الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيأسر الأسارى وبقبة الْآيَةِ مَعَ تَفْسِيرِهَا هَكَذَا تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا
يَعْنِي تُرِيدُونَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا بِأَخْذِكُمُ الْفِدَاءَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَإِنَّمَا سَمَّى مَنَافِعَ الدُّنْيَا عَرَضًا لِأَنَّهُ لَا ثَبَاتَ لَهَا وَلَا دَوَامَ فَكَأَنَّهَا تَعْرِضُ ثُمَّ تَزُولُ بِخِلَافِ مَنَافِعِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهَا دَائِمَةٌ لَا انْقِطَاعَ لَهَا واللَّهُ يُرِيدُ لكم الْآخِرَةَ أَيْ ثَوَابَهَا بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَقَهْرِهِمْ وَنَصْرِكُمُ الدِّينَ لِأَنَّهَا دَائِمَةٌ بِلَا زَوَالٍ وَلَا انْقِطَاعٍ واللَّهُ عَزِيزٌ لَا يُقْهَرُ وَلَا يُغْلَبُ حَكِيمٌ في تدبير مصالح عباده
قوله (هذا حديث حسن) وأخرجه أحمد وَاعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ عَلِيٍّ الَّذِي قَدْ مَرَّ فِي بَابِ قَتْلِ الْأَسْرَى وَالْفِدَاءِ مِنْ أَبْوَابِ السِّيَرِ ظَاهِرُهُ يُخَالِفُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ هَذَا وَظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ الْجَمْعِ هُنَاكَ فَعَلَيْكَ أَنْ تُرَاجِعَهُ
قَوْلُهُ (هذا حديث حسن) وأخرجه أحمد
0 -
(باب وَمِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ)
هِيَ مَدَنِيَّةٌ بِإِجْمَاعِهِمْ قَالَ بن الْجَوْزِيِّ سِوَى آيَتَيْنِ فِي آخِرِهَا لَقَدْ جَاءَكُمْ رسول من أنفسكم فَإِنَّهُمَا نَزَلَتَا بِمَكَّةَ وَهِيَ مِائَةٌ وَتِسْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً وَقِيلَ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ آيَةً
قَوْلُهُ (وَسَهْلُ بْنُ يُوسُفَ) الْأَنْمَاطِيُّ الْبَصْرِيُّ ثِقَةٌ رُمِيَ بِالْقَدَرِ مِنْ كِبَارِ التَّاسِعَةِ
(حَدَّثَنِي يَزِيدُ الْفَارِسِيُّ) الْبَصْرِيُّ مَقْبُولٌ مِنَ الرَّابِعَةِ
قَوْلُهُ (مَا حَمَلَكُمْ) أَيْ مَا الْبَاعِثُ وَالسَّبَبُ لَكُمْ (أَنْ عَمَدْتُمْ) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ عَلَى أَنْ قَصَدْتُمْ (وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي)
قَالَ فِي الْمَجْمَعِ يُقَالُ الْمَثَانِي عَلَى كُلِّ سُورَةٍ أَقَلَّ مِنَ الْمِئِينَ وَمِنْهُ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنْ
الْمَثَانِي انْتَهَى
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ الْمَثَانِي السُّورَةُ الَّتِي تَقْصُرُ عَنِ الْمِئِينَ وَتَزِيدُ عَلَى الْمُفَصَّلِ كأن المئين جعلت مبادىء والَّتِي تَلِيهَا مَثَانِيَ (وَإِلَى بَرَاءَةٌ) هِيَ سُورَةُ التَّوْبَةِ وَهِيَ أَشْهَرُ أَسْمَائِهَا وَلَهَا أَسْمَاءٌ أُخْرَى تَزِيدُ عَلَى الْعَشَرَةِ قَالَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ (وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ) أَيْ ذَوَاتِ مِائَةِ آيَةٍ
قَالَ فِي الْمَجْمَعِ أَوَّلُ الْقُرْآنِ السَّبْعُ الطُّوَلُ ثُمَّ ذَوَاتُ الْمِئِينَ أَيْ ذَوَاتُ مِائَةِ آيَةٍ ثم المثاني ثم المفصل انتهى
والمئين جَمْعُ الْمِائَةِ وَأَصْلُ الْمِائَةِ مَأْيٌ كَمَعْيٍ وَالْيَاءُ عوضا عَنِ الْوَاوِ وَإِذَا جَمَعْتَ الْمِائَةُ قُلْتَ مِئُونَ وَلَوْ قُلْتَ مِئَاتٌ جَازَ (فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ (مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ) تَقْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ وَتَوْجِيهُ السُّؤَالِ أَنَّ الْأَنْفَالَ لَيْسَ مِنَ السَّبْعِ الطَّوَلِ لِقِصَرِهَا عَنِ الْمِئِينَ لِأَنَّهَا سَبْعٌ وَسَبْعُونَ آيَةً وَلَيْسَتْ غَيْرَهَا لِعَدَمِ الْفَصْلِ بَيْنَهَا وبين براءة (كان رسول الله مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ) أَيِ الزَّمَانُ الطَّوِيلُ وَلَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَرُبَّمَا يَأْتِي عَلَيْهِ الزمان (وهو) أي النبي وَالْوَاوُ لِلْحَالِ (يُنْزَلُ عَلَيْهِ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ) يَعْنِي مِنَ الْقُرْآنِ (دَعَا بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ) أَيِ الْوَحْيَ كَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِمَا (فَإِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ فَيَقُولُ ضَعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا) هَذَا زِيَادَةُ جَوَابٍ تَبَرَّعَ بِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ الْآيَاتِ تَوْقِيفِيٌّ وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ وَالنُّصُوصُ الْمُتَرَادِفَةُ
وَأَمَّا تَرْتِيبُ السُّوَرِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ كَمَا فِي الْإِتْقَانِ (وَكَانَتْ بَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ) أَيْ نُزُولًا كَمَا فِي رِوَايَةٍ أَيْ فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ أَيْضًا وَبَيْنَهُمَا النِّسْبَةُ التَّرْتِيبِيَّةُ بِالْأَوَّلِيَّةِ وَالْآخِرِيَّةِ فَهَذَا أَحَدُ وُجُوهِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا (وَكَانَتْ قِصَّتُهَا) أَيِ الْأَنْفَالِ (شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا) أَيْ بَرَاءَةٍ وَيَجُوزُ الْعَكْسُ وَوَجْهُ كَوْنِ قِصَّتِهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا أَنَّ فِي الْأَنْفَالِ ذِكْرُ الْعُهُودِ وَفِي بَرَاءَةٍ نَبْذُهَا فَضُمَّتْ إِلَيْهَا (فَظَنَنْتَ أَنَّهَا) أَيِ التَّوْبَةَ (مِنْهَا) أَيِ الْأَنْفَالِ وَكَأَنَّ هَذَا مُسْتَنَدُ مَنْ قَالَ إِنَّهُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ ما أخرجه أبو الشيخ عن دوق وأبو يعلى عن مجاهد وبن أبي حاتم عن سفيان وبن لَهِيعَةَ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ بَرَاءَةٌ مِنَ الْأَنْفَالِ وَلِهَذَا لَمْ تُكْتَبِ الْبَسْمَلَةُ بَيْنَهُمَا مَعَ اشْتِبَاهِ طرقهما ورد بتسمية النبي كُلٍّ مِنْهُمَا بِاسْمٍ مُسْتَقِلٍّ
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ
إِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَمْ تَكُنْ فِيهَا لِأَنَّ جِبْرِيلَ عليه الصلاة والسلام لم ينزل بها فيها وعن بن عَبَّاسٍ لَمْ تُكْتَبِ الْبَسْمَلَةُ فِي بَرَاءَةٌ لِأَنَّهَا أَمَانٌ وَبَرَاءَةٌ نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ
وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّ أَوَّلَهَا لَمَّا سَقَطَ سَقَطَتْ مَعَهُ الْبَسْمَلَةُ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا كَانَتْ تَعْدِلُ الْبَقَرَةَ لِطُولِهَا وَقِيلَ إنها ثابتة أولها في مصحف بن مَسْعُودٍ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَى ذَلِكَ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ (وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا) أَيْ لم يبين لنا رسول الله أَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الْأَنْفَالِ أَوْ لَيْسَتْ مِنْهَا (فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ) أَيْ لِمَا ذُكِرَ مِنْ عدم تبينا ووجود مَا ظَهَرَ لَنَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا (قَرَنْتَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أَيْ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا سُورَةٌ مستقلة لأن البسملة كانت تنزل عليه لِلْفَصْلِ وَلَمْ تَنْزِلْ وَلَمْ أَكْتُبْ وَوَضَعْتُهَا فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ
قَالَ الطِّيبِيُّ دَلَّ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُمَا نَزَلَتَا مَنْزِلَةَ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَمُلَ السَّبْعُ الطُّوَلُ بِهَا ثُمَّ قِيلَ السَّبْعُ الطُّوَلُ هِيَ الْبَقَرَةُ وَبَرَاءَةٌ وَمَا بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ لكن روى النسائي والحاكم عن بن عَبَّاسٍ أَنَّهَا الْبَقَرَةُ وَالْأَعْرَافُ وَمَا بَيْنَهُمَا
قَالَ الرَّاوِي وَذَكَرَ السَّابِعَةَ فَنَسِيتُهَا وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْفَاتِحَةُ فَإِنَّهَا مِنَ السَّبْعِ الْمَثَانِي أَوْ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَنَزَلَتْ سَبْعَتُهَا مَنْزِلَةَ الْمِئِينَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَنْفَالُ بِانْفِرَادِهَا أَوْ بِانْضِمَامِ ما بعدها إليها
وصح عن بن جبير أنها يونس وجاء مثله عن بن عَبَّاسٍ وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْأَنْفَالَ وَمَا بَعْدَهَا مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهَا مِنَ الْمَثَانِي وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سُورَةٌ أَوْ هُمَا سُورَةٌ
(هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وبن حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ
قَوْلُهُ (عن زائدة) هو بن قدامة
قَوْلُهُ (أَنَّهُ شَهِدَ) أَيْ حَضَرَ (وَذَكَّرَ) مِنَ التذكير (ثم قال) أي النبي لِلنَّاسِ أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ أَيْ أَعْظَمُ حُرْمَةً كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عند أحمد (فقال الناس يوم الحج الأكبر) قِيلَ هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَقِيلَ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ أَيْ تَعَرُّضُهَا عَلَيْكُمْ حَرَامٌ أَيْ مُحَرَّمٌ لَيْسَ لِبَعْضِكُمْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِبَعْضٍ فَيُرِيقَ دَمَهُ أَوْ يَسْلُبَ مَالَهُ أَوْ يَنَالَ مِنْ عِرْضِهِ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا يَعْنِي تَعَرُّضَ بَعْضِكُمْ دِمَاءَ بَعْضٍ وَأَمْوَالِهِ وَأَعْرَاضِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ كَحُرْمَةِ التَّعَرُّضِ لَهَا فِي هَذَا الْيَوْمِ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَيْ مَكَّةَ أَوِ الْحَرَمِ الْمُحْتَرَمِ فِي شَهْرِكُمْ هَذَا أَيْ ذِي الْحِجَّةِ أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ مِنْ أَبْوَابِ الْفِتَنِ أَلَا حَرْفُ التَّنْبِيهِ إِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ أَيْ فِي الدِّينِ فَلَيْسَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَيْ لَا يَجُوزُ وَلَا يُبَاحُ لَهُ إِلَّا مَا أَحَلَّ مِنْ نَفْسِهِ أَيْ مَا أَبَاحَ لَهُ أَخُوهُ مِنْ نَفْسِهِ وَإِنَّ كُلَّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ أَيْ كَالشَّيْءِ الْمَوْضُوعِ تَحْتَ القدم وهو مجاز عن إبطاله لكم رؤوس أَيْ أُصُولُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ بِزِيَادَةٍ وَلَا تُظْلَمُونَ بِنَقْصٍ غَيْرَ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ كَذَا وَقَعَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ وَلَمْ يظهر لي معنى الاستثناء ووقع عند بن أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ عَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَحْوَصِ عَنْ أبيه قال خطب رسول الله فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ أَلَا إِنَّ كُلَّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ عَنْكُمْ كُلُّهُ لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وَأَوَّلُ رِبًا مَوْضُوعٍ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مسلم وربا الجاهلية موضوعة وَأَوَّلُ مَا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ
عبد المطلب فإنه موضوع كله
قال النووي قوله فِي الرِّبَا إِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ مَعْنَاهُ الزَّائِدُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ إِيضَاحٌ وَإِلَّا فَالْمَقْصُودُ مَفْهُومٌ مِنْ نَفْسِ لَفْظِ الْحَدِيثِ لِأَنَّ الرِّبَا هُوَ الزِّيَادَةُ فَإِذَا وُضِعَ الرِّبَا فَمَعْنَاهُ وَضْعُ الزِّيَادَةِ وَالْمُرَادُ بِالْوَضْعِ الرَّدُّ وَالْإِبْطَالُ انْتَهَى
وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ أَيْ مَتْرُوكٌ لَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ وَلَا كَفَّارَةَ وَأَوَّلُ دَمٍ أَضَعُ أَيْ أَضَعُهُ وَأُبْطِلُهُ دَمُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دم بن رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ
قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ وَالْجُمْهُورُ اسْمُ هَذَا الِابْنِ إِيَاسُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَقِيلَ اسْمُهُ حَارِثَةُ وَقِيلَ آدَمُ
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَهُوَ تَصْحِيفٌ وَقِيلَ اسْمُهُ تَمَّامٌ وَمِمَّنْ سَمَّاهُ آدَمُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَرَوَاهُ بَعْضُ رُوَاةِ مُسْلِمٍ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَقِيلَ وَهُوَ وَهْمٌ والصواب بن ربيعة لأن ربيعة عاش بعد النبي إِلَى زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَتَأَوَّلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فَقَالَ دَمُ رَبِيعَةَ لِأَنَّهُ وَلِيُّ الدَّمِ فَنَسَبُهُ إِلَيْهِ قَالُوا وَكَانَ هَذَا الِابْنُ الْمَقْتُولُ طِفْلًا صَغِيرًا يَحْبُو بَيْنَ الْبُيُوتِ فَأَصَابَهُ حَجَرٌ فِي حَرْبٍ كَانَتْ بَيْنَ بَنِي سَعْدٍ وَبَنِي لَيْثِ بْنِ بَكْرٍ
قَالَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ انْتَهَى (كَانَ مُسْتَرْضَعًا) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ كَانَ لَهُ ظِئْرٌ تُرْضِعُهُ فِي بَنِي لَيْثٍ (أَلَا) بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا الِاسْتِيصَاءُ قَبُولُ الْوَصِيَّةِ أَيْ أُوصِيكُمْ بِهِنَّ خَيْرًا فَاقْبَلُوا وَصِيَّتِي فِيهِنَّ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ الْأَظْهَرُ أَنَّ السِّينَ لِلطَّلَبِ أَيِ اطْلُبُوا الْوَصِيَّةَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِخَيْرٍ أَوْ يَطْلُبُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ بِالْإِحْسَانِ فِي حَقِّهِنَّ وَقِيلَ الِاسْتِيصَاءُ بِمَعْنَى الْإِيصَاءِ فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ جَمْعُ عَانِيَةٍ أَيْ أُسَرَاءُ كَالْأُسَرَاءِ شُبِّهْنَ بِهِنَّ عِنْدَ الرِّجَالِ لِتَحَكُّمِهِنَّ فِيهِنَّ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ الْعَانِي الْأَسِيرُ وَكُلُّ مَنْ ذُلَّ وَاسْتَكَانَ وَخَضَعَ فَقَدْ عَنَا يَعْنُو أَوْ هُوَ عَانٍ وَالْمَرْأَةُ عَانِيَةٌ وَجَمْعُهَا عَوَانٍ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا أَيْ شَيْئًا مِنَ الْمِلْكِ أَوْ شَيْئًا مِنَ الْهِجْرَانِ وَالضَّرْبِ غَيْرَ ذَلِكَ أَيْ غَيْرَ الِاسْتِيصَاءِ بِهِنَّ الْخَيْرَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ الْفَاحِشَةُ كُلُّ مَا يَشْتَدُّ قُبْحُهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي وَكَثِيرًا مَا ترد بمعنى الزنى وَكُلُّ خَصْلَةٍ قَبِيحَةٍ فَهِيَ فَاحِشَةٌ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ فَإِنْ فَعَلْنَ أَيْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَاهْجُرُوهُنَّ
يشتد قبحه في المضاجع قال بن عَبَّاسٍ هُوَ أَنْ يُوَلِّيَهَا ظَهْرَهُ فِي الْفِرَاشِ وَلَا يُكَلِّمَهَا وَقِيلَ هُوَ أَنْ يَعْتَزِلَ عَنْهَا إِلَى فِرَاشٍ آخَرَ (وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ قَالَ النَّوَوِيُّ الضَّرْبُ الْمُبَرِّحُ هُوَ الضَّرْبُ الشَّدِيدُ الشَّاقُّ وَمَعْنَاهُ اضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا لَيْسَ بِشَدِيدٍ وَلَا شَاقٍّ وَالْبَرَحُ الْمَشَقَّةُ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ أَيْ فِيمَا يُرَادُ مِنْهُنَّ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أَيْ فَلَا تَطْلُبُوا عَلَيْهِنَّ طَرِيقًا إِلَى هِجْرَانِهِنَّ وَضَرْبِهِنَّ ظُلْمًا فَلَا يُوطِئْنَ بِهَمْزَةٍ أَوْ بِإِبْدَالِهَا مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ فُرُشَكُمْ بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ أَوَّلُ (مَنْ تَكْرَهُونَ) مَفْعُولٌ ثَانٍ أَيْ مَنْ تَكْرَهُونَهُ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً
قَالَ النَّوَوِيُّ الْمُخْتَارُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ لَا يَأْذَنَّ لِأَحَدٍ تَكْرَهُونَهُ فِي دُخُولِ بُيُوتِكُمْ وَالْجُلُوسِ فِي مَنَازِلِكُمْ
سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْذُونُ لَهُ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَحَدًا مِنْ مَحَارِمِ الزَّوْجَةِ فَالنَّهْيُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ ذَلِكَ وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ هَذَا كَالتَّفْسِيرِ لِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ عَامٌّ (أَلَا وَإِنَّ حَقَّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كسوتهن أو طعامهن) وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح) وأخرجه بن مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ فِي بَابِ تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدُ الْوَارِثِ) بْنُ سَعِيدِ بْنِ ذَكْوَانَ الْعَنْبَرِيُّ الْبَصْرِيُّ صَدُوقٌ مِنَ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ
قَوْلُهُ (سَأَلْتَ رسول الله عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَقَالَ يَوْمُ النَّحْرِ) فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ إِنَّ
يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ
وَلِحَدِيثِ على هذا شاهد من حديث بن عمر عند أبي داود وبن مَاجَهْ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا
وَقَدْ وَرَدَتْ فِي ذلك أحاديث أخرى ذكرها الحافظ بن كثير وغيره
واختاره بن جَرِيرٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ
وَقَالَ آخرون منهم عمرو بن عَبَّاسٍ وَطَاوُسٌ إِنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ
وَحَدِيثُ عَلِيٍّ هَذَا قَدْ تَقَدَّمَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا في أواخر أبواب الحج وأخرجه أيضا بن المنذر وبن أبي حاتم وبن مردويه
قَوْلُهُ (وَعَبْدُ الصَّمَدِ) بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ
قَوْلُهُ (بعث النبي بِبَرَاءَةٍ) يَجُوزُ فِيهِ التَّنْوِينُ بِالرَّفْعِ عَلَى الْحِكَايَةِ وَبِالْجَرِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَامَةُ الْجَرِّ فَتْحَةً وَهُوَ الثَّابِتُ فِي الرِّوَايَاتِ (مَعَ أَبِي بَكْرٍ) وَكَانَ بَعَثَهُ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِسَنَةٍ وَكَانَتْ حَجَّةُ الْوَدَاعِ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ (ثم دعاه) أي ثم دعا النبي أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُبَلِّغَ هَذَا إِلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي فَدَعَا عَلِيًّا قَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِرْسَالِ عَلِيٍّ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ جَرَتْ بِأَنْ لَا يَنْقُضَ الْعَهْدُ إِلَّا مَنْ عَقَدَهُ أَوْ مَنْ هُوَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَأَجْرَاهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِمْ وَلِهَذَا قَالَ لَا يُبَلِّغُ هَذَا إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي (فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ) أَيْ فَأَعْطَى عَلِيًّا بَرَاءَةً
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) هُوَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله (أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الضبي أبو عثمان الواسطي نزيل بغداد البزاز لَقَبُهُ سَعْدَوَيْهِ ثِقَةٌ حَافِظٌ مِنْ كِبَارِ الْعَاشِرَةِ
قوله (بعث النبي أبا بكر) وروى الطبري عن بن عباس قال بعث رسول الله أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ وَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ لِلنَّاسِ حَجَّهُمْ فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ (وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ) أَيْ أَمَرَ النَّبِيُّ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُنَادِيَ بِهَا
وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ لَمَّا نَزَلَتْ عَشْرُ آيَاتٍ من براءة بعث بها النبي مَعَ أَبِي بَكْرٍ لِيَقْرَأَهَا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ أَدْرِكْ أَبَا بَكْرٍ فَحَيْثُمَا لَقِيتَهُ فَخُذْ مِنْهُ الْكِتَابَ فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَزَلَ فِيَّ شَيْءٌ فَقَالَ لَا إِلَّا أَنَّهُ لَنْ يُؤَدِّيَ أَوْ لَكِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لَا يُؤَدِّي عَنْكَ إِلَّا أنت أو رجل منك
قال بن كَثِيرٍ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه رَجَعَ مِنْ فَوْرِهِ بَلْ بَعْدَ قَضَائِهِ لِلْمَنَاسِكِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ لِقُرْبِ الْمَسَافَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ عَشْرُ آيَاتٍ فَالْمُرَادُ أَوَّلُهَا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (ثُمَّ أَتْبَعَهُ عَلِيًّا) أَيْ أَتْبَعَ رَسُولُ اللَّهِ أَبَا بَكْرٍ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا (إذ سمع رغاء ناقة رسول الله) بِضَمِّ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ صَوْتُ ذَوَاتِ الْخُفِّ وَقَدْ رَغَا الْبَعِيرُ يَرْغُو رُغَاءً بِالضَّمِّ وَالْمَدِّ أَيْ ضَجَّ (الْقُصْوَى) هُوَ لَقَبُ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ (فدفع إليه كتاب رسول الله) أَيْ دَفَعَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَلِيٍّ كِتَابَهُ (فَسِيحُوا) سِيرُوا آمِنَينَ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ (فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ عَلِيٍّ الْآتِي بَعْدَ هَذَا (وَلَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ) أَيْ بَعْدَ الزَّمَانِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْإِعْلَامُ بِذَلِكَ (فَإِذَا عَيِيَ) بِكَسْرِ
التحتية الأولى
يقال عيي يعيى عِيًّا وَعَيَاءً بِأَمْرِهِ وَعَنْ أَمْرِهِ عَجَزَ عَنْهُ وَلَمْ يُطِقْ أَحْكَامَهُ أَوْ لَمْ يَهْتَدِ لِوَجْهِ مراده وعيى يعيى عَيًّا فِي الْمَنْطِقِ حُصِرَ
تَنْبِيهٌ قال الْخَازِنُ قَدْ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ فِي بَعْثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِقِرَاءَةِ أَوَّلِ بَرَاءَةٍ عَزْلَ أَبِي بَكْرٍ عَنِ الْإِمَارَةِ وَتَفْضِيلَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَذَلِكَ جَهْلٌ مِنْ هَذَا الْمُتَوَهِّمِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَزَلْ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بَعَثَهُ في الحجة التي أمره رسول الله عَلَيْهَا قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُونَ فِي النَّاسِ الْحَدِيثَ وَفِي لَفْظِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ قَالَ بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ بِمِنًى أَنَّ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ فَقَوْلُهُ بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ هُوَ الْأَمِيرَ عَلَى النَّاسِ وَهُوَ الَّذِي أَقَامَ لِلنَّاسِ حَجَّهُمْ وَعَلَّمَهُمْ مَنَاسِكَهُمْ وَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْ بَعْثِ رَسُولِ اللَّهِ عَلِيًّا لِيُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ بِبَرَاءَةٍ بِأَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ جَرَتْ أَنْ لَا يَتَوَلَّى تَقْرِيرَ الْعَهْدِ وَنَقْضَهُ إِلَّا سَيِّدُ الْقَبِيلَةِ وَكَبِيرُهَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَقَارِبِهِ وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أقرب إلى النبي من أبي بكر لأنه بن عمه ومن رهطه فبعثه النبي لِيُؤَذِّنَ عَنْهُ بِبَرَاءَةٍ إِزَاحَةً لِهَذِهِ الْعِلَّةِ لِئَلَّا يَقُولُوا هَذَا عَلَى خِلَافِ مَا نَعْرِفُهُ عَنْ عَادَتِنَا فِي عَقْدِ الْعُهُودِ وَنَقْضِهَا
وَقِيلَ لَمَّا خَصَّ أَبَا بَكْرٍ لِتَوْلِيَتِهِ عَلَى الْمَوْسِمِ خَصَّ عَلِيًّا بِتَبْلِيغِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ وَرِعَايَةً لِجَانِبِهِ وَقِيلَ إِنَّمَا بَعَثَ عَلِيًّا فِي هَذِهِ الرِّسَالَةُ حَتَّى يُصَلِّيَ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَيَكُونَ جَارِيًا مَجْرَى التَّنْبِيهِ عَلَى إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ بعد رسول الله لأن النبي بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَاجِّ وَوَلَّاهُ الْمَوْسِمَ وَبَعَثَ عَلِيًّا خَلْفَهُ لِيَقْرَأَ عَلَى النَّاسِ بِبَرَاءَةٍ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْإِمَامَ وَعَلِيٌّ الْمُؤْتَمَّ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه الْخَطِيبَ وَعَلِيٌّ الْمُسْتَمِعَ
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْمُتَوَلِّي أَمْرَ الْمَوْسِمِ وَالْأَمِيرَ عَلَى النَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِعَلِيٍّ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى عَلِيٍّ وَفَضْلِهِ عَلَيْهِ انْتَهَى
قُلْتُ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَزَلْ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ حَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ وَإِسْحَاقَ فِي مُسْنَدِهِ وَالنَّسَائِيِّ والدارمي وبن خزيمة وبن حبان أن النبي حِينَ رَجَعَ مِنْ عُمْرَةِ الْجِعِرَّانَةِ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ فَأَقْبَلْنَا مَعَهُ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَرَجِ ثَوَّبَ بِالصُّبْحِ فَسَمِعَ رَغْوَةَ نَاقَةِ النبي فَإِذَا عَلِيٌّ عَلَيْهَا فَقَالَ لَهُ أَمِيرٌ أَوْ رسول فقال بل أرسلني رسول الله بِبَرَاءَةٍ أَقْرَؤُهَا عَلَى النَّاسِ الْحَدِيثَ
قَوْلُهُ (وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عَهْدٌ فَهُوَ إِلَى مُدَّتِهِ
وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ أربعة
أَشْهُرٍ)
قَالَ الْحَافِظُ اسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَخْتَصُّ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ أَصْلًا وَأَمَّا مَنْ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ فَهُوَ إِلَى مُدَّتِهِ
فروى الطبري من طريق بن إِسْحَاقَ قَالَ هُمْ صِنْفَانِ صِنْفٌ كَانَ لَهُ عَهْدٌ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَأُمْهِلَ إِلَى تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَصِنْفٌ كَانَتْ لَهُ مُدَّةٌ عَهْدِهِ بِغَيْرِ أَجَلٍ فَقُصِرَتْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ بن عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرَ أَجَلُ مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ بِقَدْرِهَا أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهَا وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ عَهْدٌ فَانْقِضَاؤُهُ إِلَى سَلْخِ الْمُحَرَّمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الحرم فاقتلوا المشركين ومن طريق عبيدة بن سلمان سمعت (عن) الضحاك أن رسول الله عَاهَدَ نَاسًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ فَنَزَلَتْ بَرَاءَةٌ فَنَبَذَ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ عَهْدَهُ وَأَجَّلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ فَأَجَلُهُ إِلَى انْقِضَاءِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ
وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ نَحْوُهُ وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ كَانَ أَوَّلُ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ عِنْدَ نُزُولِ بَرَاءَةٌ فِي شَوَّالَ فَكَانَ آخِرُهَا آخِرَ الْمُحَرَّمِ فَبِذَلِكَ يُجْمَعُ بَيْنَ ذِكْرِ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا المشركين وَاسْتَبْعَدَ الطَّبَرِيُّ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ بُلُوغَهُمُ الخبر إنما كان عندما وقع به النِّدَاءُ بِهِ فِي ذِي الْحِجَّةِ فَكَيْفَ يُقَالُ لَهُمْ سِيحُوا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا دُونَ الشَّهْرَيْنِ ثُمَّ أُسْنِدَ عَنِ السُّدِّيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ تَمَامَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فِي رَبِيعٍ الْآخِرَ انْتَهَى
قَوْلُهُ (وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) أَيْ وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي بَابِ كَرَاهِيَةِ الطَّوَافِ عُرْيَانًا بَعْدَ رِوَايَةِ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ يُثَيِّعٍ الْمَذْكُورِ وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ هُنَاكَ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ إِلَخْ) هَذِهِ الْعِبَارَةِ مِنْ هُنَا إِلَى قَوْلِهِ وَلَا يُتَابَعُ عليه
قَدْ وَقَعَتْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَسَقَطَتْ فِي بعضها
(عن بن أثيع وعن بن يُثَيِّعٍ) هَذَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ (وَالصَّحِيحُ زَيْدُ بْنُ يُثَيِّعٍ) أَيْ بِالتَّحْتَانِيَّةِ
قَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ قَالَ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ الْمَحْفُوظُ بِالْيَاءِ (وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أُثَيْلٍ) أَيْ بِاللَّامِ مَكَانَ الْعَيْنِ (وَلَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ) أَيْ لَا يُتَابَعُ شُعْبَةٌ عَلَى لَفْظِ أُثَيْلٍ
قَالَ الدَّوْرِيُّ عن بن مَعِينٍ قَالَ شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زيد بن أثيل قال بن مَعِينٍ وَالصَّوَابُ يُثَيِّعٌ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقُولُ أُثَيْلٌ إِلَّا شُعْبَةُ وَحْدَهُ كَذَا فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ
قَوْلُهُ (إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ يَتَعَاهَدُ قَالَ فِي الْمَجْمَعِ أَيْ يَتَحَافَظُ وَرُوِيَ يَعْتَادُ وَهُوَ أَقْوَى سَنَدًا وَأَوْفَقُ مَعْنًى لِشُمُولِهِ جَمِيعَ مَا يُنَاطُ بِالْمَسْجِدِ مِنَ الْعِمَارَةِ وَاعْتِيَادِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَتَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ شَرْحِهِ فِي بَابِ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ مِنْ أَبْوَابِ الْإِيمَانِ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبِ) بْنِ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيُّ (عَنْ عَمْرِو بْنِ الحارث) الأنصاري المصري (الْعُتْوَارِيُّ) بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَبِرَاءٍ نِسْبَةً إِلَى عُتْوَرَةَ بَطْنٌ مِنْ كِنَانَةَ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى) الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ (عَنْ ثوبان) الهاشمي مولى النبي
قَوْلُهُ (فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أُنْزِلَتْ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) أَيْ هَذِهِ الْآيَةُ وَعَرَفْنَا حُكْمَهُمَا وَمَذَمَّتَهُمَا (لَوْ عَلِمْنَا) لَوْ لِلتَّمَنِّي (أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ) مبتدأ وخبر والجملة سدت مسد المفعولين لعلمنا تَعْلِيقًا (فَنَتَّخِذَهُ) مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ الْفَاءِ جوابا للتمني قيل السؤال وإن كان من تعيين المال ظاهرا لكنهم أراد وما ينتفع به عند تراكم الحوائج فذلك أَجَابَ عَنْهُ بِمَا أَجَابَ فَفِيهِ شَائِبَةٌ عَنِ الْجَوَابِ عَنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ (فَقَالَ أَفْضَلُهُ) أَيْ أَفْضَلُ الْمَالِ أَوْ أَفْضَلُ مَا يَتَّخِذُهُ الْإِنْسَانُ قِنْيَةً (لِسَانٌ ذَاكِرٌ) أَيْ بِتَمْجِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيسِهِ وَتَسْبِيحِهِ وَتَهْلِيلِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَحَامِدِهِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ (وَقَلْبٌ شَاكِرٌ) أَيْ عَلَى إِنْعَامِهِ وَإِحْسَانِهِ (وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُعِينُهُ عَلَى إِيمَانِهِ) أَيْ عَلَى دِينِهِ بِأَنْ تُذَكِّرَهُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَغَيْرَهُمَا من العبادات وتمنعه من الزنى وَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ أحمد وبن مَاجَهْ
قَوْلُهُ (عَنْ غُطَيْفِ بْنِ أَعْيَنَ) الشَّيْبَانِيِّ الْجَزَرِيِّ وَيُقَالُ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ ضَعِيفٌ مِنَ السَّابِعَةِ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ فِي تَرْجَمَتِهِ رَوَى لَهُ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثًا وَاحِدًا وَقَالَ لَيْسَ بِمَعْرُوفِ فِي الْحَدِيثِ
قَوْلُهُ (وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ) هُوَ كُلُّ مَا كَانَ عَلَى شَكْلِ خَطَّيْنِ مُتَقَاطِعَيْنِ
وَقَالَ فِي الْمَجْمَعِ هُوَ الْمُرَبَّعُ مِنَ الْخَشَبِ لِلنَّصَارَى يَدَّعُونَ أَنَّ عِيسَى عليه السلام صُلِبَ عَلَى خَشَبَةٍ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ (اطْرَحْ عَنْكَ) أَيْ أَلْقِ عَنْ عُنُقِكَ (هذا الوثن) هو كل ماله جثة معمولة
مِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ أَوْ مِنَ الْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ كَصُورَةِ الْآدَمِيِّ وَالصَّنَمُ الصُّورَةُ بِلَا جُثَّةٍ وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ وَقَدْ يُطْلَقُ الْوَثَنُ عَلَى غَيْرِ الصورة ومنه حديث عدي قدمت عليه وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ أَلْقِ هَذَا الْوَثَنَ عَنْكَ قَالَهُ فِي الْمَجْمَعِ (اتَّخَذُوا أخبارهم) أَيْ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ (وَرُهْبَانَهُمْ) أَيْ عُبَّادَ النَّصَارَى (أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) حَيْثُ اتَّبَعُوهُمْ فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ الله
قال أي النبي (أَمَا) بِالتَّخْفِيفِ حَرْفُ التَّنْبِيهِ (إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شيئا) أي جعلوا لَهُمْ حَلَالًا وَهُوَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (اسْتَحَلُّوهُ) أَيِ اعْتَقَدُوهُ حَلَالًا (وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا) أَيْ وَهُوَ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ (حَرَّمُوهُ) أَيِ اعْتَقَدُوهُ حَرَامًا
قَالَ فِي فَتْحِ الْبَيَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَزْجُرُ مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ عَنِ التَّقْلِيدِ فِي دِينِ اللَّهِ وَتَأْثِيرِ مَا يَقُولُهُ الْأَسْلَافُ عَلَى مَا فِي الْكِتَاب الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ فَإِنَّ طَاعَةَ الْمُتَمَذْهِبِ لِمَنْ يَقْتَدِي بِقَوْلِهِ وَيَسْتَنُّ بِسُنَّتِهِ مِنْ عُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِمَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ وَقَامَتْ بِهِ حُجَجُ اللَّهِ وَبَرَاهِينُهُ هُوَ كَاتِّخَاذِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِلْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُمْ بَلْ أَطَاعُوهُمْ وَحَرَّمُوا مَا حَرَّمُوا وَحَلَّلُوا مَا حَلَّلُوا وَهَذَا هُوَ صَنِيعُ الْمُقَلِّدِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهُوَ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ شَبَهِ الْبَيْضَةِ بِالْبَيْضَةِ وَالتَّمْرَةِ بِالتَّمْرَةِ والماء بالماء
فياعباد اللَّهِ مَا بَالُكُمْ تَرَكْتُمُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ جَانِبًا وَعَمَدْتُمْ إِلَى رِجَالٍ هُمْ مِثْلُكُمْ فِي تَعَبُّدِ اللَّهِ لَهُمْ بِهِمَا وَطَلَبِهِ لِلْعَمَلِ مِنْهُمْ بِمَا دلا عليه وأفاداه فعملتم بما جاؤوا بِهِ مِنَ الْآرَاءِ الَّتِي لَمْ تُعْمَدْ بِعِمَادِ الْحَقِّ وَلَمْ تُعْضَدْ بِعَضُدِ الدِّينِ وَنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تُنَادِي بِأَبْلَغِ نِدَاءٍ وَتُصَوِّتُ بِأَعْلَى صَوْتٍ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ وَيُبَايِنُهُ فَأَعَرْتُمُوهَا آذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا وَأَذْهَانًا كَلِيلَةً وَخَوَاطِرَ عَلِيلَةً وَأَنْشَدْتُمْ بِلِسَانِ الْحَالِ وَمَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدُ
انْتَهَى
وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ شَيْخُنَا وَمَوْلَانَا خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ وَالْمُجْتَهِدِينَ رضي الله عنه قَدْ شَاهَدْتُ جَمَاعَةً مِنْ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ فَكَانَتْ مَذَاهِبُهُمْ بِخِلَافِ تِلْكَ الْآيَاتِ فَلَمْ يَقْبَلُوا تِلْكَ الْآيَاتِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا وَبَقَوْا يَنْظُرُونَ إِلَيَّ كَالْمُتَعَجِّبِ يَعْنِي كَيْفَ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ سَلَفِنَا وَرَدَتْ إِلَى خِلَافِهَا وَلَوْ تَأَمَّلْتَ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَجَدْتَ هَذَا الدَّاءَ سَارِيًا فِي عُرُوقِ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا
انْتَهَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أحمد وبن جرير وبن سعد وعبد بن حميد وبن المنذر وبن أبي حاتم وأبو الشيخ وبن مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا هَمَّامٌ) هو بن يَحْيَى الْأَزْدِيُّ الْعَوْذِيُّ (حَدَّثَنَا ثَابِتٌ) هُوَ الْبُنَانِيُّ قوله (قلت للنبي وَنَحْنُ فِي الْغَارِ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِأَقْدَامِ الْقَوْمِ (لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَنْظُرُ إِلَى قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا) فِيهِ مَجِيءُ لَوِ الشَّرْطِيَّةِ لِلِاسْتِقْبَالِ خِلَافًا لِلْأَكْثَرِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَوَّزَهُ بِمَجِيءِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ بَعْدَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَالَهُ حَالَةَ وُقُوفِهِمْ عَلَى الْغَارِ وَعَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ يَكُونُ قَالَهُ بَعْدَ مُضِيِّهِمْ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى صِيَانَتِهِمَا مِنْهُمْ وَوَقَعَ فِي مَغَازِي عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قِصَّةِ الْهِجْرَةِ قَالَ وَأَتَى الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْجَبَلِ الذي فيه الغار الذي فيه النبي حَتَّى طَلَعُوا فَوْقَهُ وَسَمِعَ أَبُو بَكْرٍ أَصْوَاتَهُمْ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ الْهَمُّ وَالْخَوْفُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ له النبي لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا وَدَعَا رَسُولُ الله فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عز وجل إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا الْآيَةَ وَهَذَا يُقَوِّي أَنَّهُ قَالَ مَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ حِينَئِذٍ وَلِذَلِكَ أَجَابَهُ بِقَوْلِهِ لَا تَحْزَنْ
فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا
قَالَ الْحَافِظُ فِي رِوَايَةِ مُوسَى فَقَالَ اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ اثْنَانِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا وَقَوْلُهُ اثْنَانِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ نَحْنُ اثْنَانِ وَمَعْنَى ثَالِثُهُمَا نَاصِرُهُمَا وَمُعِينُهُمَا وَإِلَّا فاللَّهُ ثَالِثُ كُلِّ اثْنَيْنِ بِعِلْمِهِ انْتَهَى
وَقَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَاهُ ثَالِثُهُمَا بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ وَالْحِفْظِ وَالتَّسْدِيدِ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هم محسنون وفيه بيان عظيم توكل النبي حَتَّى فِي هَذَا
الْمَقَامِ وَفِيهِ فَضِيلَةٌ لِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه وَهِيَ مِنْ أَجَلِّ مَنَاقِبِهِ وَالْفَضِيلَةُ مِنْ أَوْجُهٍ مِنْهَا بَذْلُهُ نَفْسَهُ وَمُفَارَقَتُهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَرِيَاسَتَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمُلَازَمَةِ النَّبِيِّ وَمُعَادَاةِ النَّاسِ فِيهِ وَمِنْهَا جَعْلُهُ نَفْسَهُ وِقَايَةً عَنْهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
قَوْلُهُ (لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ) بْنُ سَلُولَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا لَامٌ هُوَ اسْمُ امْرَأَةٍ وَهِيَ وَالِدَةُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ وَهِيَ خُزَاعِيَّةٌ وَأَمَّا هُوَ فَمِنَ الخزرج أحد قبيلتي الأنصار وبن سَلُولَ يُقْرَأُ بِالرَّفْعِ لِأَنَّهُ صِفَةُ عَبْدِ اللَّهِ لَا صِفَةُ أَبِيهِ (أَعَلَى عَدُوِّ اللَّهِ) أَيْ أَتُصَلِّي عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ (الْقَائِلُ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا يَعُدُّ أَيَّامَهُ) يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مِثْلِ قَوْلِهِ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عند رسول الله حتى ينفضوا إلى مِثْلِ قَوْلِهِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَرَسُولُ الله يتبسم استشكل تبسمه فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مَعَ مَا ثَبَتَ أَنَّ ضحكه كَانَ تَبَسُّمًا وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ شُهُودِ الْجَنَائِزِ يَسْتَعْمِلُ ذَلِكَ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ طَلَاقَةِ وَجْهِهِ بِذَلِكَ تَأْنِيسًا لِعُمَرَ وَتَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ كَالْمُعْتَذِرِ عَنْ تَرْكِ قَبُولِ كَلَامِهِ وَمَشُورَتِهِ (قَالَ أَخِّرْ عَنِّي) أَيْ كَلَامَكَ (قَدْ خُيِّرْتُ) أَيْ بَيْنَ الِاسْتِغْفَارِ وَعَدَمِهِ (اسْتَغْفِرْ) يَا مُحَمَّدُ لَهُمْ (أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) تَخْيِيرٌ لَهُ فِي الِاسْتِغْفَارِ وَتَرْكِهِ (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يغفر الله لهم) قِيلَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعِينَ الْمُبَالَغَةُ فِي كَثْرَةِ الِاسْتِغْفَارِ وقيل المراد العدد المخصوص لقوله وَسَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ فَبَيَّنَ لَهُ حَسْمَ الْمَغْفِرَةِ بِآيَةِ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تستغفر لهم كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ (فَعَجَبٌ لِي وَجُرْأَتِي) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ أَيْ إِقْدَامِي عَلَيْهِ
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَعَجِبْتُ بَعْدُ من جرأتي على رسول الله
تنبيه قوله (قد خيرت فاخترت) يدل على أنه فَهِمَ مِنَ الْآيَةِ التَّخْيِيرَ
وَاسْتُشْكِلَ فَهْمُ التَّخْيِيرِ مِنْهَا حَتَّى أَقْدَمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَكَابِرِ عَلَى الطَّعْنِ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ كَثْرَةِ طُرُقِهِ وَاتِّفَاقِ الشَّيْخَيْنِ وَسَائِرِ الَّذِينَ خَرَّجُوا الصَّحِيحَ عَلَى تَصْحِيحِهِ وَذَلِكَ يُنَادِي عَلَى مُنْكَرِي صِحَّتِهِ بِعَدَمِ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَقِلَّةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى طُرُقِهِ
قَالَ الْحَافِظُ وَالسَّبَبُ فِي إِنْكَارِهِمْ صِحَّتَهُ مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ عُمَرُ رضي الله عنه مِنْ حَمْلِ أَوْ عَلَى التَّسْوِيَةِ لِمَا يَقْتَضِيه سِيَاقُ الْقِصَّةِ وَحَمْلِ السبعين على المبالغة
قال بن الْمُنَيِّرِ لَيْسَ عِنْدَ الْبَيَانِ تَرَدُّدٌ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْعَدَدِ فِي هَذَا السِّيَاقِ غَيْرُ مُرَادٍ
قَالَ وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ سَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ اسْتِمَالَةً لِقُلُوبِ عشيرته لأنه أراد إِنْ زَادَ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ وَيُؤَيِّدُهُ تَرَدُّدُهُ فِي ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ حَيْثُ قَالَ لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ لَزِدْتُ لَكِنْ قَدَّمْنَا أَنَّ الرِّوَايَةَ ثَبَتَتْ بِقَوْلِهِ سَأَزِيدُ وَوَعْدُهُ صَادِقٌ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ قَوْلُهُ
وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتِصْحَابًا لِلْحَالِ لِأَنَّ جَوَازَ الْمَغْفِرَةِ بِالزِّيَادَةِ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ مَجِيءِ الْآيَةِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى أَصْلِهِ فِي الْجَوَازِ
وَهَذَا جَوَابٌ حَسَنٌ
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَقَاءِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ مَعَ فَهْمِ الْمُبَالَغَةِ لَا يَتَنَافَيَانِ فَكَأَنَّهُ جَوَّزَ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ تَحْصُلُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى السَّبْعِينَ لَا أَنَّهُ جَازِمٌ بِذَلِكَ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ
قَالَ وَوَقَعَ فِي أَصْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ إِشْكَالٌ آخَرُ وَذَلِكَ أَنَّهُ أَطْلَقَ أَنَّهُ خُيِّرَ بَيْنَ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَعَدَمِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَأَخَذَ بِمَفْهُومِ الْعَدَدِ مِنَ السَّبْعِينَ فَقَالَ سَأَزِيدُ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ قَبْلَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ نُزُولُ قَوْلِهِ تَعَالَى مَا كان للنبي والذي آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قربى فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ أَبِي طالب حين قال لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ فَنَزَلَتْ وَكَانَتْ وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ اتِّفَاقًا وَقِصَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ هَذِهِ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ
الْهِجْرَةِ فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ الِاسْتِغْفَارُ لِلْمُنَافِقِينَ مَعَ الْجَزْمِ بِكُفْرِهِمْ فِي نَفْسِ الْآيَةِ
وَقَدْ وَقَفْتَ عَلَى جَوَابٍ لِبَعْضِهِمْ عَنْ هَذَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ اسْتِغْفَارٌ تُرْجَى إِجَابَتُهُ حَتَّى يَكُونَ مَقْصِدُهُ تَحْصِيلَ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ كَمَا فِي قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ بِخِلَافِ الِاسْتِغْفَارِ لِمِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَإِنَّهُ اسْتِغْفَارٌ لِقَصْدِ تَطْيِيبِ قلوب من بقي منهموهذا الْجَوَابُ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ عِنْدِي وَنَحْوُهُ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ خَفِيَ عَلَى أَفْصَحِ الْخَلْقِ وَأَخْبَرِهِمْ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ وَتَمْثِيلَاتِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْعَدَدِ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ وَلَوْ كَثُرَ لَا يُجْدِي وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ تَلَاهُ قَوْلُهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ الْآيَةَ فَبَيَّنَ الصَّارِفَ عَنِ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ
قُلْتُ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ وَقَالَ مَا قَالَ إِظْهَارًا لِغَايَةِ رَحْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ عَلَى مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِ وَهُوَ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَفِي إظهار النبي الرَّأْفَةَ الْمَذْكُورَةَ لُطْفٌ بِأُمَّتِهِ وَبَاعِثٌ عَلَى رَحْمَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا انْتَهَى
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ مَاتَ مُشْرِكًا لَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ لِمَنْ مَاتَ مُظْهِرًا لِلْإِسْلَامِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُعْتَقَدُهُ صَحِيحًا وَهَذَا جَوَابٌ جَيِّدٌ
وَقَدْ قَدَّمْتُ الْبَحْثَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ وَالتَّرْجِيحُ أَنَّ نُزُولَهَا كَانَ مُتَرَاخِيًا عن قصة أبي طالب جيدا وَأَنَّ الَّذِي نَزَلَ فِي قِصَّتِهِ إِنَّكَ لَا تهدي من أحببت وحررت دليل ذلك هنا إِلَّا أَنَّ فِي بَقِيَّةِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نُزُولَ ذَلِكَ وَقَعَ مُتَرَاخِيًا عَنِ الْقِصَّةِ وَلَعَلَّ الَّذِي نَزَلَ أَوَّلًا وَتَمَسَّكَ النَّبِيُّ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فلن يغفر الله لهم إِلَى هُنَا خَاصَّةً وَلِذَلِكَ اخْتَصَرَ فِي جَوَابِ عُمَرَ عَلَى التَّخْيِيرِ وَعَلَى ذِكْرِ السَّبْعِينَ فَلَمَّا وَقَعَتِ الْقِصَّةُ الْمَذْكُورَةُ كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْغِطَاءَ وفضحهم على رؤوس الْمَلَأِ وَنَادَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا تَأَمَّلَ الْمُتَأَمِّلُ الْمُنْصِفُ وَجَدَ الْحَامِلَ عَلَى مَنْ رَدَّ الْحَدِيثَ أَوْ تَعَسَّفَ فِي التَّأْوِيلِ ظَنَّهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ نَزَلَ مَعَ قَوْلِهِ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَيْ نَزَلَتِ الْآيَةُ كَامِلَةً لِأَنَّهُ لَوْ فُرِضَ نُزُولُهَا كَامِلَةً لَاقْتَرَنَ بِالنَّهْيِ الْعِلَّةُ وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ قَلِيلَ الِاسْتِغْفَارِ وَكَثِيرَهُ لَا يُجْدِي وَإِلَّا فَإِذَا فُرِضَ مَا حَرَّرْتُهُ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ نَزَلَ مُتَرَاخِيًا عَنْ صَدْرِ الْآيَةِ لَارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَحُجَّةُ الْمُتَمَسِّكِ مِنَ الْقِصَّةِ بِمَفْهُومِ الْعَدَدِ صَحِيحٌ وَكَوْنُ ذَلِكَ وَقَعَ للنبي مُتَمَسِّكًا بِالظَّاهِرِ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي الْأَحْكَامِ إِلَى أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ الصَّارِفُ عَنْ ذَلِكَ لَا إِشْكَالَ فِيهِ انْتَهَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
قَوْلُهُ (جَاءَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ) كَانَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ هَذَا مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا وَاسْتُشْهِدَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَمِنْ مَنَاقِبِهِ أَنَّهُ بَلَغَهُ بَعْضُ مَقَالَاتِ أَبِيهِ فَجَاءَ إِلَى النبي يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِهِ قَالَ بَلْ أَحْسِنْ صُحْبَتَهُ أخرجه بن مِنْدَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَكَأَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ أَمْرَ أَبِيهِ عَلَى ظَاهِرِ الاسلام فلذلك التمس من النبي أَنْ يَحْضُرَ عِنْدَهُ وَيُصَلِّيَ عَلَيْهِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِعَهْدٍ مِنْ أَبِيهِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ أَرْسَلَ عبد الله بن أبي إلى النبي فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ أَهْلَكَكَ حُبُّ يَهُودَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ لِي وَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ لِتُوَبِّخَنِي ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفَّنُ فِيهِ وَهَذَا مُرْسَلٌ مَعَ ثِقَةٍ رِجَالِهُ
وَيُعَضِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عن بن عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا مَرِضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي جاءه النبي فَكَلَّمَهُ فَقَالَ قَدْ فَهِمْتُ مَا تَقُولُ فَامْنُنْ عَلَيَّ فَكَفِّنِّي فِي قَمِيصِكَ وَصَلِّ عَلَيَّ فَفَعَلَ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَرَادَ بِذَلِكَ دَفْعَ الْعَارِ عَنْ وَلَدِهِ وَعَشِيرَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأَظْهَرَ الرَّغْبَةَ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ وَوَقَعَتْ إِجَابَتُهُ إِلَى سُؤَالِهِ بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ مِنْ حَالِهِ إِلَى أَنْ كَشَفَ اللَّهُ الْغِطَاءَ عَنْ ذَلِكَ وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْأَجْوِبَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ كَذَا فِي الْفَتْحِ (فَقَالَ أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ) إِلَى قَوْلِهِ (فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ) هَذَا مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ
قَالَ أَتَى النَّبِيُّ عبد الله بن أبي بعد ما دُفِنَ فَأَخْرَجَهُ فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ
قَالَ الْحَافِظُ قَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ معنى قوله في حديث بن عُمَرَ فَأَعْطَاهُ أَيْ أَنْعَمَ لَهُ بِذَلِكَ فَأَطْلَقَ عَلَى الْعِدَّةِ اسْمَ الْعَطِيَّةِ مَجَازًا لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهَا
وكذا قوله في حديث جابر بعد ما دُفِنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَيْ دُلِّيَ فِي حُفْرَتِهِ
وَكَانَ أَهْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي خشوا على النبي الْمَشَقَّةَ فِي حُضُورِهِ فَبَادَرُوا إِلَى تَجْهِيزِهِ قَبْلَ وصول النبي فَلَمَّا وَصَلَ وَجَدَهُمْ قَدْ دَلَّوْهُ فِي حُفْرَتِهِ فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ إِنْجَازًا لِوَعْدِهِ فِي تَكْفِينِهِ فِي القميص والصلاة عليه
ووجه إعطاء النبي قَمِيصَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ مُبَيَّنٌ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ
قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أُتِيَ بِأُسَارَى وَأُتِيَ بِالْعَبَّاسِ وَلَمْ
يكن عليه ثوب فنظر النبي لَهُ قَمِيصًا فَوَجَدُوا قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي يقدر عليه
فكساه النبي إياه فلذلك نزع النبي قميصه الذي ألبسه
قال بن عُيَيْنَةَ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَحَبَّ أَنْ يُكَافِئَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (فَآذِنُونِي) مِنَ الْإِيذَانِ أَيْ أَعْلِمُونِي (أَلَيْسَ قَدْ نَهَى اللَّهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ
قَالَ الْحَافِظُ كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِطْلَاقُ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ
وَقَدِ اسْتُشْكِلَ جِدًّا حَتَّى أَقْدَمَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ هَذَا وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ وَعَاكَسُهُ غَيْرُهُ فَزَعَمَ أَنَّ عُمَرَ اطَّلَعَ عَلَى نَهْيٍ خَاصٍّ فِي ذَلِكَ
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ لَعَلَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي خَاطِرِ عُمَرَ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْإِلْهَامِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يستغفروا للمشركين
قَالَ الثَّانِي يَعْنِي مَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ أَقْرَبُ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمُ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تصل على أحد منهم وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ تَجَوُّزًا بَيَّنَتْهُ الرِّوَايَةُ الَّتِي فِي الْبَابِ بَعْدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ فَقَالَ تُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُمْ
وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والطبري من طريق الشعبي عن بن عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قَالَ أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَأَخَذْتُ بِثَوْبِهِ فَقُلْتُ واللَّهِ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهَذَا لَقَدْ قَالَ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مرة فلن يغفر الله لهم ووقع عند بن مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ بن عَبَّاسٍ فَقَالَ عُمَرُ أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ قَالَ أَيْنَ قَالَ وقال اسْتَغْفِرْ الْآيَةَ
وَهَذَا مِثْلُ رِوَايَةِ الْبَابِ فَكَأَنَّ عُمَرَ قَدْ فَهِمَ مِنَ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مَا هُوَ الْأَكْثَرُ الْأَغْلَبُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ مِنْ أَنَّ أَوْ لَيْسَتْ لِلتَّخْيِيرِ بَلْ لِلتَّسْوِيَةِ فِي عِلْمِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ أَيْ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ وَعَدَمَ الِاسْتِغْفَارِ سَوَاءٌ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
لَكِنَّ الثَّانِيَةَ أَصْرَحُ
وَلِهَذَا وَرَدَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ
وَفَهِمَ عُمَرُ أَيْضًا مِنْ قوله سبعين مرة أَنَّهَا لِلْمُبَالَغَةِ وَأَنَّ الْعَدَدَ الْمُعَيَّنَ لَا مَفْهُومَ لَهُ بَلِ الْمُرَادُ نَفْيُ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ وَلَوْ كَثُرَ الِاسْتِغْفَارُ
فَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ النَّهْيُ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ فَأَطْلَقَهُ
وَفَهِمَ أَيْضًا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لِلْمَيِّتِ وَالشَّفَاعَةِ لَهُ فَلِذَلِكَ اسْتَلْزَمَ عِنْدَ النَّهْيِ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ تَرْكَ الصَّلَاةِ فَلِذَلِكَ جَاءَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِطْلَاقُ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ وَلِهَذِهِ الْأُمُورِ اسْتَنْكَرَ إِرَادَةَ الصَّلَاةِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ
هَذَا تَقْرِيرُ مَا صَدَرَ عَنْ عُمَرَ مَعَ مَا عُرِفَ مِنْ شِدَّةِ صَلَابَتِهِ فِي الدِّينِ وَكَثْرَةِ بُغْضِهِ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَهُوَ الْقَائِلُ فِي حَقِّ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ مَعَ مَا كَانَ لَهُ مِنَ الْفَضْلِ كَشُهُودِهِ بدرا وغير ذلك لكونه كاتب قريش قَبْلَ الْفَتْحِ
دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبُ عُنُقَهُ فَقَدْ نَافَقَ فَلِذَلِكَ أَقْدَمَ عَلَى كَلَامِهِ للنبي بِمَا قَالَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى احْتِمَالِ إِجْرَاءِ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ لِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَابَةِ الْمَذْكُورَةِ
قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنَيِّرِ وَإِنَّمَا قال ذلك عمر حرصا على النبي وَمَشُورَةً لَا إِلْزَامًا وَلَهُ عَوَائِدُ بِذَلِكَ
تَنْبِيهٌ قال الخطابي إنما فعل النبي مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ مَا فَعَلَ لِكَمَالِ شَفَقَتِهِ عَلَى مَنْ تَعَلَّقَ بِطَرَفٍ مِنَ الدِّينِ
وَلِتَطْيِيبِ قَلْبِ وَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ وَلِتَأَلُّفِ قَوْمِهِ مِنَ الْخَزْرَجِ لِرِيَاسَتِهِ فِيهِمْ فَلَوْ لَمْ يُجِبْ سُؤَالَ ابْنِهِ وَتَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ النَّهْيِ الصَّرِيحِ لَكَانَ سُبَّةً عَلَى ابْنِهِ وَعَارًا عَلَى قَوْمِهِ وَاسْتَعْمَلَ أَحْسَنَ الْأَمْرَيْنِ فِي السِّيَاسَةِ إِلَى أَنْ نُهِيَ فَانْتَهَى
وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبدا ولا تقم على قبره قال فذكر لنا أن نبي الله قَالَ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ قَمِيصِي مِنَ اللَّهِ وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُسْلِمَ بِذَلِكَ أَلْفٌ مِنْ قَوْمِهِ (أَنَا بَيْنَ خِيرَتَيْنِ) تَثْنِيَةُ خِيَرَةٍ كَعِنَبَةٍ أَيْ أَنَا مُخَيَّرٌ بَيْنَ الِاسْتِغْفَارِ وَتَرْكِهِ (فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبدا ولا تقم على قبره) لِدَفْنٍ أَوْ زِيَارَةٍ أَيْ لَا تَقِفْ عَلَيْهِ وَلَا تَتَوَلَّ دَفْنَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ قَامَ فُلَانٌ بِأَمْرِ فُلَانٍ إِذَا كَفَاهُ أَمْرَهُ وَنَابَ عَنْهُ فِيهِ وَتَمَامُ الْآيَةِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وماتوا وهم فاسقون وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِسَبَبِ الْمَنْعِ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالْقِيَامِ عَلَى قَبْرِهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ والنسائي وبن ماجه
قَوْلُهُ (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ) الْقُرَشِيِّ الْعَامِرِيِّ الْمَدَنِيِّ نَزَلَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ ثِقَةٌ مِنَ الْخَامِسَةِ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ تَمَارَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ) عَلَى التَّقْوَى إِلَخْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ شَرْحِهِ فِي بَابِ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَبْوَابِ الصَّلَاةِ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ الْحَارِثِ) الثَّقَفِيُّ الطَّائِفِيُّ نَزِيلُ الْكُوفَةِ ضَعِيفٌ مِنَ السَّادِسَةِ (عن إبراهيم بن أبي ميمونة) الحجازي ذكره بن حبان في الثقات
وقال بن الْقَطَّانِ الْفَاسِيُّ مَجْهُولُ الْحَالِ
قَوْلُهُ (نَزَلَتْ هَذِهِ الاية) والمسار إِلَيْهَا فِيمَا بَعْدُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَفِيهِ رِجَالٌ الْآيَةَ (فِي أَهْلِ قُبَاءَ) أَيْ فِي سَاكِنِيهِ وَقُبَاءُ بِضَمِّ الْقَافِ وَخِفَّةِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمَمْدُودَةِ مَصْرُوفَةٌ وَفِيهِ لُغَةٌ بِالْقَصْرِ وَعَدَمِ الصَّرْفِ مَوْضِعٌ بميلين أو ثلاثة من المدينة
قال بن الْأَثِيرِ هُوَ بِمَدٍّ وَصَرْفٍ عَلَى الصَّحِيحِ (يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) أَيْ يُحِبُّونَ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ فِي غَسْلِ الْأَدْبَارِ (قَالَ) أَيْ أَبُو هُرَيْرَةَ (كَانُوا) أَيْ أَهْلُ قُبَاءَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وبن مَاجَهْ
قَالَ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ) أَمَّا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ وَأَنَسِ بْنِ مالك فأخرجه بن مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سُفْيَانَ طَلْحَةُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو أَيُّوبَ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ قَالَهُ الْحَافِظُ
وَأَمَّا حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ قال لقد قدم رسول الله يَعْنِي قُبَاءَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ فِي الطَّهُورِ خَيْرًا أَفَلَا تُخْبِرُونِي يَعْنِي قَوْلَهُ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يتطهروا فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَجِدُهُ مَكْتُوبًا عَلَيْنَا فِي التَّوْرَاةِ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا بن أبي شيبة وبن قَانِعٍ وَفِي سَنَدِهِ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ
وَحَكَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ الْخِلَافَ فِيهِ عَلَى شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ
تَنْبِيهٌ روى الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَجَدْتُ فِي كِتَابِ أَبِي عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ بن عَبَّاسٍ قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا واللَّهُ يُحِبُّ المتطهرين فسألهم رسول الله فَقَالُوا إِنَّا نُتْبِعُ الْحِجَارَةَ الْمَاءَ
قَالَ الْبَزَّارُ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَلَا عَنْهُ إِلَّا ابْنُهُ انْتَهَى
وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ فَقَالَ لَيْسَ لَهُ وَلَا لِأَخَوَيْهِ عِمْرَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ حَدِيثٌ مُسْتَقِيمٌ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ ضَعِيفٌ أَيْضًا
وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ من حديث مجاهد عن بن عَبَّاسٍ أَصْلَ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا ذِكْرُ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ فَحَسْبُ
وَلِهَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ
الْمَعْرُوفُ فِي طُرُقِ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُمْ كانوا يجمعون بين الماء والأحجار وتبعه بن الرِّفْعَةِ فَقَالَ لَا يُوجَدُ هَذَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَكَذَا قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ نَحْوَهُ وَرِوَايَةُ الْبَزَّارِ وَارِدَةٌ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً كَذَا فِي التَّلْخِيصِ
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) هُوَ السَّبِيعِيُّ (عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ) اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بن الخليل أو بن أَبِي الْخَلِيلِ الْحَضْرَمِيُّ أَبُو الْخَلِيلِ الْكُوفِيُّ مَقْبُولٌ من الثانية
وفرق البخاري وبن حِبَّانَ بَيْنَ الرَّاوِي عَنْ عَلِيٍّ فَقَالَ فِيهِ بن أَبِي الْخَلِيلِ وَالرَّاوِي عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فقال فيه بن الخليل
قوله (وهما مشركان) جملة حالية (أو ليس استغفر إبراهيم لأبيه) أي أتقول هذا وليس اسْتَغْفَرَ إِلَخْ (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أن يستغفروا للمشركين أَيْ لَا يَصِحُّ وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) وَتَمَامُ الْآيَةِ مَعَ تَفْسِيرِهَا هَكَذَا ولو كانوا أي المشركون أولي القربى أَيْ ذَوِي قَرَابَةٍ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لهم أنهم أصحاب الجحيم أَيِ النَّارِ بِأَنْ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وعدها إياه بِقَوْلِهِ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمَ فلما تبين له أنه عدو لله بموته على الكفر تبرأ منه وترك الاستغفار له إن إبراهيم لأواه كَثِيرُ التَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ
حَلِيمٌ صَبُورٌ عَلَى الْأَذَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ
قَوْلُهُ (وفِي الْبَابِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ الله فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ رسول الله لِأَبِي طَالِبٍ أَيْ عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عبد المطلب فقال النبي لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ فَنَزَلَتْ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم
قَالَ صَاحِبُ فَتْحِ الْبَيَانِ وَقَدْ رُوِيَ فِي سبب نزول الاية استغفار النبي لِأَبِي طَالِبٍ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَمَا فِيهِمَا مُقَدَّمٌ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا عَلَى فَرْضِ أَنَّهُ صَحِيحٌ فَكَيْفَ وَهُوَ ضَعِيفٌ غَالِبُهُ وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا ثبت عنه فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ كَسَرَ الْمُشْرِكُونَ رَبَاعِيَّتَهُ وَشَجُّوا وَجْهَهُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ تَحْرِيمُ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَعَلَى فَرْضِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بَلَغَهُ كَمَا يُفِيدُهُ سَبَبُ النُّزُولِ فَإِنَّهُ قَبْلَ أُحُدٍ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ
فَصُدُورُ هَذَا الِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ إِنَّمَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ وَيَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ انتهى
قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) الْأَنْصَارِيِّ كُنْيَتُهُ أَبُو الْخَطَّابِ الْمَدَنِيِّ ثِقَةٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ وَيُقَالُ وُلِدَ فِي عَهْدِ النبي
قَوْلُهُ (حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ) مَكَانٌ مَعْرُوفٌ هُوَ نِصْفُ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ إِلَى دِمَشْقَ وَيُقَالُ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَبَيْنَهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرْحَلَةً وَالْمَشْهُورُ فِيهَا عَدَمُ الصَّرْفِ لِلتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ وَمَنْ صَرَفَهَا أَرَادَ الْمَوْضِعَ وَكَانَتْ هَذِهِ الْغَزْوَةُ فِي شَهْرِ رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بلا خلاف (مغيثين لعيرهم) أي معينين لغيرهم مِنَ الْإِغَاثَةِ بِمَعْنَى الْإِعَانَةِ
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مُغَوِّثِينَ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ جَاءَ بِهِ عَلَى الْأَصْلِ وَلَمْ يُعِلَّهُ كَاسْتَحْوَذَ وَاسْتَنْوَقَ وَلَوْ رُوِيَ مُغَوِّثِينَ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ غَوَّثَ بِمَعْنَى أَغَاثَ لَكَانَ وَجْهًا وَالْعِيرُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْإِبِلُ بِأَحْمَالِهَا وَقِيلَ هِيَ قَافِلَةُ الْحَمِيرِ فَكَثُرَتْ حَتَّى سُمِّيَتْ بِهَا كُلُّ قَافِلَةٍ (كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كان مفعولا (وَمَا أُحِبُّ أَنِّي كُنْتُ شَهِدْتُهَا مَكَانَ بَيْعَتِي لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ) أَيْ بَدَلَ بَيْعَتِي لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْبَيْعَةَ كَانَتْ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ وَمَنْشَأَهُ وليلة العقبة ليلة بايع فِيهَا الْأَنْصَارَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرِ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ لِيُؤْمِنُوا بِهِ وَيُؤْوُوهُ فَلَقِيَ رَهْطًا مِنَ الْخَزْرَجِ فَأَجَابُوهُ فَجَاءَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ اثْنَا عَشَرَ إِلَى الْمَوْسِمِ فَبَايَعُوهُ عِنْدَ الْعَقَبَةِ وَهِيَ بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ الْأُولَى فَخَرَجَ فِي الْعَامِ الْآخَرِ سَبْعُونَ إِلَى الْحَجِّ فَاجْتَمَعُوا عِنْدَ الْعَقَبَةِ وَأَخْرَجُوا مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ نَقِيبًا فَبَايَعُوهُ وَهِيَ الْبَيْعَةُ الثَّانِيَةُ (حَيْثُ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ) بِمُثَلَّثَةٍ وَقَافٍ أَيْ أَخَذَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ الْمِيثَاقَ لَمَّا تَبَايَعْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ
وَالْمِيثَاقُ الْعَهْدُ وَأَصْلُهُ قَيْدٌ أَوْ حَبْلٌ يُشَدُّ بِهِ الْأَسِيرُ أَوِ الدَّابَّةُ (بَعْدُ) بِضَمِّ الدَّالِ أَيْ بَعْدَ غَزْوَةِ بدر (غزاها) الضمير المرفوع للنبي (وَآذَنَ) مِنَ الْإِيذَانِ أَيْ أَعْلَمَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ
رَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا
الْحَدِيثَ بِطُولِهِ فِي بَابِ غَزْوَةِ تَبُوكَ (أَبْشِرْ يَا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ بِخَيْرِ يَوْمٍ أَتَى عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ) اسْتُشْكِلَ هَذَا الْإِطْلَاقُ بِيَوْمِ إِسْلَامِهِ فَإِنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ وَلَدَتْهُ أَمَّهُ وَهُوَ خَيْرُ أَيَّامِهِ فَقِيلَ هُوَ مُسْتَثْنًى تَقْدِيرًا وَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِعَدَمِ خَفَائِهِ وَالْأَحْسَنُ فِي الْجَوَابِ أَنَّ يَوْمَ تَوْبَتِهِ مُكَمِّلٌ لِيَوْمِ إِسْلَامِهِ فَيَوْمُ إِسْلَامِهِ بِدَايَةُ سَعَادَتِهِ وَيَوْمُ تَوْبَتِهِ مُكَمِّلٌ لَهَا فَهُوَ خَيْرُ جَمِيعِ أَيَّامِهِ وَإِنْ كَانَ يَوْمُ إِسْلَامِهِ خَيْرَهَا فَيَوْمُ تَوْبَتِهِ الْمُضَافُ إِلَى إِسْلَامِهِ خَيْرٌ مِنْ يَوْمِ إِسْلَامِهِ الْمُجَرَّدِ عَنْهَا (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ) أَيْ أَدَامَ تَوْبَتَهُ (عَلَى النَّبِيِّ) فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ الْإِذْنِ فِي التَّخَلُّفِ أَوْ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ
وَلَيْسَ مِنْ لَازِمِ التَّوْبَةِ أَنْ يَسْبِقَ الذَّنْبُ مِمَّنْ وَقَعَتْ مِنْهُ أوله لِأَنَّ كُلَّ الْعِبَادِ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَقَدْ تَكُونُ التَّوْبَةُ مِنْهُ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ بَابِ أَنَّهُ تَرَكَ مَا هُوَ الْأَوْلَى وَالْأَلْيَقُ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أذنت لهم ويجوز أن يكون ذكر النبي لِأَجْلِ التَّعْرِيضِ لِلْمُذْنِبِينَ بِأَنْ يَتَجَنَّبُوا الذُّنُوبَ وَيَتُوبُوا عَمَّا قَدْ لَابَسُوهُ مِنْهَا
قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي هُوَ مِفْتَاحُ كَلَامٍ لِلتَّبَرُّكِ وَفِيهِ تَشْرِيفٌ لَهُمْ في ضم توبتهم إلى توبة النبي كَمَا ضَمَّ اسْمَ الرَّسُولِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ في قوله فإن لله خمسه وللرسول فهو تشريف له كذلك تَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى (الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ) فِيمَا قَدِ اقْتَرَفُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ماصح عنه مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ
وَالْإِنْسَانُ لَا يَخْلُو مِنْ زَلَّاتٍ وَتَبِعَاتٍ فِي مُدَّةِ عُمُرِهِ إِمَّا مِنْ بَابِ الصَّغَائِرِ وَإِمَّا مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَفْضَلِ ثَمَّ وَصَفَ سبحانه المهاجرين والأنصار بأنهم (الذين اتبعوه) أي النبي فلم يتخلفوا عنه (في ساعة العسرة) هِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِيهَا فِي عُسْرَةٍ شَدِيدَةٍ وَتُسَمَّى غَزْوَةَ الْعُسْرَةِ وَالْجَيْشُ الَّذِي سَارَ يُسَمَّى جَيْشَ الْعُسْرَةِ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمْ عسرة في الزاد والظهر والماء
وأخرج بن حبان والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن بن عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حَدِّثْنَا مِنْ شَأْنِ سَاعَةِ الْعُسْرَةِ فَقَالَ خَرَجْنَا مَعَ رسول الله إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَأَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ
فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبَهُ وَيَجْعَلَ مَا بَقِيَ عَلَى كيده فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا فَادْعُ لَنَا فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يَرْجِعْهُمَا حَتَّى قالت السماء فأهطلت ثم سكبت فملأوا مَا مَعَهُمْ ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ فَلَمْ نَجِدْهَا جَاوَزَتِ الْعَسْكَرَ (مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قلوب فريق منهم) فِي كَادَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ بَيَانٌ لِتَنَاهِي الشِّدَّةِ وَبُلُوغِهَا النِّهَايَةَ وَمَعْنَى يَزِيغُ يَتْلَفُ بِالْجَهْدِ وَالْمَشَقَّةِ وَالشِّدَّةِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ يَمِيلُ عَنِ الْحَقِّ وَيَتْرُكُ الْمُنَاصَرَةَ وَالْمُمَانَعَةَ وَقِيلَ مَعْنَاهُ يَهِمُّ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ الْعَظِيمَةِ
وفي قراءة بن مَسْعُودٍ مِنْ بَعْدِ مَا زَاغَتْ وَهُمُ الْمُتَخَلِّفُونَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَفِي تَكْرِيرِ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ بقوله (ثم تاب عليهم) تَأْكِيدٌ ظَاهِرٌ وَاعْتِنَاءٌ بِشَأْنِهَا هَذَا إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ التَّوْبَةِ عَنْهُمْ وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ إِلَى الْفَرِيقِ الثَّانِي فلا تكرار وذكر التوبة إو لا قَبْلَ ذِكْرِ الذَّنْبِ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَتَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ ثُمَّ ذَكَرَ الذَّنْبَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَرْدَفَهُ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ مَرَّةً أُخْرَى تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِمْ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ قَبِلَ تَوْبَتَهُمْ وَعَفَا عَنْهُمْ ثُمَّ أتبعه بقوله (إنه بهم رؤوف رحيم) تَأْكِيدًا لِذَلِكَ أَيْ رَفِيقٌ بِعِبَادِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُحَمِّلْهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَبَيْنَ الرؤف وَالرَّحِيمِ فَرْقٌ لَطِيفٌ وَإِنْ تَقَارَبَا فِي الْمَعْنَى
قَالَ الْخَطَّابِيُّ قَدْ تَكُونُ الرَّحْمَةُ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَلَا تَكَادُ الرَّأْفَةُ تَكُونُ مَعَهَا وَقِيلَ الرَّأْفَةُ عِبَارَةٌ عَنِ السَّعْيِ فِي إِزَالَةِ الضَّرَرِ وَالرَّحْمَةُ عِبَارَةٌ عَنِ السَّعْيِ فِي إِيصَالِ النَّفْعِ
هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْأُولَى مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَلَاهَا رسول الله وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ مَعَ تَفْسِيرِهَا هَكَذَا وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الذين خلفوا أَيْ أُخِّرُوا وَلَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ فِي الْحَالِ كَمَا قُبِلَتْ تَوْبَةُ أُولَئِكَ الْمُتَخَلِّفِينَ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ هُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَمَرَارَةُ بن الربيع أو بن رَبِيعَةَ الْعَامِرِيُّ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ وَكُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ لَمْ يَقْبَلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَوْبَتَهُمْ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ بِأَنَّ الله قد تاب عليهم حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ التَّحَيُّرِ وَعَدَمِ الِاطْمِئْنَانِ يَعْنِي أَنَّهُمْ أُخِّرُوا عَنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ وَهِيَ وَقْتُ أَنْ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِرَحْبِهَا لِإِعْرَاضِ النَّاسِ عَنْهُمْ وَعَدَمِ مُكَالَمَتِهِمْ مِنْ كل أحد لأن النبي نَهَى النَّاسَ أَنْ يُكَالِمُوهُمْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ أَيْ أَنَّهَا ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ بِمَا نَالَهُمْ مِنَ الْوَحْشَةِ وَبِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْجَفْوَةِ وَشِدَّةِ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ وَظَنُّوا أَيْ عَلِمُوا وَأَيْقَنُوا أَنْ لا ملجأ من الله أَيْ مِنْ عَذَابِهِ أَوْ مِنْ سَخَطِهِ إِلَّا إِلَيْهِ أَيْ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ ثُمَّ تَابَ أَيْ رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِالْقَبُولِ وَالرَّحْمَةِ وَأَنْزَلَ فِي الْقُرْآنِ التَّوْبَةَ عَلَيْهِمْ لِيَسْتَقِيمُوا أَوْ وَفَّقَهُمْ لِلتَّوْبَةِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ إِنْ فَرَطَتْ مِنْهُمْ خَطِيئَةٌ لِيَتُوبُوا عَنْهَا وَيَرْجِعُوا فِيهَا إِلَى اللَّهِ وَيَنْدَمُوا عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ وَيُحَصِّلُوا التَّوْبَةَ وَيُنْشِئُوهَا فَحَصَلَ التَّغَايُرُ وَصَحَّ التَّعْلِيلُ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ أَيِ الْكَثِيرُ الْقَبُولِ لِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ الرَّحِيمُ أي الكثير
الرَّحْمَةِ لِمَنْ طَلَبَهَا مِنْ عِبَادِهِ
(قَالَ) أَيْ كَعْبُ بْنُ مَالِكَ (وَفِينَا) أَيْ فِي الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا (أُنْزِلَتْ أَيْضًا) اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مع الصادقين يعني مع من صدق النبي وَأَصْحَابَهُ فِي الْغَزَوَاتِ وَلَا تَكُونُوا مَعَ الْمُتَخَلِّفِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَعَدُوا فِي الْبُيُوتِ وَتَرَكُوا الْغَزْوَ (إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي) أَيْ مِنْ شُكْرِ تَوْبَتِي (أَنْ لَا أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا) زَادَ الْبُخَارِيُّ مَا بَقِيتُ (وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ) أَيْ أَخْرُجَ مِنْ جَمِيعِ مَالِي (صَدَقَةً) هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ مُتَصَدِّقًا أَوْ ضَمَّنَ الْخَلْعَ مَعْنَى أَتَصَدَّقُ وَهُوَ مَصْدَرٌ أَيْضًا (أَبْلَى أَحَدًا) أَيْ أَنْعَمَ عَلَى أَحَدٍ
وَحَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ هَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي عَشْرَةِ مَوَاضِعَ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا فِي الْوَصَايَا وفي الجهاد وفي صفة النبي وَفِي وُفُودِ الْأَنْصَارِ وَفِي مَوْضِعَيْنِ مِنَ الْمَغَازِي وَفِي مَوْضِعَيْنِ مِنَ التَّفْسِيرِ وَفِي الِاسْتِئْذَانِ وَفِي الْأَحْكَامِ
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي التَّوْبَةِ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ فِي الطَّلَاقِ
قَوْلُهُ (بَعَثَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ) أَيْ أَرْسَلَ إِلَيَّ رَجُلًا
قَالَ الْحَافِظُ لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ
الرَّسُولِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ (مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ) نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أَيْ عَقِبَ قَتْلِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَالْيَمَامَةُ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَخِفَّةِ الْمِيمِ اسْمُ مَدِينَةٍ بِالْيَمَنِ وَكَانَ مَقْتَلُهُمْ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْيَمَامَةِ هُنَا مَنْ قُتِلَ بِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ فِي الْوَقْعَةِ مَعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَكَانَ مِنْ شَأْنِهَا أَنَّ مُسَيْلِمَةَ ادَّعَى النبوة وقوى أمره بعد موت النبي بِارْتِدَادِ كَثِيرٍ مِنَ الْعَرَبِ فَجَهَّزَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَحَارَبُوهُ أَشَدَّ مُحَارَبَةٍ إِلَى أَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ وَقَتَلَهُ وَقُتِلَ فِي غُضُونِ ذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ قِيلَ سَبْعُمِائَةٍ وَقِيلَ أَكْثَرُ (فَإِذَا عُمَرُ) كَلِمَةُ إِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ (عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ أبي بَكْرٍ رضي الله عنه (قَدِ اسْتَحَرَّ) بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ وَمُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ رَاءٍ ثَقِيلَةٍ أَيِ اشْتَدَّ وَكَثُرَ وَهُوَ اسْتَفْعَلَ مِنَ الْحَرِّ لِأَنَّ الْمَكْرُوهَ غَالِبًا يُضَافُ إِلَى الْحَرِّ كَمَا أَنَّ الْمَحْبُوبَ يُضَافُ إِلَى الْبَرْدِ يَقُولُونَ أسخن الله عينه وأقرعينه (وَإِنِّي لَأَخْشَى) بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُؤَكَّدَةِ بِلَامِ التَّأْكِيدِ أَيْ لَأَخَافُ (أَنْ يَسْتَحِرَّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ (فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا) أَيِ الْأَمَاكِنِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الْقِتَالُ مَعَ الْكُفَّارِ (فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ) بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى يَسْتَحِرَّ
قَالَ الْحَافِظُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ قُتِلَ فِي وَقْعَةِ الْيَمَامَةِ كَانَ قَدْ حَفِظَ الْقُرْآنَ لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ مَجْمُوعَهُمْ جَمَعَهُ لَا أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ جَمَعَهُ (كَيْفَ أَفْعَلُ شيئا لم يفعله رسول الله)
قال الخطابي وغيره يحتمل أن يكون إِنَّمَا لَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ لَمَّا كان يترقبه مِنْ وُرُودِ نَاسِخٍ لِبَعْضِ أَحْكَامِهِ أَوْ تِلَاوَتِهِ فلما انقضى نزوله بوفاته أَلْهَمَ اللَّهُ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ ذَلِكَ وَفَاءً لِوَعْدِهِ الصَّادِقِ بِضَمَانِ حِفْظِهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ زَادَهَا اللَّهُ شَرَفًا فَكَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ عَلَى يَدِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه بِمَشُورَةِ عُمَرَ
ويؤيده ما أخرجه بن أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ قَالَ سَمِعْتَ عَلِيًّا
يَقُولُ أَعْظَمُ النَّاسِ فِي الْمَصَاحِفِ أَجْرًا أَبُو بَكْرٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ هُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ كِتَابَ اللَّهِ
وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قال رسول الله لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ الْحَدِيثَ
فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي كِتَابَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ
وَقَدْ كَانَ الْقُرْآنُ كله كتب في عهد النبي لَكِنْ غَيْرَ مَجْمُوعٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَلَا مرتب السور
وأما ما أخرجه بن أبي داود وفي المصاحف من طريق بن سِيرِينَ قَالَ قَالَ عَلِيٌّ لَمَّا مَاتَ رَسُولُ الله آلَيْتَ أَنْ آخُذَ عَلَيَّ رِدَائِي إِلَّا لِصَلَاةِ جُمْعَةٍ حَتَّى أَجْمَعَ الْقُرْآنَ فَجَمَعَهُ فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ لِانْقِطَاعِهِ
وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا فَمُرَادُهُ بِجَمْعِهِ حِفْظُهُ فِي صَدْرِهِ
قَالَ وَالَّذِي وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ حَتَّى جَمَعْتُهُ بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ وَهْمٌ مِنْ رَاوِيهِ
قَالَ الْحَافِظُ وَرِوَايَةُ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ يَعْنِي الَّتِي تَقَدَّمَتْ آنِفًا أصح فهو المعتمد
ووقع عند بن أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا بَيَانُ السَّبَبِ فِي إِشَارَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِذَلِكَ
فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقِيلَ كَانَتْ مَعَ فُلَانٍ فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَقَالَ إِنَّا لِلَّهِ وَأَمَرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَهُ فِي الْمُصْحَفِ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا حُمِلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَهُ أَيْ أَشَارَ بِجَمْعِهِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ فَنُسِبَ الْجَمْعُ إِلَيْهِ لِذَلِكَ (قَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا نَتَّهِمُكَ قَدْ كُنْتَ تكتب لرسول الله الْوَحْيَ) ذكَرَ لَهُ أَرْبَعَ صِفَاتٍ مُقْتَضِيَةٍ خُصُوصِيَّتَهُ بِذَلِكَ كَوْنُهُ شَابًّا فَيَكُونُ أَنْشَطَ لِمَا يُطْلَبُ مِنْهُ
وَكَوْنُهُ عَاقِلًا فَيَكُونُ أَوْعَى لَهُ
وَكَوْنه لَا يُتَّهَمُ فَتَرْكَنُ النَّفْسُ إِلَيْهِ
وَكَوْنُهُ كَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ فَيَكُونُ أَكْثَرَ مُمَارَسَةً لَهُ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الَّتِي اجْتَمَعَتْ لَهُ قَدْ تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ لَكِنْ مُفَرَّقَةً (فَواللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ
قَالَ الْحَافِظُ كَأَنَّهُ جُمِعَ أَوَّلًا بِاعْتِبَارِ أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ وَافَقَهُ وَأَفْرَدَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ الْآمِرُ وَحْدَهُ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ذَلِكَ لِمَا خَشِيَهُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي إِحْصَاءِ مَا أُمِرَ بِجَمْعِهِ لَكِنِ اللَّهُ تَعَالَى يَسَّرَ لَهُ ذَلِكَ (فَتَتَبَّعْتَ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ) حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ أَيْ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي عِنْدِي وعند
غَيْرِي (مِنَ الرِّقَاعِ) جَمْعُ رُقْعَةٍ وَقَدْ تَكُونُ مِنْ جِلْدٍ أَوْ وَرَقٍ أَوْ كَاغَدٍ
وَفِي رِوَايَةٍ وَقِطَعِ الْأَدِيمِ (وَالْعُسُبِ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَتَيْنِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ جَمْعُ عَسِيبٍ وَهُوَ جَرِيدُ النَّخْلِ كَانُوا يَكْشِطُونَ الْخُوصَ وَيَكْتُبُونَ فِي الظَّرْفِ الْعَرِيضِ وَقِيلَ الْعَسِيبُ طَرَفُ الْجَرِيدَةِ الْعَرِيضُ وَقِيلَ الْعَسِيبُ طَرَفُ الْجَرِيدَةِ الْعَرِيضُ الَّذِي لَمْ يَنْبُتْ عَلَيْهِ الْخُوصُ وَالَّذِي يَنْبُتُ عَلَيْهِ الْخُوصُ هُوَ السَّعَفُ (وَاللِّخَافِ) بكسر اللام ثم حاء مُعْجَمَةٍ خَفِيفَةٍ وَآخِرُهُ فَاءٌ وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْبِيضُ الرِّقَاقُ وَاحِدَتُهَا لَخْفَةٌ بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وعند بن أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ قَامَ عُمَرُ فَقَالَ مَنْ كَانَ تَلَقَّى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فَلْيَأْتِ بِهِ وَكَانُوا يَكْتُبُونَ ذَلِكَ فِي الصُّحُفِ وَالْأَلْوَاحِ وَالْعُسُبِ قَالَ وَكَانَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَيْدًا كَانَ لَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ وِجْدَانِهِ مَكْتُوبًا حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ مَنْ تَلَقَّاهُ سَمَاعًا مَعَ كَوْنِ زَيْدٍ كَانَ يَحْفَظُهُ وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي الاحتياط
وعند بن أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِعُمَرَ وَلِزَيْدٍ اقْعُدَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَمَنْ جَاءَكُمَا بِشَاهِدَيْنِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَاكْتُبَاهُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ مَعَ انْقِطَاعِهِ وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّاهِدَيْنِ الْحِفْظُ وَالْكِتَابُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَكْتُوبَ كُتِبَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ الله أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ وَكَانَ غَرَضُهُمْ أَنْ لَا يُكْتَبَ إِلَّا مِنْ عَيْنِ ما كتب بين يدي النبي لَا مِنْ مُجَرَّدِ الْحِفْظِ (وَصُدُورِ الرِّجَالِ) أَيِ الْحُفَّاظِ مِنْهُمْ أَيْ حَيْثُ لَا أَجِدُ ذَلِكَ مكتوبا أو الواو بِمَعْنَى مَعَ أَيِ اكْتُبْهُ مِنَ الْمَكْتُوبِ الْمُوَافِقِ لِلْمَحْفُوظِ فِي الصُّدُورِ (فَوَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ بَرَاءَةٌ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ
قَالَ الْحَافِظُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ
وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطبراني في مسند الشاميين من طريق أبي الْيَمَانِ عَنْ شُعَيْبٍ فَقَالَ فِيهِ خُزَيْمَةَ بْنُ ثابت الأنصاري
وكذا أخرجه بن أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عن بن شِهَابٍ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ أَصَحُّ
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ وَأَنَّ الَّذِي وُجِدَ مَعَهُ آخِرُ سُورَةِ التَّوْبَةِ غَيْرُ الَّذِي وُجِدَ مَعَهُ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْأَحْزَابِ
فَالْأَوَّلُ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِيهِ عَلَى الزُّهْرِيِّ فَمَنْ قَائِلٌ مَعَ خُزَيْمَةَ وَمَنْ قَائِلٌ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ وَمِنْ شَاكٍّ فِيهِ يَقُولُ خُزَيْمَةُ أَوْ أَبِي خُزَيْمَةَ
وَالْأَرْجَحُ أَنَّ الَّذِي وُجِدَ مَعَهُ آخِرُ سُورَةِ التَّوْبَةِ أَبُو خُزَيْمَةَ بِالْكُنْيَةِ وَالَّذِي وُجِدَ مَعَهُ الْآيَةُ مِنَ الْأَحْزَابِ خُزَيْمَةُ وَأَبُو خزيمة قيل هو بن أَوْسِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ أَصْرَمَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ دون اسمه وقيل هو الحرث بن خزيمة وأما خزيمة فهو بن ثَابِتٍ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ صَرِيحًا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ انْتَهَى (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنفسكم) أَيْ مِنْ جِنْسِكُمْ فِي كَوْنِهِ عَرَبِيًّا قُرَشِيًّا مِثْلَكُمْ تَعْرِفُونَ نَسَبَهُ وَحَسَبَهُ وَأَنَّهُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ لَا مِنَ الْعَجَمِ وَلَا مِنَ الْجِنِّ وَلَا مِنَ الْمَلَكِ
وَالْخِطَابُ لِلْعَرَبِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ
وَقَالَ الزَّجَّاجُ هِيَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ (عزيز عليه ما عنتم) مَا مَصْدَرِيَّةٌ وَالْعَنَتُ التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ
وَالْمَعْنَى شَدِيدٌ وشاق عليه عنتكم ومشقتكم ولقاءكم المكروه (حريص عليكم) أي على إيمانكم وهدايتكم (بالمؤمنين رؤوف رحيم) أَيْ شَدِيدُ الرَّحْمَةِ (فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ أَعْرَضُوا عن الإيمان بك (فقل حسبي الله) أَيْ يَكْفِينِي وَيَنْصُرُنِي (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أَيِ الْمُتَفَرِّدُ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ كَالدَّلِيلِ لِمَا قَبْلَهَا (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أَيْ بِهِ وَثَقْتُ لا بغيره (وهو رب العرش العظيم) وَصَفَهُ بِالْعِظَمِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بالجر على أنه صفة العرش وقرىء بالرفع صفة لرب ورويت هذه القراءة عن بن كَثِيرٍ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَعْجَبُ إِلَيَّ لِأَنَّ جَعْلَ الْعَظِيمِ صِفَةً لِلرَّبِّ أولى من جعله صفة للعرش قال بن عَبَّاسٍ إِنَّمَا سُمِّيَ الْعَرْشُ عَرْشًا لِارْتِفَاعِهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ والنسائي
قوله (أن حذيفة) هو بن الْيَمَانِ (وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ فِي فَتْحِ إِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ) أَيْ كَانَ عُثْمَانُ يُجَهِّزُ أَهْلَ الشَّامِ وَأَهْلَ الْعِرَاقِ لِغَزْوِ إِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ وَفَتْحِهِمَا
قَالَ الْحَافِظُ إِنَّ إِرْمِينِيَّةَ فتحت في خلافه عثمان وكان أميرا لعسكر مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيُّ وَكَانَ عُثْمَانُ أَمَرَ أَهْلَ الشَّامِ وَأَهْلَ الْعِرَاقِ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ
أَمِيرَ أَهْلِ الشَّامِ عَلَى ذَلِكَ الْعَسْكَرِ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيُّ وَكَانَ حُذَيْفَةُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ غَزَا مَعَهُمْ وَكَانَ هُوَ عَلَى أَهْلِ الْمَدَائِنِ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَعْمَالِ الْعِرَاقِ انْتَهَى
وَإِرْمِينِيَّةُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ نُونٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ تحتانية مفتوحة خفيفة وقد تثقل
وقال بن السَّمْعَانِيِّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هِيَ بلد معروف يضم كورا كثيرة
وقال الرشاطي افْتُتِحَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ رضي الله عنه عَلَى يَدِ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ
وَأَذْرَبِيجَانُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَقِيلَ بِسُكُونِ الذَّالِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَبِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ جِيمٌ خَفِيفَةٌ وآخره نون
وحكى بن مَكِّيٍّ كَسْرَ أَوَّلِهِ وَضَبَطَهَا صَاحِبُ الْمَطَالِعِ وَنَقَلَهُ عن بن الْأَعْرَابِيِّ بِسُكُونِ الذَّالِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَلَدٌ كَبِيرٌ مِنْ نَوَاحِي جِبَالِ الْعِرَاقِ وَهِيَ الْآنَ تَبْرِيزٌ وَقَصَبَاتُهَا وَهِيَ تَلِي إِرْمِينِيَّةَ مِنْ جِهَةِ غَرْبِيِّهَا وَاتُّفِقَ غَزْوُهُمَا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَاجْتَمَعَ فِي غَزْوَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ وَالْمَذْكُورُ فِي ضَبْطِ أَذْرَبِيجَانَ هُوَ الْمَشْهُورُ وَقَدْ تُمَدُّ الْهَمْزَةُ وَقَدْ تُحْذَفُ وَقَدْ تُفْتَحُ الْمُوَحَّدَةُ وَقِيلَ فِي ضَبْطِهَا غَيْرُ ذَلِكَ (فَرَأَى حُذَيْفَةُ اخْتِلَافَهُمْ فِي الْقُرْآنِ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَأَفْزَعَ حذيفة اختلافهم في القراءة
وذكر الحافظ ها هنا رِوَايَاتٍ تُوَضِّحُ مَا كَانَ فِيهِمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الْقِرَاءَةِ فَفِي رِوَايَةٍ يَتَنَازَعُونَ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى سَمِعَ حُذَيْفَةُ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ مَا ذَعَرَهُ
وَفِي رِوَايَةٍ فَتَذَاكَرُوا الْقُرْآنَ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ حَتَّى كان يَكُونُ بَيْنَهُمْ فِتْنَةٌ
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ قَدِمَ مِنْ غَزْوَةٍ فَلَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهُ حَتَّى أَتَى عُثْمَانَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنَينَ أَدْرِكِ النَّاسَ قَالَ وَمَا ذَاكَ قَالَ غَزَوْتُ فَرْجَ أرمينية فإذا أهل الشام يقرؤون بِقِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَيَأْتُونَ بِمَا لَمْ يسمع أهل العراق وإذا أهل العراق يقرؤون بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَيَأْتُونَ بِمَا لَمْ يَسْمَعْ أَهْلُ الشَّامِ فَيُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودِ وَسَمِعَ آخَرَ يَقُولُ قِرَاءَةُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَغَضِبَ ثُمَّ قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا كَانَ مَنْ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا واللَّهِ لَأَرْكَبَنَّ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنَينَ
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ اثْنَيْنِ اخْتَلَفَا فِي آيَةٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَرَأَ هَذَا وأتموا الحج والعمرة لله وَقَرَأَ هَذَا وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلْبَيْتِ فَغَضِبَ حُذَيْفَةُ وَاحْمَرَّتْ عَيْنَاهُ
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ حُذَيْفَةُ يقول أهل الكوفة قراءة بن مَسْعُودٍ وَيَقُولُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ قِرَاءَةُ أَبِي مُوسَى واللَّهِ لَئِنْ قَدِمْتَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنَينَ لَأَمَرْتُهُ أَنْ يَجْعَلَهَا قِرَاءَةً وَاحِدَةً (أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ) أمر من
الْإِدْرَاكِ بِمَعْنَى التَّدَارُكِ (فَأَرْسَلَ) أَيْ عُثْمَانُ (إِلَى حفصة أن أرسلي النبأ بالصحف) وكانت الصحف بعد ما جَمَعَ الْقُرْآنَ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ (نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدَّهَا إِلَيْكَ) أَيْ نَنْقُلُهَا وَالْمَصَاحِفُ جَمْعُ الْمُصْحَفِ بِضَمِّ الْمِيمِ
قَالَ الْحَافِظُ الْفَرْقُ بَيْنَ الصُّحُفِ وَالْمُصْحَفِ أَنَّ الصُّحُفَ الْأَوْرَاقَ الْمُجَرَّدَةَ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ سُوَرًا مُفَرَّقَةً كُلُّ سُورَةٍ مُرَتَّبَةٍ بِآيَاتِهَا عَلَى حِدَةٍ وَلَكِنْ لَمْ يُرَتَّبْ بَعْضُهَا إِثْرَ بَعْضٍ فَلَمَّا نُسِخَتْ وَرُتِّبَ بَعْضُهَا إِثْرَ بَعْضٍ صَارَتْ مُصْحَفًا انْتَهَى
(فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنِ انْسَخُوا الصُّحُفَ) أَيِ انْقُلُوا مَا فِيهَا
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَأَمَرَ مَكَانَ فَأَرْسَلَ
وَقَدْ جَاءَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بعد أن استشار الصحابة فأخرج بن أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ
قَالَ عَلِيٌّ لَا تَقُولُوا فِي عُثْمَانَ إِلَّا خَيْرًا فَواللَّهِ مَا فَعَلَ الَّذِي فَعَلَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلَّا عَنْ مَلَأٍ مِنَّا قَالَ مَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ إِنَّ قِرَاءَتِي خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَتِك وَهَذَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا
قُلْنَا فَمَا تَرَى قَالَ نَرَى أَنْ نَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ فَلَا تَكُونُ فُرْقَةٌ وَلَا اخْتِلَافٌ
قُلْنَا فَنِعْمَ مَا رَأَيْتَ (وَقَالَ) أَيْ عُثْمَانُ (لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ) يَعْنِي سَعِيدًا وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ وَعَبْدَ اللَّهِ لِأَنَّ سَعِيدًا أُمَوِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مَخْزُومِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ أَسَدِيٌّ وَكُلُّهَا مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ (فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ) أَيْ بلسان قريش
قال القاضي بن أبو بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ مَعْنَى قَوْلِ عُثْمَانَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ أَيْ مُعْظَمُهُ وَأَنَّهُ لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّا جَعَلْنَاهُ قرآنا عربيا أَنَّهُ نَزَلَ بِجَمِيعِ أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ وَمَنْ زَعَمَ أنه أراد مضر درن رَبِيعَةَ أَوْ هُمَا دُونَ
الْيَمَنِ أَوْ قُرَيْشًا دُونَ غَيْرِهِمْ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ لِأَنَّ اسْمَ الْعَرَبِ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ تَنَاوُلًا وَاحِدًا ولو ساغت هذه الدعوى لساغ للآخران
ويقول نَزَلَ بِلِسَانِ بَنِي هَاشِمٍ مَثَلًا لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إلى النبي نَسَبًا مِنْ سَائِرِ قُرَيْشٍ (إِلَى كُلِّ أُفُقٍ) بِضَمَّتَيْنِ أَيْ طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الْآفَاقِ (بِمُصْحَفٍ مِنْ تِلْكَ الْمَصَاحِفِ الَّتِي نَسَخُوا) زَادَ الْبُخَارِيُّ وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صحيفة أو مصحف أن يحرق
قال بن بَطَّالٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ تَحْرِيقِ الْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا اسْمُ اللَّهِ بِالنَّارِ وَأَنَّ ذَلِكَ إِكْرَامٌ لَهَا وَصَوْنٌ عَنْ وَطْئِهَا بِالْأَقْدَامِ
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَانَ يُحْرِقُ الرَّسَائِلَ الَّتِي فِيهَا الْبَسْمَلَةُ إِذَا اجْتَمَعَتْ وَكَذَا فَعَلَ عُرْوَةُ وَكَرِهَهُ إِبْرَاهِيمُ
وَقَالَ بن عَطِيَّةَ الرِّوَايَةُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَصَحُّ وَهَذَا الْحُكْمُ هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ
وَأَمَّا الْآنَ فَالْغَسْلُ أَوْلَى لِمَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى إِزَالَتِهِ هَكَذَا فِي الْفَتْحِ
وَقَالَ الْعَيْنِيُّ قَالَ أَصْحَابُنَا الْحَنَفِيَّةُ إِنَّ الْمُصْحَفَ إِذَا بَلِيَ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ يُدْفَنُ فِي مَكَانٍ طَاهِرٍ بعيد عن وطىء النَّاسِ
قُلْتُ لَوْ تَأَمَّلْتَ عَرَفْتَ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ هُوَ فِي الْإِحْرَاقِ دُونَ الدَّفْنِ وَلِهَذَا اخْتَارَ عُثْمَانُ رضي الله عنه ذَلِكَ دُونَ هَذَا واللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَوْلُهُ (قَالَ الزُّهْرِيُّ وَحَدَّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ إِلَخْ) هَذَا مَوْصُولٌ إِلَى الزُّهْرِيِّ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ
قَوْلُهُ (مِنَ الْمُؤْمِنَينَ رِجَالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه) من الثبات مع النبي (فمنهم من قضى نحبه) مَاتَ أَوْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (وَمِنْهُمْ من ينتظر) ذَلِكَ (فَوَجَدْتُهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ أَوْ أَبِي خُزَيْمَةَ) كَذَا فِي هَذَا الْكِتَابِ بِالشَّكِّ
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ إِلَّا مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ بِغَيْرِ شَكٍّ (فَأَلْحَقْتُهَا فِي سُورَتِهَا) فِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ اكْتَفَى بِخُزَيْمَةَ وَحْدَهُ وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِالتَّوَاتُرِ والذي يظهر
في الجواب أن الذي أشار إليه أن فَقَدَهُ فَقْدُ وُجُودِهَا مَكْتُوبَةً لَا فَقْدُ وُجُودِهَا مَحْفُوظَةً بَلْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً عِنْدَهُ وَعِنْدَ غَيْرِهِ
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَمْعِ الْقُرْآنِ فَأَخَذْتُ أَتَتَبَّعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالْعَسْبِ
قَوْلُهُ (قَالَ الزُّهْرِيُّ فَاخْتَلَفُوا يَوْمَئِذٍ فِي التَّابُوتِ وَالتَّابُوهِ) أَيْ هَلْ هُوَ بِالتَّاءِ أَوْ بِالْهَاءِ (فَقَالَ الْقُرَشِيُّونَ التَّابُوتُ) أَيْ بِالتَّاءِ (وَقَالَ زَيْدٌ التَّابُوهُ) أَيْ بِالْهَاءِ (اكْتُبُوهُ التَّابُوتُ) أَيْ بِالتَّاءِ
قَوْلُهُ (إن عبد الله بن مسعود ذكره لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نَسْخَ الْمَصَاحِفِ إِلَخْ) الْعُذْرُ لِعُثْمَانَ رضي الله عنه فِي ذَلِكَ أَنَّهُ فَعَلَهُ بِالْمَدِينَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ بِالْكُوفَةِ وَلَمْ يُؤَخِّرْ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ وَيَحْضُرَ
وَأَيْضًا فَإِنَّ عُثْمَانَ أَرَادَ نَسْخَ الصُّحُفِ الَّتِي كَانَتْ جُمِعَتْ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَأَنْ يَجْعَلَهَا مُصْحَفًا وَاحِدًا وَكَانَ الَّذِي نَسَخَ ذَلِكَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ هُوَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ لِكَوْنِهِ كَاتِبَ الْوَحْيِ فَكَانَتْ لَهُ فِي ذَلِكَ أَوَّلِيَّةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ (أُعْزَلُ عَنْ نَسْخِ كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ أُنَحَّى عَنْ نَسْخِ الْمَصَاحِفِ الْمَكْتُوبَةِ (وَيَتَوَلَّاهَا) أَيْ كِتَابَةَ الْمَصَاحِفِ (اكْتُمُوا الْمَصَاحِفَ الَّتِي عِنْدَكُمْ وَغُلُّوهَا إِلَخْ) أَيِ اخْفُوهَا وَاسْتُرُوهَا
قَالَ النَّوَوِيُّ معناه أن بن مَسْعُودٍ كَانَ مُصْحَفُهُ يُخَالِفُ مُصْحَفَ الْجُمْهُورِ وَكَانَتْ مَصَاحِفُ أَصْحَابِهِ كَمُصْحَفِهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَأَمَرُوهُ بِتَرْكِ مُصْحَفِهِ وَبِمُوَافَقَةِ مُصْحَفِ الْجُمْهُورِ وَطَلَبُوا مُصْحَفَهُ أَنْ يُحَرِّقُوهُ كَمَا فَعَلُوا بِغَيْرِهِ فَامْتَنَعَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ غُلُّوا مَصَاحِفَكُمْ أَيِ اكْتُمُوهَا (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يَعْنِي فَإِذَا غَلَلْتُمُوهَا جِئْتُمْ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَفَى لَكُمْ بِذَلِكَ شَرَفًا
ثُمَّ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَمَنْ هُوَ الَّذِي تَأْمُرُونَنِي أَنْ آخُذَ بِقِرَاءَتِهِ وَأَتْرُكَ مُصْحَفِي الَّذِي أَخَذْتُهُ مِنْ في رسول الله (فالقوا القول) أَمْرٌ مِنَ اللِّقَاءِ (فَبَلَغَنِي أَنَّ ذَلِكَ كُرِهَ
إِلَخْ) يَعْنِي أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ قد كرهوا قول بن مسعود المذكور وقوله من مقالة بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه بَيَانٌ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ
تنبيه قال بن التِّينِ وَغَيْرُهُ الْفَرْقُ بَيْنَ جَمْعِ أَبِي بَكْرٍ وَبَيْنَ جَمْعِ عُثْمَانَ أَنَّ جَمْعَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ لِخَشْيَةِ أَنْ يَذْهَبَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ بِذَهَابِ حَمَلَتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَجْمُوعًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَجَمَعَهُ فِي صَحَائِفَ مُرَتِّبًا لِآيَاتِ سوره على ما وقفهم عليه النبي وَجَمْعُ عُثْمَانَ كَانَ لَمَّا كَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِي وجوه القرآن حين قرأوه بِلُغَاتِهِمْ عَلَى اتِّسَاعِ اللُّغَاتِ فَأَدَّى ذَلِكَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَخْطِئَةِ بَعْضٍ فَخَشِيَ مِنْ تَفَاقُمِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ فَنَسَخَ تِلْكَ الصُّحُفِ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ مُرَتِّبًا لِسُوَرِهِ وَاقْتَصَرَ مِنْ سَائِرِ اللُّغَاتِ عَلَى لُغَةِ قُرَيْشٍ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَسَّعَ فِي قِرَاءَتِهِ رَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ فَرَأَى أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ انْتَهَتْ فَاقْتَصَرَ عَلَى لُغَةٍ واحدة أو كان لُغَةُ قُرَيْشٍ أَرْجَحَ اللُّغَاتِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
1 -
بَاب وَمِنْ سُورَةِ يُونُسَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ إِلَّا (فَإِنْ كنت في شك) الْآيَتَيْنِ أَوِ الثَّلَاثِ أَوْ (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ به الْآيَةَ) وَهِيَ مِائَةٌ وَتِسْعٌ أَوْ عَشْرُ آيَاتٍ
قوله (عن صهيب) بالتصغير هو بن سِنَانَ الرُّومِيُّ
قَوْلُهُ (وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى) أَيْ في تفسيره (للذين أحسنوا) أَيْ بِالْإِيمَانِ (الْحُسْنَى) أَيِ الْجَنَّةُ
(وَزِيَادَةٌ) هِيَ النَّظَرُ إِلَيْهِ تَعَالَى (إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا) أَيْ بَقِيَ شَيْءٌ زَائِدٌ مِمَّا وَعَدَهُ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ النِّعَمِ وَالْحُسْنَى (وَيُنَجِّينَا مِنَ النَّارِ) كَذَا فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ بِالتَّحْتَانِيَّةِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي بَابِ رُؤْيَةِ الرَّبِّ تبارك وتعالى مِنْ أَبْوَابِ صِفَةِ الجنة ووقع هناك ينجينا بِحَذْفِ التَّحْتَانِيَّةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ
وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ التَّحْتَانِيَّةِ فَقِيلَ عَطْفٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَفِيهِ مَا فِيهِ
قَوْلُهُ (لَهُمْ) أَيْ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا (الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) تَمَامُ الْآيَةِ (وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذلك هو الفوز العظيم) وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْبُشْرَى فَقِيلَ هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا وَحَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ وَقِيلَ الْمُرَادُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هِيَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ وَفِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ قَالَ تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِ الْبُشْرَى هِيَ نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ بِالْبِشَارَةِ مِنَ اللَّهِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سبحانه وتعالى تتنزل عليهم الملائكة أن لا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ توعدون
وقال عطاء عن بن عَبَّاسٍ الْبُشْرَى فِي الدُّنْيَا عِنْدَ الْمَوْتِ تَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْبِشَارَةِ وَفِي
الْآخِرَةِ بَعْدَ خُرُوجِ نَفْسِ الْمُؤْمِنَ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيُبَشَّرُ بِرِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى
وَقَالَ الْحَسَنُ هِيَ مَا بَشَّرَ اللَّهُ بِهَا الْمُؤْمِنَينَ فِي كِتَابِهِ مِنْ جَنَّتِهِ وَكَرِيمِ ثَوَابِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذلك هو الفوز العظيم (هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ) أَيِ الْحَسَنَةُ أَوِ الصَّادِقَةُ وَهِيَ مَا فِيهِ بِشَارَةٌ أَوْ تَنْبِيهٌ عَنْ غَفْلَةٍ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ (يَرَاهَا الْمُسْلِمُ) أَيْ لِنَفْسِهِ (أَوْ تُرَى) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يَرَاهَا مُسْلِمٌ آخَرُ (لَهُ) أَيْ لِأَجْلِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي أَوَائِلِ أَبْوَابِ الرُّؤْيَا وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ هُنَاكَ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي أَوَائِلِ أَبْوَابِ الرُّؤْيَا
قوله (عن علي بن زيد) هو بن جَدْعَانَ (عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَهْرَانَ) الْبَصْرِيُّ وَلَيْسَ هُوَ يُوسُفُ بْنُ مَاهَك ذَاكَ ثِقَةً وَهَذَا لم يرو عنه إلا بن جَدْعَانَ هُوَ لَيِّنُ الْحَدِيثِ مِنَ الرَّابِعَةِ
قَوْلُهُ (لَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ قَالَ) أَيْ فِرْعَوْنُ (امنت أنه) أي بأنه وفي قراءة بالكسر استينافا (لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسرائيل)
قال بن عَبَّاسٍ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ إِيمَانَهُ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِ وَقَدْ كَانَ فِي مَهَلٍ
قَالَ الْعُلَمَاءُ إِيمَانُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ
وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالتَّوْبَةَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالْعَذَابِ غَيْرُ
مَقْبُولَيْنِ (وَأَنَا آخِذٌ مِنْ حَالِ الْبَحْرِ) أَيْ طِينِهِ الْأَسْوَدِ (وَأَدُسُّهُ فِي فِيهِ) أَيْ أُدْخِلُهُ فِي فَمِهِ (مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ) أَيْ خَشْيَةَ أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَتَنَالُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مسنده وبن جرير وبن أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِمَا كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عن يوسف بن مهران عن بن عَبَّاسٍ
قَوْلُهُ (ذَكَرَ أَحَدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي رَوَاهُ أَحَدُهُمَا مَرْفُوعًا وَلَمْ يَرْفَعْهُ الْآخَرُ وَضَمِيرُهُمَا رَاجِعٌ إِلَى عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ وَعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ (فِي فِيِّ فِرْعَوْنَ) أَيْ فِي فَمِهِ أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يَرْحَمَهُ أَوْ لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطيالسي وبن جَرِيرٍ كِلَاهُمَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ وَعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بن جبير عن بن عَبَّاسٍ
تَنْبِيهٌ اعلم أَنَّ الْخَازِنَ ذَكَرَ فِي تفسيره ها هنا فَصْلَيْنِ لِدَفْعِ الْإِشْكَالِ الَّذِي يَرِدُ عَلَى حَدِيثِ بن عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ فَلَنَا أَنْ نَذْكُرَهُمَا قَالَ فَصْلٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ مُشْكِلٌ فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ وَإِيضَاحٍ فَنَقُولُ قَدْ وَرَدَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى طَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ عن بن عباس ففي الطريق الأول عن بن زَيْدِ بْنِ جَدْعَانَ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ قَدْ ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ فَإِنَّهُ كَانَ شيخا نبيلا صدوقا ولكنه كان سيء الحفظ ويغلط وقد احتمل الناس حديثه
وإنما يُخْشَى مِنْ حَدِيثِهِ إِذَا لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ أَوْ خَالَفَهُ فِيهِ الثِّقَاتُ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّ فِي الطَّرِيقِ الْآخَرِ شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
وَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَرَوَاهُ أَيْضًا شُعْبَةُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ ثِقَةٌ قَدْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ فَهُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَإِنْ كَانَ عَطَاءٌ قَدْ تُكُلِّمَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ اخْتِلَاطِهِ فَإِنَّمَا يُخَافُ مَا انْفَرَدَ بِهِ أَوْ خُولِفَ فِيهِ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ فَقَدْ عُلِمَ بِهَذَا أَنَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلًا وَأَنَّ رواته
ثِقَاتٌ لَيْسَ فِيهِمْ مُتَّهَمٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ من هو سيىء الْحِفْظِ فَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ
فَإِنْ قُلْتَ فَفِي الْحَدِيثِ الثَّانِي شَكٌّ فِي رَفْعِهِ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ ذَكَرَ أَحَدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
قُلْتُ لَيْسَ بِشَكٍّ فِي رَفْعِهِ إِنَّمَا هُوَ جَزْمٌ بِأَنَّ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ رَفَعَهُ وَشَكَّ شُعْبَةُ فِي تَعْيِينِهِ هَلْ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ أَوْ عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ وَكِلَاهُمَا ثِقَةٌ فَإِذَا رَفَعَهُ أَحَدُهُمَا وَشَكَّ فِي تَعْيِينِهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا عِلَّةً فِي الْحَدِيثِ
(فَصْلٌ) وَوَجْهُ إِشْكَالِهِ مَا اعْتَرَضَ بِهِ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ هَلْ يَصِحُّ أَنَّ جِبْرِيلَ أَخَذَ يَمْلَأُ فَمَه بِالطِّينِ لِئَلَّا يَتُوبَ غَضَبًا عَلَيْهِ
وَالْجَوَابُ الْأَقْرَبُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إِمَّا أَنْ يُقَالَ التَّكْلِيفُ هَلْ كَانَ ثَابِتًا أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا لَا يَجُوزُ لِجِبْرِيلَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ التَّوْبَةِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى التَّوْبَةِ وَعَلَى كُلِّ طَاعَةٍ وَإِنْ كَانَ التَّكْلِيفُ زَائِلًا عَنْ فِرْعَوْنَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِهَذَا الَّذِي نُسِبَ إِلَى جِبْرِيلَ فَائِدَةٌ
وَأَيْضًا لَوْ مَنَعَهُ مِنَ التَّوْبَةِ لَكَانَ قَدْ رَضِيَ بِبَقَائِهِ عَلَى الْكُفْرِ والرضى بِالْكُفْرِ كُفْرٌ وَأَيْضًا فَكَيْفَ يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ أَنْ يَأْمُرَ جِبْرِيلَ بِأَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَلَوْ قِيلَ إِنَّ جِبْرِيلَ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ لَا بِأَمْرِ اللَّهِ فَهَذَا يُبْطِلُهُ قَوْلُ جِبْرِيلَ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ فَهَذَا وَجْهُ الْإِشْكَالِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْإِمَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي كَلَامٍ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ وَأَمَّا قَوْلُ الْإِمَامِ إِنَّ التَّكْلِيفَ هَلْ كَانَ ثَابِتًا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا لَمْ يَجُزْ لِجِبْرِيلَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ التَّوْبَةِ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أَصْلِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْأَفْعَالِ لِلَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْإِيمَانِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يحول بين المرى وقلبه وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عليها بكفرهم
وَقَالَ تَعَالَى وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يؤمنوا به أول مرة فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَلَّبَ أَفْئِدَتَهُمْ مِثْلَ تَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَهَكَذَا فَعَلَ بِفِرْعَوْنَ مَنَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ جَزَاءً عَلَى تَرْكِهِ الْإِيمَانَ أولا فدس الطين في فِرْعَوْنَ مِنْ جِنْسِ الطَّبْعِ وَالْخَتْمِ عَلَى الْقَلْبِ وَمَنْعِ الْإِيمَانِ وَصَوْنِ الْكَافِرِ عَنْهُ وَذَلِكَ جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِ السَّابِقِ
وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْأَفْعَالِ لِلَّهِ وَمِنَ الْمُنْكَرِينَ لِخَلْقِ الْأَفْعَالِ مَنِ اعْتَرَفَ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى يَفْعَلُ هَذَا عُقُوبَةً لِلْعَبْدِ عَلَى كُفْرِهِ السَّابِقِ فَيَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يُضِلَّهُ وَيَطْبَعَ عَلَى قَلْبِهِ وَيَمْنَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ