُ (يَقُولُ مرضت فأتاني رسول الله يَعُودنِي) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْفَرَائِضِ وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ شَرْحُهُ حَتَّى نَزَلَتْ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أولادكم كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ هَذِهِ أَعْنِي مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ عَنْ طَرِيقِ بن عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ طَرِيقِ هِشَامٍ عَنِ بن جريج عن بن مُنْكَدِرٍ

قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ قَوْلُهُ فَنَزَلَتْ (يوصيكم الله في أولادكم) هكذا وقع في رواية بن جُرَيْجٍ وَقِيلَ إِنَّهُ وَهَمَ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الصَّوَابَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ جَابِرٍ هَذِهِ الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ مِنَ النِّسَاءِ وَهِيَ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة لِأَنَّ جَابِرًا يَوْمَئِذٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ وَالْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدٌ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَمْرٍو النَّاقِدِ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ

ص: 292

منصور كلاهما عن بن عيينة عن بن الْمُنْكَدِرِ فَقَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ آيَةُ الْمِيرَاثِ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ في الكلالة ولمسلم أيضا من طريق شعبة عن بن الْمُنْكَدِرِ قَالَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ فَقُلْتَ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ يَسْتَفْتُونَكَ قل الله يفتيكم في الكلالة قَالَ هَكَذَا أُنْزِلَتْ وَقَدْ أَطَالَ الْحَافِظُ الْكَلَامَ ها هنا فِي الْفَتْحِ فَعَلَيْكَ أَنْ تُرَاجِعَهُ

وَقَدْ ذَكَرَ الحافظ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثَ جَابِرٍ الْمَذْكُورَ عَنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ عن بن جريج عن بن الْمُنْكَدِرِ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الرَّقِّيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْهُ قَالَ جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُولِ الله فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ شَهِيدًا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ ثُمَّ قَالَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ الْأَوَّلَ إِنَّمَا نَزَلَ بِسَبَبِهِ الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ لَهُ إِذْ ذَاكَ أَخَوَاتٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَنَاتٌ وَإِنَّمَا كَانَ يُورَثُ كلالة ولكن ذكرنا الحديث ها هنا تَبَعًا لِلْبُخَارِيِّ فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ هَا هُنَا وَالْحَدِيثُ الثَّانِي عَنْ جَابِرٍ أَشْبَهُ بِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ انْتَهَى

قَوْلُهُ (وَفِي حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ صَبَّاحٍ كَلَامٌ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا) أَيْ حَدِيثُ الْفَضْلِ بْنِ صَبَّاحٍ أَطْوَلُ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ الْمَذْكُورِ وَحَدِيثُ الْفَضْلِ بْنِ صَبَّاحٍ هَذَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ مِيرَاثِ الْأَخَوَاتِ

قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا قَتَادَةُ) بْنُ دِعَامَةَ (عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ الْهَاشِمِيِّ) الْفَارِسِيِّ الْمِصْرِيِّ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ وَيُقَالُ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ ثَقةَ وَكَانَ قَاضِي إِفْرِيقِيَّةَ مِنْ كِبَارِ الثَّالِثَةِ

قَوْلُهُ (لَمَّا كَانَ يَوْمُ أَوْطَاسٍ) اسْمُ مَوْضِعٍ أَوْ بُقْعَةٌ فِي الطَّائِفِ يُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ (لَهُنَّ أَزْوَاجٌ فِي الْمُشْرِكِينَ) صِفَةٌ لِنِسَاءٍ (فكرههن) أي كره وطئهن مِنْ أَجْلِ أَنَّهُنَّ مُزَوَّجَاتٍ وَالْمُزَوَّجَةُ لَا تَحِلُّ لغير

ص: 293

زوجها (منهم) أي من أصحاب النبي وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنَّا وَهُوَ الظَّاهِرُ

وَرَوَى مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ بِلَفْظِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَوْمَ حُنَيْنٍ بَعَثَ جَيْشًا إِلَى أَوْطَاسٍ فَلَقَوْا عَدُوًّا فَقَاتَلُوهُمْ فَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ وَأَصَابُوا لَهُمْ سَبَايَا فكأن ناسا من أصحاب النبي تَحَرَّجُوا مِنْ غَشَيَانِهِنَّ مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمُحْصَنَاتُ) بِفَتْحِ الصَّادِ بِاتِّفَاقِ الْقُرَّاءِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى أُمَّهَاتُكُمْ أَيْ وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمُحْصَنَاتُ أَيْ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ لِأَنَّهُنَّ أَحْصَنَّ فُرُوجَهُنَّ بِالتَّزْوِيجِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أَيْ أَيْمَانُكُمْ أَيْ مَا أَخَذْتُمْ مِنْ نِسَاءِ الْكُفَّارِ بِالسَّبْيِ وَزَوْجُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ فَتَحِلُّ لِلْغَانِمِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ

قَالَ النَّوَوِيُّ اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمَسْبِيَّةَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ حَتَّى تُسْلِمَ فَمَا دَامَتْ عَلَى دِينِهَا فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ وَهَؤُلَاءِ الْمَسْبِيَّاتُ كُنَّ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَيُتَأَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثُ وَشَبَهُهُ عَلَى أَنَّهُنَّ أَسْلَمْنَ وَهَذَا التَّأْوِيلُ لَا بُدَّ مِنْهُ انْتَهَى

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي النَّيْلِ فِي بَابِ اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ إِذَا مُلِكَتْ مَا لَفْظُهُ ظَاهِرُ أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ وَطْءِ الْمَسْبِيَّةِ الْإِسْلَامُ وَلَوْ كَانَ شَرَطَ الْبَيِّنَةَ صلى الله عليه وسلم وَلَمَّا يُبَيِّنْهُ وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ وَذَلِكَ وَقْتُهَا وَلَا سِيَّمَا وَفِي الْمُسْلِمِينَ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ وَغَيْرِهِ مَنْ هُوَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ وَتَجْوِيزُ حُصُولِ الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ السَّبَايَا وَهُنَّ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ بَعِيدٌ جِدًّا فَإِنَّ إِسْلَامَ مِثْلِ عَدَدِ الْمَسْبِيَّاتِ فِي أَوْطَاسٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ لَا يَقُولُ بِأَنَّهُ يَصِحُّ تَجْوِيزُهُ عَاقِلٌ

وَمِنْ أَعْظَمِ الْمُؤَيِّدَاتِ لِبَقَاءِ الْمَسْبِيَّاتِ على دينهن ما ثبت من رده لَهُنَّ بَعْدَ أَنْ جَاءَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ هَوَازِنَ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ مَا أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ فَرَدَّ إِلَيْهِمُ السَّبْيَ فَقَطْ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ وَطْءِ الْمَسْبِيَّاتِ الْكَافِرَاتِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ الْمَشْرُوعِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ طَاوُسٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِمَا سَلَفَ انْتَهَى

(هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه

ص: 294

قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ) بْنُ مُسْلِمٍ (الْبَتِّيُّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ أَبُو عَمْرٍو الْبَصْرِيُّ صَدُوقٌ عَابُوا عَلَيْهِ الْإِفْتَاءَ بِالرَّأْيِ مِنَ الْخَامِسَةِ

قَوْلُهُ (أَصَبْنَا سَبَايَا) جَمْعُ السَّبِيَّةِ وَهِيَ الْمَرْأَةُ الْمَنْهُوبَةُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ

قَوْلُهُ (وَلَا أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا ذَكَرَ أَبَا عَلْقَمَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا مَا ذَكَرَ هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ) كَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ تَابَعَ هَمَّامًا فِي ذِكْرِ أَبِي عَلْقَمَةَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَشُعْبَةَ أَيْضًا عند مسلم

وقد صرح بهذا الحافظ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ (وَأَبُو الْخَلِيلِ اسْمُهُ صَالِحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ) الضُّبَعِيُّ مَوْلَاهُمُ الْبَصْرِيُّ وَثَّقَهُ بن معين والنسائي وأغرب بن عَبْدِ الْبَرِّ فَقَالَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ مِنَ السَّادِسَةِ

قَوْلُهُ (وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ) أَيْ قَطْعُ صِلَتِهِمَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَقِّ وَهُوَ الشَّقُّ وَالْقَطْعُ وَالْمُرَادُ عُقُوقُ أَحَدِهِمَا

قِيلَ هُوَ إِيذَاءٌ لَا يُتَحَمَّلُ مِثْلُهُ مِنَ الْوَلَدِ عَادَةً وَقِيلَ عُقُوقُهُمَا مُخَالَفَةُ أَمْرِهِمَا فِيمَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً وفِي مَعْنَاهُمَا الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ (وَقَتْلُ النَّفْسِ) أَيْ بِغَيْرِ حَقٍّ (وَقَوْلُ الزُّورِ) وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَالْمُرَادُ مِنَ الزُّورِ الْكَذِبِ وَسُمِّيَ زُورًا لِمَيَلَانِهِ عَنْ جِهَةِ الْحَقِّ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ

قَوْلُهُ (وَقَالَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) أَيْ بِالتَّكْبِيرِ (وَلَا يَصِحُّ) بَلِ الصَّحِيحُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِالتَّصْغِيرِ

قَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَبُو مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ رَوَى عَنْ جَدِّهِ وَقِيلَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَعَنْهُ شعبة وغيره

قال أحمد وبن مَعِينٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ ثِقَةٌ

ص: 295

قَوْلُهُ (أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ إِلَخْ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ بِإِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ فِي بَابِ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَفِي الشَّهَادَاتِ

قَوْلُهُ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ) بِضَمِّ الْقَافِ وَالْفَاءِ بَيْنَهُمَا نُونٌ سَاكِنَةٌ الْمَدَنِيُّ ثِقَةٌ مِنَ الْخَامِسَةِ (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْأَنْصَارِيِّ) الْبَكْرِيِّ حَلِيفِ بَنِي حَارِثَةَ اسْمُهُ إِيَاسٌ وَقِيلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ وَقِيلَ ثَعْلَبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ صَحَابِيٌّ لَهُ أَحَادِيثُ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ) بِالتَّصْغِيرِ الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ كُنْيَتُهُ أَبُو يَحْيَى حَلِيفُ الْأَنْصَارِ صَحَابِيٌّ

قَوْلُهُ (إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ) أَيِ الْإِشْرَاكُ بِهِ فَنَفْيُ الصَّانِعِ أَوْلَى أَوِ الْمُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْكُفْرِ إِلَّا أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِهِ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ فِي الكفرة ومن زَائِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُهُ فِي الْإِثْبَاتِ كَالْأَخْفَشِ أَوْ دُخُولُ مِنْ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَالشِّرْكُ هُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ لَا مِنْ جُمْلَتِهِ (وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ هُوَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ الْفَاجِرَةُ كالَّتِي يَقْتَطِعُ بِهَا الْحَالِفُ مَالَ غَيْرِهِ سُمِّيَتْ غَمُوسًا لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ ثُمَّ فِي النَّارِ وَفَعُولٌ لِلْمُبَالَغَةِ (وَمَا حَلَفَ حَالِفٌ بِاَللَّهِ يَمِينَ صَبْرٍ) فِي النِّهَايَةِ الْحَلِفُ هُوَ الْيَمِينُ فَخَالَفَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ تَأْكِيدًا

قَالَ النَّوَوِيُّ يَمِينَ صَبْرٍ بِالْإِضَافَةِ أَيْ أُلْزِمَ بِهَا وَحُبِسَ عَلَيْهَا وَكَانَتْ لَازِمَةً لِصَاحِبِهَا مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ وَقِيلَ لَهَا مَصْبُورَةٌ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمَصْبُورُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا صُبِرَ مِنْ أَجْلِهَا أَيْ حُبِسَ فَوُصِفَتْ بِالصَّبْرِ وَأُضِيفَتْ إِلَيْهِ مَجَازًا انْتَهَى

وتوضيحه ما قاله بن الْمَلِكِ الصَّبْرُ الْحَبْسُ وَالْمُرَادُ بِيَمِينِ الصَّبْرِ أَنْ يَحْبِسَ السُّلْطَانُ الرَّجُلَ حَتَّى يَحْلِفَ بِهَا وَهِيَ لَازِمَةٌ لِصَاحِبِهَا مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ

وَقِيلَ يَمِينُ الصَّبْرِ هِيَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ قَاصِدًا لِإِذْهَابِ مَالِ الْمُسْلِمِ كَأَنَّهُ

ص: 296

يَصْبِرُ النَّفْسَ عَلَى تِلْكَ الْيَمِينِ أَيْ يَحْبِسُهَا عَلَيْهَا كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ

وَقَالَ فِي الْمَجْمَعِ يَمِينَ صَبْرٍ بِالْإِضَافَةِ أَيْ أُلْزِمَ بِهَا وَحُبِسَ لَهَا شَرْعًا وَلَوْ حَلَفَ بِغَيْرِ إِحْلَافٍ لَمْ يَكُنْ صَبْرًا (فَأَدْخَلَ) أَيِ الْحَالِفُ (فِيهَا) أَيْ فِي تِلْكَ الْيَمِينِ (مِثْلَ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ رِيشِهَا

وَالْمُرَادُ أَقَلُّ قَلِيلٍ

وَالْمَعْنَى شَيْئًا يَسِيرًا مِنَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَمِمَّا يُخَالِفُ ظَاهِرُهُ بَاطِنَهُ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ (إِلَّا جُعِلَتْ) أَيْ تِلْكَ الْيَمِينُ (نُكْتَةً) أَيْ سَوْدَاءَ أَيْ أَثَرًا قَلِيلًا كَالنُّقْطَةِ تُشْبِهُ الْوَسَخَ فِي نَحْرِ الْمَرْأَةِ وَالسَّيْفِ (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)

قَالَ الطِّيبِيُّ مَعْنَى الِانْتِهَاءِ أَنَّ أَثَرَ تِلْكَ النُّكْتَةِ الَّتِي هِيَ مِنَ الرَّيْنِ يَبْقَى أَثَرُهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا وَبَالُهَا وَالْعِقَابُ عَلَيْهَا فَكَيْفَ إِذَا كَانَ كَذِبًا مَحْضًا

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ والحاكم وبن أَبِي حَاتِمٍ

قَوْلُهُ (عَنْ فِرَاسٍ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وبالراء هو بن يَحْيَى الْهَمْدَانِيُّ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ

تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ أَعْنِي أَحَادِيثَ أَنَسٍ وَأَبِي بَكْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ذَكَرَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما وقد أطال الحافظ بن كَثِيرٍ الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْقَوْلِ

فَذَكَرَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً تَتَعَلَّقُ بِهِ ثُمَّ ذَكَرَ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِي حَدِّ الْكَبِيرَةِ فَمِنْ قَائِلٍ هِيَ مَا عَلَيْهِ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هِيَ مَا عَلَيْهِ وَعِيدٌ مَخْصُوصٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ الشَّهِيرِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ مِنْهُ ثُمَّ اخْتَلَفَ

ص: 297

الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الْكَبَائِرِ وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّغَائِرِ وَلِبَعْضِ الْأَصْحَابِ فِي تَفْسِيرِ الْكَبِيرَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا أَنَّهَا الْمَعْصِيَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَدِّ وَالثَّانِي أَنَّهَا الْمَعْصِيَةُ الَّتِي يَلْحَقُ صَاحِبَهَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ وَهَذَا أَكْثَرُ مَا يُوجَدُ لَهُمْ وَإِلَى الْأَوَّلِ أَمِيلُ لَكِنَّ الثَّانِيَ أَوْفَقُ لِمَا ذَكَرُوهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْكَبَائِرِ وَالثَّالِثُ قَالَ إِمَامُ الحرمين في الإرشاد وغيره كل جريمة تنبىء بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ وَرِقَّةِ الدِّيَانَةِ فَهِيَ مُبْطِلَةٌ لِلْعَدَالَةِ وَالرَّابِعُ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو سَعِيدٍ الْهَرَوِيُّ أَنَّ الْكَبِيرَةَ كُلُّ فِعْلٍ نَصَّ الْكِتَابُ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ تُوجِبُ فِي جِنْسِهَا حَدًّا مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ وَتَرْكُ كُلِّ فَرِيضَةٍ مَأْمُورٍ بِهَا عَلَى الْفَوْرِ وَالْكَذِبُ وَالشَّهَادَةُ وَالرِّوَايَةُ وَالْيَمِينُ هَذَا مَا ذَكَرُوهُ عَلَى سَبِيلِ الضَّبْطِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي تَفْصِيلِ الْكَبَائِرِ أَقْوَالَ بعض أهل العلم

قال الحافظ بن كَثِيرٍ وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي الْكَبَائِرِ مُصَنَّفَاتٍ مِنْهَا مَا جَمَعَهُ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ بَلَغَ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ كَبِيرَةً

وَإِذَا قِيلَ إِنَّ الْكَبِيرَةَ مَا تَوَعَّدَ عَلَيْهَا الشَّارِعُ بالنار بخصوصها كما قال بن عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ وَلَا يُتَّبَعُ ذَلِكَ اجْتَمَعَ مِنْهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ وَإِذَا قِيلَ كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَكَثِيرٌ جِدًّا انْتَهَى

وَقَدْ تَقَدَّمَ شيء من فِي حَدِّ الْكَبِيرَةِ فِي بَابِ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ

قَوْلُهُ (يَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا تَغْزُو النِّسَاءُ) وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا تَغْزُو النِّسَاءُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ به بعضكم على بعض مِنْ جِهَةِ الدُّنْيَا أَوِ الدِّينِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلى التحاسد والتباغض

قال الحافظ بن كَثِيرٍ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ بن عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ وَلَا يَتَمَنَّى الرَّجُلُ فَيَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالَ فُلَانٍ وَأَهْلَهُ فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَسْأَلُ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ

وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ نَحْوَ هَذَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ فَيَقُولُ رَجُلٌ لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانٍ لَعَمِلْتُ مِثْلَهُ فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ غَيْرُ مَا نَهَتْ عَنْهُ الْآيَةُ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيثَ حَضَّ عَلَى تَمَنِّي مِثْلَ نِعْمَةِ هَذَا وَالْآيَةُ نَهَتْ عَنْ تَمَنِّي عَيْنَ نِعْمَةِ هَذَا يَقُولُ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بعض أَيْ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَكَذَا الدِّينِيَّةِ

قَوْلُهُ (قَالَ مُجَاهِدٌ) هَذَا مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمُتَقَدِّمِ (وَأَنْزَلَ فِيهَا) أَيْ فِي أُمِّ سَلَمَةَ (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ والمسلمات) تمام الاية

ص: 298

وَالْمُؤْمِنَينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مغفرة وأجرا عظيما وَرِوَايَةُ مُجَاهِدٍ هَذِهِ مُخْتَصَرَةٌ

وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا لِي أَسْمَعُ الرِّجَالَ يذكرون في القرآن والنساء لا يذكرون فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنَينَ والمؤمنات (أَوَّلَ ظَعِينَةٍ) قِيلَ لِلْمَرْأَةِ ظَعِينَةً لِأَنَّهَا تَظْعَنُ مَعَ الزَّوْجِ حَيْثُ مَا ظَعَنَ أَوْ تُحْمَلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ إِذَا ظَعَنَتْ وَقِيلَ هِيَ الْمَرْأَةُ فِي الْهَوْدَجِ ثُمَّ قِيلَ لِلْمَرْأَةِ وَحْدَهَا وَالْهَوْدَجُ وَحْدَهُ مِنْ ظَعَنَ ظَعْنًا بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ إِذَا سَارَ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ) أَيْ مُنْقَطِعٌ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ

قَوْلُهُ (عَنْ رَجُلٍ مِنْ وَلَدِ أُمِّ سَلَمَةَ) اسْمُ هَذَا الرَّجُلِ سَلَمَةُ

قَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ سَلَمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ رَوَى عَنْ جَدَّةِ أَبِيهِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ جَدِّهِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَلَهُ صُحْبَةٌ رَوَى عَنْهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ فَنَسَبَهُ إِلَى جَدِّ أَبِيهِ فَقَالَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ

وَعَنْهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ فَنَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ فَقَالَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ

وَقَدْ رَوَى لَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي التَّفْسِيرِ حَدِيثًا وَلَمْ يُسَمِّهِ أخرجه عن بن أَبِي عُمَرَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ وَلَدِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لَا أَسْمَعُ اللَّهَ ذَكَرَ النِّسَاءَ فِي الْهِجْرَةِ بِشَيْءٍ الْحَدِيثَ

وَسَمَّاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ من طريق يعقوب بن حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَتَابَعَهُ قُتَيْبَةُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ

وَقَالَ فِي التَّقْرِيبِ فِي تَرْجَمَتِهِ مَقْبُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ

قَوْلُهُ

ص: 299

أني لا أضيع عمل عامل منكم يَعْنِي لَا أُحْبِطُ عَمَلَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بَلْ أثيبكم عليه من ذكر أو أنثى يَعْنِي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ ذَكَرًا كان أو أنثى بعضكم من بعض يَعْنِي فِي الدِّينِ وَالنُّصْرَةِ وَالْمُوَالَاةِ وَقِيلَ كُلُّكُمْ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَقِيلَ مِنْ بِمَعْنَى الْكَافِ أَيْ بَعْضُكُمْ كَبَعْضٍ فِي الثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ مِنِّي يَعْنِي عَلَى خُلُقِي وَسِيرَتِي وَقِيلَ إِنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ فِي الطَّاعَةِ عَلَى شَكْلٍ وَاحِدٍ كَذَا فِي تَفْسِيرِ الْخَازِنِ

وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا سعيد بن منصور وبن جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ ثُمَّ قَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ

وَقَدْ رَوَى بن أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بعض إلى آخرها رواه بن مَرْدَوَيْهِ

قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ) اسْمُهُ سَلَامُ بْنُ سُلَيْمٍ الْحَنَفِيُّ (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه (وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَكَيْفَ) أَيْ حَالُ الْكُفَّارِ (إِذَا جئنا من كل أمة بشهيد) يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا وَهُوَ نَبِيُّهَا (وَجِئْنَا بِكَ) يَا مُحَمَّدُ (عَلَى هَؤُلَاءِ) أَيْ أُمَّتِكَ (شَهِيدًا) حَالٌ أَيْ شَاهِدًا عَلَى مَنْ آمَنَ بِالْإِيمَانِ وَعَلَى مَنْ كَفَرَ بِالْكُفْرِ وَعَلَى مَنْ نَافَقَ بِالنِّفَاقِ

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فَضَالَةَ الظفري أن ذلك كان وهو كان في بني ظفر أخرجه بن أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النبي أتاهم في بني ظفر ومعه بن مَسْعُودٍ وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَمَرَ قَارِئًا فَقَرَأَ فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَة فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤلاء شهيدا فَبَكَى حَتَّى ضَرَبَ لَحْيَاهُ وَوَجْنَتَاهُ فَقَالَ يَا رَبِّ هَذَا عَلَى مَنْ أَنَا بَيْنَ ظَهْرَيْهِ فكيف بمن لم أره

وأخرج بن الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ لَيْسَ مِنْ يَوْمٍ إِلَّا يُعْرَضُ على النبي أُمَّتُهُ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً فَيَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَأَعْمَالِهِمْ فَلِذَلِكَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ فَفِي هَذَا الْمُرْسَلِ مَا يَرْفَعُ الإشكال الذي تضمنه حديث بن فَضَالَةَ كَذَا فِي الْفَتْحِ (غَمَزَنِي) الْغَمْزُ الْعَصْرُ وَالْكَبْسُ بِالْيَدِ أَيْ أَشَارَ بِالْيَدِ لِأَنْ يَمْتَنِعَ عَنِ الْقِرَاءَةِ وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ قَالَ حَسْبُكَ الْآنَ (وَعَيْنَاهُ تَدْمَعَانِ) وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ تَذْرِفَانِ أي تسيلان دمعا

قال بن بطال إنما بكى عِنْدَ تِلَاوَتِهِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ مَثَّلَ لِنَفْسِهِ أَهْوَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَشِدَّةِ الْحَالِ الدَّاعِيَةِ لَهُ إِلَى شَهَادَتِهِ لِأُمَّتِهِ بِالتَّصْدِيقِ وَسُؤَالِهِ

ص: 300

الشَّفَاعَةَ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ وَهُوَ أَمْرٌ يَحِقُّ لَهُ طُولُ الْبُكَاءِ انْتَهَى

قَالَ الْحَافِظُ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ بَكَى رَحْمَةً لِأُمَّتِهِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمْ بِعَمَلِهِمْ وَعَمَلُهُمْ قَدْ لَا يَكُونُ مُسْتَقِيمًا فَقَدْ يُفْضِي إِلَى تَعْذِيبِهِمْ

قَالَ الْغَزَالِيُّ يُسْتَحَبُّ الْبُكَاءُ مَعَ الْقِرَاءَةِ وَعِنْدَهَا وَطَرِيقُ تَحْصِيلِهِ أَنْ يَحْضُرَ قَلْبَهُ الْحُزْنُ وَالْخَوْفُ بِتَأَمُّلِ مَا فِيهِ مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَالْوَثَائِقِ وَالْعُهُودِ ثُمَّ يَنْظُرَ تَقْصِيرَهُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ حُزْنٌ فَلْيَبْكِ عَلَى فَقْدِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ

قَوْلُهُ (عن عبيدة) بفتح أوله هو بن عَمْرٍو السَّلْمَانِيِّ الْمُرَادِيِّ

قَوْلُهُ (أَقْرَأُ عَلَيْكَ) أَيْ أَأَقْرَأُ عَلَيْكَ (إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غيري) قال بن بَطَّالٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِهِ لِيَكُونَ عَرْضُ الْقُرْآنِ سُنَّةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِكَيْ يَتَدَبَّرَهُ وَيَتَفَهَّمَهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَمِعَ أَقْوَى عَلَى التَّدَبُّرِ وَنَفْسُهُ أَخْلَى وَأَنْشَطُ لذلك من القارىء لِاشْتِغَالِهِ بِالْقِرَاءَةِ وَأَحْكَامِهَا وَهَذَا بِخِلَافِ قِرَاءَتِهِ هُوَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَإِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يعلمه كيفية أداء القراءة وخرج نحو ذلك (تَهْمُلَانِ) أَيْ تَدْمَعَانِ وَتَفِيضَانِ

قَالَ فِي الْقَامُوسِ هَمَلَتْ عَيْنُهُ تَهْمِلُ وَتَهْمُلُ هَمْلًا وَهَمَلَانًا وَهُمُولًا فَاضَتْ

قَوْلُهُ (هَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ) أَيْ حَدِيثِ سُفْيَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ لِأَنَّ عَبْدَ الْوَاحِدِ وَحَفْصَ بْنَ غِيَاثٍ وَغَيْرَهُمَا قَدْ تَابَعُوا سُفْيَانَ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا

وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ هَذَا أَخْرَجَهُ

ص: 301

أَيْضًا الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ

قَوْلُهُ (وَسَقَانَا مِنَ الْخَمْرِ) أَيْ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ (فَأَخَذَتِ الْخَمْرُ مِنَّا) أي أخذت عقولنا لا تقربوا الصلاة أي لا تصلوا وأنتم سكارى جَمْعُ سَكْرَانَ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تقولون بِأَنْ تَصْحُوا

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ

قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ وَقَدْ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ وَفَرَّقَ مَرَّةً بَيْنَ حَدِيثِهِ الْقَدِيمِ وَحَدِيثِهِ الْحَدِيثِ وَوَافَقَهُ عَلَى التَّفْرِقَةِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ هَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه مُتَّصِلَ الْإِسْنَادِ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَعْنِي السُّلَمِيَّ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُحَرَّمَ الْخَمْرُ فَحُرِّمَتْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ فَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي إِسْنَادِهِ فَرَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ فَأَرْسَلُوهُ وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي مَتْنِهِ فَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مَا قَدَّمْنَاهُ وَفِي كِتَابِ النَّسَائِيِّ وَأَبِي جَعْفَرٍ النَّحَّاسِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَفِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الْبَزَّارِ أَمَرُوا رَجُلًا فَصَلَّى بِهِمْ وَلَمْ يُسَمِّهِ وَفِي حَدِيثِ غَيْرِهِ فَتَقَدَّمَ بَعْضُ الْقَوْمِ انْتَهَى كَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ

قَوْلُهُ (أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ إِلَخْ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ بِإِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ فِي بَابِ

ص: 302

الرَّجُلَيْنِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْآخَرِ فِي الْمَاءِ مِنْ أَبْوَابِ الْأَحْكَامِ وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ شَرْحُهُ

قَوْلُهُ (قَالَ سَمِعْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ) والخطمي صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ

قَوْلُهُ (رَجَعَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النبي يَوْمَ أُحُدٍ) يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَأَصْحَابَهُ وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ كَانَ وَافَقَ رَأْيُهُ رَأْيَ النبي عَلَى الْإِقَامَةِ بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا أَشَارَ غَيْرُهُ بِالْخُرُوجِ وأجابهم النبي فَخَرَجَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ لِأَصْحَابِهِ أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا فَرَجَعَ بِثُلُثِ الناس

قال بن إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ فَأَتْبَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حِرَامٍ وَهُوَ وَالِدُ جَابِرٍ وَكَانَ خَزْرَجِيًّا كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَنَاشَدَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فَأَبَوْا فَقَالَ أَبْعَدَكُمُ اللَّهُ (فَكَانَ النَّاسُ فِيهِمْ) أَيْ فِي الْحُكْمِ فِي مَنِ انْصَرَفَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ (فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَخْ) هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي سَبَبِ نزولها

وأخرج بن أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ مَنْ لِي بِمَنْ يُؤْذِينِي فَذَكَرَ مُنَازَعَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَأُسَيْدِ بن خضير وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ

وَفِي سَبَبِ نُزُولِهَا قَوْلٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ قَوْمًا أَتَوْا الْمَدِينَةَ فَأَسْلَمُوا فَأَصَابَهُمُ الْوَبَاءُ فَرَجَعُوا فَاسْتَقْبَلَهُمْ نَاسٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَأَخْبَرُوهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَافَقُوا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا فنزلت

ص: 303

وأخرجه بن أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ مُرْسَلًا فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا احْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا كَذَا فِي الفتح قال الحافظ بن جَرِيرٍ بَعْدَ ذِكْرِ عِدَّةِ أَقْوَالٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا لَفْظُهُ وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي اخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ الله فِي قَوْمٍ كَانُوا ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ لِأَنَّ اخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ قَوْمٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى مَا قَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ عَنْهُمْ وَالْآخَرُ أَنَّهُمْ قَوْمٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ

وَفِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حتى يهاجروا أَوْضَحُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رسول الله إِلَى دَارِهِ وَمَدِينَتِهِ مِنْ سَائِرِ أَرْضِ الْكُفْرِ فَأَمَّا مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ مُقِيمًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الشِّرْكِ فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَرْضُ هِجْرَةٍ لِأَنَّهُ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ كَانَ وَطَنُهُ وَمُقَامُهُ انْتَهَى (إِنَّهَا) أَيِ الْمَدِينَةَ (طِيبَةٌ) هَذَا أَحَدُ أَسْمَاءِ الْمَدِينَةِ وَيُقَالُ لَهَا طَابَةٌ أَيْضًا

رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا (إِنَّ اللَّهَ سَمَّى الْمَدِينَةَ طَابَةً) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سِمَاكٍ بِلَفْظِ كَانُوا يُسَمُّونَ المدينة يثرب فسماها النبي طَابَةً

وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَالطَّابُ وَالطِّيبُ لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاشْتِقَاقُهُمَا مِنَ الشَّيْءِ الطَّيِّبِ (إِنَّهَا تَنْفِي الْخَبَثَ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ أَيِ الْوَسَخَ (كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ) أَيْ وَسَخَهُ الَّذِي تُخْرِجُهُ النَّارُ

وَالْمُرَادُ أَنَّهَا لَا تَتْرُكُ فِيهَا مَنْ فِي قَلْبِهِ دَغَلٌ بَلْ تُمَيِّزُهُ عَنِ الْقُلُوبِ الصَّادِقَةِ وَتُخْرِجُهُ كَمَا يُمَيِّزُ الْحَدَّادُ رَدِيءَ الْحَدِيدِ مِنْ جَيِّدِهِ

قَالَ الْخَازِنُ مَعْنَى الْآيَةِ فَمَا لَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنَينَ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ أَيْ صِرْتُمْ فِي أَمْرِهِمْ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةً تَذُبُّ عَنْهُمْ وَفِرْقَةً تُبَايِنُهُمْ وَتُعَادِيهِمْ فَنَهَى اللَّهُ الْفِرْقَةَ الَّذِينَ يَذُبُّونَ عَنْهُمْ وَأَمَرَ الْمُؤْمِنَينَ جَمِيعًا أَنْ يَكُونُوا عَلَى مِنْهَاجٍ واحد في التباين لهم والتبرئ مِنْهُمْ واللَّهُ أَرْكَسَهُمْ يَعْنِي نَكَسَهُمْ فِي

ص: 304

كُفْرِهِمْ وَارْتِدَادِهِمْ وَرَدَّهُمْ إِلَى أَحْكَامِ الْكُفَّارِ بِمَا كَسَبُوا أَيْ بِسَبَبِ مَا اكْتَسَبُوا مِنْ أَعْمَالِهِمُ الخبيثة وقيل بما أظهروا من الارتداد بعد ما كَانُوا عَلَى النِّفَاقِ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ

قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا وَرْقَاءُ بْنُ عُمَرَ) الْيَشْكُرِيُّ وَأَبُو بِشْرٍ الْكُوفِيُّ نَزِيلُ الْمَدَائِنِ صَدُوقٌ فِي حَدِيثِهِ عَنْ مَنْصُورٍ لَيِّنٌ مِنَ السَّابِعَةِ

قَوْلُهُ (يَجِيءُ الْمَقْتُولُ بِالْقَاتِلِ) الْبَاءُ لِلتَّعَدِّيَةِ أَيْ يُحْضِرُهُ وَيَأْتِي بِهِ (نَاصِيَتُهُ) أَيْ شَعْرُ مُقَدَّمِ رَأْسِ الْقَاتِلِ (وَرَأْسُهُ) أَيْ بَقِيَّتُهُ (بِيَدِهِ) أَيْ بِيَدِ الْمَقْتُولِ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ وَيُحْتَمَلُ مِنَ الْمَفْعُولِ عَلَى بُعْدٍ وَقَدِ اكْتَفَى فِيهَا بِالضَّمِيرِ

قَالَ الطِّيبِيُّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا عَلَى تَقْدِيرِ السُّؤَالِ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْمَجِيءِ بِهِ (وَأَوْدَاجُهُ) فِي النِّهَايَةِ هِيَ مَا أَحَاطَ بِالْعُنُقِ مِنَ الْعُرُوقِ الَّتِي يَقْطَعُهَا الذَّابِحُ وَاحِدُهَا وَدَجٌ بِالتَّحْرِيكِ وَقِيلَ الْوَدَجَانِ عِرْقَانِ غَلِيظَانِ عَنْ جَانِبَيْ نَقْرَةِ النَّحْرِ وَقِيلَ عَبَّرَ عَنِ الْمُثَنَّى بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِلْأَمْنِ مِنَ الِالْتِبَاسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فقد صغت قلوبكما (تَشْخَبُ) بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبِفَتْحِهَا أَيْ تَسِيلُ (دَمًا) تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ أَيْ دَمُهُمَا (يَقُولُ يَا رَبِّ قَتَلَنِي هَذَا) أَيْ وَيُكَرِّرُهُ (حَتَّى يُدْنِيه مِنَ الْعَرْشِ) مِنَ الْإِدْنَاءِ أَيْ يُقَرِّبُ الْمَقْتُولُ الْقَاتِلَ مِنَ الْعَرْشِ وَكَأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِقْصَاءِ الْمَقْتُولِ فِي طَلَبِ ثَأْرِهِ وَعَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي إِرْضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِعَدْلِهِ (فَذَكَرُوا لِابْنِ عَبَّاسٍ التَّوْبَةَ) يَعْنِي قَالُوا لَهُ هَلْ لِلْقَاتِلِ تَوْبَةٌ أَمْ لَا فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ تَمَامُ الْآيَةِ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولعنه وأعد له عذابا عظيما (قال) أي بن عَبَّاسٍ (مَا نُسِخَتْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَكَذَا مَا بُدِّلَتْ (وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ) أَيْ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ

قال النَّوَوِيُّ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ بن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ لَهُ تَوْبَةً وَجَوَازُ الْمَغْفِرَةِ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ مَذْهَبُ جَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ

وَمَا رُوِيَ عن

ص: 305

بَعْضِ السَّلَفِ مِمَّا يُخَالِفُ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْقَتْلِ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الاية التي احتج بها بن عَبَّاسٍ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ يُخَلَّدُ (وَإِنَّمَا فِيهَا أَنَّهُ جَزَاؤُهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُجَازَى انْتَهَى

وقال الحافظ بن جَرِيرٍ وَأَوْلَى الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فجزاؤه أَنَّ جَزَاءَهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَلَكِنَّهُ يَعْفُو وَيَتَفَضَّلُ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ فَلَا يُجَازِيهِمْ بِالْخُلُودِ فِيهَا وَلَكِنَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ إِمَّا أَنْ يَعْفُوَ بِفَضْلِهِ فَلَا يُدْخِلُهُ النَّارَ وَإِمَّا أَنْ يُدْخِلَهُ إِيَّاهَا ثُمَّ يُخْرِجَهُ مِنْهَا بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ لِمَا سَلَفَ مِنْ وَعْدِهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنَينَ بِقَوْلِهِ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذنوب جميعا فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْقَاتِلَ إِنْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُشْرِكُ دَاخِلًا فِيهَا لِأَنَّ الشِّرْكَ مِنَ الذُّنُوبِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ ذِكْرُهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ غَيْرُ غَافِرٍ الشِّرْكَ لِأَحَدٍ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَالْقَتْلُ دُونَ الشِّرْكِ انْتَهَى

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حسن) وأخرجه النسائي وبن مَاجَهْ

قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رِزْمَةَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ

قَوْلُهُ (فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ) وَفِي رِوَايَةِ الْبَرَاءِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ (مَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا لِيَتَعَوَّذَ مِنْكُمْ) قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي النِّهَايَةِ فِي بَابِ عَوَذَ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ إِنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا أَيْ إِنَّمَا أَقَرَّ بِالشَّهَادَةِ لَاجِئًا إِلَيْهَا وَمُعْتَصِمًا بِهَا لِيَدْفَعَ عَنْهُ الْقَتْلَ وَلَيْسَ بِمُخْلِصٍ فِي إِسْلَامِهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ في سبيل الله يَعْنِي سَافَرْتُمْ إِلَى الْجِهَادِ فَتَبَيَّنُوا مِنَ الْبَيَانِ يُقَالُ تَبَيَّنْتَ الْأَمْرَ إِذَا تَأَمَّلْته قَبْلَ الْإِقْدَامِ عليه

وقرىء فَتَثَبَّتُوا مِنَ التَّثَبُّتِ وَهُوَ خِلَافُ الْعَجَلَةِ

وَالْمَعْنَى فَقِفُوا وَتَثَبَّتُوا حَتَّى تَعْرِفُوا الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ وَتَعْرِفُوا حَقِيقَةَ الْأَمْرِ الَّذِي تَقْدَمُونَ عَلَيْهِ وَلَا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام يَعْنِي التَّحِيَّةَ يَعْنِي لَا تَقُولُوا لِمَنْ حَيَّاكُمْ بِهَذِهِ التَّحِيَّةِ إِنَّهُ إِنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا فَتُقْدِمُوا عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ لِتَأْخُذُوا مَالَهُ وَلَكِنْ كُفُّوا عَنْهُ وَاقْبَلُوا مِنْهُ مَا أَظْهَرَهُ لَكُمْ لَسْتَ مُؤْمِنًا يَعْنِي لَسْتَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَتَقْتُلُوهُ بِذَلِكَ

ص: 306

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّفْسِيرِ وَمُسْلِمٌ فِي آخِرِ الْكِتَابِ وَأَبُو دَاوُدَ فِي الْحُرُوفِ وَالنَّسَائِيُّ فِي السِّيَرِ وَفِي التَّفْسِيرِ

قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ

قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) هُوَ السَّبِيعِيُّ

قَوْلُهُ (جَاءَ عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) هُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى مُؤَذِّنُ النبي

وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ خَلْفَ النَّبِيِّ فَيُجْمَعُ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ جَاءَ أَنَّهُ قَامَ من مقامه خلف النبي حَتَّى جَاءَ مُوَاجَهَةً فَخَاطَبَهُ (وَكَانَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ) فِي الْقَامُوسِ الضَّرِيرُ الذَّاهِبُ الْبَصَرِ جَمْعُهُ أَضِرَّاءُ فأنزل هذه الاية غير أولي الضرر الْآيَةَ وَفِي الْبُخَارِيِّ فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ في سبيل الله قال بن الْمُنَيِّرِ لَمْ يَقْتَصِرِ الرَّاوِي فِي الْحَالِ الثَّانِي عَلَى ذِكْرِ الْكَلِمَةِ الزَّائِدَةِ وَهِيَ غَيْرُ أُولِي الضرر فَإِنْ كَانَ الْوَحْيُ نَزَلَ بِزِيَادَةِ قَوْلِهِ غَيْرُ أولي الضرر فَقَطْ فَكَأَنَّهُ رَأَى إِعَادَةَ الْآيَةِ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى يَتَّصِلَ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَإِنْ كَانَ الْوَحْيُ نَزَلَ بِإِعَادَةِ الْآيَةِ بِالزِّيَادَةِ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ بِدُونِهَا فَقَدْ حَكَى الرَّاوِي صُورَةَ الْحَالِ

قَالَ الْحَافِظُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ غَيْرُ أُولِي الضرر وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ فَفِيهَا ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ اقْرَأْ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ المؤمنين فقال النبي غير أولي الضرر وَفِي حَدِيثٍ الْفَلَتَانِ بْنِ عَاصِمٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ فَقَالَ الْأَعْمَى مَا ذَنْبُنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ فَقُلْنَا لَهُ إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَخَافَ أَنْ يَنْزِلَ فِي أَمْرِهِ شَيْءٌ فَجَعَلَ يَقُولُ أتوب إلى الله فقال النبي للكاتب أكتب غير أولي الضرر أخرجه البزار والطبراني وصححه بن حِبَّانَ (إِيتُونِي بِالْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ) الْكَتِفُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ التَّاءِ وَهُوَ

ص: 307

عَظْمٌ عَرِيضٌ يَكُونُ فِي أَصْلِ كَتِفِ الْحَيَوَانِ مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ كَانُوا يَكْتُبُونَ فِيهِ لِقِلَّةِ الْقَرَاطِيسِ عِنْدَهُمْ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ

قَوْلُهُ (وَيُقَالُ عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ إِلَخْ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ عَمْرُو بْنُ زائدة أو بن قَيْسِ بْنِ زَائِدَةَ وَيُقَالُ زِيَادٌ الْقُرَشِيُّ الْعَامِرِيُّ بن أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ قَدِيمُ الْإِسْلَامِ وَيُقَالُ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَيُقَالُ الْحُصَيْنُ كَانَ النبي اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ مَاتَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عُمَرَ

وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ أَسْلَمَ قَدِيمًا وهاجر قبل مقدم النبي المدينة واستخلفه النبي عَلَى الْمَدِينَةِ ثَلَاثَ عَشْرَة مَرَّةً وَشَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ وَقُتِلَ بِهَا شَهِيدًا وَكَانَ مَعَهُ اللِّوَاءُ يَوْمَئِذٍ

قوله (أخبرني عبد الكريم) هو بن مَالِكٍ الْجَزَرِيُّ بَيَّنَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ عَنِ بن جُرَيْجٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ كَذَا فِي الْفَتْحِ (سَمِعَ مِقْسَمًا مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَيُقَالُ لَهُ مَوْلَى بن عَبَّاسٍ لِلُزُومِهِ لَهُ

قَوْلُهُ (عَنْ بَدْرٍ وَالْخَارِجُونَ إلى بدر) هذا تفسير من بن عَبَّاسٍ رضي الله عنه يَعْنِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ الْقَاعِدُونَ الْقَاعِدُونَ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَمِنْ قَوْلِهِ الْمُجَاهِدُونَ الْخَارِجُونَ إِلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَكِنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ) قَالَ الْعَيْنِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ قَوْلُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ قِيلَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ جَحْشٍ كَمَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ نَحْوَ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ هُوَ أَخُو أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ وَاسْمُ أَبِي أَحْمَدَ عَبْدٌ بِدُونِ إِضَافَةٍ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ وَأَيْضًا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ لَهُ عُذْرًا إِنَّمَا الْمَعْذُورُ أَخُوهُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ جَحْشٍ

وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صالح عن بن عباس أنه بن جَحْشٍ وَلَيْسَ بِالْأَسَدِيِّ وَكَانَ أَعْمَى وَأَنَّهُ جَاءَ هو وبن أُمِّ مَكْتُومٍ فَذَكَرَا

ص: 308

رَغْبَتَهُمَا فِي الْجِهَادِ مَعَ ضَرَرِهِمَا فَنَزَلَتْ غَيْرُ أولي الضرر فَجَعَلَ لَهُمَا مِنَ الْأَجْرِ مَا لِلْمُجَاهِدِينَ انْتَهَى

اعلم أَنَّ الْحَافِظَ قَدْ نَقَلَ فِي الْفَتْحِ حديث بن عَبَّاسٍ هَذَا عَنِ التِّرْمِذِيِّ بِتَمَامِهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا أَوْرَدَهُ التِّرْمِذِيُّ سِيَاقًا وَاحِدًا وَمِنْ قَوْلِهِ دَرَجَةً إِلَخْ مُدْرَجٌ في الخبر من كلام بن جُرَيْجٍ بَيَّنَهُ الطَّبَرِيُّ فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجٍ نَحْوَ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ إِلَى قَوْلِهِ دَرَجَةً وَوَقَعَ عِنْدَهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَأَبُو أَحْمَدَ بْنُ جَحْشٍ وَهُوَ الصَّوَابُ في بن جَحْشٍ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَخُوهُ وَأَمَّا هُوَ فَاسْمُهُ عَبْدٌ بِغَيْرِ إِضَافَةٍ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ ثم أخرجه بالسند المذكور عن بن جُرَيْجٍ قَالَ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا درجات منه قَالَ عَلِيٌّ الْقَاعِدِينَ مِنَ الْمُؤْمِنَينَ غَيْرُ أُولِي الضرر

وحاصل تفسير بن جُرَيْجٍ أَنَّ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ أَمَّا أُولُو الضَّرَرِ فَمُلْحَقُونَ فِي الْفَضْلِ بِأَهْلِ الْجِهَادِ إِذَا صَدَقَتْ نِيَّاتُهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَأَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مِنْ مَسِيرٍ وَلَا قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ

ويَحْتَمِلُ أن يكون المراد بقوله فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة أي من أولي الضرر وغيرهم

وقوله وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا درجات منه أَيْ عَلَى الْقَاعِدِينَ مِنْ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ أَنَسٍ وَلَا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنَ اسْتِوَاءِ أُولِي الضَّرَرِ مَعَ الْمُجَاهِدِينَ لِأَنَّهَا اسْتَثْنَتْ أُولِي الضَّرَرِ مِنْ عَدَمِ الِاسْتِوَاءِ فَأَفْهَمَتْ إِدْخَالَهُمْ فِي الِاسْتِوَاءِ إِذًا لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الِاسْتِوَاءِ وَعَدَمِهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ اسْتِوَاؤُهُمْ فِي أَصْلِ الثَّوَابِ لَا فِي الْمُضَاعَفَةِ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ

وَفِي تَفْسِيرِ الْجَلَالَيْنِ لَا يَسْتَوِي القاعدون من المؤمنين عن الجهاد غير أولي الضرر بِالرَّفْعِ صِفَةٌ وَالنَّصْبِ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ زَمَانَةٍ أَوْ عَمًى وَنَحْوِهِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين لِضَرَرٍ دَرَجَةً فَضِيلَةً لِاسْتِوَائِهِمَا فِي النِّيَّةِ وَزِيَادَةِ الْمُجَاهِدِ بِالْمُبَاشَرَةِ وَكُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ وَعَدَ اللَّهُ الحسنى الجنة وفضل الله المجاهدين على القاعدين لِغَيْرِ ضَرَرٍ أَجْرًا عَظِيمًا وَيُبْدَلُ مِنْهُ دَرَجَاتٍ مِنْهُ مَنَازِلَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ مِنَ الْكَرَامَةِ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً مَنْصُوبَتَانِ بِفِعْلِهِمَا الْمُقَدَّرِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا لِأَوْلِيَائِهِ رَحِيمًا بِأَهْلِ طَاعَتِهِ انْتَهَى

قَالَ فِي الْكَمَالَيْنِ فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فَضَّلَ الله المجاهدين على القاعدين

ص: 309

فَوْقَ بَعْضٍ مِنَ الْكَرَامَةِ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً مَنْصُوبَتَانِ بفعلهما المقدر وكان أَجْرًا عَظِيمًا إِلَخْ فِيمَنْ قَعَدَ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَالَّذِي قَبْلَهُ فِيمَنْ قَعَدَ بِعُذْرٍ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَيْنِ كِلَيْهِمَا فِيمَنْ قَعَدَ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَإِنَّمَا كَرَّرَ وَأَوْجَبَ فِي الْأَوَّلِ دَرَجَةً وَفِي الثَّانِي دَرَجَاتٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّرَجَةِ الظَّفْرُ وَالْغَنِيمَةُ وَالذِّكْرُ الْجَمِيلُ فِي الدُّنْيَا وَبِالدَّرَجَاتِ ثَوَابُ الْآخِرَةِ

بَيَّنَتْ بِالْإِفْرَادِ فِي الْأَوَّلِ وَالْجَمْعِ فِي الثَّانِي لِأَنَّ ثَوَابَ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ يَسِيرٌ انْتَهَى مُلَخَّصًا

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ إِلَى قَوْلِهِ وَالْخَارِجُونَ إِلَى بَدْرٍ

قَوْلُهُ (عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ) الْمَدَنِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ أَوْ أَبُو الْحَارِثِ مُؤَدِّبُ وَلَدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثِقَةٌ ثَبْتٌ فَقِيهٌ مِنَ الرَّابِعَةِ (رَأَيْتَ مَرْوَانَ بْنَ الحكم) أي بن أَبِي الْعَاصِ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ الَّذِي صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ خَلِيفَةً

قَوْلُهُ (أَمْلَى عَلَيْهِ) يُقَالُ أَمْلَيْتَ الْكِتَابَ وَأَمْلَلْته إِذَا أَلْقَيْته عَلَى الْكَاتِبِ لِيَكْتُبَ (وَهُوَ يُمِلُّهَا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ هُوَ مِثْلُ يُمْلِيهَا يُمْلِي وَيُمْلِلْ بِمَعْنًى وَلَعَلَّ الْيَاءَ مُنْقَلِبَةٌ مِنْ إِحْدَى اللَّامَيْنِ (واللَّهِ لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ) أَيْ لَوِ اسْتَطَعْته وَعَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ إِشَارَةً إِلَى الِاسْتِمْرَارِ وَاسْتِحْضَارًا لِصُورَةِ الْحَالِ (وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي) الْوَاوُ لِلْحَالِ (حَتَّى هَمَّتْ) أَيْ قَرُبَتْ (تَرُضُّ فَخِذِي) بِصِيغَةِ

ص: 310

المعلوم أي تدق فخذه فَخِذِي أَوْ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ تُدَقُّ (ثُمَّ سُرِّي عَنْهُ) بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ أَيْ كُشِفَ وَأُزِيلَ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

قَوْلُهُ (وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ رِوَايَةُ رَجُلٍ مِنْ أصحاب النبي) هُوَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ رضي الله عنه (عَنْ رَجُلٍ مِنَ التَّابِعِينَ) هُوَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ (رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ) بَيَانٌ لِمَا قَبْلَهُ (وَمَرْوَانُ لم يسمع من النبي وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ) قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ الترمذي هذا ما لفظه لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ السَّمَاعِ عَدَمَ الصُّحْبَةِ وَالْأَوْلَى مَا قَالَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ لَمْ يَرَ

وقد ذكره بن عَبْدِ الْبَرِّ فِي الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي عهد النبي قَبْلَ عَامِ أُحُدٍ وَقِيلَ عَامَ الْخَنْدَقِ وَثَبَتَ عَنْ مَرْوَانَ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا طَلَبَ الْخِلَافَةَ فذكروا له بن عمر

فقال ليس بن عُمَرَ بِأَفْقَهَ مِنِّي وَلَكِنَّهُ أَسَنَّ مِنِّي وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ

فَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِعَدَمِ صُحْبَتِهِ وإنما لم يسمع من النبي وإن كان سماعه ممكنا لأن النبي نَفَى أَبَاهُ إِلَى الطَّائِفِ فَلَمْ يَرُدَّهُ إِلَّا عُثْمَانُ لَمَّا اسْتُخْلِفَ

قَوْلُهُ (سَمِعْتَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ) الْمَكِّيُّ حَلِيفُ بَنِي جُمَحَ الْمُلَقَّبُ بِالْقَسِّ بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ ثِقَةٌ عَابِدٌ مِنَ الثَّالِثَةِ وَلُقِّبَ بِالْقَسِّ لِعِبَادَتِهِ (عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ) بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ هَمَّامٍ التَّمِيمِيِّ حَلِيفُ قُرَيْشٍ وَهُوَ يَعْلَى بْنِ مُنْيَةَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ مَفْتُوحَةٌ وَهِيَ أُمُّهُ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ مَاتَ سَنَةَ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ (يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهُ) بِمُوَحَّدَتَيْنِ بَيْنَهُمَا ألف ساكنة

قوله (قلت لعمر) أي بن الْخَطَّابِ (إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ أَنْ تَقْصُرُوا) أَيْ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْ سَافَرْتُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا (وَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ) أَيْ وَذَهَبَ الْخَوْفُ فَمَا وَجْهُ الْقَصْرِ

ص: 311

(فَقَالَ صَدَقَةٌ) أَيْ قَصْرُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ صَدَقَةٌ (تَصَدَّقَ اللَّهُ) أَيْ تَفَضَّلَ (بِهَا عَلَيْكُمْ) أَيْ تَوْسِعَةً وَرَحْمَةً (فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ) أَيْ سَوَاءٌ حَصَلَ الْخَوْفُ أَمْ لَا

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْقَصْرِ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ وَفِيهِ أَنَّ الْمَفْضُولَ إِذَا رَأَى الْفَاضِلَ يَعْمَلُ شَيْئًا يُشْكِلُ عَلَيْهِ دَلِيلُهُ يَسْأَلُهُ عَنْهُ انْتَهَى

وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ التَّقْصِيرِ فِي السَّفَرِ مِنْ أَبْوَابِ الصَّلَاةِ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو داود والنسائي وبن مَاجَهْ

قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْهُنَائِيُّ) بِضَمِّ الْهَاءِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ الْبَصْرِيُّ لَا بَأْسَ بِهِ مِنَ السَّادِسَةِ

قَوْلُهُ (نَزَلَ بَيْنَ ضُجْنَانَ) بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالْجِيمِ وَالنُّونِ

قَالَ فِي النِّهَايَةِ هُوَ مَوْضِعٌ أَوْ جَبَلٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ (وَعُسْفَانَ) كَعُثْمَانَ مَوْضِعٌ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ كَذَا فِي الْقَامُوسِ

وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ هِيَ قَرْيَةٌ جَامِعَةٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ (فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ) أَيْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ (إِنَّ لِهَؤُلَاءِ) أَيْ لِلْمُسْلِمِينَ (وَهِيَ الْعَصْرُ) لِمَا وَقَعَ فِي تَأْكِيدِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى مُرَاعَاتِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حَافِظُوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى (فَأَجْمِعُوا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ (أَمْرَكُمْ) أَيْ أَمْرَ الْقِتَالِ وَالْمَعْنَى فَاعْزِمُوا عَلَيْهِ (فَمِيلُوا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً) أَيْ فَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ حَمَلَةً وَاحِدَةً (وأن جبرائيل أتى النبي) قَالَ الطِّيبِيُّ حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى نَحْوِ جَاءَ زَيْدٌ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْسِمَ أَصْحَابَهُ شَطْرَيْنِ أَيْ نِصْفَيْنِ وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ نِصْفَيْنِ (فَيُصَلِّيَ) بِالنَّصِّب (بِهِمْ) وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فَيُصَلِّيَ بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ (وَتَقُومَ) بِالنَّصْبِ (طَائِفَةٌ أُخْرَى وَرَاءَهُمْ لِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَطَائِفَةٌ مُقْبِلُونَ عَلَى عَدُوِّهِمْ قَدْ أَخَذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ

قَالَ

ص: 312

الطِّيبِيُّ أَيْ مَا فِيهِ الْحَذَرُ وَفِي الْكَشَّافِ جَعَلَ الْحَذَرَ وَهُوَ التَّحَرُّزُ وَالتَّيَقُّظُ آلَةً يَسْتَعْمِلُهَا الْغَازِي فَلِذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَسْلِحَةِ فِي الْأَخْذِ دَلَالَةً عَلَى التَّيَقُّظِ التَّامِّ وَالْحَذَرِ الْكَامِلِ وَمِنْ ثَمَّ قَدَّمَهُ عَلَى أَخْذِ الْأَسْلِحَةِ (ثُمَّ يَأْتِي الْآخَرُونَ وَيُصَلُّونَ مَعَهُ رَكْعَةً وَاحِدَةً) وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ ثُمَّ يَتَأَخَّرُ هَؤُلَاءِ وَيَتَقَدَّمُ أُولَئِكَ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً (ثُمَّ يَأْخُذُ هَؤُلَاءِ) أَيِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى (فَتَكُونُ لَهُمْ رَكْعَةً رَكْعَةً) أَيْ معه وَتُصَلِّي كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمَا رَكْعَةً أُخْرَى لِأَنْفُسِهِمْ لِتَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا رَكْعَتَانِ وَقَالَ قَوْمٌ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ وَعَدُّوهُ مِنْ خَصَائِصِ صَلَاةِ الْخَوْفِ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ

قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ إِلَخْ) تقدم تخريج أَحَادِيثَ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي بَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ

قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي شُعَيْبٍ أَبُو مُسْلِمٍ الْحَرَّانِيُّ) بِفَتْحِ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَشَدَّةِ رَاءٍ وَبِنُونٍ نَزِيلُ بَغْدَادَ ثِقَةٌ يُغْرِبُ مِنَ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ (أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَاهِلِيِّ مَوْلَاهُمْ ثِقَةٌ مِنَ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ (أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ) هُوَ صَاحِبُ الْمَغَازِي (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الظُّفَرِيِّ الْأَنْصَارِيُّ الْمَدَنِيُّ مَقْبُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ

قَوْلُهُ (يُقَالُ لَهُمْ بَنُو أُبَيْرِقٍ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرًا (ثُمَّ يَنْحَلُهُ بَعْضُ الْعَرَبِ

ص: 313

أَيْ يَنْسُبُهُ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّحْلَةُ وَهِيَ النِّسْبَةُ بِالْبَاطِلِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ

وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ نَحَلَهُ الْقَوْلَ كَمَنَعَهُ نَسَبَهُ إِلَيْهِ (قَالَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا) وَقَعَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مُكَرَّرَةً هَكَذَا قَالَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا وَقَالَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا (أَوْ كَمَا قَالَ الرَّجُلُ) أَوْ لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي أَيْ قَالَ لَفْظَ الْخَبِيثِ

أَوْ قَالَ لَفْظَ الرَّجُلِ (وَقَالَ بن الْأُبَيْرِقِ قَالَهَا) أَيْ هَذِهِ الْأَشْعَارَ (وَكَانُوا) أَيْ بَنُو أُبَيْرِقٍ (إِذَا كَانَ لَهُ يَسَارٌ) أَيْ غِنًى (فَقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ مِنَ الشَّامِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ الضَّافِطُ وَالضَّفَّاطُ مَنْ يَجْلِبُ الْمِيرَةَ وَالْمَتَاعَ إِلَى الْمُدُنِ وَالْمُكَارِي الَّذِي يُكْرِي الْأَحْمَالَ وَكَانُوا يَوْمَئِذٍ قَوْمًا مِنَ الْأَنْبَاطِ يَحْمِلُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ الدَّقِيقَ وَالزَّيْتَ وَغَيْرَهُمَا (مِنَ الدَّرْمَكِ) بِوَزْنِ جَعْفَرٍ هُوَ الدَّقِيقُ الْحَوَارِيُّ (فَجَعَلَهُ) أَيْ فَوَضَعَهُ (فِي مَشْرَبَةٍ) فِي الْقَامُوسِ الْمَشْرَبَةُ وَقَدْ تُضَمُّ الرَّاءُ الْغُرْفَةُ وَالْعَلِيَّةُ (سِلَاحٌ) بِكَسْرِ السِّينِ وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِآلَاتِ الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ (دِرْعٌ وسيف) بيان لسلاح (فَعُدِيَ عَلَيْهِ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ سُرِقَ مَالُهُ وظلم يقال عدى عَلَيْهِ أَيْ ظَلَمَهُ (فَنُقِّبَتْ) مِنَ التَّنْقِيبِ أَوِ النَّقْبِ (فَتَحَسَّسْنَا) مِنَ التَّحَسُّسِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ التَّجَسُّسِ بِالْجِيمِ التَّفْتِيشُ عَنْ بَوَاطِنِ الْأُمُورِ وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي الشَّرِّ وَقِيلَ التَّجَسُّسُ بِالْجِيمِ أَنْ يَطْلُبَهُ لِغَيْرِهِ وَبِالْحَاءِ أَنْ يَطْلُبَهُ لِنَفْسِهِ وَقِيلَ بِالْجِيمِ الْبَحْثُ عَنِ الْعَوْرَاتِ وَبِالْحَاءِ الِاسْتِمَاعُ

وَقِيلَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ فِي تَطَلُّبِ مَعْرِفَةِ الْأَخْبَارِ وَفِي الْقَامُوسِ التَّحَسُّسُ الِاسْتِمَاعُ لِحَدِيثِ الْقَوْمِ وَطَلَبُ خَبَرِهِمْ فِي الْخَيْرِ (فِي الدَّارِ) أَيْ فِي الْمَحَلَّةِ (وَنَحْنُ نَسْأَلُ فِي الدَّارِ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (واللَّهِ مَا نَرَى صَاحِبَكُمْ إِلَّا لَبِيدَ بْنَ سَهْلٍ) هَذَا مَقُولُ قَالُوا

ص: 314

(رَجُلٌ مِنَّا) أَيْ هُوَ رَجُلٌ مِنَّا (لَهُ صَلَاحٌ وَإِسْلَامٌ) صِفَةٌ لِرَجُلٍ (اخْتَرَطَ سَيْفَهُ) أَيِ استله (إليك عنا) أي تنح عنا (فَمَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا) أَيْ لَسْتَ بِصَاحِبِ السَّرِقَةِ (حَتَّى لَمْ نَشُكَّ أَنَّهُمْ) أَيْ بَنِي أُبَيْرِقٍ (أَهْلَ جَفَاءٍ) بِالنَّصْبِ صِفَةٌ لِأَهْلِ بَيْتٍ وَالْجَفَاءُ بِالْمَدِّ تَرْكُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ

(وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خصيما بَنِي أُبَيْرِقٍ) قَوْلُهُ بَنِي أُبَيْرِقٍ تَفْسِيرٌ وَبَيَانٌ لِلْخَائِنِينَ (مِمَّا قُلْتَ لِقَتَادَةَ) هَذَا تَفْسِيرٌ وَبَيَانٌ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ (أَيْ لَوِ اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ لَغَفَرَ لَهُمْ) هَذَا تَفْسِيرٌ يتعلق بقوله تعالى في الاية ومن يفعل سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يجد الله غفورا رحيما (قَوْلُهُمْ لِلَبِيدٍ) هَذَا تَفْسِيرٌ

ص: 315

لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بريئا

(وَكَانَ شَيْخُنَا قَدْ عَشَا أَوْ عَسَا) هُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ كَبِرَ وَأَسَنَّ مِنْ عَسَا الْقَضِيبُ إِذَا يَبِسَ وَبِالْمُعْجَمَةِ أَيْ قَلَّ بَصَرُهُ وَضَعُفَ كَذَا فِي النِّهَايَةِ

وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ عَسَا الشَّيْخُ يَعْسُو عَسْوًا وَعُسُوًّا وَعُسِيًّا وَعَسَاءً وعسى عسى كبر والنبات عسا وعسوا غلظ ويبس والعشاء مَقْصُورَةً سُوءُ الْبَصَرِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَالْعَشَاوَةِ أَوِ الْعَمَى عَشِيَ كَرَضِيَ وَدَعَا عَشًا (فِي الْجَاهِلِيَّةِ) مُتَعَلِّقٌ بِعَشَا (وَكُنْتَ أُرَى) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَظُنُّ (مَدْخُولًا)

قَالَ فِي النِّهَايَةِ الدَّخَلُ بِالتَّحْرِيكِ الْعَيْبُ وَالْغِشُّ وَالْفَسَادُ يَعْنِي أَنَّ إِيمَانَهُ كَانَ مُتَزَلْزِلًا فِيهِ نِفَاقٌ (فَنَزَلَ عَلَى سُلَافَةَ) بِضَمِّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ وَخِفَّةِ لَامٍ وَبِفَاءٍ

قَوْلُهُ (هَذَا حديث غريب) وأخرجه بن جرير وبن الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ

وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ

قَوْلُهُ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ أَبِي فَاخِتَةَ وَاسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ عِلَاقَةَ الْهَاشِمِيُّ مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيُّ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ

ص: 316

قَوْلُهُ (مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَخْ) لِأَنَّهَا حُجَّةٌ عَلَى الْخَوَارِجِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ شِرْكٌ وَأَنَّ صَاحِبَهُ خَالِدٌ فِي النَّارِ كَذَا فِي تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ أَيِ الْإِشْرَاكَ بِهِ وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ بِأَنَّ الشِّرْكَ غَيْرُ مَغْفُورٍ إِذَا مَاتَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُشْرِكَ إِذَا تَابَ مِنْ شِرْكِهِ وَآمَنَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَصَحَّ إِيمَانُهُ وَغُفِرَتْ ذُنُوبُهُ كُلُّهَا الَّتِي عَمِلَهَا فِي حَالِ الشرك ويغفر ما دون ذلك أَيْ مَا سِوَى الْإِشْرَاكِ مِنَ الذُّنُوبِ لِمَنْ يَشَاءُ

يَعْنِي مَنْ يَشَاءُ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ

قال الْعُلَمَاءُ لَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يَغْفِرُ الشِّرْكَ بِالْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ عَلِمْنَا أَنَّهُ يَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ بِالتَّوْبَةِ وَهَذِهِ الْمَشِيئَةُ فِي مَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ ذُنُوبِهِ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ فَإِذَا مَاتَ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ أَوِ الصَّغِيرَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ فَهُوَ عَلَى خَطَرِ الْمَشِيئَةِ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ ثُمَّ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ بَعْدَ ذلك

قوله (وبن مَهْدِيٍّ كَانَ يَغْمِزُهُ قَلِيلًا) أَيْ يَطْعَنُ فِيهِ قَلِيلًا

قَالَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ قَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ كَانَ يَحْيَى وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ لَا يُحَدِّثَانِ عَنْهُ وَقَالَ فِي التَّقْرِيبِ ضَعِيفٌ وَرُمِيَ بِالرَّفْضِ

قَوْلُهُ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ) بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ المطلبي قال أبو داود ثقة وذكره بن حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَذَكَرَ الْعَسْكَرِيُّ أَنَّهُ أَدْرَكَ النبي وَهُوَ صَغِيرٌ كَذَا فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ

ص: 317

قوله (من يعمل سوءا يجز به) إِمَّا فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِي الدُّنْيَا بِالْبَلَاءِ وَالْمِحَنِ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ (قَارِبُوا) أَيِ اقْتَصِدُوا فَلَا تَغْلُوا وَلَا تُقَصِّرُوا بَلْ تَوَسَّطُوا (وَسَدِّدُوا) أَيِ اقْصِدُوا السَّدَادَ وَهُوَ الصَّوَابُ (حَتَّى الشَّوْكَةِ) بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّ حَتَّى جَارَةٌ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا ابْتِدَائِيَّةٌ وَالنَّصْبُ بِتَقْدِيرِ حَتَّى تَجِدَ (يُشَاكُهَا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُشَاكُ الْمُؤْمِنُ تلك الشوكة (أو النكبة) هِيَ مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْحَوَادِثِ (يُنْكَبُهَا) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ لِلْمُؤْمِنَ وَالْبَارِزُ لِلنَّكْبَةِ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ ومسلم والنسائي

قوله (وبن مُحَيْصِنٍ اسْمُهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَيْصِنٍ) بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرًا وَآخِرُهُ نُونٌ السَّهْمِيُّ أَبُو حَفْصٍ قَارِئُ أَهْلِ مَكَّةَ مَقْبُولٌ مِنْ الْخَامِسَةِ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ

وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ

ذكره بن حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ

وَقَالَ صَاحِبُ الْكَمَالِ فِي القراءات كان قرين بن كَثِيرٍ قَرَأَ عَلَى مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ وَكَانَ مُجَاهِدُ يقول بن مُحَيْصِنٍ يَبْنِي وَيَرُصُّ يَعْنِي أَنَّهُ عَالِمٌ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَثَرِ رُوِيَ لَهُ عِنْدَهُمْ حَدِيثٌ وَاحِدٌ كُلُّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُؤْمِنُ كَفَّارَةٌ

قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى) الْبَلْخِيُّ

قَوْلُهُ (إِلَّا أَنِّي وجدت في ظهري اقتصاما) بالقاف من باب الافتعال أي انكسارا في بَعْضِ النُّسَخِ انْقِسَامًا مِنْ بَابِ الِانْفِعَالِ

قَالَ فِي الْقَامُوسِ قَصَمَهُ يَقْصِمُهُ كَسَرَهُ وَأَبَانَهُ أَوْ كَسَرَهُ وَإِنْ لَمْ

ص: 318

يَبِنْ فَانْقَصَمَ وَتَقَصَّمَ

قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَيُرْوَى انْفِصَامًا بِالْفَاءِ أَيِ انْصِدَاعًا (وَأَمَّا الْآخَرُونَ) أَيِ الْكَافِرُونَ (فَيَجْمَعُ ذَلِكَ) أَيْ أَعْمَالَهُمُ السَّيِّئَةَ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ (وَمُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ) بِضَمِّ العين وفتح الموحدة مصغرا بن نَشِيطٍ الرَّبَذِيُّ الْمَدَنِيُّ (وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الوجه) رواه أحمد وبن جَرِيرٍ كِلَاهُمَا بِرِوَايَاتٍ وَأَلْفَاظٍ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ أَنَّ أَبَا بَكْرً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الصَّلَاحُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يجز به فَكُلُّ سُوءٍ عَمِلْنَا جُزِينَا بِهِ فَقَالَ رَسُولُ الله غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْتَ تَمْرَضُ أَلَسْتَ تَنْصَبُ أَلَسْتَ تَحْزَنُ

أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ قَالَ بَلَى قَالَ فَهُوَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ

قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ) أَخْرَجَهُ بن أبي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَغَيْرُهُ

قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُعَاذٍ) هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ بِفَتْحِ الْقَافِ وسكون الراء بن مُعَاذٍ الْبَصْرِيُّ النَّحْوِيُّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْسُبُهُ إِلَى جده سيىء الْحِفْظِ يَتَشَيَّعُ مِنَ السَّابِعَةِ

قَوْلُهُ (خَشِيَتْ سَوْدَةُ) بِنْتُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسٍ الْقُرَشِيَّةُ الْعَامِرِيَّةُ تَزَوَّجَهَا رسول الله بِمَكَّةَ بَعْدِ مَوْتِ خَدِيجَةَ وَدَخَلَ عَلَيْهَا بِهَا وَكَانَ دُخُولُهُ بِهَا قَبْلَ دُخُولِهِ عَلَى عَائِشَةَ بِالِاتِّفَاقِ وَهَاجَرَتْ مَعَهُ

وَتُوُفِّيَتْ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عمر بن الخطاب (أن يطلقها النبي فقالت إلخ

ص: 319

قال الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ التِّرْمِذِيِّ وَلَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِدُونِ ذِكْرِ نُزُولِ الْآيَةِ انْتَهَى

قُلْتُ رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ وَكَانَ النبي يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ بِيَوْمِهَا وَيَوْمِ سَوْدَةَ

قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُقْبَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ هِشَامٍ

لَمَّا أَنْ كَبِرَتْ سَوْدَةُ وَهَبَتْ وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ هَذَا الْحَدِيثَ وَزَادَ فِيهِ بَيَانَ سَبَبِهِ أَوْضَحَ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَرَوَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هشام بْنِ عُرْوَةَ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ

وَكَانَ رسول الله لَا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ الْحَدِيثَ وَفِيهِ وَلَقَدْ قَالَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ حِينَ أَسَنَّتْ وَخَافَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَوْمِي لِعَائِشَةَ فَقِبَلَ ذَلِكَ مِنْهَا فَفِيهَا وَأَشْبَاهِهَا نَزَلَتْ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ من بعلها نشوزا الْآيَةَ (إِلَى أَنْ قَالَ) فَتَوَارَدَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ على أنها خشيت الطلاق فوهبت

وأخرج بن سَعْدٍ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بن أبي بزة مرسلا أن النبي طَلَّقَهَا فَقَعَدَتْ عَلَى طَرِيقِهِ فَقَالَتْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بالحق مالي فِي الرِّجَالِ حَاجَةٌ وَلَكِنْ أُحِبُّ أَنْ أُبْعَثَ مَعَ نِسَائِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَنْشُدُكَ بِاَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ هَلْ طَلَّقْتَنِي لِمَوْجِدَةٍ وَجَدْتَهَا عَلَيَّ قَالَ لَا قَالَتْ فَأَنْشُدُكَ لَمَا رَاجَعْتنِي فَرَاجَعَهَا قَالَتْ فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ يَوْمِي وَلَيْلَتِي لِعَائِشَةَ حبة رسول الله انتهى

قلت رواية بن سَعْدٍ هَذِهِ مُرْسَلَةٌ فَهِيَ لَا تُقَاوِمُ حَدِيثَ بن عَبَّاسٍ وَمَا وَافَقَهُ فِي أَنَّ سَوْدَةَ خَشِيَتِ الطَّلَاقَ فَوَهَبَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا مِنَ الْإِصْلَاحِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْكُوفِيِّينَ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنْ يَصَّالَحَا مِنَ التَّصَالُحِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ وَالْآيَةُ بِتَمَامِهَا مَعَ تَفْسِيرِهَا هَكَذَا وَإِنِ امْرَأَةٌ مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ خَافَتْ تَوَقَّعَتْ مِنْ بَعْلِهَا زَوْجِهَا نُشُوزًا تَرَفُّعًا عَلَيْهَا بِتَرْكِ مُضَاجَعَتِهَا وَالتَّقْصِيرِ فِي نَفَقَتِهَا لِبُغْضِهَا وَطُمُوحِ عَيْنَيْهِ إِلَى أَجْمَلَ مِنْهَا أَوْ إِعْرَاضًا عَنْهَا بِوَجْهِهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَصَّالَحَا فِيهِ إِدْغَامُ التَّاءِ فِي الْأَصْلِ فِي الصَّادِ وَفِي قِرَاءَةٍ يُصْلِحَا مِنْ أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا صُلْحًا فِي الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ بِأَنْ يَتْرُكَ لَهَا شَيْئًا لِبَقَاءِ الصُّحْبَةِ فَإِنْ رَضِيَتْ بِذَلِكَ وَإِلَّا فَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُوَفِّيَهَا حَقَّهَا أَوْ يُفَارِقَهَا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ مِنَ الْفُرْقَةِ وَالنُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ

قَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ مَا جبل عليه الإنسان وأحضرت الأنفس الشح شِدَّةَ الْبُخْلِ أَيْ جُبِلَتْ عَلَيْهِ فَكَأَنَّهَا حَاضِرَتُهُ لَا تَغِيبُ عَنْهُ

الْمَعْنَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكَادُ تَسْمَحُ بِنَصِيبِهَا مِنْ زَوْجِهَا وَالرَّجُلُ لَا يَكَادُ يَسْمَحُ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ إِذَا أَحَبَّ غَيْرَهَا وَإِنْ تُحْسِنُوا عِشْرَةَ النِّسَاءِ وَتَتَّقُوا الْجَوْرَ عَلَيْهِنَّ فإن الله كان بما تعملون خبيرا

ص: 320

فَيُجَازِيكُمْ بِهِ كَذَا فِي الْجَلَالَيْنِ فَمَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ

وَفِي رِوَايَةِ أبو داود الطيالسي في مسنده

قال بن عَبَّاسٍ فَمَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ بن الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ

قَوْلُهُ (قَالَ آخِرُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ أَوْ آخِرُ شَيْءٍ أُنْزِلَ) الشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي (يَسْتَفْتُونَكَ) أَيْ عَنْ مَوَارِيثِ الْكَلَالَةِ وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قُلِ الله يفتيكم في الكلالة

تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْكَلَالَةِ وَمَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي بَابِ مِيرَاثِ الْأَخَوَاتِ مِنْ أَبْوَابِ الْفَرَائِضِ

وَالْآيَةُ بِتَمَامِهَا مَعَ تَفْسِيرِهَا هَكَذَا يَسْتَفْتُونَكَ أَيْ يَسْأَلُونَكَ عَنْ مِيرَاثِ الْكَلَالَةِ يَا مُحَمَّدُ قُلِ الله يفتيكم يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ يُخْبِرُكُمْ عَمَّا سَأَلْتُمْ عَنْهُ إِنِ امْرُؤُ مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ هَلَكَ أَيْ مَاتَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ أَيْ وَلَا وَالِدٌ وهو الكلالة

قال الحافظ بن كَثِيرٍ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْكَلَالَةِ انْتِفَاءُ الْوَالِدِ بَلْ يَكْفِي وُجُودَ الْكَلَالَةِ انْتِفَاءُ الْوَلَدِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عن عمر بن الخطاب رواها بن جَرِيرٍ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَيْهِ وَلَكِنَّ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجُمْهُورِ

وَقَضَى الصِّدِّيقُ أَنَّهُ الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ ما ترك وَلَوْ كَانَ مَعَهَا أَبٌ لَمْ تَرِثْ شَيْئًا لِأَنَّهُ يَحْجُبُهَا بِالْإِجْمَاعِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَلَا وَالِدَ بِالنَّصِّ عِنْدَ التَّأَمُّلِ أَيْضًا لِأَنَّ الْأُخْتَ لَا يُفْرَضُ لَهَا النِّصْفُ مَعَ الْوَالِدِ بَلْ لَيْسَ لها ميراث بالكلية

وقد نقل بن جرير وغيره عن بن عباس وبن الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ فِي الْمَيِّتِ تَرَكَ بِنْتًا وَأُخْتًا أَنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ لِقَوْلِهِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أخت فلها نصف ما ترك

قَالَ فَإِذَا تَرَكَ بِنْتًا وَقَدْ تَرَكَ وَلَدًا فَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ فَقَالُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ بِالْفَرْضِ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ الْآخَرُ بِالنَّصِيبِ بِدَلِيلِ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَهُ أُخْتٌ أَيْ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ فَلَهَا نصف ما ترك أَيِ الْمَيِّتُ وَهُوَ أَيِ الْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ يَرِثُهَا أَيْ يَرِثُ جَمِيعَ تَرِكَةِ الْأُخْتِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ أَيْ ذَكَرٌ يَعْنِي أَنَّ الْأُخْتَ إِذَا مَاتَتْ وَتَرَكَتْ أَخًا مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْ مِنَ الْأَبِ فَإِنَّهُ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ مِيرَاثِ الْأُخْتِ إِذَا انْفَرَدَ وَلَمْ يَكُنْ لِلْأُخْتِ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ ذَكَرٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ أَوْ أُنْثَى فله ما فَضَلَ عَنْ نَصِيبِهَا وَلَوْ كَانَتِ الْأُخْتُ أَوِ الْأَخُ مِنْ أُمٍّ فَفَرْضُهُ السُّدُسُ فَإِنْ كَانَتَا أَيِ الْأُخْتَانِ اثْنَتَيْنِ أَيْ فَصَاعِدًا فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مما ترك أَيِ الْأَخُ وَإِنْ كَانُوا أَيِ الْوَرَثَةُ إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً أَيْ ذُكُورًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِنْهُمْ مثل حظ الأنثيين يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ شَرَائِعَ دِينِكُمْ أَنْ تَضِلُّوا أَيْ مَخَافَةَ أَنْ تَضِلُّوا واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عليم وَمِنْهُ الْمِيرَاثُ

تَنْبِيهٌ حَدِيثُ الْبَرَاءِ الْمَذْكُورُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ

ص: 321

الله يفتيكم إلخ وروى البخاري عن بن عَبَّاسٍ قَالَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ آيَةُ الرِّبَا وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْآخِرِيَّةَ فِي حديث البراء مفيدة بما يتعلق بالمواريث بخلاف حديث بن عَبَّاسٍ وَيُحْتَمَلُ عَكْسُهُ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ

قَوْلُهُ (ويقال بن يُحْمِدُ) بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ

قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هُوَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْكُوفِيُّ التَّمِيمِيُّ الْيَرْبُوعِيُّ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ ثِقَةٌ حَافِظٌ مِنْ كِبَارِ الْعَاشِرَةِ

قَوْلُهُ (جَاءَ رَجُلٌ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ رُوِيَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا لَمْ يُفْتِهِ عَنْ مَسْأَلَتِهِ وَوَكَلَ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ إِلَى بَيَانِ الْآيَةِ اعْتِمَادًا عَلَى عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ انْتَهَى مُلَخَّصًا (فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) زَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَتِهِ فَمَا الْكَلَالَةُ

وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ فَسَأَلَهُ عَنِ الْكَلَالَةِ (تُجْزِئُكَ) أَيْ تَكْفِيَكَ (آيَةُ الصيف) أي التي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى ويستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة الْآيَةَ قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْكَلَالَةِ آيَتَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي الشِّتَاءِ وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَفِيهَا إِجْمَالٌ وَإِبْهَامٌ لَا يَكَادُ يَتَبَيَّنُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ ظَاهِرِهَا ثُمَّ أَنْزَلَ الْآيَةَ الْأُخْرَى فِي الصَّيْفِ وَهِيَ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ وَفِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الْبَيَانِ مَا لَيْسَ فِي آيَةِ الشِّتَاءِ فَأَحَالَ السَّائِلَ عَلَيْهَا لِيَتَبَيَّنَ الْمُرَادَ بِالْكَلَالَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا انْتَهَى

قَالَ أَبُو دَاوُدَ بَعْدَ رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ قُلْتَ لِأَبِي إِسْحَاقَ هُوَ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَلَدًا وَلَا وَالِدًا قَالَ كَذَلِكَ ظَنُّوا أَنَّهُ كَذَلِكَ انْتَهَى

ص: 322

قال الْخَطَّابِيُّ اخْتَلَفُوا فِي الْكَلَالَةِ مَنْ هُوَ فَقَالَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ هُوَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ

وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخطاب مثل قولهم وروي عنه أَنَّهُ قَالَ هُوَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَيُقَالُ إِنَّ هَذَا آخِرُ قَوْلَيْهِ

وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ هَذَا أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَسَكَتَ عَنْهُ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ

بَاب وَمِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ هِيَ مِائَةٌ وَثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ آيَةً

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ هِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ

قَوْلُهُ (قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ) هَذَا الرَّجُلُ هُوَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ بَيَّنَ ذَلِكَ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَلِلْبُخَارِيِّ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ

أَنَّ نَاسًا مِنَ الْيَهُودِ وَلَهُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ قَالَتِ الْيَهُودُ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا حِينَ سُؤَالِ كَعْبٍ عَنْ ذَلِكَ جماعة وتكلم كعب على لسانهم (لا تخذنا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا) أَيْ لَعَظَّمْنَاهُ وَجَعَلْنَاهُ عِيدًا لَنَا فِي كُلِّ سَنَةٍ لِعِظَمِ مَا حَصَلَ فِيهِ مِنْ إِكْمَالِ الدِّينِ (فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيَّ يَوْمٍ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أُنْزِلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَة)

فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ طَابَقَ الْجَوَابُ السُّؤَالَ لِأَنَّهُ قَالَ لَاتَّخَذْنَاهُ عِيدًا وَأَجَابَ عُمَرُ رضي الله عنه بِمَعْرِفَةِ الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ وَلَمْ يَقُلْ جَعَلْنَاهُ عِيدًا

وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ اكْتَفَى فِيهَا بِالْإِشَارَةِ وَإِلَّا فَرِوَايَةُ إِسْحَاقَ قَدْ نَصَّتْ عَلَى الْمُرَادِ وَلَفْظُهُ نَزَلَتْ يَوْمَ الْجُمُعَة يَوْمَ عَرَفَةَ وَكِلَاهُمَا بِحَمْدِ اللَّهِ لَنَا عِيدٌ لَفْظُ الطَّبَرِيِّ وَالطَّبَرَانِيِّ وَهُمَا لَنَا عِيدَانِ وَكَذَا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ بن عَبَّاسٍ أَنَّ يَهُودِيًّا سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدَيْنِ يَوْمِ جُمُعَةٍ وَيَوْمِ عَرَفَةَ فَظَهَرَ أَنَّ الْجَوَابَ تَضَمَّنَ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا وَهُوَ يَوْمُ

ص: 323

الْجُمُعَةِ وَاتَّخَذُوا يَوْمَ عَرَفَةَ لِأَنَّهُ لَيْلَةُ الْعِيدِ وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ

فَسَمَّى رَمَضَانَ عِيدًا لِأَنَّهُ يَعْقُبُهُ الْعِيدُ قَالَهُ الْحَافِظُ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِمَا وَمُسْلِمٌ فِي آخِرِ الْكِتَابِ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْحَجِّ وَالْإِيمَانِ

قَوْلُهُ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لكم دينكم أَحْكَامَهُ وَفَرَائِضَهُ فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا حَلَالٌ وَلَا حرام وأتممت عليكم نعمتي بِإِكْمَالِهِ وَقِيلَ بِدُخُولِ مَكَّةَ آمَنِينَ وَرَضِيتُ اخْتَرْتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا حَالٌ أَيِ اخْتَرْتُهُ لَكُمْ مِنْ بَيْنِ الْأَدْيَانِ وَآذَنْتُكُمْ بِأَنَّهُ هُوَ الدِّينُ المرضي وحده وأخرجه بن جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ

قَوْلُهُ (يَمِينُ الرَّحْمَنِ مَلْأَى) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَهَمْزَةٍ مَعَ الْقَصْرِ تَأْنِيثُ مَلْآنَ

قَالَ الْحَافِظُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ مَلْأَى لَازِمُهُ وَهُوَ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْغِنَى وَعِنْدَهُ مِنَ الرِّزْقِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فِي عِلْمِ الْخَلَائِقِ (سَحَّاءُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ مُثَقَّلٌ مَمْدُودٌ أَيْ دَائِمَةُ الصَّبِّ

يُقَالُ سَحَّ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مُثَقَّلٌ يَسِحُّ بِكَسْرِ السِّينِ فِي الْمُضَارِعِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا (لَا يَغِيضُهَا) بِالْمُعْجَمَتَيْنِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ لَا يُنْقِصُهَا لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ

يُقَالُ غَاضَ الْمَاءُ يَغِيضُ إِذَا نَقَصَ وَغِضْتُهُ أَنَا أَغِيضُهُ أَيْ لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ كَمَا فِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ أَوْ لَا يَغِيضُهَا شَيْءٌ كَمَا فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ (اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ فِيهِمَا (أَرَأَيْتُمْ) أَيْ أَخْبِرُونِي وَقِيلَ أَعَلِمْتُمْ وَأَبْصَرْتُمْ (مَا أَنْفَقَ) مَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ إِنْفَاقَ اللَّهِ وَقِيلَ مَا مَوْصُولَةٌ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ أَيِ الَّذِي أَنْفَقَهُ (مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ) زَادَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ وَالْأَرْضَ

ص: 324

أَيْ مِنْ يَوْمِ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ فَإِنَّهُ أَيِ الْإِنْفَاقَ أَوِ الَّذِي أَنْفَقَ (لَمْ يُغِضْ) أَيْ لَمْ يُنْقِصْ (مَا فِي يَمِينِهِ) أَيِ الَّذِي فِي يَمِينِهِ (وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ خَلَقَ وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الْعَرْشِ هُنَا أَنَّ السَّامِعَ هُنَا يَتَطَلَّعُ مِنْ قَوْلِهِ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَرْشَهُ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَانَ عَلَى الْمَاءِ كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ بِلَفْظِ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ (وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْمِيزَانُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ الْمِيزَانُ هُنَا مَثَلٌ وَإِنَّمَا هُوَ قِسْمَتُهُ بِالْعَدْلِ بَيْنَ الْخَلْقِ (يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ) أَيْ يُوَسِّعُ الرِّزْقَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيُقَتِّرُ كَمَا يَصْنَعُهُ الْوَزَّانُ عِنْدَ الْوَزْنِ يَرْفَعُ مَرَّةً وَيَخْفِضُ أُخْرَى وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِهَذَا وَأَشْبَاهِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ بَلْ يَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَا يُقَالُ كَيْفَ قَالَهُ الْعَيْنِيِّ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ

قَوْلُهُ (وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَمَّا ضُيِّقَ عَلَيْهِمْ بِتَكْذِيبِهِمُ النَّبِيَّ بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَكْثَرَ النَّاسِ مَالًا يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ مَقْبُوضَةٌ عَنْ إِدْرَارِ الْأَرْزَاقِ عَلَيْنَا كَنَّوْا بِهِ عَنِ الْبُخْلِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى غُلَّتْ أُمْسِكَتْ أَيْدِيهِمْ عَنْ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ وَبَقِيَّةُ الْآيَةِ مَعَ تَفْسِيرِهَا هكذا ولعنوا بما قالوا أَيْ طُرِدُوا عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِسَبَبِ مَا قالوا بل يداه مبسوطتان مُبَالَغَةٌ فِي الْوَصْفِ بِالْجُودِ وَثَنَّى الْيَدَ لِإِفَادَةِ الْكَثْرَةِ إِذْ غَايَةُ مَا يَبْذُلُهُ السَّخِيُّ مِنْ مَالِهِ أَنْ يُعْطِيَ بِيَدِهِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ مِنْ تَوْسِيعٍ وَتَضْيِيقٍ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ

قَوْلُهُ (وَهَذَا الْحَدِيثُ قَالَ الْأَئِمَّةُ يُؤْمَنُ بِهِ كَمَا جَاءَ إِلَخْ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ فَضْلِ الصَّدَقَةِ مِنْ أَبْوَابِ الزَّكَاةِ

قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ) الْإِيَادِيُّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ أَبُو قُدَامَةَ الْبَصْرِيُّ صَدُوقٌ يخطىء من الثامنة

ص: 325

قَوْلُهُ (يُحْرَسُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْحِرَاسَةِ أَيْ يَحْفَظُهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ عَنِ الْكُفَّارِ واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ أَيْ يَحْفَظُكَ يَا مُحَمَّدُ وَيَمْنَعُكَ مِنْهُمْ وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا الكفار

فإن قِيلَ أَلَيْسَ قَدْ شُجَّ رَأْسُهُ وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَدْ أُوذِيَ بِضُرُوبٍ مِنَ الْأَذَى فَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ (واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)

قُلْتُ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ يَعْصِمُهُ مِنَ الْقَتْلِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ أَرَادَهُ بِالْقَتْلِ وَقِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا إن هذه الاية نزلت بعد ما شُجَّ رَأْسُهُ فِي يَوْمِ أُحُدٍ لِأَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ وَاخْتُلِفَ فِي وصله وإرساله والحديث أخرجه أيضا بن أبي حاتم وبن جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ

وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ (وَرَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْجُرَيْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ كان النبي يُحْرَسُ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عَنْ عَائِشَةَ) قَالَ الحافظ بن كَثِيرٍ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ التِّرْمِذِيِّ هَذَا هَكَذَا رواه بن جرير من طريق إسماعيل بن علية وبن مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ وُهَيْبٍ كِلَاهُمَا عَنِ الْجُرَيْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ مُرْسَلًا

قَوْلُهُ (عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ الْخَفِيفَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ الْجَزَرِيِّ كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ السُّوَائِيُّ كُوفِيُّ الْأَصْلِ ثِقَةٌ رُمِيَ بِالتَّشَيُّعِ مِنَ السَّادِسَةِ (عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود

ص: 326

قوله (في المعاصي) أي من الزنى وَصَيْدِ يَوْمِ السَّبْتِ وَغَيْرِهِمَا (فَنَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ) أَيْ أَوَّلًا (فَلَمْ يَنْتَهُوا) أَيْ فَلَمْ يَقْبَلُوا النَّهْيَ وَلَمْ يَتْرُكُوا الْمَنْهِيَّ (فَجَالَسُوهُمْ) أَيِ الْعُلَمَاءُ (فِي مَجَالِسِهِمْ) أَيْ مَجَالِسِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْعُصَاةِ وَمَسَاكِنِهِمْ (وَوَاكَلُوهُمْ) مِنَ الْمُوَاكَلَةِ مُفَاعَلَةٌ لِلْمُشَارَكَةِ فِي الْأَكْلِ وَكَذَا قَوْلُهُ وَشَارَبُوهُمْ (فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ بِبَعْضٍ

قَالَ القارىء أَيْ خَلَطَ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ يُقَالُ ضَرَبَ اللَّبَنَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ أَيْ خَلَطَهُ ذَكَرَهُ الرَّاغِبُ

وقال بن الْمَلَكِ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ سَوَّدَ اللَّهُ قَلْبَ مَنْ لَمْ يَعْصِ بِشُؤْمِ مَنْ عَصَى فَصَارَتْ قُلُوبُ جَمِيعِهِمْ قَاسِيَةً بَعِيدَةً عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ أَوِ الرَّحْمَةِ بِسَبَبِ الْمَعَاصِي وَمُخَالَطَةِ بَعْضِهِمْ بعضا

انتهى

قال القارىء وَقَوْلُهُ قَلْبَ مَنْ لَمْ يَعْصِ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ لِأَنَّ مُوَاكَلَتَهُمْ وَمُشَارَبَتَهُمْ مِنْ إِكْرَاهٍ وَإِلْجَاءٍ بَعْدَ عَدَمِ انْتِهَائِهِمْ عَنْ مَعَاصِيهمْ مَعْصِيَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْبُغْضِ فِي اللَّهِ أَنْ يَبْعُدُوا عنهم ويهاجروهم ويقاطعوهم ولم يواصلوهم (وَلَعَنَهُمْ) أَيِ الْعَاصِينَ وَالسَّاكِتِينَ الْمُصَاحِبِينَ (عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ) بِأَنْ دَعَا عَلَيْهِمْ فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَهُمْ أصحاب أيلة (وعيسى بن مَرْيَمَ) بِأَنْ دَعَا عَلَيْهِمْ فَمُسِخُوا خَنَازِيرَ وَهُمْ أَصْحَابُ الْمَائِدَةِ (ذَلِكَ) أَيِ اللَّعْنُ (بِمَا عَصَوْا) أَيْ بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ مُبَاشَرَةً وَمُعَاشَرَةً (وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) أي يتجاوزون عن الحد (قال) أي بن مسعود (فجلس رسول الله وَكَانَ مُتَّكِئًا) أَيْ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ أَوْ مُسْتَنِدًا إِلَى ظَهْرِهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَجَلَسَ مُسْتَوِيًا لِلِاهْتِمَامِ بِإِتْمَامِ الْكَلَامِ (فَقَالَ لَا) أَيْ لَا تُعْذَرُونَ أَوْ لَا تَنْجُونَ مِنَ الْعَذَابِ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْأُمَّةُ خَلَفَ أَهْلِ تِلْكَ الْأُمَّةِ (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطِرُوهُمْ) بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَيُبَدَّلُ وَبِكَسْرِ الطَّاءِ (أَطْرًا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِلتَّأْكِيدِ أَيْ حَتَّى تَمْنَعُوا أَمْثَالَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ

قَالَ فِي الْمَجْمَعِ أَيْ لَا تَنْجُونَ مِنَ الْعَذَابِ حَتَّى تَمِيلُوهُمْ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ مِنْ أَطَرْتُ الْقَوْسَ آطِرُهَا بِكَسْرِ طَاءٍ أَطْرًا بِسُكُونِهَا إِذَا حَنَيْتهَا أَيْ تَمْنَعُوهُمْ مِنَ الظُّلْمِ وَتُمِيلُوهُمْ عَنِ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ

وَقَالَ الطيبي حتى متعلقة بلا كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ لَهُ عِنْدَ ذِكْرِ مَظَالِمِ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَلْ يُعْذَرُ فِي تَخْلِيَةِ الظَّالِمِينَ وَشَأْنِهُمْ فَقَالَ لَا حَتَّى تَأْطِرُوهُمْ وَتَأْخُذُوا عَلَى أَيْدِيهمْ

وَالْمَعْنَى لَا تُعْذَرُونَ حَتَّى تُجْبِرُوا الظَّالِمَ عَلَى الْإِذْعَانِ لِلْحَقِّ وَإِعْطَاءِ النَّصَفَةِ لِلْمَظْلُومِ

وَالْيَمِينُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ لَا وَحَتَّى وَلَيْسَتْ لَا هَذِهِ بِتِلْكَ الَّتِي يَجِيءُ بِهَا الْمُقْسِمُ تَأْكِيدًا لِقَسَمِهِ انتهى

ص: 327

قوله (قال يزيد) هو بن هَارُونَ (وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ لَا يَقُولُ فِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) كَمَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ فِيمَا بَعْدُ بِقَوْلِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ إِلَخْ

ورواه أيضا بن مَاجَهْ بِهَذَا السَّنَدِ مُرْسَلًا

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وأبو داود وبن مَاجَهْ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ

قَوْلُهُ (وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي الْوَضَّاحِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ إِلَخْ) وَصَلَهُ التِّرْمِذِيُّ فِيمَا بَعْدُ بِقَوْلِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ وَأَمْلَاهُ عَلِيٌّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي الْوَضَّاحِ إِلَخْ

قَوْلُهُ (لَمْ يَمْنَعْهُ مَا رَأَى مِنْهُ) أَيْ لَمْ يَمْنَعِ النَّاهِيَ مَا رَأَى هُوَ مِنَ الْمُذْنِبِ مِنْ وُقُوعِهِ عَلَى الذَّنْبِ (أَنْ يَكُونَ) أَيْ مِنْ أَنْ يَكُونَ النَّاهِي (أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ) أَيْ مُوَاكِلَ الْمُذْنِبِ وَمُشَارِبَهُ وَمُخَالِطَهُ

وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ

كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وقعيده

ص: 328

قَوْلُهُ (وَأَمْلَاهُ عَلَيَّ) أَيْ أَلْقَى عَلَيَّ الْحَدِيثَ فكتبته

قوله (حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ) اسْمُهُ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ النَّبِيلُ (أَخْبَرْنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعْدٍ) الْكَاتِبُ الْمُعَلِّمُ

قَوْلُهُ (فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ ما أحل الله لكم) أَيْ مَا طَابَ وَلَذَّ مِنَ الْحَلَالِ

وَمَعْنَى لَا تُحَرِّمُوا لَا تَمْنَعُوهَا أَنْفُسَكُمْ كَمَنْعِ التَّحْرِيمِ أَوْ لَا تَقُولُوا حَرَّمْنَاهَا عَلَى أَنْفُسِنَا مُبَالَغَةً مِنْكُمْ فِي الْعَزْمِ عَلَى تَرْكِهَا تَزَهُّدًا مِنْكُمْ وَتَقَشُّفًا وَلَا تَعْتَدُوا أَيْ وَلَا تُجَاوِزُوا الْحَدَّ الَّذِي حَدَّ عَلَيْكُمْ فِي تَحْلِيلٍ أَوْ تَحْرِيمٍ أَوْ وَلَا تَتَعَدَّوْا حُدُودَ مَا أَحَلَّ لَكُمْ إِلَى مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ أَوْ وَلَا تُسْرِفُوا فِي تَنَاوُلِ الطَّيِّبَاتِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المعتدين حُدُودَهُ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا حَلَالًا حَالٌ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَوْلُهُ (هَذَا حديث غريب) وأخرجه بن أبي حاتم وبن جرير

ص: 329

عمرو بْنِ شُرَحْبِيلَ) الْهَمْدَانِيِّ أَبِي مَيْسَرَةَ الْكُوفِيِّ ثِقَةٌ أَيِ الْقِمَارِ يَعْنِي مَا حُكْمُهُمَا قُلْ لَهُمْ فِيهِمَا أَيْ فِي تَعَاطِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ أَيْ عَظِيمٌ لِمَا يَحْصُلُ بِسَبَبِهِمَا مِنَ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ وَقَوْلِ الْفُحْشِ الْآيَةَ أَيْ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ بِاللَّذَّةِ وَالْفَرَحِ فِي الْخَمْرِ وَإِصَابَةِ الْمَالِ بِلَا كَدٍّ فِي الْمَيْسِرِ وَإِثْمُهُمَا أَيْ مَا يَنْشَأُ عَنْهُمَا مِنَ الْمَفَاسِدِ أَكْبَرُ أَعْظَمُ مِنْ نَفْعِهِمَا لِأَنَّ أَصْحَابَ الشُّرْبِ وَالْقِمَارِ يَقْتَرِفُونَ فِيهِمَا الْآثَامَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ (فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ) أَيِ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم لعداوة والبغضاء في الخمر والميسر وَبَعْدَهُ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فهل أنتم منتهون (فَقَالَ) أَيْ عُمَرُ (انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا) أَيْ عَنْ إِتْيَانِهِمَا أَوْ عَنْ طَلَبِ الْبَيَانِ الشَّافِي وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ

وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ

قال الطَّيْبِيُّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَعْنِي قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخمر والميسر الْآيَتَيْنِ وَفِيهِمَا دَلَائِلُ سَبْعَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ أَحَدُهَا قَوْلُهُ (رِجْسٌ) وَالرِّجْسُ هُوَ النَّجِسُ وَكُلُّ نَجِسٍ حَرَامٌ وَالثَّانِي قَوْلُهُ (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) وَمَا هُوَ

مِنْ عَمَلِهِ حَرَامٌ

وَالثَّالِثُ قَوْلُهُ (فَاجْتَنِبُوهُ) وَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِاجْتِنَابِهِ فَهُوَ حَرَامٌ

وَالرَّابِعُ قَوْلُهُ (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وَمَا عُلِّقَ رَجَاءُ الْفَلَاحِ بِاجْتِنَابِهِ فَالْإِتْيَانُ بِهِ حَرَامٌ وَالْخَامِسُ قَوْلُهُ (يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ والبغضاء في الخمر والميسر وَمَا هُوَ سَبَبُ وُقُوعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ المسلمين فهو حرام

والسادس قوله (يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة) وَمَا يَصُدُّ بِهِ الشَّيْطَانُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ حَرَامٌ وَالسَّابِعُ قَوْلُهُ (فَهَلْ أنتم منتهون) مَعْنَاهُ انْتَهُوا وَمَا أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالِانْتِهَاءِ عَنْهُ فَالْإِتْيَانُ بِهِ حَرَامٌ انْتَهَى

ص: 330

قَوْلُهُ (وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إِسْرَائِيلَ مُرْسَلًا) أَيْ رُوِيَ عَنْهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ بِلَفْظِ إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ اللَّهُمَّ إِلَخْ كَمَا بَيَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ هَذَا

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) كُنْيَتُهُ أَبُو كُرَيْبٍ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِهَا (عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ) هو كنيته عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ الْمَذْكُورِ فِي الْإِسْنَادِ الْمُتَقَدِّمِ (وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ) أَيْ حَدِيثُ وَكِيعٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ بِلَفْظِ إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ محمد بن يوسف عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عُمَرَ وَبِلَفْظِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لِأَنَّ وَكِيعًا أَحْفَظُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ

قُلْتُ فِيهِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ لَمْ يَنْفَرِدْ بِلَفْظِ عَنْ عُمَرَ بَلْ قَدْ تَابَعَهُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَخَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ عِنْدَ أَحْمَدَ

وَحَدِيثُ عُمَرَ هَذَا أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ

وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ صَحَّحَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَكَذَا قال الحافظ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ

قَوْلُهُ (فَلَمَّا حُرِّمَتْ) قَالَ الْحَافِظُ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ تَحْرِيمَهَا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ

وَذَكَرَ رِوَايَاتٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جناح فيما طعموا أَيْ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ فِيمَا شَرِبُوا مِنَ الْخَمْرِ وَأَكَلُوا مِنْ مَالِ الْقِمَارِ فِي وَقْتِ الْإِبَاحَةِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ

قَالَ الشَّاعِرُ فَإِنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُو وَإِنْ شِئْتُ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدًا النُّقَاخُ الْمَاءُ وَالْبَرْدُ النَّوْمُ إِذَا مَا اتَّقَوْا أَيْ إذا ما اتقوا

ص: 331

قال بن قُتَيْبَةَ يُقَالُ لَمْ أَطْعَمْ خُبْزًا وَلَا مَاءً ولا نوما الشِّرْكَ وَقِيلَ اتَّقَوْا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَآمَنُوا يَعْنِي بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَيِ ازْدَادُوا مِنْ عَمَلِ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا أَيِ اتَّقَوْا الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ

فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْأُولَى إِخْبَارًا عَنْ حَالِ مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَشْرَبُهَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ وَالثَّانِيَةُ خِطَابَ مَنْ بَقِيَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ أُمِرُوا بِاتِّقَائِهَا وَالْإِيمَانِ بِتَحْرِيمِهَا

ثُمَّ اتَّقَوْا أَيْ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَأَحْسَنُوا أَيِ الْعَمَلَ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالِاتِّقَاءِ الْأَوَّلِ فِعْلُ التَّقْوَى وَبِالثَّانِي الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا وَبِالثَّالِثِ اتِّقَاءُ الظُّلْمِ مَعَ ضَمِّ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ

وَقِيلَ إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّكْرِيرِ التَّأْكِيدُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْحَثِّ عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَضَمُّ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا واللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ الْمُتَقَرِّبِينَ إِلَيْهِ بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو داود والطيالسي

وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ أَيْضًا أَيْ كَمَا أَنَّ إِسْرَائِيلَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ كَذَلِكَ رَوَاهُ شُعْبَةُ أَيْضًا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عن البراء

قَوْلُهُ (أَرَأَيْتَ) أَيْ أَخْبِرْنِي (وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ ظَرْفٌ بِقَوْلِهِ قَالُوا أَيْ قَالُوا حِينَ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ

قَالَ فِي الْقَامُوسِ لَمَّا تَكُونُ بِمَعْنَى حين ولم الجازمة وإلا

قَالَ نَاسٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِخْوَانُنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ

ص: 332

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وزاد في آخره ولما حولت القبلة

قوله (قال لي رسول الله قِيلَ لِي) أَنْتَ مِنْهُمْ قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَاهُ أن بن مَسْعُودٍ مِنْهُمْ انْتَهَى

وَقَالَ الْخَازِنُ مَعْنَاهُ أَنَّ رسول الله قيل له إن بن مَسْعُودٍ مِنْهُمْ يَعْنِي مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَخْ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ والنسائي

قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ وَرْدَانَ) الْأَسَدِيُّ الْعَطَّارُ الْكُوفِيُّ مَقْبُولٌ مِنَ التَّاسِعَةِ (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَامِرٍ الثَّعْلَبِيِّ بِالْمُثَلَّثَةِ وَالْمُهْمَلَةِ الْكُوفِيُّ صَدُوقٌ يَهِمُ مِنَ السَّادِسَةِ

قَوْلُهُ (فِي كُلِّ عَامٍ) بِحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ (وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ) اسْتُدِلَّ بِظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّ الْإِيجَابَ كان مفوضا إليه كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ وَرُدَّ بِأَنَّ قَوْلَهُ لَوْ قُلْتُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَوْ بِوَحْيٍ نَازِلٍ أَوْ رَأْيٍ يَرَاهُ إِنْ جَوَّزْنَا لَهُ الِاجْتِهَادَ وَالدَّالُّ عَلَى الْأَعَمِّ لَا يَدُلُّ عَلَى الْأَخَصِّ قَالَهُ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ أَصْلُهُ شَيْئَاءُ بِهَمْزَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ وَهِيَ فَعْلَاءُ مِنْ لَفْظِ شَيْءٍ وَهَمْزَتُهَا الثَّانِيَةُ لِلتَّأْنِيثِ وَلِذَا لَمْ تَنْصَرِفْ كَحَمْرَاءَ وَهِيَ مفردة لفظ جَمْعٌ مَعْنًى وَلَمَّا اسْتُثْقِلَتِ الْهَمْزَتَانِ الْمُجْتَمِعَتَانِ قُدِّمَتِ الْأُولَى الَّتِي هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ فَجُعِلَتْ قَبْلَ الشين فصار وزنها لفعاء إن تبدلكم أَيْ تُظْهَرْ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ لِمَا فِيهَا

ص: 333

مِنَ الْمَشَقَّةِ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ أَيْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُبْدَ لَكُمْ

الْمَعْنَى إِذَا سَأَلْتُمْ عَنْ أَشْيَاءَ فِي زَمَنِهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ بِإِبْدَائِهَا وَمَتَى أَبْدَاهَا سَاءَتْكُمْ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهَا

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وبن مَاجَهْ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ بِإِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ فِي بَابِ كَمْ فُرِضَ الْحَجُّ وَبَيَّنْتَ هُنَاكَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُنْقَطِعٌ

قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عن أبي هريرة وبن عَبَّاسٍ) تَقَدَّمَ تَخْرِيجُ حَدِيثَيْهِمَا فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ

قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرِ) بْنِ رِبْعِيٍّ الْقَيْسِيُّ (أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ) الْبَحْرَانِيُّ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ صَدُوقٌ مِنْ كِبَارِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ (أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ أَنَسِ) بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ قَاضِي الْبَصْرَةِ ثِقَةٌ مِنَ الرَّابِعَةِ

قَوْلُهُ (قَالَ رَجُلٌ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ الْقُرَشِيُّ السَّهْمِيُّ وفي رواية البخاري أن رسول الله خَرَجَ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ مَنْ أَبِي (مَنْ أَبِي) جُمْلَةٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ مَقُولُ الْقَوْلِ

فَإِنْ قُلْتَ لِمَ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ قُلْتُ لِأَنَّهُ كَانَ يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ إِذَا لَاحَى أَحَدًا فَنَسَبَهُ عليه الصلاة والسلام إِلَى أَبِيهِ

فَإِنْ قُلْتَ مِنْ أين عرف رسول الله أَنَّهُ ابْنُهُ قُلْتُ إِمَّا بِالْوَحْيِ وَهُوَ الظَّاهِرُ أَوْ بِحُكْمِ الْفَرَاسَةِ قَالَهُ الْعَيْنِيُّ (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِلَخْ) قَالَ الْحَافِظُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهَذَا النَّهْيِ مَنْ كَرِهَ السُّؤَالَ عَمَّا لَمْ يَقَعْ وَقَدْ أَسْنَدَهُ الدَّارِمِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ عن جماعة من الصحابة والتابعين

وقال بن الْعَرَبِيِّ اعْتَقَدَ قَوْمٌ مِنَ الْغَافِلِينَ مَنْعَ أَسْئِلَةِ النوازل حتى

ص: 334

تَقَعَ تَعَلُّقًا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَا تَقَعُ الْمَسْأَلَةُ فِي جَوَابِهِ وَمَسَائِلُ النَّوَازِلِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَهُوَ كَمَا قَالَ إِلَّا أَنَّهُ أَسَاءَ فِي قَوْلِهِ الْغَافِلِينَ عَلَى عَادَتِهِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْقُرْطُبِيُّ

وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَفَعَهُ أَعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ وَهَذَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ وليس مما أشار إليه بن الْعَرَبِيِّ فِي شَيْءٍ انْتَهَى

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ

قَوْلُهُ (أَنَّهُ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ) وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ قَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثم قال يا أيها الناس (إنكم تقرؤون هَذِهِ الْآيَةَ) زَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَتِهِ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا يَعْنِي تُجْرُونَهَا عَلَى عُمُومِهَا وَتَمْتَنِعُونَ عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا عليكم أنفسكم انْتَصَبَ أَنْفُسَكُمْ بِعَلَيْكُمْ وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ أَيِ الْزَمُوا إِصْلَاحَ أَنْفُسِكُمْ وَاحْفَظُوهَا عَنِ الْمَعَاصِي وَالْكَافُ وَالْمِيمُ فِي عَلَيْكُمْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ لِأَنَّ اسْمَ الْفِعْلِ هُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ لَا عَلَى وَحْدِهَا لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهتديتم أَيْ فَإِذَا أَلْزَمْتُمْ إِصْلَاحَ أَنْفُسِكُمْ وَحَفِظْتُمُوهَا لَمْ يَضُرَّكُمْ إِذَا عَجَزْتُمْ عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ضَلَالُ مَنْ ضَلَّ بِارْتِكَابِ الْمَنَاهِي إذا اهتديتم اجْتِنَابِهَا

وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا كَانَ فِعْلُ ذَلِكَ مُمْكِنًا (فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ) أَيْ لَمْ يَمْنَعُوهُ عَنْ ظُلْمِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مَنْعِهِ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ أَيْ بِنَوْعٍ مِنَ الْعَذَابِ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ والنسائي وبن مَاجَهْ

وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي بَابِ نُزُولِ الْعَذَابِ إِذْ لَمْ يُغَيَّرِ الْمُنْكَرُ مِنْ أبواب الفتن

ص: 335

قَوْلُهُ (وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ نَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ مَرْفُوعًا الخ) قال الحافظ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وبن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ بِهِ مُتَّصِلًا مَرْفُوعًا وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ بِهِ مَوْقُوفًا عَلَى الصِّدِّيقِ وَقَدْ رَجَّحَ رَفْعَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ

قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا عُتْبَةُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ) الْهَمْدَانِيُّ بِسُكُونِ الْمِيمِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْأُرْدُنِّيُّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالدَّالِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ وَتَشْدِيدِ النُّونِ صَدُوقٌ يُخْطِئُ كَثِيرًا مِنَ السَّادِسَةِ (أخبرنا عَمْرُو بْنُ جَارِيَةَ) بِالْجِيمِ اللَّخْمِيُّ شَامِيٌّ مَقْبُولٌ

وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ فِي تَرْجَمَتِهِ يُقَالُ إِنَّهُ عَمُّ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ ذَكَرَهُ بن حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ لَهُ عِنْدَهُمْ حَدِيثٌ وَاحِدٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا الْحَدِيثَ (عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ) الدِّمَشْقِيِّ اسْمُهُ يُحْمِدُ بِضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَقِيلَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالْمِيمِ وَقِيلَ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ مَقْبُولٌ مِنَ الثَّانِيَةِ

قَوْلُهُ (فَقُلْتَ لَهُ كَيْفَ تَصْنَعُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَعْنِي مَا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا تَقُولُ فِيهَا فَإِنَّ ظَاهِرَهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بَلْ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِصْلَاحُ نَفْسِهِ (أَمَا) بِالتَّخْفِيفِ حَرْفُ التَّنْبِيهِ (لَقَدْ سَأَلْتَ) بِفَتْحِ التَّاءِ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ (خَبِيرًا) أَيْ عَارِفًا وَعَالِمًا بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ (سَأَلْتُ) بِضَمِّ التَّاءِ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ (بَلِ ائْتَمَرُوا) أَيِ امْتَثِلُوا (بِالْمَعْرُوفِ) أَيْ وَمِنْهُ الْأَمْرُ بِهِ (وَتَنَاهَوْا) أَيِ انْتَهُوا وَاجْتَنِبُوا (عَنِ الْمُنْكَرِ) وَمِنْهُ الِامْتِنَاعُ عَنْ نَهْيِهِ أَوِ الِائْتِمَارِ بِمَعْنَى التَّآمُرِ كَالِاخْتِصَامِ بِمَعْنَى التَّخَاصُمِ وَيُؤَيِّدُهُ التَّنَاهِي

وَالْمَعْنَى لِيَأْمُرْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ طَائِفَةً عَنِ الْمُنْكَرِ

وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله قَوْلُهُ بَلِ ائْتَمِرُوا إِضْرَابٌ عَنْ مقدر أي سألت عنها رسول الله

ص: 336

وَقُلْتُ أَمَا نَتْرُكُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام لَا تَتْرُكُوا بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ إِلَخْ (حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ) أَيْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ خِطَابًا عَامًّا

وَالْمَعْنَى إِذَا عَلِمْتَ الْغَالِبَ عَلَى النَّاسِ (شُحًّا مُطَاعًا) أَيْ بُخْلًا مُطَاعًا بِأَنْ أطاعته نفسك وطاوعه غيرك قاله القارىء

وفي النِّهَايَةِ هُوَ أَشَدُّ الْبُخْلِ وَقِيلَ الْبُخْلُ مَعَ الْحِرْصِ وَقِيلَ الْبُخْلُ فِي أَفْرَادِ الْأُمُورِ وَآحَادِهَا وَالشُّحُّ عَامٌّ وَقِيلَ الْبُخْلُ بِالْمَالِ وَالشُّحُّ بِالْمَالِ وَبِالْمَعْرُوفِ (وَهَوًى مُتَّبَعًا) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ وَهَوًى لِلنَّفْسِ مَتْبُوعًا

وَحَاصِلُهُ أَنَّ كُلًّا يَتَّبِعُ هَوَاهُ (وَدُنْيَا) بِالْقَصْرِ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَالِ والجاه في الدار الدنية (موثرة) أَيْ مُخْتَارَةً عَلَى أُمُورِ الدِّينِ (وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ) أَيْ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِعْجَابُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ هُوَ وِجْدَانُ الشَّيْءِ حَسَنًا وَرُؤْيَتُهُ مُسْتَحْسَنًا بِحَيْثُ يَصِيرُ صَاحِبُهُ بِهِ مُعْجَبًا وَعَنْ قَبُولِ كَلَامِ الْغَيْرِ مُجَنَّبًا وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ) مَنْصُوبٌ وَقِيلَ مَرْفُوعٌ أَيْ فَالْوَاجِبُ أَوْ فَيَجِبُ عَلَيْكَ حِفْظُهَا مِنَ الْمَعَاصِي

لَكِنْ يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِلْإِغْرَاءِ بِمَعْنَى الْزَمْ خَاصَّةَ نَفْسِك قَوْلُهُ (وَدَعِ الْعَوَامَّ) أَيِ اتْرُكْ أَمْرَ عَامَّةِ النَّاسِ الْخَارِجِينَ عَنْ طريق الخواص (فإن من وراءكم أَيَّامًا) أَيْ قُدَّامَكُمْ مِنَ الْأَزْمَانِ الْآتِيَةِ (الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ) يَعْنِي يَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ بِالصَّبْرِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ كَمَشَقَّةِ الصَّابِرِ عَلَى قَبْضِ الْجَمْرِ بِيَدِهِ (يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ)

وفي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ أَيْ فِي غَيْرِ زَمَانِهِ (قَالَ لَا بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْكُمْ) قَالَ فِي اللُّمَعَاتِ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ هَؤُلَاءِ فِي الْأَجْرِ عَلَى الصَّحَابَةِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ وَقَدْ جَاءَ أَمْثَالُ هَذَا أَحَادِيثُ أُخَرُ وَتَوْجِيهُهُ كَمَا ذَكَرُوا أَنَّ الفضل الجزئي لا ينافي الفضل الكلي

وقد تكلم بن عَبْدِ الْبَرِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ يُمْكِنُ أَنْ يَجِيءَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مَنْ هُوَ فِي دَرَجَةِ بَعْضٍ مِنْهُمْ أَوْ أَفْضَلَ وَمُخْتَارُ الْعُلَمَاءِ خِلَافُهُ انْتَهَى

وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ لَيْسَ هَذَا عَلَى إِطْلَاقِهِ بَلْ هو مبني على قاعدتين أحديهما أَنَّ الْأَعْمَالَ تَشْرُفُ بِثَمَرَاتِهَا وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْغَرِيبَ فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ كَالْغَرِيبِ فِي أَوَّلِهِ

ص: 337

وَبِالْعَكْسِ لِقَوْلِهِ عليه السلام بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ مِنْ أُمَّتِي يُرِيدُ الْمُنْفَرِدِينَ عَنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ

إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَنَقُولُ الْإِنْفَاقُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ عليه السلام لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رضي الله عنه لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نصيفه أي مد الحنطة

والسبب فِيهِ أَنَّ تِلْكَ النَّفَقَةِ أَثْمَرَتْ فِي فَتْحِ الْإِسْلَامِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ مَا لَا يُثْمِرُ غَيْرُهَا وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ بِالنُّفُوسِ لَا يَصِلُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهِ إِلَى فَضْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ لِقِلَّةِ عَدَدِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَقِلَّةِ أَنْصَارِهِمْ فَكَانَ جِهَادُهُمْ أَفْضَلَ وَلِأَنَّ بَذْلَ النَّفْسِ مَعَ النُّصْرَةِ وَرَجَاءَ الْحَيَاةِ لَيْسَ كَبَذْلِهَا مَعَ عَدَمِهَا وَلِذَلِكَ قَالَ عليه السلام يَكُونُ الْقَابِضُ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ لَا يَسْتَطِيعُ دَوَامَ ذَلِكَ لِمَزِيدِ الْمَشَقَّةِ فَكَذَلِكَ الْمُتَأَخِّرُ فِي حِفْظِ دِينِهِ وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ فَلَيْسُوا كَذَلِكَ لكثرة المعين وعدم المنكر

فعلى هذا يترك الْحَدِيثُ انْتَهَى كَذَا فِي مِرْقَاةِ الصُّعُودِ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وبن ماجه وبن جرير وبن أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ

قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي النَّضْرِ) اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ بْنِ بِشْرٍ الْكَلْبِيُّ الْكُوفِيُّ النَّسَّابَةُ الْمُفَسِّرُ مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ وَرُمِيَ بِالرَّفْضِ مِنَ السَّادِسَةِ (عَنْ بَاذَانَ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ بَاذَامَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ

وَيُقَالُ آخِرُهُ نُونٌ أَبُو صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ ضَعِيفٌ مُدَلِّسٌ مِنَ الثَّالِثَةِ (عَنْ تَمِيمٍ الداري) صحابي مشهور

قوله (قال بريء النَّاسُ مِنْهَا) أَيْ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ (غَيْرِي وَغَيْرِ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاءِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ مَعَ الْمَدِّ وَوَقَعَ عِنْدَ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ بَدَّاءٍ كَانَ أَخَا تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فَإِنْ ثَبَتَ فَلَعَلَّهُ أَخُوهُ لِأُمِّهِ أَوْ مِنَ الرَّضَاعَةِ لَكِنْ فِي تَفْسِيرِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ أَنَّ رَجُلَيْنِ نَصْرَانِيَّيْنِ مِنْ أَهْلِ دَارَيْنِ أَحَدُهُمَا تَمِيمٌ وَالْآخَرُ يَمَانِيٌّ قَالَهُ الْحَافِظُ (يَخْتَلِفَانِ إِلَى الشام) أي يَتَرَدَّدَانِ إِلَيْهِ لِلتِّجَارَةِ (يُقَالُ لَهُ

ص: 338

بُدَيْلُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الدال المهملة مصغرا

ووقع في رواية بن جريج أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا وَكَذَا أَخْرَجَهُ بِسَنَدِهِ فِي تَفْسِيرِهِ (وَمَعَهُ جَامٌ) بِالْجِيمِ وَتَخْفِيف الْمِيمِ أَيْ إِنَاءٌ (يُرِيدُ بِهِ الْمَلِكَ) أَيْ لِيَبِيعَهُ مِنْهُ (وَهُوَ عُظْمُ تِجَارَتِهِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ مُعْظَمُ أَمْوَالِ تِجَارَتِهِ أَوْ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ

وَعُظْمُ الشَّيْءِ كِبَرُهُ (فَمَرِضَ) أَيْ بُدَيْلٌ السَّهْمِيُّ (فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا) أَيْ إِلَى تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ

وفي رِوَايَةٍ أَنَّ السَّهْمِيَّ الْمَذْكُورَ مَرِضَ فَكَتَبَ وَصِيَّتَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ دَسَّهَا فِي مَتَاعِهِ ثُمَّ أَوْصَى إِلَيْهِمَا (أَنْ يُبَلِّغَا) مِنَ الْإِبْلَاغِ أَيْ يُوَصِّلَا (مَا ترك) مفعول أول ليبلغا (أَهْلَهُ) مَفْعُولٌ ثَانٍ (فَلَمَّا مَاتَ) أَيْ بُدَيْلٌ (وَفَقَدُوا الْجَامَ) أَيْ فَقَدَ أَهْلُ بُدَيْلٍ الْجَامَ الْمَذْكُورَ وَلَمْ يَجِدُوهُ فِي مَتَاعِهِ (تَأَثَّمْتُ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ تَحَرَّجْتُ مِنْهُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ يُقَالُ تَأَثَّمَ فُلَانٌ إِذَا فَعَلَ فِعْلًا خَرَجَ بِهِ مِنَ الْإِثْمِ كَمَا يُقَالُ تَحَرَّجَ إِذَا فَعَلَ مَا يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْحَرَجِ (عِنْدَ صَاحِبِي) أَيْ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ (فَأَتَوْا) أَيْ أَهْلُ بُدَيْلٍ (بِهِ) أَيْ بِعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ (فسألهم البينة) أي طلب النبي مِنْ أَهْلِ بُدَيْلٍ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ (فَلَمْ يَجِدُوا) أَيِ الْبَيِّنَةَ (أَنْ يَسْتَحْلِفُوهُ) أَيْ عَدِيًّا (فَحَلَفَ) أَيْ عَدِيٌّ

قَوْلُهُ (يَا أَيُّهَا الذين آمنوا شهادة بينكم إِلَخِ) الْآيَةُ بِتَمَامِهَا مَعَ تَفْسِيرِهَا هَكَذَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أحدكم الموت حين الوصية اثنان ارْتَفَعَ اثْنَانِ لِأَنَّهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ أَيْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ حِينَئِذٍ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ أَوْ فَاعِلُ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ عَلَى أَنَّ خَبَرَهَا مَحْذُوفٌ

ص: 339

أَيْ فِيمَا نَزَّلَ عَلَيْكُمْ أَنْ يَشْهَدَ بَيْنَكُمُ اثْنَانِ وَأَضَافَ الشَّهَادَةَ إِلَى الْبَيْنِ تَوَسُّعًا لِأَنَّهَا جارية بينهم وإذا حضر ظرف للشهادة وحين الْوَصِيَّةِ بَدَلٌ مِنْهُ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ يَعْنِي مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ يَا مَعْشَر الْمُؤْمِنَينَ

وَقِيلَ مَعْنَاهُ مِنْ أَقَارِبِكُمْ وَهُمَا صِفَتَانِ لِاثْنَانِ

واختلفوا فِي هَذَيْنِ الِاثْنَيْنِ فَقِيلَ هُمَا الشَّاهِدَانِ اللَّذَانِ يَشْهَدَانِ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُوصِي وَقِيلَ هُمَا الْوَصِيَّانِ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمَا وَلِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ

وَالشَّاهِدُ لَا يَلْزَمُهُ يَمِينٌ وَجَعَلَ الْوَصِيَّ اثْنَيْنِ تَأْكِيدًا فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ بِمَعْنَى الْحُضُورِ كَقَوْلِكَ شَهِدْتَ وَصِيَّةَ فُلَانٍ بِمَعْنَى حَضَرْتَ أَوْ آخَرَانِ كَائِنَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ وَهُمُ الْكُفَّارُ وَقِيلَ مِنْ غَيْرِ عَشِيرَتِكُمْ وَقَبِيلَتِكُمْ وَهُمْ مُسْلِمُونَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَنْسَبُ بِسِيَاقِ الْآيَةِ وَبِهِ قَالَ أبو موسى الأشعري وبن عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا فَيَكُونُ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ فِي خُصُوصِ الْوَصَايَا كَمَا يُفِيدُهُ النَّظْمُ الْقُرْآنِيُّ

وَيَشْهَدُ لَهُ السَّبَبُ لِلنُّزُولِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُوصِي مَنْ يَشْهَدُ عَلَى وَصِيَّتِهِ فَلْيَشْهَدْ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ فَإِذَا قَدِمَا وَأَدَّيَا الشَّهَادَةَ عَلَى وَصِيَّتِهِ حَلَفَا بَعْدَ الصَّلَاةِ أَنَّهُمَا مَا كَذَبَا وَلَا بَدَّلَا وَأَنَّ مَا شهد بِهِ حَقٌّ فَيُحْكَمُ حِينَئِذٍ بِشَهَادَتِهِمَا فَإِنْ عُثِرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا كَذَبَا أَوْ خَانَا حَلَفَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمُوصِي وَغَرِمَ الشَّاهِدَانِ الْكَافِرَانِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِمَا مِنْ خِيَانَةٍ أَوْ نَحْوِهَا هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ

وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ والنخعي وشريح وعبيدة السلماني وبن سِيرِينَ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَذَهَبَ إِلَى الثَّانِي أَعْنِي تَفْسِيرَ ضَمِيرِ مِنْكُمْ بِالْقَرَابَةِ أَوِ الْعَشِيرَةِ

وَتَفْسِيرِ غَيْرِكُمْ بِالْأَجَانِبِ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ من الشهداء وقوله وأشهدوا ذوى عدل منكم وَالْكُفَّارُ لَيْسُوا بِمَرْضِيِّينَ وَلَا عُدُولٍ وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ فَقَالُوا الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَهُوَ الْحَقُّ لِعَدَمِ وُجُودِ دَلِيلٍ صَحِيحٍ عَلَى النَّسْخِ

وأما قَوْلُهُ تَعَالَى ممن ترضون من الشهداء وقوله وأشهدوا ذوى عدل منكم فَهُمَا عَامَّانِ فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ بِحَالَةِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ وَبِحَالَةِ عَدَمِ الشُّهُودِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ خاص وعام إن أنتم ضربتم أَيْ سَافَرْتُمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ قَيْدٌ فِي قَوْلِهِ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ فَقَطْ

وَالْمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَعَذَّرَ كَمَا فِي السَّفَرِ فَمِنْ غَيْرِكُمْ وَقِيلَ هُوَ قَيْدٌ فِي أَصْلِ شَهَادَةٍ وَذَلِكَ أَنْسَبُ عَلَى تَقْدِيرِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ

ص: 340

بِاتِّخَاذِ الْوَصِيَّيْنِ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ يَعْنِي فَنَزَلَ بِكُمْ أَسْبَابُ الْمَوْتِ فَأَوْصَيْتُمْ إِلَيْهِمَا ودفعتم ما لكم إليها ثُمَّ ذَهَبَا إِلَى وَرَثَتِكُمْ بِوَصِيَّتِكُمْ وَبِمَا تَرَكْتُمْ فَارْتَابُوا فِي أَمْرِهِمَا وَادَّعَوْا عَلَيْهِمَا خِيَانَةً فَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّكُمْ تَحْبِسُونَهُمَا أَيْ تُوقِفُونَهُمَا وَهُوَ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ أَوْ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أَيْ وَآخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ مَحْبُوسَانِ وَالشَّرْطُ بِجَوَابِهِ الْمَحْذُوفِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَآخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ أَيْ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ

وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ بِالتَّحْلِيفِ بَعْدَهَا فَالتَّقْيِيدُ بِالْمَعْرُوفِ الْمَشْهُورِ أَغْنَى عَنِ التَّقْيِيدِ بِاللَّفْظِ مَعَ مَا عِنْدَ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ مِنْ تَعْظِيمِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَذَلِكَ لِقُرْبِهِ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَيُقْسِمَانِ أَيِ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْوَصِيَّةِ أَوِ الْوَصِيَّانِ بِاَللَّهِ إن ارتبتم أَيْ إِنْ شَكَكْتُمْ فِي شَأْنِهِمَا وَاتَّهَمْتُمُوهُمَا فَحَلِّفُوهُمَا وَبِهَذَا يَحْتَجُّ مَنْ يَقُولُ الْآيَةُ نَازِلَةٌ فِي إِشْهَادِ الْكُفَّارِ لِأَنَّ تَحْلِيفَ الشَّاهِدِ الْمُسْلِمِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ

وَمَنْ قَالَ الْآيَةُ نَازِلَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ قَالَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَقَوْلُهُ إِنِ ارْتَبْتُمْ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ يُقْسِمَانِ وَجَوَابُهُ وَهُوَ لَا نَشْتَرِي بِهِ أَيْ بِالْقَسَمِ ثَمَنًا أَيْ لَا نَعْتَاضُ عَنْهُ بِعِوَضٍ قَلِيلٍ مِنَ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ الزَّائِلَةِ ولو كان ذا قربى أَيْ وَلَوْ كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ أَوِ الْمُقْسَمُ لَهُ ذَا قَرَابَةٍ مِنَّا وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله إِنَّمَا أَضَافَ الشَّهَادَةَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِإِقَامَتِهَا وَنَهَى عَنْ كِتْمَانِهَا إِنَّا إِذًا لمن الاثمين يَعْنِي إِنْ كَتَمْنَا الشَّهَادَةَ أَوْ خُنَّا فِيهَا فَإِنْ عُثِرَ يُقَالُ عُثِرَ عَلَى كَذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ وَيُقَالُ عَثَرْتَ مِنْهُ عَلَى خِيَانَةٍ أَيِ اطَّلَعْتَ وَأَعْثَرْتَ غَيْرِي عَلَيْهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وكذلك أعثرنا عليهم وَأَصْلُ الْعُثُورِ الْوُقُوعُ وَالسُّقُوطُ عَلَى الشَّيْءِ وَقِيلَ الْهُجُومُ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَهْجُمْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَكُلُّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى أَمْرٍ كَانَ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ قِيلَ لَهُ قَدْ عَثَرَ عَلَيْهِ

وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا اطَّلَعَ وَظَهَرَ بَعْدَ التَّحْلِيفِ عَلَى أَنَّهُمَا أَيِ الشَّاهِدَيْنِ أَوِ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الِاثْنَيْنِ وَصِيَّانِ أَوْ شَاهِدَانِ عَلَى الْوَصِيَّةِ اسْتَحَقَّا إِثْمًا أَيْ فَعَلَا مَا يُوجِبُهُ مِنْ خِيَانَةٍ أَوْ كَذِبٍ فِي الشَّهَادَةِ بِأَنْ وُجِدَ عِنْدَهُمَا مَثَلًا مَا اتُّهِمَا بِهِ وَادَّعَيَا أَنَّهُمَا ابْتَاعَاهُ مِنَ الْمَيِّتِ أَوْ أَوْصَى لَهُمَا بِهِ فَآخَرَانِ أَيْ فَشَاهِدَانِ آخَرَانِ أَوْ فَحَالِفَانِ آخَرَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا أي مقام الذين عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَيَشْهَدَانِ أَوْ يحلفان على ما هو الحق من الذين استحق عليهم على البناء للفاعل قراءة علي وبن عَبَّاسٍ وَأُبَيٍّ رضي الله عنهم أَيْ مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْأَوْلَيَانِ مِنْ بَيْنِهِمْ أَيِ الْأَقْرَبَانِ إِلَى الْمَيِّتِ الْوَارِثَانِ لَهُ الْأَحَقَّانِ بِالشَّهَادَةِ وَمَفْعُولُ اسْتَحَقَّ مَحْذُوفٌ أَيِ اسْتَحَقَّا عَلَيْهِمْ أَنَّ يُجَرِّدُوهُمَا لِلْقِيَامِ بِالشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا حَقُّهُمَا وَيُظْهِرُوا بِهَا كَذِبَ الْكَاذِبِينَ وَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ الْآخَرَانِ الْقَائِمَانِ مَقَامَ الْأَوَّلَيْنِ عَلَى وَضْعِ الْمُظْهَرِ مقام المضمر وقرىء عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَيْ مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الْإِثْمُ أَيْ جُنِيَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَهْلُ الْمَيِّتِ وَعَشِيرَتُهُ

فَالْأَوْلَيَانِ مَرْفُوعٌ عَلَى أنه خبر لمبتدأ محذوف كأنه قيل ومنهما فَقِيلَ الْأَوْلَيَانِ أَوْ هُوَ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَقُومَانِ أَوْ مِنْ آخَرَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ

ص: 341

أي فيحلفان عَلَى خِيَانَةِ الشَّاهِدَيْنِ وَيَقُولَانِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شهادتهما يَعْنِي أَيْمَانُنَا أَحَقُّ وَأَصْدَقُ مِنْ أَيْمَانِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا أَيْ مَا تَجَاوَزْنَا الْحَقَّ فِي أَيْمَانِنَا وَقَوْلِنَا إِنَّ شَهَادَتَنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَةِ هَذَيْنِ الوصيين الخائنين إنا إذا لمن الظالمين أَيْ إِنْ حَلَفْنَا كَاذِبَيْنِ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يأتوا بالشهادة على وجهها يَعْنِي ذَلِكَ الَّذِي حَكَمْنَا بِهِ مِنْ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ أَقْرَبُ أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا يَعْنِي أَنْ يَأْتِيَ الْوَصِيَّانِ وَسَائِرُ النَّاسِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا الَّذِي تَحَمَّلُوهَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا خِيَانَةٍ أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أيمانهم أَيْ وَأَقْرَبُ أَنْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ الْأَيمَانُ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ فَيَحْلِفُوا عَلَى خِيَانَتِهِمْ وَكَذِبِهِمْ فَيَفْتَضِحُوا أَوْ يَغْرَمُوا فَرُبَّمَا لَا يَحْلِفُونَ كَاذِبِينَ إِذَا خَافُوا هَذَا الْحُكْمَ وَاتَّقُوا اللَّهَ بِتَرْكِ الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ وَاسْمَعُوا مَا تُؤْمَرُونَ بِهِ سَمَاعَ قبول والله لا يهدي القوم الفاسقين الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ إِلَى سَبِيلِ الْخَيْرِ (فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَرَجُلٌ آخَرُ) سَمَّى مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ فِي تَفْسِيرِهِ الْآخَرَ الْمُطَّلِبَ بْنَ أَبِي وَدَاعَةَ وَهُوَ سَهْمِيٌّ أَيْضًا

قَوْلُهُ (هَذَا حديث غريب) وأخرجه بن أبي حاتم وبن جَرِيرٍ (وَلَا نَعْرِفُ لِسَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ الْمَدِينِيِّ رِوَايَةً عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ) مَقْصُودُ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ أَبَا النَّضْرِ الَّذِي وَقَعَ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ فَإِنَّ رِوَايَتَهُ عَنْ بَاذَانَ أَبِي صَالِحٍ مَعْرُوفَةٌ وَلَيْسَ أَبُو النَّضْرِ هَذَا سَالِمًا أَبَا النَّضْرِ الْمَدِينِيَّ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ رِوَايَةٌ عَنْ بَاذَانَ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هانئ

قوله (عن بن أَبِي زَائِدَةَ) هُوَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ) الطَّوِيلِ الْكُوفِيِّ ثِقَةٌ من السادسة

ص: 342

قَوْلُهُ (خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ) هُوَ بُدَيْلُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ (مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ) يَعْنِي قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ هُوَ كَمَا تَقَدَّمَ وَعَلَى هَذَا فَهُوَ من مرسل الصحابي لأن بن عَبَّاسٍ لَمْ يَحْضُرْ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَفِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ رَوَاهَا عَنْ تَمِيمٍ نَفْسِهِ

وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ وَقَعَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ تَأَخَّرَتِ الْمُحَاكَمَةُ حَتَّى أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ فَإِنَّ فِي الْقِصَّةِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْجَمِيعَ تَحَاكَمُوا إِلَى النبي فَلَعَلَّهَا كَانَتْ بِمَكَّةَ سَنَةَ الْفَتْحِ (مُخَوَّصًا) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ وَفِي آخره صاد مهملة

قال بن الْجَوْزِيِّ صِيغَتْ فِيهِ صَفَائِحُ مِثْلُ الْخُوصِ مِنَ الذَّهَبِ مَعْنَاهُ مَنْقُوشًا فِيهِ خُطُوطٌ دِقَاقٌ طِوَالٌ كَالْخُوصِ وَهُوَ وَرَقُ النَّخْلِ (مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ) أَيْ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ الْمَذْكُورِ الَّذِي مَاتَ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْقَضَايَا وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فَقَالَ وَقَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يعني بن الْمَدِينِيِّ فَذَكَرَهُ قَالَ الْحَافِظُ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ يَعْنِي الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ فَقَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي مَا قَرَّرْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ أَنَّهُ يُعَبِّرُ بِقَوْلِهِ وَقَالَ لِي فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي سَمِعَهَا لَكِنْ حَيْثُ يَكُونُ فِي إِسْنَادِهَا عِنْدَهُ نَظَرٌ أَوْ حَيْثُ تَكُونُ مَوْقُوفَةً وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَبِّرُ بِهَا فِيمَا أَخَذَهُ فِي الْمُذَاكَرَةِ أَوْ بِالْمُنَاوَلَةِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ

قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ) بِفَتْحِ قَافٍ وَسُكُونِ زَايٍ وَفَتْحِهَا وَبِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ بن عُبَيْدٍ الْهَاشِمِيُّ أَبُو عَلِيٍّ الْبَصْرِيُّ صَدُوقٌ مِنْ العاشرة (أخبرنا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ الْبَصْرِيُّ الْبَزَّازُ أَبُو مُحَمَّدٍ) وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ ثِقَةٌ مِنَ التَّاسِعَةِ (حَدَّثَنَا سعيد) هو بن أَبِي عَرُوبَةَ (عَنْ خِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو

ص: 343

بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ ثِقَةٌ وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ عَمَّارٍ

قَوْلُهُ (أُنْزِلَتِ الْمَائِدَةُ) قَالَ الرَّاغِبُ الْمَائِدَةُ الطَّبَقُ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَيُقَالُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَائِدَةٌ أَيْ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمُشْتَرَكَةِ أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا مَجَازًا بِاعْتِبَارِ الْمُجَاوَرَةِ أَوْ بِذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِّ (خُبْزًا وَلَحْمًا) تَمْيِيزٌ (وَأُمِرُوا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (وَلَا يَدَّخِرُوا) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ الْمُبَدَّلَةِ مِنَ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ مِنَ الذَّخِيرَةِ وَهُوَ التَّخْبِيَةُ (لِغَدٍ) أَيْ لِيَوْمٍ عَقِبَ يَوْمِ نُزُولِ الْمَائِدَةِ أَوْ لِوَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ بَعْدَهُ (فَمُسِخُوا) أَيْ فَغَيَّرَ اللَّهُ صُوَرَهُمُ الْإِنْسَانِيَّةَ بَعْدَ تَغْيِيرِ سِيرَتِهِمُ الْإِنْسِيَّةِ (قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ) مَنْصُوبَانِ عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْقَامُوسِ حَيْثُ قَالَ مَسَخَهُ كَمَنَعَهُ حَوَّلَ صُورَتَهُ إِلَى أُخْرَى أَقْبَحَ وَمَسَخَهُ اللَّهُ قِرْدًا فَهُوَ مِسْخٌ وَمَسِيخٌ

وَقَالَ الطِّيبِيُّ حَالَانِ مُقَدَّرَتَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بيوتا قِيلَ الظَّاهِرُ أَنَّ شَبَابَهُمْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَشُيُوخَهُمْ خنازير

قوله (هذا حديث غريب) وأخرجه بن أبي حاتم وبن جَرِيرٍ (رَوَاهُ أَبُو عَاصِمٍ) اسْمُهُ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ النَّبِيلُ

تَنْبِيهٌ ذكر التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ عَمَّارٍ الْمَذْكُورَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العالمين

قال الحافظ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ ذِكْرِ عِدَّةِ آثَارٍ عن بن عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ رضي الله عنهم مَا لَفْظُهُ وَكُلُّ هَذِهِ الْآثَارِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَائِدَةَ نزلت على بني إسرائيل أيام عيسى بن مَرْيَمَ إِجَابَةً مِنَ اللَّهِ لِدَعْوَتِهِ وَكَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ مِنَ الْقُرْآنِ العظيم

قال الله إني منزلها عليكم الاية

ص: 344

وقال قَائِلُونَ إِنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ فَرَوَى لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ (أنزل علينا مائدة من السماء) قَالَ هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ وَلَمْ يَنْزِلْ شيء رواه بن أبي حاتم وبن جرير

وقال حدثنا بن الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَائِدَةِ إِنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ وَهَذِهِ أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ إِلَى مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ

وَقَدْ يَتَقَوَّى ذَلِكَ بِأَنَّ خَبَرَ الْمَائِدَةِ لَا تَعْرِفُهُ النَّصَارَى وَلَيْسَ هُوَ فِي كِتَابِهِمْ وَلَوْ كَانَتْ قَدْ نَزَلَتْ لَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَكَانَ يَكُونُ مَوْجُودًا فِي كِتَابِهِمْ مُتَوَاتِرًا وَلَا أَقَلَّ مِنَ الْآحَادِ وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أنها نزلت وهو الذي اختاره بن جَرِيرٍ قَالَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ نُزُولَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أعذبه أحدا من العالمين قَالَ وَوَعْدُ اللَّهِ وَوَعِيدُهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَهَذَا الْقَوْلُ واللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ الصَّوَابُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَار وَالْآثَارُ عَنِ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ انْتَهَى كَلَامُهُ بِاخْتِصَارٍ يَسِيرٍ

قَوْلُهُ (يُلَقَّى عِيسَى حُجَّتَهُ) أَيْ يُعَلَّمُ وَيُنَبَّهُ عَلَيْهَا وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يا عيسى بن مَرْيَمَ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي وَقْتِ هَذَا الْقَوْلِ فَقَالَ السُّدِّيُّ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى هَذَا الْقَوْلُ حِينَ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّ حَرْفَ إِذْ يَكُونُ لِلْمَاضِي

وَقَالَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّمَا يَقُولُ اللَّهُ لَهُ هَذَا الْقَوْلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وَذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ هَذَا يَوْمُ ينفع الصادقين صدقهم وَذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ

وَأُجِيبَ عَنْ حَرْفِ إِذْ بِأَنَّهَا قَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى إِذَا كَقَوْلِهِ لَوْ ترى إذ فزعوا يَعْنِي إِذَا فُزِعُوا وَقَالَ الرَّاجِزُ ثُمَّ جَزَاكَ اللَّهُ عَنِّي إِذْ جَزَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي السماواتَ الْعُلَى أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلهين من دون الله اسْتِفْهَامٌ وَمَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ لِمَنِ ادَّعَى ذَلِكَ عَلَى عِيسَى عليه السلام مِنَ النَّصَارَى لِأَنَّ عِيسَى عليه السلام لَمْ يَقُلْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فَإِنْ قُلْتَ إِذَا كَانَ عِيسَى عليه السلام لَمْ يَقُلْهَا فَمَا وَجْهُ هَذَا السُّؤَالِ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ قُلْتُ وَجْهُ هَذَا السُّؤَالِ تَثْبِيتُ الْحُجَّةِ عَلَى قَوْمِهِ وَإِكْذَابٌ لَهُمْ فِي ادِّعَائِهِمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ أَمَرَهُمْ به فهو كما يقول القائل الاخر أَفَعَلْتَ كَذَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ وَإِنَّمَا أَرَادَ تَعْظِيمَ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَنَفَى عَنْ نَفْسِهِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَقَالَ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ربي وربكم فَاعْتَرَفَ بِالْعُبُودِيَّةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِإِلَهٍ كَمَا زَعَمَتْ وَادَّعَتْ فِيهِ النَّصَارَى

ص: 345

(قال أبو هريرة عن النبي) أَيْ قَالَ رِوَايَةً عَنْهُ صلى الله عليه وسلم (فَلَقَّاهُ اللَّهُ أَيْ عَلَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَكَ أَيْ تَنْزِيهًا لَكَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِكَ مِنَ الشَّرِيكِ وَغَيْرِهِ) مَا يَكُونُ لِي أَيْ مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لي بحق أَيْ أَنْ أَقُولَ قَوْلًا لَا يَحِقُّ لِي أَنْ أَقُولَهُ (الْآيَةَ كُلَّهَا) بِالنَّصْبِ أَيْ أَتَمَّهَا كُلَّهَا وَبَقِيَّةُ الْآيَةِ مَعَ تَفْسِيرِهَا هَكَذَا إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ أَيْ إِنْ صَحَّ أَنِّي قُلْتُهُ فِيمَا مَضَى فَقَدْ عَلِمْتَهُ

وَالْمَعْنَى أَنِّي لَا أَحْتَاجُ إِلَى الِاعْتِذَارِ لِأَنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَقُلْهُ وَلَوْ قُلْتُهُ عَلِمْتَهُ لِأَنَّكَ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا في نفسك

أَيْ تَعْلَمُ مَا أُخْفِيه فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا تُخْفِيهِ مِنْ مَعْلُومَاتِكَ إِنَّكَ أَنْتَ علام الغيوب تَقْرِيرٌ لِلْجُمْلَتَيْنِ مَعًا لِأَنَّ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنْ جُمْلَةِ الْغُيُوبِ وَلِأَنَّ مَا يَعْلَمُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ لَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ عِلْمُ أَحَدٍ

قوله (هذا حديث حسن صحيح) وأخرجه بن أَبِي حَاتِمٍ

قَوْلُهُ (عَنْ حُيَيٍّ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَيَاءَيْنِ مِنْ تَحْتُ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ هُوَ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنُ شُرَيْحٍ الْمَعَافِرِيُّ الْمِصْرِيُّ صَدُوقٌ يَهِمُ مِنَ السَّادِسَةِ

قَوْلُهُ (آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَالْفَتْحِ) قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ يَعْنِي إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَيَدُلُّ عَلَى ذلك قول بن عَبَّاسٍ الْآتِي آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ إِذَا جَاءَ نصر الله والفتح

فَإِنْ قُلْتَ مَا وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو هَذَا وَبَيْنَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ آخر آية نزلت يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ

قُلْتُ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ يُجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ أَجَابَ بِمَا عِنْدَهُ

وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي الِانْتِصَارِ هَذِهِ الْأَقْوَالُ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مرفوع إلى النبي وَكُلٌّ قَالَهُ بِضَرْبٍ مِنَ الِاجْتِهَادِ وَغَلَبَةِ الظَّنِّ قَوْلُهُ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وقد روي عن بن عَبَّاسٍ أَنَّهُ

قَالَ إِلَخْ) وَصَلَهُ مُسْلِمٌ

بَاب وَمِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا سِتَّ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ هِيَ وَمَا

ص: 346

قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِلَى آخِرِ ثَلَاثِ آيَاتٍ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ربكم إِلَى آخِرِ ثَلَاثِ آيَاتٌ وَهِيَ مِائَةٌ وَخَمْسٌ أَوْ سِتٌّ وَسِتُّونَ آيَةً

قَوْلُهُ (عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ) الْأَسَدِيِّ ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ

قَوْلُهُ (إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ بَلْ نُكَذِّبُ بِمَا جِئْتَ بِهِ) أَيْ لَا نُكَذِّبُكَ لِأَنَّكَ صَادِقٌ وَلَكِنْ نَحْسُدُكَ فَبِسَبَبِهِ نَجْحَدُ بِآيَاتِ اللَّهِ كَذَا فِي الْمَجْمَعِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَقَبْلَهُ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْجَلَالَيْنِ قَدْ لِلتَّحْقِيقِ نَعْلَمُ إِنَّهُ أَيِ الشَّأْنُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ لَكَ مِنَ التَّكْذِيبِ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ فِي السِّرِّ لِعِلْمِهِمْ أَنَّكَ صَادِقٌ وَفِي قِرَاءَةٍ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ لَا يَنْسُبُونَكَ إِلَى الْكَذِبِ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ وَضَعَهُ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ بِآيَاتِ اللَّهِ أَيِ الْقُرْآنِ يَجْحَدُونَ يَكْذِبُونَ قَوْلُهُ وَهَذَا أَصَحُّ أَيِ الْإِسْنَادِ الثَّانِي بِتَرْكِ ذِكْرِ عَلِيٍّ أَصَحُّ مِنَ الْإِسْنَادِ

الْأَوَّلِ

وَحَدِيثُ عَلِيٍّ هَذَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا

وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ

قَوْلُهُ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَيْ مِنَ السَّمَاءِ كَالْحِجَارَةِ وَالصَّيْحَةِ أَوْ مِنْ تَحْتِ

ص: 347

أَرْجُلِكُمْ كَالْخَسْفِ وَالرَّجْفَةِ

(أَعُوذُ بِوَجْهِكَ) وَفِي رِوَايَةٍ أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ

فَلَمَّا نَزَلَتْ يُلْبِسَكُمْ شِيَعًا أَيْ يَخْلِطَكُمْ فِرَقًا مُخْتَلِفَةَ الْأَهْوَاءِ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ أَيْ بِالْقِتَالِ (هَاتَانِ) أَيْ خَصْلَةُ الِالْتِبَاسِ وَخَصْلَةُ إِذَاقَةِ بَعْضِهِمْ بَأْسَ بَعْضٍ (أَهْوَنُ) مِنْ بَعْثِ الْعَذَابِ مِنَ الْفَوْقِ أَوْ مِنَ التَّحْتِ (أَوْ هَاتَانِ أَيْسَرُ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ والنسائي وبن حبان وبن جرير وبن مردويه

قوله (عن راشد بن سعد) المقرئ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ ثُمَّ يَاءُ النَّسَبِ الْحِمْصِيِّ ثِقَةٌ كَثِيرُ الْإِرْسَالِ مِنَ الثَّالِثَةِ

قَوْلُهُ (أَمَا) بِالتَّخْفِيفِ حَرْفُ التَّنْبِيهِ (إِنَّهَا) أَيِ الْخَصْلَةُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ بَعْثِ الْعَذَابِ مِنَ الْفَوْقِ أَوِ التَّحْتِ (كَائِنَةٌ) وَاقِعَةٌ فِيمَا بَعْدُ (وَلَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا) أَيْ عَاقِبَةُ مَا فِيهَا مِنَ الْوَعِيدِ (بَعْدُ) بِالْبِنَاءِ عَلَى الضَّمِّ يَعْنِي إِلَى الْآنَ

فإن قِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الرَّجْمَ وَالْخَسْفَ كَائِنَانِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَحَدِيثُ جَابِرٍ

ص: 348

الْمَذْكُورُ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُمَا لَا يَقَعَانِ لِأَنَّ النبي استعاذ منهما

وقد روى بن مردويه عن بن عباس عن النبي قَالَ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَرْفَعَ عَنْ أُمَّتِي أربعا فرفع عنهم ثنتين وَأَبَى أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ اثْنَتَيْنِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ الرَّجْمَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْخَسْفَ مِنَ الْأَرْضِ وَأَنْ لَا يُلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَلَا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْخَسْفَ وَالرَّجْمَ وَأَبَى أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ الْأُخْرَيَيْنِ فَمَا وَجْهُ التَّوْفِيقِ

يُقَالُ إِنَّ الْإِعَاذَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ مُقَيَّدَةٌ بِزَمَانٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ وُجُودُ الصَّحَابَةِ وَالْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَيَجُوزُ وُقُوعُ ذَلِكَ فِيهِمْ وَيُحْتَمَلُ فِي طَرِيقِ الْجَمْعِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ لِجَمِيعِهِمْ وَإِنْ وَقَعَ لِأَفْرَادٍ مِنْهُمْ غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِزَمَانٍ كَمَا فِي خَصْلَةِ الْعَدُوِّ الْكَافِرِ وَالسُّنَّةِ الْعَامَّةِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ رَفَعَهُ فِي حَدِيثِ إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زَوَى لِي مِنْهَا الْحَدِيثَ وَفِيهِ وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِ أَنْفُسِهِمْ وَأَنْ لَا يُلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتَ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا

وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادٍ نَحْوَهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ فَلَمَّا كَانَ تَسْلِيطُ الْعَدُوِّ الْكَافِرِ قَدْ يَقَعُ عَلَى بَعْضِ الْمُؤْمِنَينَ لَكِنَّهُ لَا يَقَعُ عُمُومًا فَكَذَلِكَ الْخَسْفُ وَالْقَذْفُ هَذَا تَلْخِيصُ مَا فِي الْفَتْحِ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ

قَوْلُهُ (عَنْ إبراهيم) هو النخعي (عن علقمة) هو بن قيس (عن عبد الله) هو بن مَسْعُودٍ

قَوْلُهُ (لَمَّا نَزَلَتْ) بِالتَّأْنِيثِ لِكَوْنِ مَا بَعْدَهُ مِنْ فَاعِلِهِ آيَةٌ وَالتَّقْدِيرُ لَمَّا أُنْزِلَتْ آيَةُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ لَمْ يَخْلِطُوا تَقُولُ لَبَسْتُ الْأَمْرَ بِالتَّخْفِيفِ أَلْبِسُهُ بِالْفَتْحِ فِي الْمَاضِي وَالْكَسْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أي خالطته

وَتَقُولُ لَبِسْتُ الثَّوْبَ أَلْبَسُهُ بِالْكَسْرِ فِي الْمَاضِي وَالْفَتْحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَصْدَرُ مِنَ الْأَوَّلِ لَبْسٌ بِفَتْحِ اللَّامِ وَمِنَ الثَّانِي لُبْسٌ بِالضَّمِّ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أَيْ لَمْ يَخْلِطُوهُ

ص: 349

بِالشِّرْكِ

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّيْمِيُّ فِي شَرْحِهِ خَلْطُ الْإِيمَانِ بِالشِّرْكِ لَا يُتَصَوَّرُ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُمُ الصِّفَتَانِ كُفْرٌ مُتَأَخِّرٌ عَنْ إِيمَانٍ مُتَقَدِّمٍ أَيْ لَمْ يَرْتَدُّوا أَوْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُمْ لَمْ يَجْمَعُوا بَيْنَهُمَا ظاهرا أو باطنا أي لَمْ يُنَافِقُوا وَهَذَا أَوْجَهُ كَذَا فِي الْفَتْحِ (شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ) أَيِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ مُطْلَقُ الْمَعَاصِي كَمَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ لَا سِيَّمَا مِنَ التَّنْكِيرِ الَّذِي يُفِيدُ الْعُمُومَ (وَأَيُّنَا) كَلَامٌ إِضَافِيٌّ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ (لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ) خبره (قال) أي رسول الله (لَيْسَ ذَلِكَ) أَيْ لَيْسَ مَعْنَاهُ كَمَا فَهِمْتُمْ (إِنَّمَا هُوَ) أَيِ الظُّلْمُ (الشِّرْكُ) فَفِي التَّنْكِيرِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَيُّ نَوْعٍ مِنَ الْكُفْرِ أَوْ أُرِيدَ بِهِ التَّعْظِيمُ أَيْ بِظُلْمٍ عَظِيمٍ (أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ إِلَخْ) ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي لُقْمَانَ كَانَتْ مَعْلُومَةً عِنْدَهُمْ وَلِذَلِكَ نَبَّهَهُمْ عَلَيْهَا وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل إن الشرك لظلم عظيم

قَالَ الْحَافِظُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا وَقَعَ فِي الْحَالِ فَتَلَاهَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ نَبَّهَهُمْ فَتَلْتَئِمُ الروايتان

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ

قَوْلُهُ (فَقَالَتْ يَا أَبَا عَائِشَةَ) هُوَ كُنْيَةُ مَسْرُوقٍ (ثَلَاثٌ) أَيْ ثَلَاثُ كَلِمَاتٍ (فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَيِ الْكَذِبَ يُقَالُ فَرَى الشَّيْءَ يَفْرِيه فَرِيًّا وَافْتَرَاهُ يَفْتَرِيه افْتِرَاءً إِذَا اخْتَلَقَهُ وَجَمْعُ الْفِرْيَةِ فِرًى (مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ أَيْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ) هَذَا هو مذهب عائشة أن رسول الله لَمْ يَرَ اللَّهَ سبحانه وتعالى لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ

قَالَ الْحَافِظُ قَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي رُؤْيَةِ النبي ربه فذهبت عائشة وبن مَسْعُودٍ إِلَى إِنْكَارِهَا وَاخْتُلِفَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى إِثْبَاتِهَا وَحَكَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ حَلَفَ أَنَّ محمدا رأى ربه

وأخرج بن خُزَيْمَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ إِثْبَاتَهَا وَكَانَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ إِذَا ذَكَرَ لَهُ إِنْكَارَ عَائِشَةَ وبه قال سائر أصحاب بن عَبَّاسٍ وَجَزَمَ بِهِ كَعْبُ الْأَخْبَارِ وَالزُّهْرِيُّ وَصَاحِبُهُ

ص: 350

مَعْمَرٌ وَآخَرُونَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَغَالِبُ أَتْبَاعِهِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا

هَلْ رَآهُ بِعَيْنِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ وَعَنْ أَحْمَدَ كَالْقَوْلَيْنِ

قَالَ الْحَافِظُ جَاءَتْ عَنِ بن عَبَّاسٍ أَخْبَارٌ مُطْلَقَةٌ وَأُخْرَى مُقَيَّدَةٌ فَيَجِبُ حَمْلُ مُطْلَقِهَا عَلَى مُقَيَّدِهَا فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ طريق عكرمة عن بن عَبَّاسٍ قَالَ أَتَعْجَبُونَ أَنْ تَكُونَ الْخِلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ والكلام لموسى والرؤية لمحمد

وأخرجه بن خُزَيْمَةَ بِلَفْظِ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى إِبْرَاهِيمَ بِالْخِلَّةِ الحديث

وأخرج بن إِسْحَاقَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سلمة أن بن عمر أرسل إلى بن عَبَّاسٍ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ نَعَمْ

وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طريق أبي العالية عن بن عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ ما رأى ولقد رآه نزلة أخرى قَالَ رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ وَلَهُ مِنْ طريق عطاء عن بن عَبَّاسٍ قَالَ رَآهُ بِقَلْبِهِ

وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ ما أخرجه بن مردويه من طريق عطاء أيضا عن بن عباس قال لم يره رسول الله بعينه إنما رآه بقلبه

وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات بن عَبَّاسٍ وَنَفْيِ عَائِشَةَ بِأَنْ يُحْمَلَ نَفْيُهَا عَلَى رُؤْيَةِ الْبَصَرِ وَإِثْبَاتُهُ عَلَى رُؤْيَةِ الْقَلْبِ ثُمَّ الْمُرَادُ بِرُؤْيَةِ الْفُؤَادِ رُؤْيَةُ الْقَلْبِ لَا مُجَرَّدُ حصول العلم لأنه كَانَ عَالِمًا بِاَللَّهِ عَلَى الدَّوَامِ بَلْ مُرَادُ مَنْ أَثْبَتَ لَهُ أَنَّهُ رَآهُ بِقَلْبِهِ أَنَّ الرُّؤْيَةَ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ خُلِقَتْ فِي قَلْبِهِ كَمَا يُخْلَقُ الرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ لِغَيْرِهِ وَالرُّؤْيَةُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا شَيْءٌ مَخْصُوصٌ عَقْلًا وَلَوْ جَرَتِ العادة بخلقها في العين

وروى بن خُزَيْمَةَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ

وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذر أنه سأل النبي عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ وَلِأَحْمَدَ عَنْهُ قَالَ رَأَيْتَ نُورًا وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ عَنْهُ قَالَ رَآهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ

وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ مُرَادُ أَبِي ذَرٍّ بِذِكْرِهِ النُّورَ أَيْ أَنَّ النُّورَ حَالَ بَيْنَ رُؤْيَتِهِ لَهُ بِبَصَرِهِ وَقَدْ رَجَّحَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ قَوْلَ الْوَقْفِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَعَزَاهُ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ وَقَوَّاهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَابِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ

وَغَايَةُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ لِلطَّائِفَتَيْنِ ظَوَاهِرُ مُتَعَارِضَةٌ قَابِلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ قَالَ وَلَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْعَمَلِيَّاتِ فَيُكْتَفَى فِيهَا بِالْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الْمُعْتَقَدَاتِ فَلَا يُكْتَفَى فِيهَا إِلَّا بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ وجنح بن خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِلَى تَرْجِيحِ الْإِثْبَاتِ وَأَطْنَبَ فِي الِاسْتِدْلَالِ لَهُ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ وحمل ما ورد عن بن عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَا وَقَعَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِقَلْبِهِ وَفِيمَا أَوْرَدْتُهُ مِنْ ذَلِكَ مُقْنِعٌ وَمِمَّنْ أثبت الرؤية لنبينا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَرَوَى الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عن المروزي

ص: 351

قلتَ لِأَحْمَدَ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يُدْفَعُ قولها بقول النبي رأيت ربي قول النبي

أَكْبَرُ مِنْ قَوْلِهَا

وَقَدْ أَنْكَرَ صَاحِبُ الْهَدْيِ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ قَالَ وَإِنَّمَا قَالَ مَرَّةً رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ وَقَالَ مَرَّةً بِفُؤَادِهِ وَحَكَى عَنْهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ وَهَذَا مِنْ تَصَرُّفِ الْحَاكِي فَإِنَّ نُصُوصَهُ مَوْجُودَةٌ انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ

واللَّهُ يَقُولُ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا أَنَّ اللَّهَ عز وجل نَفَى أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ وَعَدَمُ الْإِدْرَاكِ يَقْتَضِي نَفْيَ الرُّؤْيَةِ وَأَجَابَ مُثْبِتُو الرُّؤْيَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِدْرَاكِ الْإِحَاطَةُ وَهُمْ يَقُولُونَ بِهَذَا أَيْضًا وَعَدَمُ الْإِحَاطَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ

وَقَالَ النَّوَوِيُّ لَمْ تَنْفِ عَائِشَةُ الرُّؤْيَةَ بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ وَلَوْ كَانَ مَعَهَا فِيهِ حَدِيثٌ لَذَكَرَتْهُ وَإِنَّمَا اعْتَمَدَتِ الِاسْتِنْبَاطَ عَلَى مَا ذَكَرَتْ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ وَقَدْ خَالَفَهَا غَيْرُهَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالصَّحَابِيُّ إِذَا قَالَ قَوْلًا وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْقَوْلُ حُجَّةً اتِّفَاقًا

قال الْحَافِظُ جَزْمُ النَّوَوِيِّ بِأَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَنْفِ الرُّؤْيَةَ بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ عَجِيبٌ فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ الَّذِي شَرَحَهُ الشَّيْخُ فَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ مَسْرُوقٌ وَكُنْتَ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى فَقَالَتْ أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ

سَأَلَ رسول الله عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ

وَأَخْرَجَهُ بن مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ دَاوُدَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَقَالَتْ أَنَا أَوَّلُ مَنْ سَأَلَ رَسُولَ الله عَنْ هَذَا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ فَقَالَ لَا إِنَّمَا رَأَيْتُ جِبْرِيلَ مُنْهَبِطًا وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلا وحيا أو من وراء حجاب تَمَامُ الْآيَةِ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِي بِإِذْنِهِ ما يشاء إنه علي حكيم وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَصَرَ تَكْلِيمَهُ لِغَيْرِهِ فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ وَهِيَ الْوَحْيُ بِأَنْ يُلْقِيَ فِي رَوْعِهِ مَا يَشَاءُ أَوْ يُكَلِّمَهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُبَلِّغَهُ عَنْهُ فَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ انْتِفَاءَ الرُّؤْيَةِ عَنْهُ حَالَةَ التَّكَلُّمِ وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ مُطْلَقًا وَغَايَةُ ما يقتضي نفي تكليم الله على غيره الْأَحْوَالَ الثَّلَاثَةَ

فَيَجُوزُ أَنَّ التَّكْلِيمَ لَمْ يَقَعْ حَالَةَ الرُّؤْيَةِ (أَنْظِرِينِي) مِنَ الْإِنْظَارِ أَيْ أَمْهِلِينِي لا تُعْجِلِينِي أَيْ لَا تَسْبِقِينِي

قَالَ فِي الْقَامُوسِ أَعْجَلَهُ سَبَقَهُ كَاسْتَعْجَلَهُ وَعَجَّلَهُ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى (

ص: 352

وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ظَنَّ مَسْرُوقٌ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ فِي قَوْلِهِ (وَلَقَدْ رَآهُ) فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى فَاعْتَرَضَ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها (قَالَ) أي رسول الله (إِنَّمَا ذَلِكَ جِبْرِيلُ) أَيْ هَذَا الْمَرْئِيُّ هُوَ جِبْرِيلُ لَا اللَّهُ سبحانه وتعالى (غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ) أَيْ مَرَّةً فِي الْأَرْضِ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى وَمَرَّةً فِي السَّمَاءِ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (سَادًّا) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ مَالِئًا (عُظْمُ خَلْقِهِ) بِالرَّفْعِ فَاعِلُ سَادًّا وَالْعُظْمُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الظَّاءِ وَبِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الظَّاءِ وَهُوَ ضِدُّ الصِّغَرِ (وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَخْ) هَذَا هُوَ الثَّانِي مِنَ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ (وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَخْ) هَذَا هُوَ الثَّالِثُ مِنَ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ

قَوْلُهُ (الْحَرَشِيُّ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ (الْبَكَّائِيُّ) بِفَتْحِ الموحدة وتشديد الكاف

قوله (أتى ناس) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ جَاءَتِ الْيَهُودُ إلى النبي فَقَالُوا إِنَّا نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلْنَا وَلَا نَأْكُلُ مما قتل الله الخ قال الحافظ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ ذِكْرِ رِوَايَةِ أَبِي داود هذه مَا لَفْظُهُ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْيَهُودَ لَا يَرَوْنَ إِبَاحَةَ الْمَيْتَةِ حَتَّى يُجَادِلُوا

الثَّانِيَ أَنَّ الْآيَةَ مِنَ الْأَنْعَامِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ

الثَّالِثُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رواه الترمذي بلفظ أتى ناس النبي وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَةَ الطَّبَرَانِيِّ عن بن عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسم الله عليه

ص: 353

أَرْسَلَتْ فَارِسٌ إِلَى قُرَيْشٍ أَنْ خَاصِمُوا مُحَمَّدًا وقولوا له لما تَذْبَحُ أَنْتَ بِيَدِكَ بِسِكِّينٍ فَهُوَ حَلَالٌ وَمَا ذَبَحَ اللَّهُ عز وجل بِشِمْشِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ يَعْنِي الْمَيْتَةَ فَهُوَ حَرَامٌ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أطعتموهم إنكم لمشركون أَيْ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ مِنْ فَارِسَ لَيُوحُونَ إِلَى أوليائهم من قريش

ثم قال وروى بن جرير من طرق متعددة عن بن عَبَّاسٍ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْيَهُودِ فَهَذَا هُوَ المحفوظ لأن الاية مكية واليهود لا يحبون الْمَيْتَةَ انْتَهَى (أَنَأْكُلُ مَا نَقْتُلُ) أَيْ نَذْبَحُ (وَلَا نَأْكُلُ مَا يَقْتُلُ اللَّهُ) يَعْنُونَ الْمَيْتَةَ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه أَيْ مَا ذُبِحَ عَلَى اسْمِهِ لَا مَا ذُبِحَ عَلَى اسْمِ غَيْرِهِ أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ

قَالَ الْخَازِنُ هَذَا جَوَابٌ لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ أَتَأْكُلُونَ مِمَّا قَتَلْتُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتَلَ رَبُّكُمْ

فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ فَكُلُوا أَنْتُمْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عليه من الذبائح

وعند بن أبي حاتم عن بن عباس قال يوحي الشيطان إلى أوليائهم مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَقُولُوا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّهُ

فَقَالَ إِنَّ الَّذِي قَتَلْتُمْ يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّ الَّذِي مَاتَ لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنَينَ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِهَا يَقْتَضِي اسْتِبَاحَةَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَاجْتِنَابَ مَا حَرَّمَهُ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ تَحْسِينِ التِّرْمِذِيِّ عَطَاءَ بْنَ السَّائِبِ اخْتَلَفُوا فِي الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِهِ وَأَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ مَقْرُونًا بِأَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي وَحْشِيَّةَ وَفِي إِسْنَادِهِ عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَخُو سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِالْمَنَاكِيرِ

قَوْلُهُ (وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الوجه عن بن عباس أيضا) رواه أبو داود وبن ماجه وبن أبي حاتم وغيرهم وصحح الحافظ بن كَثِيرٍ إِسْنَادَهُ (وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ النَّبِيِّ مرسلا) رواه بن أبي حاتم

ص: 354

قَوْلُهُ (عَنْ دَاوُدَ الْأَوْدِيِّ) الظَّاهِرُ أَنَّ دَاوُدَ هَذَا هُوَ دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيُّ الزَّعَافِرِيُّ بِالزَّايِ وَالْمُهْمَلَةِ وَبِالْفَاءِ أَبُو الْعَلَاءِ الْكُوفِيُّ ثقة من السادسة وهو غيرهم عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) هو بن مَسْعُودٍ

قَوْلُهُ (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الصحيفة التي عليها خاتم محمد فَلْيَقْرَأْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ) كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّ هَذِهِ الايات محكمات غير منسوخات

وقال بن عَبَّاسٍ هَذِهِ الْآيَاتُ مُحْكَمَاتٌ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ لَمْ يَنْسَخْهُنَّ شَيْءٌ وَهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ عَلَى بَنِي آدَمَ كُلِّهِمْ وَهُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ مَنْ عَمِلَ بِهِنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ تَرَكَهُنَّ دَخَلَ النَّارَ ذَكَرَهُ الْخَازِنُ وَرَوَى نَحْوَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ قُلْ يَا مُحَمَّدُ تَعَالَوْا أَيْ هَلُمُّوا وَأَقْبِلُوا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَيْ أَقْرَأُ وَأَقُصُّ عَلَيْكُمْ وَأُخْبِرُكُمْ بِمَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا لَا تَخَرُّصًا وَلَا ظَنًّا بَلْ وَحْيًا مِنْهُ وَأَمْرًا مِنْ عِنْدِهِ وَبَقِيَّةُ الْآيَاتِ مَعَ تفسيرها هكذا أن لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا كَأَنَّ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَتَقْدِيرُهُ وَأَوْصَاكُمْ أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا

وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وقال النيسابوري في تفسيره فإن قيل قوله أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا كَالتَّفْصِيلِ لِمَا أَجْمَلَهُ فِي قَوْلِهِ مَا حَرَّمَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الشِّرْكِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ مُحَرَّمًا فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّحْرِيمِ الْبَيَانُ الْمَضْبُوطُ أَوِ الْكَلَامُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تُشْرِكُوا أَوْ أَنْ مُفَسِّرَةٌ أَيْ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ هُوَ قَوْلُهُ لَا تُشْرِكُوا وَهَذَا فِي النَّوَاهِي وَاضِحٌ وَأَمَّا الْأَوَامِرُ فَيُعْلَمُ بِالْقَرِينَةِ أَنَّ التَّحْرِيمَ رَاجِعٌ إِلَى أَضْدَادِهَا وَهِيَ الْإِسَاءَةُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَبَخْسُ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ وَتَرْكُ الْعَدْلِ فِي الْقَوْلِ وَنَكْثُ عَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَجُوزُ أن يجعل نَاصِبَةً وَإِلَّا لَزِمَ عَطْفُ الطَّلَبِ أَعْنِي الْأَمْرَ عَلَى الْخَبَرِ انْتَهَى وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أَيْ أَوْصَاكُمْ وَأَمَرَكُمْ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ بِالْوَأْدِ مِنْ إِمْلَاقٍ أَيْ مِنْ أَجْلِ فَقْرٍ تَخَافُونَهُ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ الْبَنَاتَ خَشْيَةَ الْعَارِ وَرُبَّمَا قَتَلُوا بَعْضَ الذُّكُورِ خَشْيَةَ الِافْتِقَارِ نَحْنُ نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش أَيِ الْكَبَائِرَ كَالزِّنَا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ أَيْ عَلَانِيَتَهَا وَسِرَّهَا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ التي حرم الله إلا بالحق إِنَّمَا أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْقَتْلِ وَأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْفَوَاحِشِ وَالْكَبَائِرِ وَقِيلَ إِنَّمَا أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْهُ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَوَاحِشِ إِلَّا

بِالْإِفْرَادِ فَلِذَلِكَ قَالَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ

ص: 355

التي حرم الله إلا بالحق كَالْقَوَدِ وَحَدِّ الرِّدَّةِ وَرَجْمِ الْمُحْصَنِ ذَلِكُمْ أَيِ الْمَذْكُورُ وَصَّاكُمْ بِهِ يَعْنِي أَمَرَكُمْ بِهِ وَأَوْجَبَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أَيْ لِكَيْ تَفْهَمُوا وَتَتَدَبَّرُوا مَا فِي هَذِهِ التَّكَالِيفِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَنَافِعِ فَتَعْلَمُوا بِهَا وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بالتي أَيْ بِالْخَصْلَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَهِيَ مَا فِيهِ صَلَاحُهُ وَتَثْمِيرُهُ وَتَحْصِيلُ الرِّبْحِ لَهُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ بِأَنْ يَحْتَلِمَ

قَالَ فِي الْقَامُوسِ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَيُضَمُّ أَوَّلُهُ أَيْ قُوَّتَهُ وَهُوَ مَا بَيْنَ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً إِلَى ثَلَاثِينَ وَاحِدٌ جَاءَ عَلَى بِنَاءِ الْجَمْعِ كَآنُكٍ وَلَا نَظِيرَ لَهُمَا أَوْ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ أَوْ وَاحِدُهُ شِدَّةٌ بِالْكَسْرِ مَعَ أَنَّ فِعْلَةً لَا تُجْمَعُ عَلَى أَفْعُلٍ أو شد لكلب وَأَكْلُبٍ أَوْ شِدٌّ كَذِئْبٍ وَأَذْؤُبٍ وَمَا هُمَا بِمَسْمُوعَيْنِ بَلْ قِيَاسٌ انْتَهَى

وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْأَشُدِّ فَقِيلَ عِشْرُونَ سَنَةً وَقِيلَ ثَلَاثُونَ سَنَةً وَقِيلَ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً

قَالَ الْخَازِنُ هَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي نُقِلَتْ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هِيَ نِهَايَةُ الْأَشُدِّ لَا ابْتِدَاؤُهُ وَالْمُرَادُ بِالْأَشُدِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ ابْتِدَاءُ بُلُوغِ الْحُلُمِ مَعَ إِينَاسِ الرُّشْدِ وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ والميزان بالقسط أَيْ بِالْعَدْلِ وَتَرْكِ الْبَخْسِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلا وسعها أَيْ طَاقَتَهَا وَمَا يَسَعُهَا فِي إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ وَإِتْمَامِهِ يَعْنِي مَنِ اجْتَهَدَ فِي أَدَاءِ الْحَقِّ وَأَخَذَهُ فَإِنْ أَخْطَأَ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِ وَبَذْلِ جُهْدِهِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَإِذَا قُلْتُمْ فِي حُكْمٍ أَوْ غَيْرِهِ فَاعْدِلُوا بِالصِّدْقِ وَالْحَقِّ وَلَوْ كَانَ أَيِ الْمَقُولُ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ ذَا قُرْبَى أَيْ ذَا قَرَابَةٍ لَكُمْ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا يَعْنِي مَا عَهِدَ إِلَى عِبَادِهِ وَوَصَّاهُمْ بِهِ وَأَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكُمْ أَيِ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أَيْ لَعَلَّكُمْ تَتَّعِظُونَ وَتَتَذَكَّرُونَ فَتَأْخُذُونَ مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَأَنَّ بِالْفَتْحِ عَلَى تَقْدِيرِ اللَّامِ والكسر استينافا هَذَا أَيِ الَّذِي وَصَّيْتُكُمْ بِهِ صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا حَالٌ فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ الطُّرُقَ الْمُخَالِفَةَ لَهُ فَتَفَرَّقَ فِيهِ حَذْفُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ أَيْ فَتَمِيلَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ أَيْ دِينِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيْ الطُّرُقَ الْمُخْتَلِفَةَ وَالسُّبُلَ الْمُضِلَّةَ

قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبِي) أَيْ حَدَّثَنَا والدي وهو وكيع بن الجراح (عن بن أَبِي لَيْلَى) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى الْأَنْصَارِيُّ (عَنْ عَطِيَّةَ) هُوَ الْعُوفِيُّ

قَوْلُهُ (قَالَ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا) أي قال رسول الله إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ هُوَ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا

ص: 356

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بن حميد وأبو يعلى وبن أبي حاتم وأبو الشيخ وبن مردويه

قوله (عن يَعْلَى بْنُ عُبَيْدِ) بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ الْكُوفِيُّ كُنْيَتُهُ أَبُو يُوسُفَ الطَّنَافِسِيُّ ثِقَةٌ إِلَّا فِي حَدِيثِهِ عَنِ الثَّوْرِيِّ فَفِيهِ لِينٌ مِنْ كِبَارِ التَّاسِعَةِ (عَنْ أَبِي حَازِمٍ) هُوَ الْأَشْجَعِيُّ

قَوْلُهُ (ثَلَاثٌ) أَيْ ثَلَاثُ آيَاتٍ (إِذَا خَرَجْنَ) فِيهِ تَغْلِيبٌ أَوْ مَعْنَاهُ ظَهَرْنَ وَالْمُرَادُ هَذِهِ الثَّلَاثُ بِأَسْرِهَا (لَمْ يَنْفَعْ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ من قبل الْآيَةَ) كَذَا فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ بِلَفْظِ لَمْ يَنْفَعْ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ لَا يَنْفَعُ وَهُوَ الظَّاهِرُ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَنْفَعْ بَلْ فِيهَا لَا يَنْفَعُ وَالْآيَةُ بِتَمَامِهَا مع تفسيرها هكذا هل ينظرون أي ما يَنْتَظِرُونَ الْمُكَذِّبُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَيْ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَيْ أَمْرُهُ بِمَعْنَى عَذَابُهُ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ أَيْ بَعْضُ عَلَامَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى السَّاعَةِ وَهُوَ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ الْجُمْلَةُ صِفَةُ نَفْسٍ أَوْ نَفْسًا لَمْ تَكُنْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا أَيْ طَاعَةً أَيْ لَا تَنْفَعُهَا قَرَابَتُهَا قُلِ انْتَظِرُوا

أَحَدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ذَلِكَ

قَوْلُهُ (وَالدَّابَّةُ) وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ دَابَّةُ الْأَرْضِ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وأحمد وبن جَرِيرٍ

قَوْلُهُ (وَقَوْلُهُ الْحَقُّ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (إِذَا هُمْ) أَيْ أَرَادَ كَمَا فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الشَّيْخَيْنِ

قال الْحَافِظُ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْهَمِّ وَالْإِرَادَةِ لَا يَكْفِي فَعِنْدَ أحمد وصححه بن حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ رَفَعَهُ وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَشْعَرَ بِهَا قَلْبَهُ

ص: 357

وحرص عليها

وقد تمسك به بن حِبَّانَ فَقَالَ بَعْدَ إِيرَادِ حَدِيثِ الْبَابِ فِي صَحِيحِهِ الْمُرَادُ بِالْهَمِّ هُنَا الْعَزْمُ ثُمَّ قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ يَكْتُبُ الْحَسَنَةَ بِمُجَرَّدِ الْهَمِّ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهَا زِيَادَةً فِي الفضل (فاكتبوها له) أي الذي هم بالحسنة

وفيه دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ يَطَّلِعُ عَلَى مَا فِي قَلْبِ الْآدَمِيِّ إِمَّا بِإِطْلَاعِ اللَّهِ إِيَّاهُ أَوْ بِأَنْ يَخْلُقَ لَهُ عِلْمًا يُدْرِكُ بِهِ ذلك

ويؤيد الأول ما أخرجه بن أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ قَالَ يُنَادِي الْمَلَكَ اكْتُبْ لِفُلَانٍ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهُ

فَيَقُولُ إِنَّهُ نَوَاهُ وَقِيلَ بَلْ يَجِدُ الْمَلَكُ لِلْهَمِّ بِالسَّيِّئَةِ رَائِحَةً خَبِيثَةً وَبِالْحَسَنَةِ رَائِحَةً طَيِّبَةً

وأخرج ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَبِي مَعْشَرَ الْمَدَنِيِّ وَجَاءَ مِثْلُهُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ الْحَافِظُ وَرَأَيْتَ في شرح مغلطاني أَنَّهُ وَرَدَ مَرْفُوعًا قَالَ الطُّوفِيُّ إِنَّمَا كُتِبَتِ الْحَسَنَةُ بِمُجَرَّدِ الْإِرَادَةِ لِأَنَّ إِرَادَةَ الْخَيْرِ سَبَبٌ إِلَى الْعَمَلِ وَإِرَادَةُ الْخَيْرِ خَيْرٌ لِأَنَّ إِرَادَةَ الْخَيْرِ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ

وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ لَا تُضَاعَفُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وَأُجِيبَ بِحَمْلِ الْآيَةِ عَلَى عَمَلِ الْجَوَارِحِ وَالْحَدِيثُ عَلَى الْهَمِّ الْمُجَرَّدِ (فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بعشر أمثالها) وفي حديث بن عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ جَعْدٍ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعَطَارِدِيِّ فَإِنْ هو هم بها فعملها كتبها اللَّهُ لَهُ بِهَا عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ

قَالَ الْحَافِظُ يُؤْخَذُ مِنْهُ رَفْعُ تَوَهُّمِ أَنَّ حَسَنَةَ الْإِرَادَةِ تُضَافُ إِلَى عَشْرَةِ التَّضْعِيفِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ احْتِمَالٌ

ورواية عبد الوراث فِي الْبَابِ ظَاهِرَةٌ فِيمَا قُلْته وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ انْتَهَى (فَإِنْ تَرَكَهَا) زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَتِهِ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ أَجْلِي

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ

8 -

بَاب وَمِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَكِّيَّةٌ إِلَّا وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الثَّمَانِ أو

ص: 358

الْخَمْسِ آيَاتٍ وَهِيَ مِائَتَانِ وَخَمْسٌ أَوْ سِتُّ آيَاتٍ

قَوْلُهُ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أَيْ ظَهَرَ نُورُ رَبِّهِ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا أَيْ مدكوكا مستويا بالأرض (قال حماد) هو بن سَلَمَةَ (هَكَذَا) أَيْ أَشَارَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ لِبَيَانِ قِلَّةِ التَّجَلِّي هَكَذَا يَعْنِي وَضَعَ طَرَفَ إِبْهَامِهِ عَلَى أُنْمُلَةِ إِصْبَعِهِ الْيُمْنَى (وَأَمْسَكَ سُلَيْمَانُ إِلَخْ) أَيْ لِبَيَانِ قَوْلِهِ هَكَذَا

وَرَوَى الْحَافِظُ بن جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ أنس أن النبي قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جعله دكا) قال هكذا بإصبعه وضع النبي إِصْبَعَهُ الْإِبْهَامَ عَلَى الْمِفْصَلِ الْأَعْلَى مِنَ الْخِنْصَرِ فساخ الجبل

قال الحافظ بن كَثِيرٍ هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ أَنَسٍ وَالْمَشْهُورُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ انتهى (قال) أي النبي (فَسَاخَ الْجَبَلُ) أَيْ غَاصَ فِي الْأَرْضِ وَغَابَ فِيهَا (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) أَيْ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ لِهَوْلِ مَا رَأَى

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وبن جَرِيرٍ

قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذِ) بْنِ نَصْرِ بْنِ حَسَّانٍ الْعَنْبَرِيُّ أَبُو الْمُثَنَّى الْبَصْرِيُّ الْقَاضِي ثِقَةٌ مُتْقِنٌ مِنْ كِبَارِ التَّاسِعَةِ

قَوْلُهُ (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْيَاءِ هُوَ أَبُو أُسَامَةَ الْجَزَرِيُّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ الْعَدَوِيِّ أَبِي عُمَرَ الْمَدَنِيِّ ثِقَةٌ مِنَ الرَّابِعَةِ تُوُفِّيَ بِحَرَّانَ فِي خِلَافَةِ هِشَامٍ (عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ) مَقْبُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ

قَوْلُهُ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ) أَيْ عَنْ كَيْفِيَّةِ أَخْذِ اللَّهِ ذُرِّيَّةَ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمُ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ وَإِذْ أَيِ اذْكُرْ يا محمد

ص: 359

() حِينَ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظهورهم بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِمَّا قَبْلَهُ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ وَقِيلَ بَدَلُ بَعْضٍ ذُرِّيَّتَهُمْ بِأَنْ أَخْرَجَ بَعْضَهُمْ مِنْ صُلْبِ بَعْضٍ مِنْ صُلْبِ آدَمَ نَسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ كَنَحْوِ مَا يَتَوَالَدُونَ كَالذَّرِّ بِنُعْمَانَ يَوْمِ عَرَفَةَ وَنَصَبَ لَهُمْ دَلَائِلَ عَلَى رُبَوبِيَّتِهِ وَرَكَّبَ فِيهِمْ عَقْلًا وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) قَالَ (أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) أَنْتَ رَبُّنَا (شَهِدْنَا) بِذَلِكَ (أَنْ تَقُولُوا) أَيْ لِئَلَّا تَقُولُوا (يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا) أَيِ التَّوْحِيدِ (غَافِلِينَ) لَا نَعْرِفُهُ (سُئِلَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (عَنْهَا) أَيْ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ (ثُمَّ مَسَحَ ظَهَرَهُ) أَيْ ظَهْرَ آدَمَ (بِيَمِينِهِ)

قَالَ الطِّيبِيُّ يُنْسَبُ الْخَيْرُ إِلَى الْيَمِينِ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَخْصِيصِ آدَمَ بِالْكَرَامَةِ وَقِيلَ بِيَدِ بَعْضِ مَلَائِكَتِهِ وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ عَلَى تَصْوِيرِ الْأَجِنَّةِ أُسْنِدَ إِلَيْهِ تَعَالَى لِلتَّشْرِيفِ أَوْ لِأَنَّهُ الْآمِرُ وَالْمُتَصَرِّفُ كَمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ التَّوَفِّيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) وَقَالَ تَعَالَى (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَاسِحُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمَسْحُ مِنْ بَابِ التَّصْوِيرِ وَالتَّمْثِيلِ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ

قُلْتُ هَذِهِ تَأْوِيلَاتٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا قَدْ مَرَّ مِرَارًا أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ رضي الله عنهم فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إِمْرَارُهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَتَكْيِيفٍ (فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً) قِيلَ قَبْلَ دُخُولِ آدَمَ الْجَنَّةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَقِيلَ بِبَطْنِ نُعْمَانَ وَأَنَّهُ بِقُرْبِ عَرَفَةَ وَقِيلَ فِي الْجَنَّةِ وَقِيلَ بَعْدَ النُّزُولِ مِنْهَا بِأَرْضِ الْهِنْدِ

وَرُوِيَ عن بن عباس رضي الله عنه عن النبي

ص: 360

قَالَ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنُعْمَانَ يَعْنِي عَرَفَةَ فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلًا قَالَ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا

وَنَقَلَ السَّيِّدُ السَّنَدَ عَنِ الْأَزْهَارِ أَنَّهُ قِيلَ شَقَّ ظَهْرَهُ وَاسْتَخْرَجَهُمْ مِنْهُ وَقِيلَ إِنَّهُ اسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ ثُقُوبِ رَأْسِهِ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَهُمْ من مسام شعرات ظهره ذكره القارىء في المرقاة

قلت حديث بن عباس الذي ذكره بقوله وروى عن بن عَبَّاسٍ إِلَخْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالنَّسَائِيُّ في كتاب التفسير من سننه وبن جرير وبن أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ

وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ موقوفا على بن عباس

قال الحافظ بن كثير وهذا أي كونه موقوفا علي بن عَبَّاسٍ أَكْثَرُ وَأَثْبَتُ انْتَهَى

قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ أَطْبَقَتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْ ظُهُورِهِمْ بَدَلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ

فَالْمَعْنَى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ فَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ شَيْئًا وما كَانَ الْمُرَادُ الْأَخْذَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ لَقِيلَ مِنْ ظَهْرِهِ وَأَجَابَ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ الذُّرِّيَّةَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ وَأَمَّا أَنَّهُ أَخْرَجَ تِلْكَ الذُّرِّيَّةِ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى إثباته ونفيه وَالْخَبَرُ قَدْ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِهِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِمَا مَعًا بِأَنَّ بَعْضَ الذَّرِّ مِنْ ظَهْرِ بَعْضِ الذَّرِّ وَالْكُلُّ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ صَوْنًا لِلْآيَةِ وَالْحَدِيثِ عَنِ الِاخْتِلَافِ انْتَهَى

وَقَالَ التُّورْبَشْتِيُّ هذا الحديث يعني حديث بن عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ لَا يَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ مَا يَحْتَمِلُهُ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَلَا أَرَى الْمُعْتَزِلَةَ يُقَابِلُونَ هَذِهِ الْحُجَّةَ إِلَّا بقولهم حديث بن عَبَّاسٍ هَذَا مِنَ الْآحَادِ فَلَا نَتْرُكُ بِهِ ظَاهِرَ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا هَرَبُوا عَنِ الْقَوْلِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ بِمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ لِمَكَانِ قَوْلِهِ تَعَالَى أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كنا عن هذا غافلين فَقَالُوا إِنْ كَانَ هَذَا الْإِقْرَارُ عَنِ اضْطِرَارٍ حَيْثُ كُوشِفُوا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَشَاهَدُوهُ عَيْنَ الْيَقِينِ فَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَقُولُوا شَهِدْنَا يَوْمَئِذٍ فَلَمَّا زَالَ عَنَّا عَلِمْنَا عِلْمَ الضَّرُورَةِ وَوُكِلْنَا إِلَى آرَائِنَا كَانَ مِنَّا مَنْ أَصَابَ وَمِنَّا مَنْ أَخْطَأَ وَإِنْ كَانَ عَنِ اسْتِدْلَالٍ وَلَكِنَّهُمْ عُصِمُوا عِنْدَهُ مِنَ الْخَطَأِ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا أُيِّدْنَا يَوْمَ الْإِقْرَارِ بِالتَّوْفِيقِ وَالْعِصْمَةِ وَحُرِمْنَاهُمَا مِنْ بَعْدُ وَلَوْ مَدَدْنَا بِهِمَا لَكَانَتْ شَهَادَتُنَا فِي كُلِّ حِينٍ كَشَهَادَتِنَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ

فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمِيثَاقَ مَا رَكَّزَ اللَّهُ فِيهِمْ مِنَ الْعُقُولِ وَآتَاهُمْ وَآبَاءَهُمْ مِنَ الْبَصَائِرِ لِأَنَّهَا هِيَ الْحُجَّةُ الْبَاقِيَةُ الْمَانِعَةُ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ هَذَا الْإِقْرَارَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ كَمَا جَعَلَ بَعْثَ الرُّسُلِ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي الْإِيمَانِ بِمَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنَ الْغُيُوبِ

قال الطِّيبِيُّ وَخُلَاصَةُ مَا قَالُوهُ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا مُحْتَجِّينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنَّهُ زَالَ عَنَّا عِلْمُ الضَّرُورَةِ وَوُكِلْنَا إِلَى آرَائِنَا فَيُقَالُ لَهُمْ كَذَبْتُمْ بَلْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى يُوقِظُونَكُمْ مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ وَأَمَّا

ص: 361

قَوْلُهُ حُرِمْنَا عَنِ التَّوْفِيقِ وَالْعِصْمَةِ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ إِذْ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا لَا مَنْفَعَةَ لَنَا فِي الْعُقُولِ وَالْبَصَائِرِ حَيْثُ حُرِمْنَا عَنِ التَّوْفِيقِ وَالْعِصْمَةِ

وَالْحَقُّ أَنْ تُحْمَلَ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَلَا يُقْدَمُ عَلَى الطَّعْنِ فِيهَا بِأَنَّهَا آحَادٌ لِمُخَالَفَتِهَا لِمُعْتَقَدِ أَحَدٍ وَمَنْ أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ حُرِمَ خَيْرًا كَثِيرًا وَخَالَفَ طَرِيقَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُثْبِتُونَ خَبَرَ وَاحِدٍ عَنْ واحد عن النبي وَيَجْعَلُونَهُ سُنَّةً حُمِدَ مَنْ تَبِعَهَا وَعِيبَ مَنْ خَالَفَهَا انْتَهَى

(وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) أَيْ مِنَ الطَّاعَاتِ (يَعْمَلُونَ) إِمَّا فِي جَمِيعِ عُمْرِهِمْ أَوْ فِي خَاتِمَةِ أَمْرِهِمْ (فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَيْ إِذَا كَانَ كَمَا ذَكَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ سَبْقِ الْقَدَرِ فَفِي أَيِّ شَيْءٍ يُفِيدُ الْعَمَلُ أَوْ بِأَيِّ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ الْعَمَلُ أَوْ فَلِأَيِّ شَيْءٍ أُمِرْنَا بِالْعَمَلِ (اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) أَيْ جَعَلَهُ عَامِلًا بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَوَفَّقَهُ لِلْعَمَلِ بِهِ (حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى عَمَلٍ مُقَارَنٍ بِالْمَوْتِ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الموطأ وأحمد والنسائي وبن أبي حاتم وبن جرير وبن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُمْ (وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ إِلَخْ)

قال الْحَافِظُ بن كَثِيرٍ وَكَذَا قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ زَادَ أَبُو حَاتِمٍ وَبَيْنَهُمَا نُعَيْمُ بْنُ رَبِيعَةَ

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُصَفَّى عَنْ بَقِيَّةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ جُعْثُمٍ الْقُرَشِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ كُنْتَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدم من ظهورهم ذريتهم فذكر وَقَالَ الْحَافِظُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَدْ تَابَعَ عُمَرَ بْنَ جُعْثُمٍ يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ أَبُو فَرْوَةَ الرَّهَاوِيُّ وَقَوْلُهُمَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ

قال بن كَثِيرٍ الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا إِنَّمَا أَسْقَطَ ذِكْرَ نُعَيْمِ بْنِ رَبِيعَةَ عَمْدًا لَمَّا جَهِلَ حال

ص: 362

نُعَيْمٍ وَلَمْ يَعْرِفْهُ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلِذَلِكَ يُسْقِطُ ذِكْرَ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ لَا يَرْتَضِيهِمْ وَلِهَذَا يُرْسِلُ كَثِيرًا مِنَ الْمَرْفُوعَاتِ وَيَقْطَعُ كَثِيرًا مِنَ الْمَوْصُولَاتِ انْتَهَى

وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ قَالَ أَبُو عُمَرَ النَّمَرِيُّ هَذَا حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ لِأَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ هَذَا لَمْ يَلْقَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَبَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ نُعَيْمُ بْنُ رَبِيعَةَ وَهَذَا أَيْضًا مَعَ الْإِسْنَادِ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ هَذَا مَجْهُولٌ قِيلَ إِنَّهُ مَدَنِيٌّ وَلَيْسَ بِمُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْبَصْرِيِّ وَقَالَ أَيْضًا وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَائِمِ لِأَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ وَنُعَيْمَ بْنَ رَبِيعَةَ جَمِيعًا غَيْرُ مَعْرُوفِينَ بِحَمْلِ الْعِلْمِ وَلَكِنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ صح عن النبي مِنْ وُجُوهٍ ثَابِتَةٍ كَثِيرَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ انْتَهَى

قلتَ مسلم بن يسار هذا وثقة بن حِبَّانَ وَقَالَ الْعِجْلِيُّ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ وَنُعَيْمُ بْنُ ربيعة وثقه أيضا بن حِبَّانَ وَقَالَ الْحَافِظُ هُوَ مَقْبُولٌ

قَوْلُهُ (فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ) أَيْ خَرَجَ مِنْهُ (كُلُّ نَسَمَةٍ) أَيْ ذِي رُوحٍ وَقِيلَ كُلُّ ذِي نَفْسٍ مَأْخُوذَةٍ مِنَ النَّسِيمِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ (هُوَ خَالِقُهَا من ذريته) الجملة صفة نسمة ومن بَيَانِيَّةٌ وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ الذُّرِّيَّةِ كَانَ حَقِيقِيًّا (وَبِيصًا) أَيْ بَرِيقًا وَلَمَعَانًا (مِنْ نُورٍ) فِي ذِكْرِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَفِي قَوْلِهِ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ إِيذَانٌ بِأَنَّ الذُّرِّيَّةَ كَانَتْ عَلَى صُورَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى مِقْدَارِ الذَّرِّ (فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ) أَيْ سَرَّهُ (هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الْأُمَمِ) جَمْعُ أُمَّةٍ وَالْآخِرِيَّةُ إِضَافِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ فَإِنَّ الْآخِرِيَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ ثَابِتَةٌ لِأُمَّةِ نَبِيِّنَا محمد وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ دَاوُدَ عليه السلام لَيْسَ مِنْهُمْ (يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ) قِيلَ تَخْصِيصُ التَّعَجُّبِ مِنْ وَبِيصِ دَاوُدَ إِظْهَارٌ لِكَرَامَتِهِ وَمَدْحٌ لَهُ فَلَا يَلْزَمُ تَفْضِيلُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ الْمَفْضُولَ قَدْ يَكُونُ لَهُ مَزِيَّةٌ بَلْ مَزَايَا لَيْسَتْ فِي الْفَاضِلِ وَلَعَلَّ وَجْهَ الْمُلَاءَمَةِ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكُ نِسْبَةِ الْخِلَافَةِ (قَالَ) أَيْ آدَمُ (رَبِّ) بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ (وَكَمْ جَعَلْتَ عُمُرَهُ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْمِيمِ وَقَدْ تُسَكَّنُ وَكَمْ مَفْعُولٌ لِمَا بَعْدَهُ وَقُدِّمَ لِمَا لَهُ الصَّدْرُ أَيْ كَمْ

ص: 363

سَنَةً جَعَلْتَ عُمُرَهُ (زِدْهُ مِنْ عُمُرِي) يَعْنِي مِنْ جُمْلَةِ الْأَلْفِ وَمِنْ عُمُرِي صِفَةُ أَرْبَعِينَ قُدِّمَتْ فَعَادَتْ حَالًا (أَرْبَعِينَ سَنَةً) مَفْعُولٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ زِدْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا

قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ زَادَ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا كَقَوْلِك زَادَ الْمَاءُ وَيُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَقَوْلِهِ زِدْتُهُ دِرْهَمًا وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى فزادهم الله مرضا (أو لم يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ الْمُنْصَبِّ عَلَى نَفْيِ الْبَقَاءِ فَيُفِيدُ إِثْبَاتَهُ وَقُدِّمَتْ عَلَى الْوَاوِ لِصَدَارَتِهَا وَالْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ لِمُجَرَّدِ الرَّبْطِ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا (قَالَ) أي ملك الموت (أو لم تُعْطِهَا) أَيْ أَتَقُولُ ذَلِكَ وَلَمْ تُعْطِ الْأَرْبَعِينَ (فجحد آدم) أي ذلك لأن كَانَ فِي عَالَمِ الذَّرِّ فَلَمْ يَسْتَحْضِرْهُ حَالَةَ مَجِيءِ مَلَكِ الْمَوْتِ لَهُ (فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ) لِأَنَّ الْوَلَدَ سِرُّ أَبِيهِ (فَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ) كَذَا فِي النُّسَخِ الْمَوْجُودَةِ

وَوَقَعَ فِي الْمِشْكَاةِ وَنَسِيَ آدَمُ فَأَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ

قال القارىء قِيلَ نَسِيَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ جِنْسِ الشَّجَرَةِ أَوِ الشَّجَرَةِ بِعَيْنِهَا فَأَكَلَ مِنْ غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ وكان النهي عن الجنس (وخطىء) بِكَسْرِ الطَّاءِ مِنْ بَابِ سَمِعَ يَسْمَعُ أَيْ أَذْنَبَ وَعَصَى

تَنْبِيهٌ قَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا فِي آخِرِ كِتَابِ التَّفْسِيرِ وَفِيهِ قَالَ

يَا رَبِّ مَنْ هَذَا

قَالَ هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ وَقَدْ كَتَبْتُ لَهُ عُمُرَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ يَا رَبِّ زِدْهُ فِي عُمُرِهِ

قَالَ ذَاكَ الَّذِي كُتِبَ لَهُ

قَالَ أَيْ رَبِّي فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ لَهُ مِنْ عُمُرِي سِتِّينَ سَنَةً

قَالَ أَنْتَ وَذَاكَ ثُمَّ أُسْكِنَ الْجَنَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ

ثُمَّ أُهْبِطَ مِنْهَا وَكَانَ آدَمُ يَعُدُّ لِنَفْسِهِ

قَالَ فَأَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُ آدَمُ قَدْ عَجَّلْتَ قَدْ كُتِبَ لِي أَلْفُ سَنَةٍ

قَالَ بَلَى وَلَكِنَّكَ جَعَلْتَ لِابْنِكَ دَاوُدَ سِتِّينَ سَنَةً فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي فِي آخِرِ كِتَابِ التَّفْسِيرِ مُخَالِفَةٌ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مُخَالَفَةً ظاهرة

قال القارىء ويمكن الجمع بأنه جعل لَهُ مِنْ عُمُرِهِ أَوَّلًا أَرْبَعِينَ ثُمَّ زَادَ عِشْرِينَ فَصَارَ سِتِّينَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ واعدنا موسى أربعين ليلة وقوله تعالى وإذا وَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ ميقات ربه أربعين ليلة

وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَكَرَّرَ مَأْتَى عِزْرَائِيلَ عليه السلام لِلِامْتِحَانِ بِأَنْ جَاءَ وَبَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ سِتُّونَ فَلَمَّا جَحَدَهُ رَجَعَ إِلَيْهِ بَعْدَ بَقَاءِ أربعين على رجا أنه تذكر بعد ما تَفَكَّرَ فَجَحَدَ ثَانِيًا وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ بَابِ النِّسْيَانِ واللَّهُ الْمُسْتَعَانُ

وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ وَقَعَ شَكٌّ لِلرَّاوِي وَتَرَدُّدٌ فِي كَوْنِ الْعَدَدِ أَرْبَعِينَ أَوْ سِتِّينَ فَعَبَّرَ عَنْهُ تَارَةً بِالْأَرْبَعِينَ وَأُخْرَى بِالسِّتِّينَ وَمِثْلُ هَذَا وَقَعَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَا بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ

ص: 364

بِالْوَهْمِ وَالْغَلَطِ فِي رِوَايَةِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ

وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ سَاعَاتِ أَيَّامِ عُمُرِ آدَمَ كَانَتْ أَطْوَلَ مِنْ زَمَانِ دَاوُدَ فَمَوْقُوفٌ عَلَى صِحَّةِ النَّقْلِ وَإِلَّا فَبِظَاهِرِهِ يَأْبَاهُ الْعَقْلُ كَمَا حُقِّقَ فِي دَوَرَانِ الْفَلَكِ عِنْدَ أَهْلِ الفضل انتهى كلام القارىء بِلَفْظِهِ

ثُمَّ قَالَ وَالْحَدِيثُ السَّابِقُ يَعْنِي الَّذِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَرْجَحُ وَكَذَا أَوْفَقُ لِسَائِرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى

قلتَ كل ما ذكره القارىء مِنْ وُجُوهِ الْجَمْعِ مَخْدُوشٌ إِلَّا الْوَجْهَ الْأَخِيرَ وَهُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي تَفْسِيرِ سُوَرِهِ الْأَعْرَافِ أَرْجَحُ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي آخِرِ كِتَابِ التَّفْسِيرِ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ

وَوَجْهُ كَوْنِ الْأَوَّلِ أَرْجَحَ مِنَ الثَّانِي ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِ التِّرْمِذِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ رِوَايَةِ الْأَوَّلِ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ

وَقَالَ بَعْدَ رِوَايَةِ الثَّانِي هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَأَيْضًا فِي سَنَدِ الثَّانِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ وَكَانَ قَدْ تَغَيَّرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ هَذَا مَا عِنْدِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ وَأَخْرَجَهُ بن أبي حاتم في تفسيره

قوله (عن عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الْعَبْدِيُّ الْبَصْرِيُّ صَاحِبُ الْهَرَوِيِّ صَدُوقٌ فِي حَدِيثِهِ عَنْ قَتَادَةَ ضَعْفٌ مِنَ السَّادِسَةِ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ

وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ

التَّهْذِيبِ قَالَ أَحْمَدُ وَهُوَ يَرْوِي عَنْ قَتَادَةَ أحاديث مناكير يخالف وقال بن عَدِيٍّ يَرْوِي عَنْ قَتَادَةَ أَشْيَاءَ لَا يُوَافِقُ عَلَيْهَا وَحَدِيثُهُ خَاصَّةً عَنْ قَتَادَةَ مُضْطَرِبٌ انْتَهَى

قَوْلُهُ (طَافَ بِهَا إِبْلِيسُ) أَيْ جَاءَهَا (وَكَانَ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ) مِنَ الْعَيْشِ وَهُوَ الحياة أي لا يحيى لَهَا وَلَدٌ وَلَا يَبْقَى بَلْ كَانَ يَمُوتُ (فَقَالَ) أَيْ إِبْلِيسُ (سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ) قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّهُ جَاءَ إِبْلِيسُ إِلَى حَوَّاءَ وَقَالَ لَهَا إِنْ وَلَدْتِ وَلَدًا فَسَمِّيهِ بِاسْمِي فَقَالَتْ مَا اسْمُكَ قَالَ الْحَارِثُ وَلَوْ سَمَّى لَهَا نَفْسَهُ لَعَرَفَتْهُ فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ فَكَانَ هَذَا شِرْكًا فِي التَّسْمِيَةِ وَلَمْ يَكُنْ شِرْكًا فِي الْعِبَادَةِ

وَقَدْ رُوِيَ هَذَا بِطَرِيقٍ وَأَلْفَاظٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كذا في

ص: 365

تفسير فتح البيان والدين الْخَالِصِ (وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ) أَيْ مِنْ وَسْوَسَتِهِ وَحَدِيثِهِ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالْحَاكِمُ في مستدركه وبن أبي حاتم وغيرهم

قال الحافظ بن كَثِيرٍ هَذَا الْحَدِيثُ مَعْلُولٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ هَذَا هُوَ البصري وقد وثقه بن مَعِينٍ وَلَكِنْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ لَا يحتج به ولكن رواه بن مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا فاللَّهُ أَعْلَمُ

الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ قَوْلِ سَمُرَةَ نَفْسِهِ لَيْسَ مَرْفُوعًا

الثَّالِثُ أَنَّ الْحَسَنَ نَفْسَهُ فَسَّرَ الْآيَةَ بِغَيْرِ هَذَا فَلَوْ كَانَ هَذَا عِنْدَهُ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا لَمَا عَدَلَ عَنْهُ

انْتَهَى

قلتَ عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورُ وَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ عَنْ قَتَادَةَ كَمَا عَرَفْتَ وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ عَنْ قَتَادَةَ وَفِي سَمَاعِ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ

تَنْبِيهٌ أورد التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ سَمُرَةَ الْمَذْكُورَ هُنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ

فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ قَالَ صَاحِبُ فَتْحِ الْبَيَانِ قَدِ اسْتَشْكَلَ هَذِهِ الْآيَةَ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّ ظَاهِرَهَا صَرِيحٌ فِي وُقُوعِ الْإِشْرَاكِ مِنْ آدَمَ عليه السلام وَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ عَنِ الشِّرْكِ ثُمَّ اضْطُرُّوا إِلَى التَّفَصِّي مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ

فَذَهَبَ كُلٌّ إِلَى مَذْهَبٍ وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي تَأْوِيلِهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا حَتَّى أَنْكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمُ الرَّازِيُّ وَأَبُو السُّعُودِ وَغَيْرُهُمَا

وَقَالَ الْحَسَنُ هَذَا فِي الْكُفَّارِ يَدْعُونَ اللَّهَ فَإِذَا آتاهما صالحا هودوا أو نصروا

وقال بن كَيْسَانَ هُمُ الْكُفَّارُ سَمَّوْا أَوْلَادَهُمْ بِعَبْدِ الْعُزَّى وَعَبْدِ الشَّمْسِ وَعَبْدِ الدَّارِ وَنَحْوَ ذَلِكَ

قال الْحَسَنُ كَانَ هَذَا فِي بَعْضِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَلَيْسَ بِآدَمَ وَقِيلَ هَذَا خِطَابٌ لِقُرَيْشٍ الَّذِينَ كانوا في عهد رسول الله وَهُمْ آلُ قُصَيٍّ وَحَسَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَالَ هَذَا تَفْسِيرٌ حَسَنٌ لَا

ص: 366

إِشْكَالَ فِيهِ

وَقِيلَ مَعْنَاهَا عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ جَعْلُ أَوْلَادِهِمَا شُرَكَاءَ وَيَدُلُّ لَهُ ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ الْآتِي عَمَّا يُشْرِكُونَ وَإِيَّاهُ ذَكَرَ النَّسَفِيُّ وَالْقَفَّالُ وَارْتَضَاهُ الرَّازِيُّ وَقَالَ هَذَا جَوَابٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ

وَقِيلَ مَعْنَى مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ مِنْ هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَشَكْلٍ وَاحِدٍ فَجُعِلَ مِنْهَا أَيْ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجُهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا يَعْنِي جِنْسَ الذَّكَرِ جِنْسَ الْأُنْثَى وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ لِآدَمَ وَلَا حَوَّاءَ ذِكْرٌ فِي الْآيَةِ وَتَكُونُ ضَمَائِرُ التَّثْنِيَةِ رَاجِعَةً إِلَى الْجِنْسَيْنِ

وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى مُتَخَالِفَةٌ في المبنى ولا يَخْلُو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنْ بُعْدٍ وَضَعْفٍ وَتَكَلُّفٍ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ الْمُتَقَدِّمَ يَعْنِي حَدِيثَ سَمُرَةَ الْمَذْكُورَ يَدْفَعُهُ وَلَيْسَ فِي واحد في تِلْكَ الْأَقْوَالِ قَوْلٌ مَرْفُوعٌ حَتَّى يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ وَيُصَارَ إِلَيْهِ بَلْ هِيَ تَفَاسِيرُ بِالْآرَاءِ الْمَنْهِيِّ عنها المتوعد عليها

الثاني أن فيه انخرام لنظم القرآن سياقا وسياقا الثالث أن الْحَدِيثُ صَرَّحَ بِأَنَّ صَاحِبَةَ الْقِصَّةِ هِيَ حَوَّاءُ وَقَوْلُهُ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا إِنَّمَا هُوَ لِحَوَّاءَ دُونَ غَيْرِهَا فَالْقِصَّةُ ثَابِتَةٌ لَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهَا بِالرَّأْيِ الْمَحْضِ

والحاصل أَنَّ مَا وَقَعَ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْ حَوَّاءَ لَا مِنْ آدَمَ عليه السلام وَلَمْ يُشْرِكْ آدَمُ قَطُّ وَقَوْلُهُ جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يُسْنَدُ فِعْلُ الْوَاحِدِ إِلَى الِاثْنَيْنِ بَلْ إِلَى جَمَاعَةٍ وَهُوَ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ

وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ وَالذَّهَابُ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مُتَعَيِّنٌ تَبَعًا لِلْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ وَصَوْنًا لِجَانِبِ النُّبُوَّةِ عَنِ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالَّذِي ذَكَرُوهُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَرُدُّهُ كُلَّهُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ

انْتَهَى مُخْتَصَرًا

قُلْتُ لَوْ كَانَ حَدِيثُ سَمُرَةَ الْمَذْكُورُ صَحِيحًا ثَابِتًا صَالِحًا لِلِاحْتِجَاجِ لَكَانَ كَلَامُ صَاحِبِ فَتْحِ الْبَيَانِ هَذَا حَسَنًا جَيِّدًا وَلَكِنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ حَدِيثٌ مَعْلُولٌ لَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ فَلَا بُدَّ لِدَفْعِ الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ أَنْ يُخْتَارَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرُوهَا فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا هُوَ الْأَصَحُّ وَالْأَقْوَى وَأَصَحُّهَا عِنْدِي هو ما اختاره الرازي وبن جرير وبن كَثِيرٍ

قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَرْوِيِّ عَنِ بن عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ نَفْسُ آدَمَ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا أَيْ حَوَّاءَ خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ ضِلَعِ آدَمَ عليه السلام مِنْ غَيْرِ أَذًى فَلَمَّا تَغَشَّاهَا آدَمُ حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أَيْ ثَقُلَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا أَتَاهَا إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ قَالَ مَا هَذَا يَا حَوَّاءُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ كَلْبًا أَوْ بَهِيمَةً وَمَا يُدْرِيكِ مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ أَمِنْ دُبُرِكِ فَيَقْتُلُكِ أَوْ يَنْشَقُّ بَطْنُكِ فَخَافَتْ حَوَّاءُ وَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ عليه السلام فَلَمْ يَزَالَا فِي هَمٍّ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ أَتَاهَا وَقَالَ إِنْ سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَهُ صَالِحًا سَوِيًّا مِثْلَكِ وَيُسَهِّلَ خُرُوجَهُ مِنْ بَطْنِكِ تُسَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ وَكَانَ اسْمُ إِبْلِيسَ فِي الْمَلَائِكَةِ الْحَارِثَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا

ص: 367

له شركاء فيما آتاهما أَيْ لَمَّا آتَاهُمَا اللَّهُ وَلَدًا سَوِيًّا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شَرِيكًا أَيْ جَعَلَ آدَمُ وَحَوَّاءُ لَهُ شَرِيكًا وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَارِثُ هَذَا تَمَامُ الْقِصَّةِ

واعلم أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ فَاسِدٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فَتَعَالَى الله عما يشركون

وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَتَوْا بِهَذَا الشِّرْكِ جَمَاعَةٌ

الثَّانِي أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ أيشركون من لا يخلق شيئا وهم يخلقون وَهَذَا يَدُلُّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَا جَرَى لِإِبْلِيسَ اللَّعِينِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرٌ

الثَّالِثُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ إِبْلِيسَ لَقَالَ أَيُشْرِكُونَ مَنْ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَلَمْ يَقُلْ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا لِأَنَّ الْعَاقِلَ إِنَّمَا يُذْكَرُ بِصِيغَةِ مَنْ لَا بِصِيغَةِ مَا

الرَّابِعُ أَنَّ آدَمَ عليه السلام كَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مَعْرِفَةً بِإِبْلِيسَ وَكَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَسْمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كلها فَكَانَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ اسْمَ إِبْلِيسَ هُوَ الْحَارِثُ فَمَعَ الْعَدَاوَةِ الشَّدِيدَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ وَمَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ اسْمَهُ هُوَ الْحَارِثُ كَيْفَ سَمَّى وَلَدَ نَفْسِهِ بِعَبْدِ الْحَارِثِ وَكَيْفَ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَسْمَاءُ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَجِدْ سِوَى هَذَا الِاسْمِ

الْخَامِسُ أَنَّ الْوَاحِدَ لَوْ حَصَلَ لَهُ وَلَدٌ يَرْجُو مِنْهُ الْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ فَجَاءَهُ إِنْسَانٌ وَدَعَاهُ أَنْ يُسَمِّيَهُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَزَجَرَهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ فَآدَمُ عليه السلام مَعَ نُبُوَّتِهِ وَعِلْمِهِ الْكَثِيرِ الَّذِي حَصَلَ مِنْ قَوْلِهِ وعلم آدم الأسماء كلها وَتَجَارِبِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ بِسَبَبِ الزَّلَّةِ التي وقع فِيهَا لِأَجْلِ وَسْوَسَةِ إِبْلِيسَ كَيْفَ لَمْ يَتَنَبَّهْ لِهَذَا الْقَدَرِ وَكَيْفَ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا

السَّادِسُ أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنَّ آدَمَ عليه السلام سَمَّاهُ بِعَبْدِ الْحَارِثِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ جَعَلَ هَذَا اللَّفْظَ اسْمَ عَلَمٍ لَهُ أَوْ جَعَلَهُ صِفَةً لَهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ عَبْدُ الْحَارِثِ وَمَخْلُوقٌ مِنْ قِبَلِهِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ هَذَا شِرْكًا بِاَللَّهِ لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَعْلَامِ وَالْأَلْقَابِ لَا تُفِيدُ فِي الْمُسَمَّيَاتِ فَائِدَةً فَلَمْ يَلْزَمْ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ حُصُولُ الْإِشْرَاكِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَانَ هَذَا قَوْلًا بِأَنَّ آدَمَ عليه السلام اعْتَقَدَ أَنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْجَزْمَ بِتَكْفِيرِ آدَمَ وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ

فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ فَاسِدٌ

وَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إليه

ص: 368

إذا عرفت هذا فتقول فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ وُجُوهٌ صَحِيحَةٌ سَلِيمَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ فَقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى تَمْثِيلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ وَبَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ صُورَةُ حَالَّةِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي جَهْلِهِمْ وَقَوْلِهِمْ بِالشِّرْكِ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا إِنْسَانًا يُسَاوِيه فِي الْإِنْسَانِيَّةِ فَلَمَّا تَغَشَّى الزَّوْجُ الزَّوْجَةَ وَظَهَرَ الْحَمْلُ دَعَا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتنَا وَلَدًا صَالِحًا سَوِيًّا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لِآلَائِكَ وَنَعْمَائِكَ فَلَمَّا آتَاهُمَا اللَّهُ وَلَدًا صَالِحًا سَوِيًّا جَعَلَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا لِأَنَّهُمْ تَارَةً يَنْسُبُونَ ذَلِكَ لِلطَّبَائِعِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الطَّبَائِعِيِّينَ وَتَارَةً إِلَى الْكَوَاكِبِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمُنَجِّمِينَ وَتَارَةً إِلَى الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ كَمَا هُوَ قَوْلُ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ ثُمَّ قَالَ تعالى فتعالى الله عما يشركون أَيْ تَنَزَّهَ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ الشِّرْكِ وَهَذَا جَوَابٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ

ثم ذَكَرَ بَاقِيَ التَّأْوِيلَاتِ مَنْ شَاءَ الْوُقُوفَ عَلَيْهَا فَلْيُرَاجِعْ تفسيره

وقال الحافظ بن كثير في تفسيره قال بن جرير حدثنا بن وَكِيعٍ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ عَمْرٍو عَنِ الْحَسَنِ جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا قَالَ كَانَ هَذَا فِي بَعْضِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَلَمْ يَكُنْ بِآدَمَ

وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ قَالَ الْحَسَنُ عَنَى بِهَا ذُرِّيَّةَ آدَمَ وَمَنْ أَشْرَكَ مِنْهُمْ بَعْدَهُ يَعْنِي جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا وَحَدَّثَنَا بِشْرٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى رَزَقَهُمُ اللَّهُ أَوْلَادًا فَهَوَّدُوا وَنَصَّرُوا وَهَذِهِ أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ عَنِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ فَسَّرَ الْآيَةَ بِذَلِكَ وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ التَّفَاسِيرِ وَأَوْلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَلَوْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ يَعْنِي حَدِيثَ سَمُرَةَ الْمَذْكُورَ عِنْدَهُ مَحْفُوظًا عَنْ رَسُولِ الله لَمَا عَدَلَ عَنْهُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ لَا سِيَّمَا مَعَ تَقْوَاهُ لِلَّهِ وَوَرَعِهِ فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الصَّحَابِيِّ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَلَقَّاهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ مِثْلُ كَعْبٍ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَغَيْرِهِمَا إلا إنما بَرِئْنَا مِنْ عُهْدَةِ الْمَرْفُوعِ انْتَهَى

أما أَثَرُ بن عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ فَهُوَ مَرْوِيٌّ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يكون مأخوذا من الإسرائيليات قال الحافظ بن كَثِيرٍ بَعْدَ ذِكْرِهِ مِنَ الطُّرُقِ الْمُتَعَدِّدَةِ بِالْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ مَا لَفْظُهُ وَقَدْ تَلَقَّى هَذَا الْأَثَرَ عن بن عَبَّاسٍ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ

وَمِنَ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْخَلَفِ وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ جَمَاعَاتٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً وَكَأَنَّهُ أَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فإن بن عَبَّاسٍ رَوَاهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ كَمَا رواه بن أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو

ص: 369

الجماهر حدثنا سعيد يعني بن بَشِيرٍ عَنْ عُقْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ عن بن عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ لَمَّا حملت حواء أتاها الشيطان فقال لها أتطيعيني وَيَسْلَمُ لَكِ وَلَدُكِ سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ فَلَمْ تَفْعَلْ فَوَلَدَتْ فَمَاتَ ثُمَّ حَمَلَتْ فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ حَمَلَتِ الثَّالِثَةَ فَجَاءَهَا فَقَالَ إِنْ تُطِيعِينِي يَسْلَمْ وَإِلَّا فَإِنَّهُ يَكُونُ بَهِيمَةً فَهَيَّبَهُمَا فَأَطَاعَا

وَهَذِهِ الْآثَارُ يَظْهَرُ عَلَيْهَا أَنَّهَا مِنْ آثَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ صح الحديث عن رسول الله أَنَّهُ قَالَ إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ ثُمَّ أَخْبَارُهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ فَمِنْهَا مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ وَمِنْهَا مَا عَلِمْنَا كَذِبَهُ بِمَا دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَيْضًا وَمِنْهَا مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ فَهُوَ الْمَأْذُونُ فِي رِوَايَتِهِ بِقَوْلِهِ عليه السلام حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَهُوَ الَّذِي لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ لِقَوْلِهِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ

وَهَذَا الْأَثَرُ هُوَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ فِيهِ نَظَرٌ فَأَمَّا مَنْ حَدَّثَ بِهِ مِنْ صَحَابِيٍّ أَوْ تَابِعِيٍّ فَإِنَّهُ يَرَاهُ مِنَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ

وَأَمَّا نَحْنُ فَعَلَى مَذْهَبِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رحمه الله فِي هَذَا وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَلِهَذَا قال الله (فتعالى الله عما يشركون) ثُمَّ قَالَ

فَذِكْرُهُ آدَمُ وَحَوَّاءُ أَوَّلًا كَالتَّوْطِئَةِ لِمَا بَعْدَهُمَا مِنَ الْوَالِدِيْنِ وَهُوَ كَالِاسْتِطْرَادِ مِنْ ذِكْرِ الشَّخْصِ إِلَى الْجِنْسِ

انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ بن كثير

باب وَمِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ هِيَ مَدَنِيَّةٌ خَمْسٌ أَوْ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ آيَةً

قَوْلُهُ (إِنَّ اللَّهَ قَدْ شَفَى صَدْرِي مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ نَحْو هَذَا) أَوْ لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي يَعْنِي قَالَ هَذَا اللَّفْظَ أَوْ قَالَ لَفْظًا آخَرَ نَحْوَ (هَبْ لِي) أَيْ أَعْطِنِي (هَذَا لَيْسَ لِي وَلَا لَكَ) لِأَنَّهُ مِنْ أَمْوَالِ الْغَنِيمَةِ الَّتِي لَمْ تُقْسَمْ (عَسَى أَنْ يُعْطَى) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (هَذَا) أَيِ السَّيْفُ وَهُوَ نَائِبُ الْفَاعِلِ

ص: 370

لَيُعْطَى (مَنْ لَا يُبْلِي بَلَائِي) مَفْعُولٌ ثَانٍ لِيُعْطَى

قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ لَا يَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِي فِي الْحَرْبِ كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَفْعَلُ فِعْلًا أُخْتَبَرَ فِيهِ وَيَظْهَرَ بِهِ خَيْرِي وَشَرِّي انتهى

وفي رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ مَنْ لَمْ يُبْلِ بَلَائِي

قَالَ السِّنْدِيُّ أَيْ لَمْ يَعْمَلْ مِثْلَ عَمَلِي فِي الْحَرْبِ كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ فِي الْحَرْبِ يُخْتَبَرُ الرَّجُلُ فَيَظْهَرُ حَالُهُ وَقَدِ اخْتُبِرْتَ أَنَا فَظَهَرَ مِنِّي مَا ظَهَرَ فَأَنَا أَحَقُّ بِهَذَا السَّيْفِ مِنَ الَّذِي لَمْ يُخْتَبَرْ مِثْلَ اخْتِبَارِي انتهى (فجاءني الرسول) أي رسول الله (وَلَيْسَ لِي) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ سَأَلْتنِي السَّيْفَ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِي (وَإِنَّهُ قَدْ صَارَ إِلَيَّ) أَيِ الْآنَ (فَنَزَلَتْ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال)

قال البخاري في صحيحه قال بن عَبَّاسٍ الْأَنْفَالُ الْمَغَانِمُ

وَرَوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ سُورَةُ الْأَنْفَالِ قَالَ نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ (الْآيَةَ) قَالَ فِي الْجَلَالَيْنِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمَّا اخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ فَقَالَ الشُّبَّانُ هِيَ لَنَا لِأَنَّا بَاشَرْنَا الْقِتَالَ وَقَالَ الشُّيُوخُ كُنَّا رِدْءًا لَكُمْ تَحْتَ الرَّايَاتِ وَلَوِ انْكَشَفَتْ لَفِئْتُمْ إِلَيْنَا فَلَا تَسْتَأْثِرُوا بِهَا

نَزَلَ يَسْأَلُونَكَ يَا مُحَمَّدُ عَنِ الْأَنْفَالِ الْغَنَائِمِ لِمَنْ هِيَ قُلْ لَهُمْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ يَجْعَلَانِهَا حَيْثُ شَاءَا

فَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ بِالسَّوَاءِ

رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فَاتَّقُوا الله وأصلحوا ذات بينكم أَيْ حَقِيقَةَ مَا بَيْنِكُمْ بِالْمَوَدَّةِ وَتَرْكِ النِّزَاعِ وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين حَقًّا

وَقَالَ فِي الْمَدَارِكِ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ أَيْ أَحْوَالِ بَيْنِكُمْ يَعْنِي مَا بَيْنَكُمْ مِنَ الْأَحْوَالِ حَتَّى تَكُونَ أَحْوَالَ أُلْفَةٍ وَمَحَبَّةٍ وَاتِّفَاقٍ

وَقَالَ الزَّجَّاجُ مَعْنَى ذَاتَ بَيْنِكُمْ حَقِيقَةَ وَصْلِكُمْ وَالْبَيْنُ الْوَصْلُ أَيْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ

قلتَ مَا ذُكِرَ فِي الْجَلَالَيْنِ مِنْ سَبَبِ نُزُولِ هذه الاية فهو مروي عن بن عباس عند أبي داود والنسائي وبن جرير وبن مردويه وبن حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ وَنَحْوَهُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ وَسَيَجِيءُ لَفْظُهُ قَالَ الْخَازِنُ قَوْلُهُ سبحانه وتعالى يَسَالُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ

اسْتِفْتَاءٌ يَعْنِي يَسْأَلُكَ أَصْحَابُكَ يَا مُحَمَّدُ عَنْ حُكْمِ الْأَنْفَالِ وَعِلْمِهَا وَهُوَ سُؤَالُ اسْتِفْتَاءٍ لَا سُؤَالَ طَلَبٍ

قَالَ الضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ هُوَ سُؤَالُ طَلَبٍ وَقَوْلُهُ عَنِ الْأَنْفَالِ أَيْ مِنَ الْأَنْفَالِ

وعن بِمَعْنَى مِنْ أَوْ قِيلَ عَنْ صِلَةٌ أَيْ يَسْأَلُونَكَ الْأَنْفَالَ انْتَهَى

قُلْتُ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ سُؤَالُ طَلَبٍ وَحَدِيثُ بن عَبَّاسٍ وَحَدِيثُ عُبَادَةَ يَقْتَضِيَانِ أَنَّهُ سُؤَالُ اسْتِفْتَاءٍ وهو الراجح عندي

وقال صاحب فيح الْبَيَانِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ

ص: 371

الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ الْأَنْفَالَ كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا شَيْءٌ حَتَّى نَزَلَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خمسه فَهِيَ عَلَى هَذَا مَنْسُوخَةٌ وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وعكرمة والسدي

وقال بن زَيْدٍ مُحْكَمَةٌ مُجْمَلَةٌ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ مَصَارِفَهَا فِي آيَةِ الْخُمُسِ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُنْفِلَ مَنْ شَاءَ مِنَ الْجَيْشِ مَا شَاءَ قَبْلَ التَّخْمِيسِ انْتَهَى

قلتَ وَالظَّاهِرُ الرَّاجِحُ عِنْدِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ بَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ

قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ) أَيْ فِي شَأْنِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ (عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ قَالَ خَرَجْتُ مع رسول الله فَشَهِدْتُ مَعَهُ بَدْرًا فَالْتَقَى النَّاسُ فَهَزَمَ اللَّهُ الْعَدُوَّ فَانْطَلَقَتْ طَائِفَةٌ فِي إِثْرِهِمْ يَهْزِمُونَ وَيَقْتُلُونَ وَأَكَبَّتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْغَنَائِمِ يَحْوُونَهُ وَيَجْمَعُونَهُ وَأَحْدَقَتْ طائفة برسول الله لا يصيب العدو منهم غِرَّةً

حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ وَفَاءَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالَ الَّذِينَ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ نَحْنُ حَوَيْنَاهَا وَجَمَعْنَاهَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا نَصِيبٌ وَقَالَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا نَحْنُ نَفَيْنَا عَنْهَا الْعَدُوَّ وهزمناهم

وقال الذين أحدقوا برسول الله لَسْتُمْ بِأَحَقَّ مِنَّا نَحْنُ أَحْدَقْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ وَخِفْنَا أَنْ يُصِيبَ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً فَاشْتَغَلْنَا بِهِ فَنَزَلَتْ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ فقسمها رسول الله عَلَى فَوَاقٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَفِي لَفْظٍ مُخْتَصَرٍ فِينَا أَصْحَابُ بَدْرٍ نَزَلَتْ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفْلِ وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أيدينا فجعله إلى رسول الله فَقَسَمَهُ فِينَا عَلَى بَوَاءٍ يَقُولُ عَلَى السَّوَاءِ

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي النَّيْلِ حَدِيثُ عُبَادَةَ قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ رِجَالُ أَحْمَدَ ثِقَاتٌ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ الْحَاكِمُ عَنْهُ

قَوْلُهُ (أَبُو زُمَيْلٍ) بِضَمِّ الزَّايِ مُصَغَّرًا اسْمُهُ سِمَاكُ بْنُ الْوَلِيدِ الْحَنَفِيُّ (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ) بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ بْنِ عبد مناف بن عم رسول الله وُلِدَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ وَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْفَهْمِ فِي الْقُرْآنِ فَكَانَ يُسَمَّى الْبَحْرَ وَالْحَبْرَ لِسَعَةِ

ص: 372

علمه وقال عمر لو أدرك بن عَبَّاسٍ أَسْنَانَنَا مَا عَثَرَهُ مِنَّا أَحَدٌ مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ بِالطَّائِفِ وَهُوَ أَحَدُ الْمُكْثِرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَأَحَدُ الْعَبَادِلَةِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ

قوله (نظر نبي الله إِلَى الْمُشْرِكِينَ) وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ لَمَّا كَانَ يوم بدر نظر رسول الله إِلَى الْمُشْرِكِينَ

قَالَ النَّوَوِيُّ بَدْرٌ هُوَ مَوْضِعُ الْغَزْوَةِ الْعُظْمَى الْمَشْهُورَةِ وَهُوَ مَاءٌ مَعْرُوفٌ وَقَرْيَةٌ عَامِرَةٌ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاحِلَ مِنَ الْمَدِينَةِ بَيْنَهَا وبين مكة

قال بن قتيبة بَدْرٌ بِئْرٌ كَانَتْ لِرَجُلِ يُسَمَّى بَدْرًا فَسُمِّيَتْ بِاسْمِهِ

قال أَبُو الْيَقِظَانِ كَانَتْ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ وَكَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ يَوْمَ الْجُمُعَة لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ (ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ) أَيْ رَفَعَهُمَا (وَجَعَلَ يَهْتِفُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَ الْهَاءِ وَمَعْنَاهُ يَصِيحُ وَيَسْتَغِيثُ بِاَللَّهِ بِالدُّعَاءِ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الدُّعَاءِ وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِيهِ وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ فِي الدُّعَاءِ (اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتنِي) مِنَ الْإِنْجَازِ أَيْ أَحْضِرْ لِي مَا وَعَدْتنِي يُقَالُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ إِذَا أَحْضَرَهُ (اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تُهْلِكَ هَذِهِ الْعِصَابَةَ)

قال النَّوَوِيُّ ضَبَطُوا تَهْلَكْ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّهَا فَعَلَى الْأَوَّلِ تُرْفَعُ الْعِصَابَةُ عَلَى أَنَّهَا فَاعِلٌ وَعَلَى الثَّانِي تُنْصَبُ وَتَكُونُ مَفْعُولَهُ وَالْعِصَابَةُ الْجَمَاعَةُ انْتَهَى

قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فَلَوْ هَلَكَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ حِينَئِذٍ لَمْ يُبْعَثْ أَحَدٌ مِمَّنْ يَدْعُو إِلَى الْإِيمَانِ وَلَاسْتَمَرَّ الْمُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ غير الله فالمعنى لايعبد فِي الْأَرْضِ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ (كَفَاكَ)

وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كَذَاكَ بِالذَّالِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ حَسْبُكَ وَكُلُّهُ بِمَعْنَى كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْجَزَرِيُّ وَالنَّوَوِيُّ (مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ) الْمُنَاشَدَةُ السُّؤَالُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّشِيدِ وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ وَضَبَطُوا مُنَاشَدَتَكَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ

قَالَ الْقَاضِي مَنْ رَفَعَهُ حَمَلَهُ فَاعِلًا لِكَفَاكَ وَمَنْ نَصَبَهُ فَعَلَى الْمَفْعُولِ لِمَا فِي حَسْبُكَ وَكَفَاك وَكَذَاكَ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ من الكف

ص: 373

قال الْعُلَمَاءُ هَذِهِ الْمُنَاشَدَةُ إِنَّمَا فَعَلَهَا النَّبِيُّ لِيَرَاهُ أَصْحَابُهُ بِتِلْكَ الْحَالِ فَتَقْوَى قُلُوبُهُمْ بِدُعَائِهِ وَتَضَرُّعِهِ مَعَ أَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ

وَقَدْ كَانَ وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِمَّا الْعِيرُ وَإِمَّا الْجَيْشُ وَكَانَتِ الْعِيرُ قَدْ ذَهَبَتْ وَفَاتَتْ فَكَانَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ حُصُولِ الْأُخْرَى وَلَكِنْ سَأَلَ تَعْجِيلَ ذَلِكَ وَتَنْجِيزَهُ مِنْ غَيْرِ أَذًى يَلْحَقُ الْمُسْلِمِينَ (فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ)

قال الْخَطَّابِيُّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَحَدٌ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ أَوْثَقَ بِرَبِّهِ مِنَ النبي في تلك الحال

بل الحامل للنبي عَلَى ذَلِكَ شَفَقَتُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ وَتَقْوِيَةُ قُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ فَبَالَغَ فِي التَّوَجُّهِ وَالدُّعَاءِ وَالِابْتِهَالِ لِتَسْكُنَ نُفُوسُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ وَسِيلَتَهُ مُسْتَجَابَةٌ فَلَمَّا قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا قَالَ كَفَّ عَنْ ذَلِكَ وَعَلِمَ أَنَّهُ اسْتُجِيبَ لَهُ لَمَّا وَجَدَ أَبُو بَكْرٍ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فَلِهَذَا عَقَّبَ بِقَوْلِهِ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) أَيْ تُطَالِبُونَ مِنْهُ الْغَوْثَ بِالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ (فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) أَيْ فَأَجَابَ دُعَاءَكُمْ (أَنِّي مُمِدُّكُمْ) أَيْ بِأَنِّي مُعِينُكُمْ (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) أي متتابعين يردف بعضهم بعضا

ص: 374

وَكَانَ فِيهَا ثَلَاثُونَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ وَقِيلَ أَرْبَعُونَ وَقِيلَ سِتُّونَ (لَيْسَ دُونَهَا شَيْءٌ) أَيْ لَيْسَ دُونَ الْعِيرِ شَيْءٌ يُزَاحِمُكَ (فَنَادَاهُ الْعَبَّاسُ) أي بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ (وَهُوَ فِي وَثَاقِهِ) وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَهُوَ أَسِيرٌ فِي وَثَاقِهِ وَالْوَثَاقُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا مَا يُشَدُّ بِهِ مِنْ قَيْدٍ وَحَبْلٍ وَنَحْوِهِمَا (لَا يَصْلُحُ) أَيْ لَا يَنْبَغِي لك (لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَكَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) الْمُرَادُ بِالطَّائِفَتَيْنِ الْعِيرُ وَالنَّفِيرُ فَكَانَ فِي الْعِيرِ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ كَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلَ وَمَا مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ

وَكَانَ فِي النَّفِيرِ أَبُو جَهْلٍ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَغَيْرُهُمَا من رؤساء قريش (قال) أي النبي (صَدَقْتَ) أَيْ فِيمَا قُلْتَ

قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ

قوله (أخبرنا بن نُمَيْرٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ (عَنْ عَبَّادِ بْنِ يُوسُفَ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ عباد بن يوسف ويقال بن سَعِيدٍ كُوفِيٌّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ مَجْهُولٌ مِنَ السَّادِسَةِ وَيُقَالُ اسْمُهُ عُبَادَةُ (أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ أَمَانَيْنِ) أَيْ فِي الْقُرْآنِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ إِلَخْ قَبْلَهُ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كان هذا أي الذي يقرأه مُحَمَّدٌ هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ أَيِ الْمُنَزَّلَ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أو ائتنا بعذاب أليم أَيْ مُؤْلِمٍ عَلَى إِنْكَارِهِ قَالَهُ النَّضْرُ وَغَيْرُهُ اسْتِهْزَاءً وَإِيهَامًا أَنَّهُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَجَزْمٍ بِبُطْلَانِهِ (وَأَنْتَ فِيهِمْ) أَيْ مُقِيمٌ بِمَكَّةَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حَتَّى يُخْرِجُوكَ لِأَنَّ الْعَذَابَ إِذَا نَزَلَ عَمَّ وَلَمْ تُعَذَّبْ أُمَّةٌ إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِ نَبِيِّهَا وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْهَا

وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يستغفرون حَيْثُ يَقُولُونَ فِي طَوَافِهِمْ غُفْرَانَكَ غُفْرَانَك وَقِيلَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُسْتَضْعَفُونَ فِيهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أليما وَبَعْدَهُ وَمَا لَهُمْ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ أَيْ بِالسَّيْفِ بَعْدَ خُرُوجِكَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هِيَ نَاسِخَةٌ لِمَا قَبْلَهَا وَقَدْ عَذَّبَهُمْ ببدر وغيرهم وهم يصدون أي يمنعون النبي وَالْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ يَطُوفُوا بِهِ وما كانوا أولياءه كما زعموا إن أولياؤهم إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون أن لا ولاية لهم عليه (فإذا مَضَيْتُ) أَيْ ذَهَبْتُ (تَرَكْتُ فِيهِمْ) أَيْ بَعْدِي (الِاسْتِغْفَارَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) فَمَا دَامُوا يَسْتَغْفِرُونَ لم يعذبوا وروى بن أبي حاتم عن بن عَبَّاسٍ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَمَانَيْنِ

لَا يَزَالُونَ مَعْصُومِينَ مُجَارِينَ مِنْ طَوَارِقِ الْعَذَابِ مَا دَامَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَأَمَانٌ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَأَمَانٌ بَقِيَ فِيكُمْ قوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ

ص: 375

فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ

وروى أَحْمَدُ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ النبي أَنَّهُ قَالَ الْعَبْدُ آمِنٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَا اسْتَغْفَرَ اللَّهَ عز وجل

قَوْلُهُ (وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرِ بْنِ جَابِرٍ الْبَجَلِيِّ الْكُوفِيِّ ضَعِيفٌ مِنَ السَّابِعَةِ

قَوْلُهُ (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) هُوَ الليثي

قوله وأعدوا لهم ما استطعتم إلخ ما موصولة والعائد محذوف ومن قُوَّةٍ بَيَانٌ لَهُ فَالْمُرَادُ هُنَا نَفْسُ الْقُوَّةِ

وَفِي هَذَا الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هذه العدة لا تستتب بِدُونِ الْمُعَالَجَةِ وَالْإِدْمَانِ الطَّوِيلِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ عِدَّةِ الْحَرْبِ وَأَدَاتِهَا أَحْوَجَ إِلَى الْمُعَالَجَةِ وَالْإِدْمَانِ عَلَيْهَا مِثْلَ الْقَوْسِ وَالرَّمْيِ بِهَا وَلِذَلِكَ كَرَّرَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ تَفْسِيرَ الْقُوَّةِ بِالرَّمْيِ بِقَوْلِهِ (أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ) أَيْ هُوَ الْعُمْدَةُ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) كَرَّرَهَا ثَلَاثًا لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ أَوْ إِشَارَةً إِلَى الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ مِنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَبَيْنَهُمَا فَإِنَّهَا نَافِيَةٌ فِي جَمِيعِهَا (وَسَتُكْفَوْنَ الْمُؤْنَةَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ سَيَكْفِيكُمُ اللَّهُ مُؤْنَةَ الْقِتَالِ بِمَا فَتَحَ عَلَيْكُمْ وَفِي رِوَايَةِ مسلم يكفيكم الله

قال القارىء أَيْ شَرَّهُمْ بِقُوَّتِهِ وَقَهْرِهِ لَكِنَّ ثَوَابَكُمْ وَأَجْرَكُمْ مُتَرَتِّبٌ عَلَى سَعْيِكُمْ وَتَعَبِكُمْ (فَلَا يَعْجِزَنَّ) بِكَسْرِ الْجِيمِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَبِفَتْحِهَا عَلَى لُغَةٍ وَمَعْنَاهُ النَّدْبُ إِلَى الرَّمْيِ قال النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ وَفِي الْأَحَادِيثِ بُعْدُ فَضِيلَةِ الرَّمْيِ وَالْمُنَاضَلَةِ وَالِاعْتِنَاءِ بِذَلِكَ بِنِيَّةِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْمُشَاحَفَةُ وَسَائِرُ أَنْوَاعِ اسْتِعْمَالِ السلاح

وكذا

ص: 376

الْمُسَابَقَةُ بِالْخَيْلِ وَغَيْرِهَا وَالْمُرَادُ بِهَذَا كُلِّهِ التَّمَرُّنُ عَلَى الْقِتَالِ وَالتَّدَرُّبُ وَالتَّحَذُّقُ فِيهِ وَرِيَاضَةُ الْأَعْضَاءِ بِذَلِكَ (أَنْ يَلْهُوَ) أَيْ يَشْتَغِلَ يَلْعَبَ (بِأَسْهُمِهِ) جَمْعُ السَّهْمِ أَيْ مَعَ قِسِيِّهَا بِنِيَّةِ الْجِهَادِ وَحَدِيثُ عَقَبَةَ هَذَا أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ مِنْ وجه آخر

قَوْلُهُ (أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرِو) بْنِ الْمُهَلَّبِ

بن عَمْرٍو الْأَزْدِيُّ الْمَعْنِيُّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ النُّونِ أَبُو عَمْرٍو الْبَغْدَادِيُّ وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْكَرْمَانِيِّ ثِقَةُ مِنْ صِغَارِ التَّاسِعَةِ (عَنْ زَائِدَةَ) هو بن قدامة

قوله (لأحد سود الرؤوس) بإضافة أحد إلى سود والمراد بسود الرؤوس بنو آدم لأن رؤوسهم سُودٌ (قَالَ سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ فَمَنْ يَقُولُ هَذَا إِلَّا أَبُو هُرَيْرَةَ الْآنَ) لَمْ يَظْهَرْ لِي أَنَّ الْأَعْمَشَ مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ فَمَنْ يَقُولُ هَذَا إِلَخْ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ مُرَادَهُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَقُولُ أَحَدٌ الْآنَ في هذا الحديث لفظ سود الرؤوس إِلَّا أَبُو هُرَيْرَةَ يَعْنِي لَمْ يَرِدْ هَذَا اللَّفْظُ إِلَّا فِي حَدِيثِهِ وَلَكِنْ يَخْدِشُهُ لَفْظُ الْآنَ فَلْيُتَأَمَّلْ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ بإحلال الغنائم والأسرى لكم لمسكم أي لنا لكم وَأَصَابَكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ مِنَ الْفِدَاءِ

وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الْغَنَائِمَ ثُمَّ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا

قال الحافظ في الفتح فيه اخْتِصَاصُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِحِلِّ الْغَنِيمَةِ وَكَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَفِيهَا نَزَلَ قَوْلُهُ تعالى فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا فَأَحَلَّ اللَّهُ لَهُمُ الْغَنِيمَةَ

وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ في الصحيح من حديث بن عَبَّاسٍ وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي أَوَائِلِ فَرْضِ الْخُمُسِ أَنَّ أَوَّلَ غَنِيمَةٍ خُمِّسَتْ غَنِيمَةُ السَّرِيَّةِ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَذَلِكَ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِمَا ذَكَرَ بن سعد أنه أَخَّرَ غَنِيمَةَ تِلْكَ السَّرِيَّةِ حَتَّى رَجَعَ مِنْ بَدْرٍ فَقَسَمَهَا مَعَ غَنَائِمِ

ص: 377

بَدْرٍ

وَفِيهِ أَنَّ مَنْ مَضَى كَانُوا يَغْزُونَ وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَ أَعْدَائِهِمْ وَأَسْلَابِهِمْ لَكِنْ لَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا بَلْ يَجْمَعُونَهَا وَعَلَامَةُ قَبُولِ غَزْوِهِمْ ذَلِكَ أَنْ تَنْزِلَ النَّارُ مِنَ السَّمَاءِ فَتَأْكُلَهَا وَعَلَامَةُ عَدَمِ قَبُولِهِ أَنْ لَا تَنْزِلَ

وَمِنْ أَسْبَابِ عَدَمِ الْقَبُولِ أَنْ يَقَعَ فِيهِمُ الْغُلُولُ وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ وَرَحِمَهَا لِشَرَفِ نَبِيِّهَا عِنْدَهُ فَأَحَلَّ لَهُمُ الْغَنِيمَةَ وَسَتَرَ عَلَيْهِمُ الْغُلُولَ فَطَوَى عَنْهُمْ فَضِيحَةَ أَمْرِ عَدَمِ الْقَبُولِ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى نِعَمِهِ تَتْرَى وَدَخَلَ فِي عُمُومِ أَكْلِ النَّارِ الْغَنِيمَةَ السَّبْيُ وَفِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ إِهْلَاكُ الذُّرِّيَّةِ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ النِّسَاءِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ وَيَلْزَمُ اسْتِثْنَاؤُهُمْ مِنْ تَحْرِيمِ الْغَنَائِمِ عَلَيْهِمْ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُمْ كَانَتْ لَهُمْ عَبِيدٌ وَإِمَاءٌ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُمُ السَّبْيُ لَمَا كَانَ لَهُمْ أَرِقَّاءُ وَيُشْكِلُ عَلَى الْحَظْرِ أَنَّهُ كَانَ السَّارِقُ يُسْتَرَقُّ كَمَا فِي قِصَّةِ يُوسُفَ وَلَمْ أَرَ مَنْ صرح بذلك انتهى

قوله (عن عمرو بن مرة) هو بن عبد الله بن طارق الجعلي

قَوْلُهُ (فَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ قِصَّةً) قَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا فِي بَابِ الْمَشُورَةِ مِنْ أَبْوَابِ الْجِهَادِ (لَا يَنْفَلِتَنَّ أَحَدٌ) أَيْ لَا يَتَخَلَّصَنَّ (مِنْهُمْ) أَيْ مِنَ الْأُسَارَى (وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِ عُمَرَ) أَيْ نَزَلَ الْقُرْآنُ مُوَافِقًا لِقَوْلِ عُمَرَ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى أَيْ مَا كَانَ يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ لِنَبِيٍّ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ

وَالْمَعْنَى مَا كَانَ لنبي أن يحبس كافرا قدر عليه وسار فِي يَدِهِ أَسِيرًا لِلْفِدَاءِ وَالْمَنِّ

وَالْأَسْرَى جَمْعُ أَسِيرٍ وَأُسَارَى جَمْعُ الْجَمْعِ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ الْإِثْخَانُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عِبَارَةٌ عَنْ قُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ يُقَالُ أَثْخَنَهُ الْمَرَضُ إِذَا اشْتَدَّتْ قُوَّتُهُ عَلَيْهِ وَالْمَعْنَى حَتَّى يُبَالِغَ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَيَغْلِبَهُمْ وَيَقْهَرَهُمْ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ فَلَهُ أن يقدم على الأسر

ص: 378