المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

المتواضع، وحُبِّي للغني المتواضع أشد - لأن عنده أسبابَ الكبر - تفسير الشعراوي - جـ ١٦

[الشعراوي]

الفصل: المتواضع، وحُبِّي للغني المتواضع أشد - لأن عنده أسبابَ الكبر

المتواضع، وحُبِّي للغني المتواضع أشد - لأن عنده أسبابَ الكبر ومع ذلك يتواضع - وأحب الغنيِّ الكريم وحُبِّي للفقير الكريم أشدّ، وأحب الشيخ الطائع وحبي للشاب الطائع أشدُّ «

.» وأكره ثلاثة وكُرْهي لثلاثة أشد: أكره الغني المتكبر، وكُرْهي للفقير المتكبر أشدّ، وأكره الفقير البخيل، وكُرْهي للغني البخيل أشد، وأكره الشاب العاصي وكرهي للشيخ العاصي أشد «.

هؤلاء اثنا عشر نوعاً: ستة في المحبوبية، وستة في المكروهية، وكلما التزمنا بتطبيق هذا المنهج وجدنا مجتمعاً راقياً من الدرجة الأولى.

ص: 9674

البلاغ: الشيء المهم الذي يجب أن يعلمه الناس؛ لذلك حين ينشغل الناس بالحرب، وينتظرون أخبارها تأتيهم على صورة بلاغات، يقولون: بلاغ رقم واحد، لأنه أمر مهم.

فقوله تعالى: {إِنَّ فِي هذا لَبَلَاغاً. .} [الأنبياء:‌

‌ 106]

أي: أن ما جاء به القرآن هو البلاغ الحق، والبلاغ الأعلى الذي لم يترك لكم عذراً، ولا لغفلتكم مجالاً، ولا لمستدرك أنْ يستدرك عليه في شيء. فهو مُنتْهى ما يمكن أنْ أخبركم به.

وهو بلاغ لمن؟ {لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 106] أي: يتلقفون مُرادَ الله لينفذوه، سواء أكان أمراً أمْ نَهياً.

ص: 9674

وما دام صلى الله عليه وسلم َ خاتَم الرسل، وبعثتُه للناس كافة، وللزمن كله إلى أنْ تقوم الساعة. وقد جاء الرسل السابقون عليه لفترة زمنية

ص: 9674

محددة، ولقوم بعينهم، أما رسالة محمد صلى الله عليه وسلم َ فجاءتْ رحمةً للعالمين جميعاً؛ لذلك لا بُدَّ لها أنْ تتسعَ لك أقضية الحياة التي تعاصرها أنت، والتي يعاصرها خَلَفُك، وإلى يوم القيامة.

ومعنى: العالمين، كُلُّ ما سوى الله عز وجل: عالم الملائكة، وعالم الجن، وعالم الإنس، وعالم الجماد، وعالم الحيوان، وعالم النبات. لكن كيف تكون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم َ رحمةً لهم جميعاً؟

قالوا: نعم، رحمة للملائكة، فجبريل عليه السلام كان يخشى العاقبة حتى نزل على محمد قوله تعالى:{ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ} [التكوير: 20] فاطمأن جبريل عليه السلام وأَمِن.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم َ رحمة للجماد؛ لأنه أمرنا بإماطة الأذى عن الطريق. وهو رحمة بالحيوان. وفي الحديث الشريف: «ما من مسلم يزرع زَرْعاً، أو يغرس غَرْساً فيأكلَ منه طيْرٌ أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة» .

وحديث المرأة التي دخلتْ النار في هِرَّة حبستْها، فلا هي أطعمتْها وسقتْها، ولا هي تركتها تأكل من خَشَاش الأرض.

وحديث الرجل الذي دخل الجنة؛ لأنه سقى كلباً كان يلهث يأكل الثرى من شدة العطش، فنزل الرجل البئر وملأ خُفَّه فسقى الكلب، فشكر الله له وغفر له، لأنه نزل البئر وليس معه إناء يملأ به الماء،

ص: 9675

فاحتال للأمر، واجتهد ليسقي الكلب.

وهكذا نالتْ رحمة الإسلام الحيوان والطير والإنسان، ففي الدين مبدأ ومنهج يُنظِّم كل شيء ولا يترك صغيرة ولا كبيرة في حياة الناس؛ لذلك فهو رحمة للعالمين.

فقوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] يعني أن كل ما يجيء به الإسلام داخل في عناصر الرحمة.

ثم يقول سبحانه: {قُلْ إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ

} .

ص: 9676

فالوحدانية هي أول رحمة بنا، أن نكون كلنا سواء، ليس لنا إلا إله واحد، هذه من أعظم رحمات الله أن نعبده وحده لا شريكَ له، فعبادته تُغنينا عن عبادة غيره، ولو كانت آلهةً متعددة لأصابتنا الحيرة بين إله يأمر، وإله ينهى.

لذلك؛ فالحق سبحانه وتعالى يطلب منا أنْ نعتزّ وأنْ نفخَر بهذه الوحدانية، وبهذه الألوهية، وفي هذا يقول الشاعر الإسلامي محمد إقبال:

والسُّجود الذِي تَجْتويِه

مِنْ أُلُوفِ السُّجودِ فِيهِ نَجَاةُ

ص: 9676

فسجودك لله وتعفير وجهك له سبحانه يحميك من السجود لغيره، ولولا سجودك لله لَسجدت لكل مَنْ هو أقوى منك، فعليك - إذن - أن تعتز بعبوديتك لله؛ لأنها تحميك من العبودية لغيرك من البشر، وحتى لا يقول لك شخص أنت عبد، نعم أنا عبد لكن لستُ عبداً لك، فعبد غيرك حُرٌّ مثلك.

وقد ضرب لنا الحق سبحانه مثلاً في هذه المسألة في قوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [الزمر: 29] فهل يستوي عبد لعدة أسياد يتجاذبونه في وقت واحد، وهم مع ذلك مختلفون بعضهم مع بعض، وعبد سَلَمَاً لسيد واحد؟

وهكذا، نحن جميعاً عبيد لله عز وجل حين نخضع لا نخضع إلا له سبحانه، فلا أخضع لك ولا تخضع أنت لي؛ لذلك يقولون «اللي الشرع يقطع صباعه ميخرش دم» لأنه أمر من أعلى، من السماء، لا دَخْلَ لأحد فيه.

لذلك؛ فالعبودية تُكره حين تكون عبوديةً للبشر، لأن عبودية البشر للبشر يأخذ السيد خير عبده، أما العبودية لله فيأخذ العبد خير سيده.

والشاعر يقول:

حَسْبُ نفسي عِزاً بأنِّي عَبْدٌ

يحتفي بي بلَا مواعيدَ رَبُّ

هُوَ في قُدْسِه الأعزِّ ولكِنْ

أنا أَلْقَى متى وأيْنَ أُحِبُّ

ولك أنْ تقارن بين مقابلة عظيم من عظماء الدنيا، ومقابلة ربك عز وجل. فإنْ أردتَ الدخولَ على أحد هؤلاء لا بُدَّ أن تطلب المقابلة،

ص: 9677

ويا ترى تقبل أم ترفض، وإنْ قبلت فلا تملك من عناصرها شيئاً، فالزمان، والمكان، وموضوع الكلام. كلها أمور يحددها غيرك.

أما إن أردتَ مقابلة ربك عز وجل فما عليك إلا أنْ تتوضأ وترفع يديك قائلاً: الله أكبر بعدها ستكون في معية الله، وقد اخترتَ أنت الزمان، والمكان، وموضوع الحديث، وإنهاء اللقاء.

أَلَا ترى كيف امتنَّ الله تعالى على رسوله في رحلة «الإسراء والمعراج» بأنْ وصفه بالعبودية له سبحانه، فقال:{سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] إذن: جاء قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ. .} [الأنبياء: 108] بعد قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ليدلنا: أن دعوة الله لنا إلى عبادة إله واحد ترحمنا من عبوديتنا بعضنا لبعض.

ثم يُرغِّبنا الحق سبحانه في هذه العبودية، فيقول:{فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} [الأنبياء: 108] كما تحث ولدك المتكاسل أن يكون مثلَ زميله الذي تفوَّق، وأخذ المركز الأول، فتقول له: ألا تذاكر وتجتهد حتى تكون مثله؟

وهكذا في {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} [الأنبياء: 108] أي: مسلمون لله؛ لأن مصلحتكم في الإسلام وعزّكم في عبوديتكم لله.

ص: 9678